147

روح الحسد ممتدّة إلى بنيامين:

يبدو لي من هذه الآية المباركة ـ والله العالم ـ أنّهم لم يكونوا اكتفوا بما فعلوا بيوسف، بل كانوا يؤذون أخاه بنيامين أيضاً بسبب نفس روح الحسد حينما كانوا يرون أنّ أباهم يعقوب يأنس به لتخفيف وجده، ولا يأنس بهم.

 

* * *

 


ممّن لا يستحقّ ذلك؛ لسوء سابقته، وهم عصبة قد اصطفّوا أمام عزيز مصر. وعند ذلك تمّت الكلمة الإلهيّة: أنّه سيرفع يوسف وأخاه، ويضع عندهسائر بني يعقوب لظلمهم؛ ولذلك لم يلبث يوسف(عليه السلام) دون أن أجابهم بقوله: ﴿هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾ وعرّفهم نفسه. وإنّما يخاطب المخطئ المجرم بمثل: هل علمت، وأتدري، وأرأيت ونحوها، وهو عالم بما فعل لتذكيره جزاء عمله ووبال ذنبه، لكنّه(عليه السلام)أعقب استفهامه بقوله: ﴿إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُون﴾وفيه تلقين عذر. فقوله ذلك مجرّد تذكير لعملهم بهما من غير توبيخ ومؤاخذة؛ ليعرّفهم مَنّ الله عليه وعلى أخيه.

148

 

 

 

﴿قَالُوا أَإِنَّكَ لاََنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّاللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الُْمحْسِنِينَ *قَالُوا تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لاَتَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْأَجْمَعِين﴾(1).

 



(1) الآية: 90 ـ 93.

﴿قَالُوا أَإِنَّكَ لاََنْتَ يُوسُفُ...﴾تأكيد الجملة المستفهم عنها للدلالة على أنّ الشواهد القطعيّة قامت على تحقّق مضمونها، وإنّما يستفهم لمجرّد الاعتراف فحسب، فأجابهم بقوله: ﴿أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي﴾ وإنّما ألحق أخاه بنفسه ولم يسألوا عنه وما كانوا يجهلونه ليخبر عن مَنّ الله عليهما، وهما معاً المحسودان؛ ولذا قال: ﴿قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا﴾ ثُمّ أخبر عن سبب المنّ الإلهيّ بحسب ظاهر الأسباب، فقال: ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الُْمحْسِنِينَ﴾.

149

قرائن عرّفت يوسف(عليه السلام) لإخوته:

قولهم: ﴿قَالُوا أَإِنَّكَ لاََنْتَ يُوسُفُ﴾ المتيقّن من الآية المباركة أنّه حانت منهم التفاتة إلى العزيز، فحدسوا أن يكون هو يوسف. أمّاما هي النكتة التي جلبت التفاتهم بالذات؟ فقد تكون عدّة اُمور،من قبيل:

1 ـ كيف يكون العزيز مطّلعاً على دقائق الاُمور الجارية بينهم وبين يوسف وأخيه؟!

 


﴿قَالُوا تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ...﴾الإيثار: هو الاختيار والتفضيل.

﴿قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُم...﴾التثريب: التوبيخ والمبالغة في اللوم.

﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَـذَا...﴾كلام يوسف(عليه السلام) يأمر فيه إخوته أن يذهبوا بقميصه إلى أبيه، فيلقوه على وجهه؛ ليشفي الله به عينيه، ويأتي بصيراً بعد ما صار من كثرة الحزن والبكاء ضريراً لا يبصر. وهذا آخر العنايات البديعة التي أظهرها الله سبحانه في حقّ يوسف(عليه السلام)؛ إذ اجتمعت الأسبابعلى خفضه وأراد الله سبحانه رفعه، فكان ما أراده الله دون الذيتوجّهت إليه الأسباب. وقوله: ﴿وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِين﴾أمر منه بانتقال بيت يعقوب ـ من يعقوب وأهله وبنيه وذراريه جميعاً ـ من البدو إلى مصر، ونزولهم بها.

150

2 ـ لماذا تهيّج رسالة يعقوب عزيز مصر أيّة تهييج عظيم؟! فإنّ هذا يحكي عن رابطة كبيرة بينهما.

3 ـ كلّما يدقّقون في سيماء العزيز يتّضح لهم أكثر فأكثر شبهه بيوسف.

4 ـ روى الشيخ الطبرسيّ(رحمه الله) في مجمع البيان(1): «أنّ يوسف لمّا قال لهم: ﴿هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُون﴾ تبسّم، فلمّا أبصروا ثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم شبّهوه بيوسف، وقالوا له:﴿أَإِنَّكَ لاََنْتَ يُوسُفُ﴾».

قولهم: ﴿تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا﴾ أي: قدّمك الله واختارك علينا.

 

يوسف(عليه السلام) يعفو عن إخوته:

قولهم: ﴿وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِين﴾ أي: وإنّا كنّا لخاطئين، قوله(عليه السلام):﴿لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ﴾ يعني: لا تأنيب لكم، وهذاعفوٌ منه عنهم، ثُمّ وعدهم بمغفرة الله لهم وعفوه عنهم فيما يخصّ حقّالله تعالى، بل أكثر من هذا سماحةً وخُلُقاً ما رواه الشيخ ناصر مكارم



(1) تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 337 بحسب طبعة دار إحياء التراث العربيّ ومؤسّسة التأريخ العربيّ ببيروت.

151

حفظه الله(1) عن تفسير فخر الرازي: من أنّ إخوة يوسف أرسلوا إلى يوسف: أنّك تُجلسنا معك على مائدتك ليل نهار، فنحن نخجل منك بعد ما صدر عنّا بشأنك، فقال لهم يوسف ـ لكي لا يحسّوا بالخجل، بل يحسّوا بأنّ جلوسهم معه على مائدته خدمةٌ منهم إيّاه ـ: إنّني حتّى الآن كان ينظر أهل مصر إليّ بعنوان عبد مشترى، وكانوا يقولون: سبحان من بلّغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ!! أمّا الآن فببركة قدومكم عرفوا أنّي لم أكن عبداً، وأنّي من أهل بيت النبوّة، ومن أولاد إبراهيم الخليل، وهذا يوجب فخري واعتزازي.

 

انفراج الأزمة:

قوله: ﴿إذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِين﴾.

ومن هنا بدأ انفراج الأزمة، ورجع أولاد يعقوب العشرة فرحين مسرورين حاملين أفضل بشارة لأبيهم، عارفين أنّ أباهم سيشفى من العمى، وسيجمع الله الشمل جميعاً.

ويُروى: أنّ يوسف أمر بأن يكون البشير الذي يذهب بالقميص



(1) تفسير الأمثل، ج 7، ص 293.

152

إلى يعقوب هو الذي قدّم إلى يعقوب قميصه الملطّخ بدم كَذِب؛ كي يكون هو الذي يدخل السرور على أبيه، كما أنّه أدخل أوّل يوم الحزن على أبيه(1).

 

* * *



(1) مجمع البيان، ج 5، ص 338 بحسب الطبعة السابقة.

153

 

 

 

﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لاََجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾(1).

 


(1) الآية: 94 ـ 98.

﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ...﴾ الفصل: القطع والانقطاع. والتفنيد: تفعيل من الفَنَد بفتحتين، وهو: ضعف الرأي. والمعنى: لمّا خرجت العير الحاملة لقميص يوسف من مصر وانقطعت عنها، قال أبوهم يعقوب لمن عنده من بنيه: إنّي لأجد ريح يوسف لولا أن ترموني بضعف الرأي، وأرى أنّ اللقاء قريب، لولا أن تخطّئوني.

﴿قَالُوا تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي

154

يعقوب(عليه السلام) يجد ريح يوسف:

قوله: ﴿لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُون﴾ يعني: لولا أن تسفّهون.

والذين قالوا له: إنّك لفي ضلالك القديم هم أحفاده وأشباههم من المرتبطين به.

 


ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ﴾القديم: مقابل الجديد، والمراد به: المتقدّم وجوداً، وهذا ما واجهه به بعض بنيه الحاضرين عنده، وهو من سيّئ حظّهم في هذه القصّة، تفوّهوا بمثله في بدء القصّة؛ إذ قالوا: ﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَل مُّبِين﴾وفي ختمها، وهو قولهم هذا: ﴿تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ﴾والظاهر أنّ مرادهم بالضلال هاهنا هو مرادهم بالضلال هناك، وهو المبالغةفي حبّ يوسف؛ وذلك أنّهم كانوا يرون أنّهم أحقّ بالحبّ من يوسفوهم عصبة، إليهم تدبير بيته والدفاع عنه، لكنّ أباهم قد ضلّ عنمستوى طريق الحكمة، وقدّم عليهم في الحبّ طفلين صغيرين لا يغنيانعنه شيئاً، ثُمّ لمّا فقد يوسف جزع له، ولم يزل يجزع ويبكي حتّى ذهبتعيناه، وتقوّس ظهره.

﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ...﴾البشير: حامل البشارة، وكان حامل القميص.

﴿قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ...﴾القائلون بنو يعقوب، ويريدون بالذنوب ما فعلوه به في أمر يوسف وأخيه، وأمّا يوسف فقد كان استغفر لهم قبل.

﴿قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ...﴾ أخّر يعقوب(عليه السلام) الاستغفار لهم ليتمّ له النعمة بلقاء يوسف وتطيب نفسه به كلّ الطيب بنسيان جميع آثار الفراق، ثُمّ يستغفر لهم، وفي بعض الأخبار أنّه أخّره إلى وقت يستجاب فيه الدعاء.

155

وشمّه لرائحة يوسف بمجرّد حركة القافلة: إمّا هو إعجازٌ محض من دون أيّ تفسير مادّيّ لذلك، وإمّا يضاف إلى ذلك ما رواه الشيخ الكلينيّ في اُصول الكافي(1): من أنّ القميص لم يكن قميصاً اعتياديّاً؛ بل كان قميصاً من الجنّة مورثاً من إبراهيم الخليل.

قوله: ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾.

روي في كنز الدقائق(2):

1 ـ عن علل الشرائع بإسناده إلى إسماعيل بن الفضل الهاشميّ، قال:«قلت لجعفر بن محمّد(عليه السلام): أخبرني عن يعقوب(عليه السلام) لمّا قال له بنوه: ﴿يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾فأخّر الاستغفار لهم، ويوسف(عليه السلام) لمّا قالوا له: ﴿تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِين﴾ قَال:﴿لاَ تَثْريبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ قال: لأنّ قلب الشابّ أرقّ من قلب الشيخ، وكانت جناية ولد يعقوب على يوسف، وجنايتهم على يعقوب إنّما كان بجنايتهم على يوسف، فبادر يوسف إلى العفو عن حقّه، وأخّر يعقوب العفو؛ لأنّ عفوه إنّما كان عن حقّ غيره، فأخّرهم إلى السحر ليلة الجمعة».



(1) اُصول الكافي، ج 1، ص 232 بحسب طبعة الآخوندي.

(2) ج 6، ص 378.

156

2 ـ وعن اُصول الكافي بسند له عن أبي عبدالله(عليه السلام): «قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): خير وقت دعوتم الله عزّ وجلّ فيه الأسحار، وتلا هذه الآية في قول يعقوب: ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾ وقال: أخّرهم إلى السحر»(1).

* * *



(1) اُصول الكافي، ج 2، ص 477.

157

 

 

 

﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾(1).

 


(1) الآية: 99 ـ 101.

﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى...﴾في الكلام حذف، والتقدير: فخرج يعقوب وآله من أرضهم، وساروا إلى مصر، ولمّا دخلوا... إلى آخره.

وقوله: ﴿آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ﴾فسّروه بضمّهما إليه. وقوله: ﴿وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ...﴾ظاهر في أنّ يوسف خرج من مصر لاستقبالهما وضمّهما إليه هناك، ثُمّ عرض لهما دخول مصر إكراماً وتأدّباً. وقد ذكر سبحانه أبويه، والمفسّرون

158


مختلفون في أنّهما كانا والديه، أباه واُمّه حقيقة، أو أنّهما يعقوب وزوجهخالة يوسف بالبناء على أنّ اُمّه ماتت وهو صغير، ولا يوجد في كلامه تعالى ما يؤيّد أحد المحتملين، غير أنّ الظاهر من الأبوين هما الحقيقيّان.ومعنى الآية: ولمّا دخلوا، أي: أبواه وإخوته وأهلهم على يوسف ـ وذلكفي خارج مصر ـ آوى وضمّ إليه أبويه، وقال لهم مؤمّناً لهم: ادخلوا مصرإن شاء الله آمنين.

﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا...﴾العرش: هو السرير العالي، ويكثر استعماله فيما يجلس عليه الملك ويختصّ به. والخرور: السقوط على الأرض. والبدو: البادية؛ فإنّ يعقوب كان يسكن البادية. وقوله: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ﴾أي: رفع يوسف أبويه على عرش الملك الذي كان يجلس عليه، ومقتضى الاعتبار وظاهر السياق أنّهما رفعا على العرش بأمر من يوسف تصدّى خدمه لا هو بنفسه، كما يشعر به قوله: ﴿وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً﴾فإنّ الظاهر أنّ السجدة إنّما وقعت لأوّل ما طلع عليهم يوسف، فكأنّهم دخلوا البيت واطمأنّ بهم المجلس، ثُمّ دخل عليهم يوسف، فغشيهم النور الإلهيّ المتلألئ من جماله البديع، فلم يملكوا أنفسهم دون أن خرّوا له سجّداً. وهذه السجدة ليست سجدة عبادة، والدليل على أنّها لم تكن منهم سجدة عبادة

159


ليوسف أنّ بين هؤلاء الساجدين يعقوب(عليه السلام)وهو ممّن نصّ القرآن الكريم على كونه مخلَصاً (بالفتح) لله لا يشرك به شيئاً، ويوسف(عليه السلام) وهو المسجود له منهم بنصّ القرآن، وهو القائل لصاحبيه في السجن: ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء، ولم يردعهم، فليس إلاّ أنّهم إنّما أخذوا يوسف آية لله، فاتّخذوه قبلة في سجدتهم، وعبدوا الله بها لا غير، كالكعبة التي تؤخذ قبلة فيصلّى إليها، فيعبد بها الله دون الكعبة.

﴿قَالَ يَا أَبَتِ...﴾لمّا شاهد(عليه السلام) سجدة أبويه وإخوته الأحد عشر، ذكر الرؤيا التي رأى فيها أحد عشر كوكباً والشمس والقمر له ساجدين، وأخبر بها أباه وهو صغير، فأوّلها له، فأشار إلى سجودهم له، وقال: ﴿يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً﴾ ثُمّ أثنى على ربّه شاكراً له، فقال: ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾فذكر إحسان ربّه به في إخراجه من السجن، وهو ضرّاء وبلاء دفعه الله عنه بتبديله سرّاء ونعمة من حيث لا يحتسب؛ إذ جعله وسيلة لنيله العزّة والمُلك. ولم يذكر إخراجه من الجبّ قبل ذلك لحضور إخوته عنده، وكان لا يريد أن يذكر ما يسوؤهم ذكره كرماً وفتوّة، بل أشار إلى ذلك بأحسن لفظ يمكن أن يشار به إليه، فقال: ﴿وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾ والنزغ: هو

160


الدخول في أمر لإفساده. والمراد: وقد أحسن بي من بعد أن أفسد الشيطان بيني وبين إخوتي، فكان من الأمر ما كان، فأدّى ذلك إلى فراق بيني وبينكم، فساقني ربّي إلى مصر، فأقرّني في أرغد عيش وأرفع عزّة وملك، ثُمّ قرّب بيننا بنقلكم من البادية إلىّ في دار المدنيّة والحضارة ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ﴾تعليل لإخراجه من السجن ومجيئهم من البدو، ويشير به إلى ما خصّه الله به من العناية والمنّة.

﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي...﴾لمّا أثنى(عليه السلام) على ربّه، وعدّ ما دفع عنه من الشدائد والنوائب، أراد أن يذكر ما خصّه به من النعم المثبتة وقد هاجت به المحبّة الإلهيّة، وانقطع بها عن غيره تعالى، فترك خطاب أبيه، وانصرف عنه وعن غيره ملتفتاً إلى ربّه، وخاطب ربّه عزّ اسمه. وقوله: ﴿فَاطِرَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ﴾إضراب وترقٍّ في الثناء، ورجوع منه(عليه السلام) إلى ذكر أصل الولاية الإلهيّة بعد ما ذكر بعض مظاهرها الجليلة، كإخراجه من السجن والمجيء بأهله من البدو، وإيتائه من الملك، وتعليمه من تأويل الأحاديث؛ فإنّ الله سبحانه ربّ فيما دقّ وجلّ معاً، ولىّ في الدنيا والآخرة جميعاً. وقوله: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾لمّا استغرق(عليه السلام)في مقام الذلّة قبال ربّ العزّة، وشهد بولايته له في الدنيا والآخرة، سأله

161

يوسف(عليه السلام) يستقبل أبويه و إخوته:

قوله تعالى: ﴿آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْه﴾ أي: ضمّهما إليه، يعني: عانقهما.

قوله(عليه السلام): ﴿ادْخُلُوا مِصْر﴾ هذا يدلّ على أنّه استقبلهم خارج مصر، وعلى أحد أبوابه.

قوله عزّ من قائل: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْش﴾ هذا في داخل قصره.

قولهعز وجل: ﴿خَرُّوا لَهُ سُجَّداً﴾ يعني: طاعةً لله، وتحيّةً ليوسف، فلم يكن هذا عبادة لغير الله، وهذا بعينه هو الحال في سجود الملائكة لآدم.

وروى المجلسيّ في البحار(1) عن تفسير عليّ بن إبراهيم ما حاصله: لمّا دخلوا مصر قعد يوسف على سريره، ووضع تاج الملك على رأسه، فأراد أن يراه أبوه على تلك الحالة، فلمّا دخل أبوهلم يقم له(2)، فخرّوا كلّهم له سجّداً، فقال يوسف: ﴿يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ


سؤال المملوك المولّى عليه: أن يجعله كما تستدعيه ولايته عليه في الدنيا والآخرة، وهو الإسلام مادام حيّاً في الدنيا، والدخول في زمرة الصالحين في الآخرة.

(1) ج 12، ص 250 ـ 252.

(2) لعلّه أراد بهذا إبراز عظمة مُلكه هو إدخالاً للسرور على أبيه، ولكن مع ذلك كان هذا يعني: صدور ترك الأولى عنه. (من المؤلّف دام ظلّه).

162

رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً ...﴾ فنزل عليهجبرئيل، فقال له: يا يوسف، أخرج يدك، فأخرجها، فخرج منبين أصابعه نور، فقال يوسف: ما هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذهالنبوّة أخرجها الله من صلبك؛ لأنّك لم تقم إلى أبيك. ومحا النبوّةمن صلبه، وجعلها في وُلد لاوي أخي يوسف؛ وذلك لأنّهم لمّاأرادوا قتل يوسف، قال: ﴿لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ﴾فشكر الله له ذلك، ولمّا أرادوا أن يرجعوا إلى أبيهم من مصر وقد حبس يوسف أخاه، قال: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ فشكر الله له ذلك. فكان أنبياءبني إسرائيل من ولد لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وكان موسى من ولده.

قوله: ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾ وكأنّه لم يذكر إخراجه من الجبّ؛ لأنّ هذا كان يؤذي إخوته.

قوله: ﴿وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ﴾أي: من البادية، وكأنّ هذا يعني: أنّ أولاد يعقوب كانوا رعاة للمواشي في بوادي كنعان.

قوله: ﴿مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾ كذلك هذا مراعاة لعواطف إخوته، فلم يذكر أنّ الخطأ كان منهم، وإنّما ذكر نزغ الشيطان بينه وبينهم.

163

العفو زكاة الظفر:

هكذا كانت سماحته وحنانه وعطفه وعفوه بعد المقدرة، وقد ورد في رواياتنا الإسلاميّة كراراً أنّ زكاة الغلبة والمقدرة هي العفو والمغفرة، فعن عليّ(عليه السلام) أنّه قال: «إذا قدرت على عدوّك، فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه»(1) و «العفو زكاة القدرة»(2) و «العفو زكاة الظفر»(3).

قوله: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ هذا دعاء لنفسه بحسن العاقبة.

* * *



(1) نهج البلاغه بشرح ابن أبي الحديد، ج 18، ص 109.

(2) عيون الحكم والمواعظ لعليّ بن محمّد الليثيّ الواسطيّ، ص 31.

(3) المصدر السابق، ص 38.

164

 

 

﴿ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾(1). صدق الله العليّ العظيم.

 

قصّة يوسف(عليه السلام) نبأ حقّ:

هذا ختمٌ لحكاية قصّة يوسف(عليه السلام)، فكأنّه سبحانه يقول: إنّ ذكر هذه القصّة لك ـ يا رسول الله(صلى الله عليه وآله) ـ هو من أنباء الغيب خالياً من الشوائب والأغلاط الموجودة في الكتُب المحرَّفة، نوحيه إليك وأنت لم تكن لديهم؛ إذ أجمعوا أمرهم على المكر.

وتركنا ذكر باقي آيات السورة المباركة؛ لأنّها خارجة عن قصّة يوسف.

وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربّ العالمين.



(1) الآية: 102.

﴿ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ...﴾ الإشارة بـ ﴿ذلك﴾ إلى نبأيوسف(عليه السلام). والخطاب للنبيّ(صلى الله عليه وآله)، وضمير الجمع لإخوة يوسف. والإجماع: العزم والإرادة. فبعد ما انتهت قصّة يوسف(عليه السلام) بكلّ دروسها التربويّة ونتائجها الغزيرة والقيّمة والخالية من جزاف القول والخرافات التأريخيّة، انتقل الكلام إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله)ليقول له: إنّ نبأ يوسف من أنباء الغيب، فإنّا نوحيه إليك والحال أنّك ما كنت عند إخوة يوسف، إذ عزموا على أمرهم وهم يمكرون في أمر يوسف.