16

دليل شرط الرضا أو مانعية الإكراه في العقد، ولا يأتي في الأدلّة اللفظية الواردة في بعض الولايات التي هي أعمّ من الولاية على العقد أو على الإكراه عليه كما لو وجدنا إطلاقاً لفظياً من هذا القبيل في ولاية الأب على الأولاد غير البالغين وكدليل ولاية الفقيه.

وهناك بيان أعمق من هذا البيان يشمل أدلّة الولايات مطلقاً، وهو دعوى انّ دليل الولاية حاكمٌ على دليل اشتراط رضا المالك أو عدم إكراهه، لانّ دليل الولاية ينزّل الوليّ منزلة المولّى عليه ويكون ناظراً إلى الأحكام الأوليّة لتصرفات المولّى عليه فيصبح رضا الوليّ بمنزلة رضا المولّى عليه.

بل يمكن ان يقال بانّ المفهوم من أوّل الأمر من أدلّة مانعية الإكراه أو شرط الرضا ليس أكثر من الجامع بين رضاه أو رضا وليّه، فانّ الدليل على ذلك إن كان هو الارتكاز العقلائي فمن الواضح انّ الارتكاز انّما يكون قائماً على ما قلناه لا على خصوص رضا المالك ولو كان مولّى عليه وإن كانت هي الأدلّة اللفظيّة فهي منصرفة إلى ذلك بسبب ذاك الارتكاز.

اشتراط الرضا أو مانعيّة الإكراه:

بقي الكلام في انّ العقد هل يكون الرضا شرطاً في صحّته، أو يكون الإكراه مانعاً عن صحّته حيث انّه من الواضح ان كون العقد عن إكراه اخصُّ من كونه لا عن رضا؟ فقد يكون صدور العقد من الشخص نتيجة تخيّله للإكراه من دون وجود مكرِه حقيقةً، أو لأجل مداراة الأهل مثلا كما فرض في ما مضت الإشارة إليه من حديث منصور بن يونس في الطلاق(1) ففي أمثال هذه الموارد لا يكون الإكراه صادقاً ولكنّ الرضا أيضاً غير موجود.


(1) الوسائل 15: 332، الباب 38 من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه.

17

فإن كان دليلنا في المقام مثل حديث الرفع فقط فهو انّما يدلّ على مانعيّة الإكراه أمّا على ما عرفته من صحّة الاستدلال أيضاً بنصوص الرضا والطيب فقد ثبت ما هو أوسع من مانعيّة الإكراه وهو شرط الرضا وقد مضى عن السيّد الإمام (رحمه الله) تفسير الطيب وعدم الرضا بنفس عدم الإكراه وأنّه متى ما كان الرضا بمعنى عدم الإكراه صادقاً صحّ العقد(1) ولازم ذلك ان يفتي بصحّة العقد في ما أشرنا إليه من موارد الافتراق لعدم صدق الإكراه فيها، ولا أظنّ به ولا بغيره ان يلتزم بذلك، ومن الواضح عرفاً عدم صدق الطيب والرضا وكأنّ الذي دعاه إلى هذا التفسير للطيب والرضا هو التخلّص من النقض بموارد الاضطرار وقد مضى منّا حلّ هذا النقض.

بل قد يقال: إنّ أدلّة مانعيّة الإكراه هي التي ينبغي إرجاعها إلى شرطيّة الرضا وذلك إخضاعاً لها للارتكازات العقلائية، إذ من الواضح انّ الارتكاز العقلائي يرى شرطية الرضا ولا يكتفي بعدم الإكراه وانّما يحكم العقلاء بمبطليّة الإكراه لنكتة فقدان الرضا فيه فأدلّة مبطليّة الإكراه تحمل على ذلك كما يشهد لذلك ان إحدى روايات الإكراه(2) في الطلاق اشتملت أيضاً على ذكر شرط كونه مريداً للطلاق ولكنّها ضعيفة سنداً.

إلّا انّ هذا البيان وإن كان يتمّ في مثل روايات طلاق المكره لكنّه لا يتمّ في حديث الرفع فانّ حديث الرفع لم يكن خاصّاً بالعقود كي يفهم منه عقلائياً انّ رفع الإكراه يكون بنكتة عدم الرضا ويشمل أمثال ارتكاب المحرّم عن إكراه فيرتفع به


(1) راجع كتاب البيع 2: 67 ـ 68.

(2) الوسائل 15: 331، الباب 37 من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه، الحديث 4.

18

مثل الحدّ والعقاب، فالمفهوم عرفاً منه ان رفع الإكراه في هذا الحديث بنكتة اُخرى غير فقدان الرضا وهي نكتة ضعف القدرة فكأنّ الإكراه ملحق بالانجبار والعجز عن التفصّي.

وعلى أيّة حال فقد اتّضح بكل ما ذكرناه حتى الآن ان كلتا النكتتين أعني نكتة المانعيّة الإكراه لضعف القدرة ونكتة شرطيّة الرضا ثابتتان في المقام فالنتيجة مع شرطيّة الرضا.

ثمرة الخلاف عند وجود المندوحة:

ومن الثمرات التي تترتب على ذلك هي انّه لو كان المكرَه قادراً على التفصّي بما لا يوجب عليه المشقّة أو الحرج فالإكراه على العقد غير صادق ولكن الرضا أيضاً غير ثابت، فإن قلنا بمانعيّة الإكراه فحسب صحّ العقد وإن قلنا بشرطيّة الرضا والطيب بطل العقد.

ولكن السيّد الخوئي (رحمه الله) ذكر(1) انّه مع وجود المندوحة من دون ضرر أو مشقّة يكون العقد صحيحاً لانّ طيب النفس والرضا موجود وذلك لانّ المفروض عدم الخوف من الضرر فالثابت في المقام هو الرضا لا الإكراه ولو لم يكن راضياً لما فعل.

وهذا الكلام كما ترى لا أساس له، فانّ الإكراه وإن لم يكن ثابتاً في المقام لعدم صدق الخوف من الضرر لدى ترك العقد ما دام قادراً على التفصّي بدون ضرر أو حرج، ولكنّ هذا لا يساوق الرضا وطيب النفس إذ قد يصدر منه العقد تكاسلا من الخروج من الغرفة التي وجد فيها العدو إلى الغرفة الاُخرى التي يوجد فيها من


(1) راجع المحاضرات 2: 249، ومصباح الفقاهة 3: 304.

19

يحميه عن العدوّ مثلا، ويكفيه هذا التكاسل كدافع إلى العقد بعد علمه بانّ العقد إذا لم يكن عن رضا لم يكن له أثر.

نعم قد يتّفق إثباتاً وجود ظهور حالي على الرضا كما لو كان التفصّي بالانتصار خالياً عن أي مؤونة عرفيّة كما لو اتّفق انّ الذي يحميه عن الظالم كان موجوداً في نفس الغرفة ولم تكن حمايته تتوقّف على شيء عدا مجرّد الإشارة إليه مثلا ومع ذلك لم يشر إليه وأوقع العقد، وعلى أيّة حال فهذا خارج عن محل البحث فانّه ليس عدا أمر إثباتي قد يتحقّق وقد لا يتحقّق أمّا بلحاظ البحث الثبوتي فلا ينبغي الإشكال في انّ وجود المندوحة بلا مشقّة وضرر يمنع عن صدق الإكراه ولا يمنع عن عدم صدق الرضا والطيب.

وللشيخ الاصفهاني (رحمه الله) تقريب لدعوى صدق الإكراه عند وجود المندوحة(1) ولم يظهر من عبارته انّه هل يتبنّاه أو لا، وهو انّه ان فرضنا ان اتصاف صدور الفعل بوصف الإكراه إن كان متوقّفاً على القضيّة الإيجابية، وهي كون الإكراه هو السبب للفعل، فالعقد هنا غير مكره عليه لانّ الإكراه ليس سبباً لخصوص العقد وانّما هو سبب للجامع بين العقد والمندوحة فخصوصية العقد نشأت من سبب آخر، فالعقد إذن لم يكن لسبب الإكراه بل كان لمجموع الإكراه وعدم الداعي إلى التفصّي بالمندوحة أو الداعي إلى عدم التفصّي. ولا يقال: إنّ عدم الضد ليس مقدّمة للضد فانّه يقال: نعم ولكن عدم سبب الضد المساوي أو الأقوى من سبب الضد الآخر مقدّمة للضد لمكان التزاحم بين السببين في التأثير، فعدم سبب التفصيّ له دخل في سبب حصول العقد وليس العقد مسبباً محضاً من


(1) راجع تعليقته على المكاسب 1: 121.

20

الإكراه، أمّا ان فرضنا انّه تكفي في اتّصاف الفعل بالإكراه القضيّة السلبيّة وهي انّه لولا الإكراه لما فعل إذن فالعقد في المقام متّصف بالإكراه، فانّ الإكراه وإن لم يكن سبباً لخصوص العقد وانّما كان سبباً للجامع بين العقد والمندوحة لكنّه على أي حال لولاه لما صدر العقدُ إذ بانتفائه ينتفي الجامع بكلا فرديه.

أقول: من الواضح انّ المفهوم العرفي للإكراه هو ذاك الجانب الإيجابي لا مجرّد هذا الجانب السلبيّ البحت.

حكم المندوحة بالتورية عند الإكراه:

وللشيخ الاصفهاني (رحمه الله) بيان آخر(1) لاستفادة البطلان من حديث رفع الإكراه رغم وجود المندوحة في خصوص ما إذا كانت المندوحة عبارة عن التورية فحسب وهو أنّ العقد بمعناه الحقيقي وإن لم يكن مكرهاً عليه لتمكّنه من التورية وعدم إرادة المعنى الحقيقي لكن جامع اللفظ بقطع النظر عن المعنى الذي يقصده مكره عليه فيسقط اللفظ عن التأثير ولا إشكال في انّ اللفظ جزء العلّة لحصول النتيجة فبرفع الحكم عنه وبسقوطه عن التأثير تنتفي النتيجة أي انّ العقد يصبح باطلا.

وأجاب عليه بان رفع الأثر كان للامتنان ولا امتنان في إسقاط جزء السبب عن التأثير بعد أن كان قد قصد البيع الحقيقي بخصوصية طبعيَّة لا بسبب الإكراه.

أقول: هذا المقدار من الجواب لا يكفي لردّ ذاك البيان إذ لقائل ان يقول: إذا قصد المعنى الحقيقي بعد أن كان مكرهاً على أصل اللفظ لا لرغبة في حصول النتيجة بل لاعتقاده بأنّ ذاك الإكراه كاف في المنع عن حصول النتيجة مثلا فهنا رفع الأثر امتنانيّ فلماذا لا يرفع؟!

 


(1) راجع تعليقته على المكاسب 1: 121 ـ 122.

21

والجواب الصحيح في المقام ان يقال: إنّ المفهوم عرفاً من حديث الرفع وفق الارتكاز العقلائي هو النظر إلى نكتة كون الإكراه كأنَّه مضعِّف للقدرة والاختيار فيكون ترتّب الحكم على ما صدر منه بمنزلة ثبوت الحكم على العاجز الذي لا يستطيع الفرار عنه بترك السبب، وهذا الوصف غير صادق لدى الإكراه على جزء السبب إذ باستطاعته التفصّي عن النتيجة بترك الجزء الآخر، فمثلا لو كان الحرام مؤلَّفاً من جزءين بحيث لو فعل أحدهما لم يكن حراماً وكان الجزءان عَرضيين من حيث الزمان ففعل أحدهما إكراهاً وضمّ الآخر إليه اختياراً فهل بالإمكان القول بارتفاع الحرمة والعقاب بسبب كون أحد الجزءين مكرَهاً عليه؟! ومن الواضح انّه في هذا الفرض لا يأتي ما ذكره من الجواب بامتنانية الرفع فان رفع الحرمة والعقاب فيه امتنان على كل حال.

وذكر الشيخ الانصاري (رحمه الله)(1): انّ التمكّن من التورية لا يمنع عن صدق الإكراه والتمكّن من التفصّي بوجه آخر من قبيل الخروج من الغرفة إلى غرفة اُخرى يستطيع فيها ان يحتمي بمَن يمنعه عن ظلم الظالم يمنع عن صدق الإكراه (والعقد رغم هذا يكون باطلا في رأيه (رحمه الله) لأجل فقدان الرضا وطيب النفس) والوجه في هذا الفرق هو انّ المقياس في صدق الإكراه هو حصول التخوّف من بطش المكرِه على تقدير علمه بعصيان المكرَه إيّاه لا مطلقاً إذ من الواضح انّ المكرِه انّما يبطش بالمكرَه لو علم بعصيانه إيّاه دون ما لو اعتقد طاعته له وهذا البطش على تقدير العلم ثابت لدى التفصّي بالتورية إذ لو علم المكرِه، بانّ المكرَه قد ورَّى لبطش به وغير ثابت لدى التفصّي بمثل الخروج من الغرفة والاحتماء


(1) في المكاسب 1: 120، حسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

22

بحماته إذ لو علم المكرِه بذلك لما استطاع ان يصنع شيئاً لانّ حماة ذاك الشخص سيمنعون المكرِه عن البطش به، والحاصل انّ المقياس هو التخوّف عن البطش على تقدير العلم لا مطلقاً وهذا التخوّف على تقدير العلم في باب التورية صادق، وان علم بعدم البطش على أساس عدم علم المكرِه وفي سائر موارد التفصّي غير صادق.

وقد أجاب السيد الخوئي على ذلك بمنع تقوّم الإكراه بتلك القضيّة الشرطيّة وإنّما هو متقوّم بخوف البطش بنحو القضيّة الفعليّة وهو منتف في كلا الموردين أي في مورد إمكان التفصّي بالتورية وفي مورد إمكان التفصّي بوجه آخر فلا وجه لهذا التفصيل(1).

أقول: إنّ النكتة التي أبداها الشيخ الانصاري (رحمه الله) للمصير إلى تلك القضيّة الشرطيّة وهي وضوح انّ البطش من قِبَل المكرِه انّما يترتّب على تقدير علمه بعصيان المكرَه إيّاه دون ما لو اعتقد عدم عصيانه لم يأتِ في المنقول عن السيد الخوئي الجواب عليها، والجواب هو انّ المدَّعى ليس هو تقوّم الإكراه بالتخوّف من بطش المكرِه مطلقاً، وعلى كلّ تقدير وانّما هو تقوّمه بالتخوّف من البطش الفعلي والفعلية غير الإطلاق إذ قد يكون الشيء فعليّاً لتحقّق شرطه لا لإطلاقه وعدم تقيّده بذاك الشرط، وما ذكره من وضوح انّ البطش مختصٌّ بفرض علم المكرِه مثلا بالحال دون فرض اعتقاده بخلاف الحال انّما يمنع عن الإطلاق لا عن الفعليّة أي انّما يمنع عن تقوّم الإكراه بتخوّف البطش على كل تقدير، إذ لو كان كذلك لما تحقّق إكراه أبداً إذ البطش على تقدير الاعتقاد بالعدم لا يتحقّق ولا يمنع


(1) راجع المحاضرات 2: 250.

23

عن تقوّم الإكراه بتخوّف البطش الفعلي، وهذا التخوُّف منتف في كلا الموردين أيفي التورية وفي باقي أنحاء التفصّي.

وقد أورد السيد الخوئي أيضاً النقض على الشيخ الانصاري(رحمه الله)(1) بأ نَّه لو اُكره أحد على شرب الخمر مع تمكّنه من هراقته في جيبه حرم عليه شربها جزماً مع انّه لو علم المكرِه بذلك لبطش به أفهل يقال إنّ الإكراه صادق في المقام وإن حديث الرفع يرفع الحرمة عنه؟! وبانّه لو أكره الجائر أحداً على ارتكاب محرّم أو ترك واجب ثم غاب عنه بحيث لا يلتفت إلى حاله أفهل يتوهّم أحد صدق الإكراه هنا لانّ الجائر لو علم بمخالفة المكرَه إيّاه لبطش به فيجوز ارتكاب الحرام أو ترك الواجب؟!

وذكر الشيخ الاصفهاني (رحمه الله)(2) في مقام الردّ على مقالة الشيخ الانصاري (رضوان الله عليه): انّه صحيح ما ذكره الشيخ الانصاري (رحمه الله) من انّ الضرر مترتّب على الامتناع على تقدير اعتقاد المكرِه واكتشافه لواقع الحال لا مطلقاً ولكن هذا ينتج عكس مقصود الشيخ أي يثبت في المقام عدم صدق الإكراه وذلك لانّ الضرر إذا كان مترتباً على الامتناع الاعتقادي لا مطلق الامتناع، إذن هو مكرَه على ترك الامتناع الاعتقادي لا مطلق الامتناع فانّ المكره عليه انّما هو ترك ما يجلب الضرر لا ترك شيء آخر، والذي يجلب الضرر في مورد القدرة على التورية انّما هو عدم إجراء العقد لا حقيقة ولا على نحو التورية فانّه الذي يكشفه المكرِه ويعلم به أمّا ترك العقد الحقيقي الذي يتحقّق ضمن التورية فلا يجلب الضرر فلا إكراه عليه.


(1) في مصباح الفقاهة 3: 306.

(2) في تعليقته على المكاسب 1: 123.

24

أقول: إنّ هذا الكلام في نفسه وإن كان صحيحاً ولكن الظاهر انّ خطأ الشيخ الانصاري (رحمه الله) يكمن في الخلط بين القضيّة المطلقة والقضيّة الفعليّة فحلّ إشكاله في المقام يكون بإلفات النظر إلى الفرق بينهما كما مضى منّا.

ثم انّ الشيخ الانصاري (رحمه الله) ذكر أيضاً في المقام: انّه حتى لو قلنا: إنّ مقتضى القواعد اعتبار العجز عن التورية وانّه مع القدرة عليها لا يثبت الإكراه فقد ثبت بالتعبّد بحكم الروايات عدم اعتبار العجز عنها وانّ القادر على التورية ملحق حكماً بالمكرَه، لانّ حمل عموم رفع الإكراه وخصوص النصوص الواردة في طلاق المكره وعتقه والأخبار الكثيرة المجوّزة للحلف كاذباً عند الخوف والإكراه على فرض العجز عن التورية لجهل أو دهشة حمل على فرد نادر مع انّ العجز عنها لو كان معتبراً لاشير إليه في تلك الروايات خصوصاً في قضيّة عمّار وأبويه حيث اكرهوا على الكفر فأبى أبواه فقُتلا وأظهر لهم عمّار ما أرادوا فجاء باكياً إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)فنزلت الآية ﴿مَن كفر بالله من بعد إيمانه إلّا من اُكره وقلبه مطمئن بالإيمان﴾(1) فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) ان عادوا عليك فعد ولم ينبّهه على التورية فان التنبيه في المقام وإن لم يكن واجباً إلّا انّه لا شك في رجحانه خصوصاً من النبيّ (صلى الله عليه وآله) باعتبار شفقته على عمّار وعلمه بكراهة تكلّم عمّار بألفاظ الكفر من دون تورية كما لا يخفى(2).

وأورد على ذلك السيد الخوئي(3) بانّ التمسّك بأدلّة رفع الإكراه العامّة أو


(1) النحل: 106.

(2) راجع المكاسب 1: 119 ـ 120، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

(3) راجع المحاضرات 2: 251، ومصباح الفقاهة 3: 306.

25

الخاصّة لعدم اشتراط العجز عن التورية رغم فرض دخل العجز عنها في صدق الإكراه عجيب ولا علاقة لهذا بلزوم حمل العام على الفرد النادر، فان حمل العام على الفرد النادر الذي هو مستهجن يعني صرف العام عن عمومه إلى النادر من أفراده أمّا إذا فرض انّ نفس عنوان العام لا يشمل إلّا الأفراد النادرة فليس هذا من باب ما يقال من حمل العام على الفرد النادر.

وكذلك أورد السيد الخوئي(1) على استدلال الشيخ بحديث عمّار: أوّلا ـ بانّ جلالة قدر عمّار تقتضي انّه ورّى في ذلك ولم يقصد الكفر والتبرّي من النبي (صلى الله عليه وآله)ودينه.

وثانياً ـ بأنَّ التورية في إظهار الكفر ليست فراراً عن الحرام كي يترقّب تنبيه النبي (صلى الله عليه وآله) على ذلك فان نفس إظهار الكفر والتبرّي هتك لله سبحانه وتجاسر لعظمته وهو حرام وذلك سنخ حرمة السب وهتك المؤمن التي لا تنتفي بالتورية.

أقول: إنّ كلّ هذه المناقشات يمكن الجواب عليها: أمّا ثبوت حرمة إظهار الكفر ولو تورية لما فيه من الهتك والتجاسر فهو وإن كان مسلماً لكن تبقى في المقام حرمة اُخرى قد يقال بانّها تختصّ بفرض عدم التورية وهي حرمة الكذب. وأمّا كون عمّار اجلّ شأناً من أن يكون قد كفر حقيقة فهذا ممّا لا غبار عليه، إلّا انّ هذا لا يعني انّه قد ورّى فالمقصود بالتورية أن يكون مستعملا للفظ في غير ظاهره من الكفر، ولنفترض انّه لم يورِّ ولو غفلة أو ذهولا، أو لعدم الاعتقاد بوجود فائدة في التورية فاستعمل اللفظ في معناه الظاهر، لكن استعمال اللفظ في معناه خوفاً من العذاب لدى الغفلة عن التورية أو اعتقاد عدم فائدة فيها شيء وأن يكون قد


(1) راجع المحاضرات 2: 251 ـ 252، ومصباح الفقاهة 3: 306 ـ 307.

26

كفر حقيقة في قرارات قلبه شيء آخر، وعظمة عمّار انّما تنفي الثاني دون الأوّل.

وأمّا ما أورده من انّ التمسّك بأدلّة رفع الإكراه العامّة والخاصّة في غير محله لفرض دخل العجز عن التورية في صدق الإكراه فقد يجاب عليه بلحاظ الأدلّة الخاصّة ان المقصود بالإكراه ليس هو الإكراه على الطلاق الحقيقي مثلا.

وذلك لانّ عدم تجاوز إحاطة المكرِه لدائرة اللفظ والظاهر إلى ما في القلب قرينة عرفيّة على انّ المقصود بالروايات هو الإكراه على اللفظ وإظهار الطلاق سواء حصل صدفة الإكراه على واقع الطلاق لعجز الشخص عن التورية أو لا، وعند ذلك يقال: إنّ حمل هذه الأدلّة على الإكراه على الطلاق الحقيقي للعجز عن التورية حمل على النادر أو خلاف الإطلاق.

ونفس هذا البيان يأتي في الآية الشريفة: ﴿إلّا من اُكره وقلبه مطمئن بالإيمان﴾نعم هذا البيان لا يأتي في الرفع العام وهو حديث رفع الإكراه الذي يكون في كثير من موارده كالإكراه على المحرّمات إكراهاً على الواقع حينما لا يمكن للمكرِه الاحتيال بإظهار خلاف الواقع بإدارةِ الخمر في جيبه مثلا. هذا. وخصوص قضيّة عمّار ان ثبتت سنداً لا مبرّر لحملها على فرض العجز عن التورية لانّ قوله (صلى الله عليه وآله): «إن عادوا عليك فعُد» مطلق يشمل فرض ما لو قدر على التورية، وهذا بنفسه دليل على انّ المقصود بالإكراه في الآية الشريفة الواردة في تلك القصّة هو الإكراه على إظهار الكفر الشامل لفرض التورية.

على انّ هذا الإشكال لو تمّ في روايات الإكراه على الطلاق والعتاق لا يرد في روايات الحلف كاذباً(1) فانّه لم تفترض فيها إرادة الظالم للإكراه على الحلف


(1) الوسائل 16: 134 ـ 137، الباب 12 من أبواب الأيمان.

27

الكاذب حتى يقال انّها لا تشمل فرض القدرة على التورية وانّما افترضت فيها إرادته للإكراه على شيء آخر كدفع العُشر فجوّز له الإمام (عليه السلام)التخلّص من هذا الإكراه بالحلف الكاذب، وهذا يشمل بإطلاقه فرض القدرة على التورية وذلك من قبيل ما عن زرارة بسند تام قال قلت لأبي جعفر (عليه السلام)نمرّ بالمال على العشّار فيطلبون منّا ان نحلف لهم ويخلّون سبيلنا ولا يرضون منّا إلّا بذلك قال: فاحلف لهم فهو أحلّ من التمر والزبد(1).

فانّه من الواضح انّ مقصود العشّار ليس هو بالذات الإكراه على الحلف كي يفترض ان نستظهر من الحديث الإكراه على الحلف الكاذب دون التورية، وانّما مقصوده بالذات هو أخذ العشر من أمواله إن كانت معه أموال، ويرى الحلف أمارة على المال، فالحديث مطلق لغرض القدرة على التورية وعدمها.

ونحو هذه الروايات روايات جواز الكذب في الإصلاح فانّها تشمل بإطلاقها فرض القدرة على التورية(2) من قبيل ما ورد عن معاوية بن عمّار بسند تام عن أبي عبد الله (عليه السلام)قال: المصلح ليس بكذّاب(3). نعم يرد على الاستدلال بروايات الحلف كاذباً أو روايات الكذب للإصلاح ان فرض حليّة الحلف كاذباً، أو الكذب للإصلاح رغم القدرة على التورية ليس دليلا على بطلان بيع المكره إذا قصد المعنى الحقيقي رغم القدرة على التورية، فإنّ هذا قياس خاصّة إذا قلنا إنّ جواز الحلف كاذباً أمام الظالم رغم القدرة على التورية ثابت بمقتضى القواعد بلا حاجة إلى التعبّد بهذه الروايات.

 


(1) الوسائل 16: 137، الباب 12 من أبواب الأيمان، الحديث 6.

(2) راجع الوسائل 8: 578 ـ 580، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة.

(3) الوسائل 8: 578، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3.

28

والوجه في جواز ذلك بمقتضى القواعد أمران:

الأوّل ـ ان يقال: إنّ التورية كذب فلا معنى للتفصّي عن الكذب بالتورية وتوضيح الحال في ذلك: انّ الكلام توجد له عادة دلالة على إرادات ثلاث:

1 ـ إرادة استعمال اللفظ في المعنى.

2 ـ إرادة اخطار المعنى لذهن السامع.

3 ـ إرادة المدلول الجدّي من قصد الحكاية أو غير ذلك.

وشرح ذلك موكول إلى محله من علم الاُصول، إلّا انّ هدفي من الإشارة إلى ذلك توضيح انّ الإرادة الاستعمالية هي غير إرادة اخطار المعنى لذهن السامع، خلافاً لما تعارف لدى الأصحاب، ووفاقاً لما عن استاذنا الشهيد (رحمه الله) في تقرير السيد الهاشمي (حفظه الله)(1) بدليل انّه قد يستعمل اللفظ في المعنى من دون إرادة اخطار ذاك المعنى كما في موارد استعمال اللفظ في أحد معانيه المشتركة مع تعمّد إخفائه عن فهم المخاطب بعدم إقامة القرينة عليه فهو بينه وبين نفسه قد قصد معنىً معيناً من اللفظ ولكنه لم يقصد اخطاره إلى ذهن المخاطب، بل قد يقصد إخطار معنى آخر إلى ذهن المخاطب غير ما استعمل اللفظ فيه كما هو الحال في كثير من موارد التورية، إذن فاستعمال اللفظ في المعنى ليس عبارة عن قصد الاخطار وانّما هو عبارة عن نوع فعّالية للنفس بقدرة مودعة فيها من قبل الله تعالى وهي نوع إشارة باللفظ إلى المعنى شبيهة بالإشارة بالاصبع مثلا.

وما عن استاذنا الشهيد (رحمه الله) في تقرير السيد الهاشمي بعد توضيح انّ الإرادة الاستعمالية ليست هي إرادة تفهيم المعنى واخطاره باللفظ من: انّ (الإرادة


(1) بحوث في علم الاُصول 1: 132.

29

الاستعمالية عبارة عن إرادة التلفّظ باللفظ ولكن لا بما انّه صوت مخصوص بل بما انّه دال بحسب طبعه وصالح في ذاته لإيجاد صورة المعنى في الذهن) ان رجع إلى ما قلناه وهو ما سمّيناه بالإشارة إلى المعنى باللفظ فهو صحيح وإلّا لم نفهم المقصود منه فان كون دلالته بالطبع على المعنى المستعمل فيه هي الحيثية التي تعنون بها إرادة التلفّظ لو لم يرجع إلى ما قلناه لا نفهم له محصلا عدا كون هذه الحيثية هي التي دعت إلى إرادة التلفّظ، وهذه الحيثية لا تدعو إلى ذلك إلّا حينما تكون الغاية من التلفّظ إفهام ذاك المعنى وإخطار إلى ذهن السامع، وهذا رجوع مرة اُخرى إلى الإرادة الإخطارية.

إذا عرفت هذه الإرادات الثلاث قلنا: إنّ فرق التورية عن الكذب الذي لا تورية فيه ليس في المعنى الذي يخطره إلى ذهن السامع، ولا في الدلالة التصديقيّة الجدّيّة التي يريد إفهامها للسامع فلو قال للمخاطب الذي يطالبه بالمال مثلا: (والله انّ يدي خالية) قاصداً بذلك صرفه عن مطالبته المال بتخيّل كونه صفر اليدين من المال لم يكن فرق بين ان يقصد كذباً عدم امتلاكه للمال وان يقصد تورية خلو يده من وجود عين مقبوضة في انّه أراد ان يخطر في ذهن السامع المعنى الأوّل، وأن يفهّمه حكاية المعنى الأوّل، وانّما الفرق بينهما في الإرادة الاستعمالية حيث قد يجعل اللفظ بينه وبين نفسه إشارة إلى المعنى الأوّل، وقد يجعله إشارة إلى المعنى الثاني، ولكنّه على كلا التقديرين يريد إظهار المعنى الأوّل للمخاطب إذ من الواضح ان فائدة التورية هي ان يفهم المخاطب غير المعنى الذي قصده المتكلّم باستعماله، أمّا لو فهم المخاطب نفس المعنى المقصود حقيقة فقد فسدت التورية وانتقض الفرض كما هو واضح.

وعندئذ يجب ان نرى انّ المقياس في الكذب ما هو؟ هل هو مخالفة

30

المدلول الجدّي، وهو الحكاية للواقع أو كون الدلالة الإخطارية أو الإرادة الاستعمالية غير منسجمة وغير متناسبة لدلالة جدّية مطابقة للواقع؟

لا شك ولا ريب في انّ مجرّد عدم انسجام الدّلالة الاخطارية أو الإرادة الاستعمالية لدلالة جدّية مطابقة للواقع لا يكفي في صدق عنوان الكذب، فلو استعمل اللفظ في معنى وقصد إخطاره إلى ذهن المخاطب في مجال المزاح لا في مجال الجدّ وكانت القرينة الحالية على ذلك مثلا واضحة فمن الواضح انّ عنوان الكذب لا يصدق في المقام، إذن فمخالفة الإرادة الحكائية للواقع لها ركنيّة في صدق عنوان الكذب حتماً وعندئذ لا يبقى مجال لدعوى خروج التورية عن تحت عنوان الكذب، إلّا بان يدّعى انّ مخالفة الإرادة الحكائية للواقع وإن كانت ركناً وشرطاً في صدق عنوان الكذب ولكن عدم انسجام الإرادة الاستعمالية لإرادة جدّية مطابقة للواقع أيضاً شرط في صدق عنوان الكذب، فتخلّف أحد الأمرين كاف في الخروج عن عنوان الكذب والتورية، وإن كانت لا تختلف عن الكذب في الدّلالة الجدّية لكنها تختلف عنه في الإرادة الاستعمالية، وهذا كاف في نفي عنوان الكذب وذلك بدعوى انّ المتبادر من عنوان الكذب ما اجتمع فيه الشرطان.

إلّا انّنا وإن كنّا لا نملك برهاناً على رفض هذه الدعوى فانّ التبادر أمر وجداني لا يمكن نفيه بالبرهان، لكنّنا لا يتبادر إلى ذهننا من عنوان الكذب عدا مخالفة الإرادة الجدّية الحكائية للواقع.

الثاني ـ انّنا لو لم نقبل ما مضى في البيان الأوّل من انّ مقياس الكذب في مدلوله العرفي انّما هو عدم مطابقة ما اريد تفهيمه من الحكاية للمخاطب للواقع دون دخل شيء آخر فيه، فلا أقلّ من ان المفهوم عرفاً بمناسبات الحكم

31

والموضوع من أدلّة حرمة الكذب انّها تنظر إلى هذا الجانب فحسب، فانّ الكذب كما يحمل حرمة شرعية كذلك يحمل حرمة عقلائية مرتكزة في أذهان العقلاء، ومن الواضح انّه لا قيمة للإرادة الاستعمالية نفياً وإثباتاً في حساب هذا الأمر الارتكازي، وانّما المهم فيه كون الحكاية مضللة للمخاطب وحكايةً لأمر مخالف للواقع، والارتكازات العقلائية لها تأثيرها الكبير على مداليل الألفاظ في الأدلّة اللفظية، فالمنصرف من أدلّة حرمة الكذب انّما هو النظر إلى جانب الإرادة الحكائية فحسب، سواء فرض انّ المدلول اللغوي للكذب يشمل التورية أو لا.

نعم التضليل عن غير طريق الحكاية حينما لا يكون مضرّاً بالأهداف المحلَّلة للآخرين لا يحمل حرمة في ارتكاز العقلاء من قبيل الإنشاء كما لو قال: (بعت) بقصد إبراز الإنشاء في حين انّه لم يكن يقصد الجدّ في ذلك، وكما لو أشعل الكهرباء في بيته الذي سيتركه فارغاً كي تكون لوجود النور في البيت دلالة طبعية لا حكائية على وجود إنسان في البيت كي يؤدّي ذلك إلى امتناع السرّاق عن التخطيط لسرقة ما في البيت، فثبوت مثل هذه الدلالة لغير السرّاق أيضاً لا يكون حراماً في مرتكز العقلاء ما دامت الدلالة طبعية لا حكائية، لا انّه يكون حراماً عقلائياً في ذاته وترتفع الحرمة بالتزاحم مع مصلحة دفع السرّاق مثلا.

والحاصل انّ مقتضى القواعد انّه لا فرق بين التورية والكذب، إمّا لدخول التورية في الكذب موضوعاً كما مضى في الوجه الأول، أو لالتحاقها به حكماً كما عرفته في الوجه الثاني.

نعم لا نمنع عن رجحان الالتزام بالتورية في كل مورد جاز فيه الكذب على أساس أمر تربوي، وهو بقاء ملكة التحرّز عن الكذب في النفس وعدم تعوّد النفس على التهاون بالكذب، فصحيح انّ التورية هي كذب في واقعها حقيقة أو

32

حكماً لكن الإيحاء النفسي له أثره التربوي، فحينما يتقيّد بالتورية رغم حليّة الكذب وكأنَّما يوحي إلى نفسه انّه هرب من الكذب إلى الصدق، فهذا الإيحاء بنفسه له أثره المرغوب فيه.

أدلّة عدم لحوق التورية بالكذب:

وقد يستدلّ ببعض الآيات أو الروايات على جواز التورية وعدم التحاقها بالكذب من قبيل:

قوله تعالى: ﴿ثمّ أذّن مؤذّن ايّتها العير انّكم لسارقون﴾(1) حيث تُحمل على التورية بمعنى انّهم سرقوا يوسف (عليه السلام).

وقوله تعالى: ﴿فنظر نظرة في النجوم * فقال انّي سقيم﴾(2) حيث تفسّر بمعنى السقم في الدين أو السقم في الحسين (عليه السلام). وقوله تعالى: ﴿بل فعله كبيرهم هذا فسئلُوهم إن كانوا ينطقون﴾(3) وقد وردت بهذه التفاسير بعض الروايات(4) الواردة في مقام إخراج هذه الآيات عن الكذب، إلّا انّ تلك الروايات ضعيفة السند والآية الثانية غير واضحة في الكذب فلعلّ قواعد النجوم كانت مشيرة حقيقة إلى انّه سيكون سقيماً كما انّ الآية الثالثة واضحة في عدم الكذب، بقطع النظر عن فرض التورية، إذ من الواضح لكلّ عاقل بالقرينة الحالية


(1) يوسف: 70.

(2) الصافات: 88 و 89.

(3) الأنبياء: 63.

(4) راجع تفسير البرهان 2: 261، الحديث 6، 7، 8، في تفسير قوله تعالى: ﴿أ يّتها العير إنّكم لسارقون﴾ و 3: 65، الحديث 3، في تفسير قوله تعالى: ﴿بل فعله كبيرهم﴾ و 4: 25، الحديث 1 و 5، في تفسير قوله تعالى: ﴿إنّي سقيم﴾.

33

المكتنفة بالكلام انّه ليس المقصود الإخبار الجدّي عن أنّ كبيرهم هو الذي كسر الأصنام فانّ الكل يفهم انّ كبيرهم لا يمكن أن يكون قد كسرها، وانّما المقصود الجدّي بيان انّ الأصنام إن كانت عاجزة عن عمل من هذا القبيل لفقدانها للوعي والشعور والإرادة والقدرة فكيف يمكن أن تكون آلهة حقّاً؟! وأمّا ما ورد في الآية الاُولى من حملها على إرادة سرقة يوسف دون سرقة متاع بالفعل كالصواع على انّ الروايات الواردة في تفسير قوله تعالى: ﴿ايّتها العير انّكم لسارقون﴾بالتورية وبعض روايات تفسير قوله تعالى: ﴿انّي سقيم﴾ لم تصرّح بكون التورية فراراً عن الكذب فيمكن حملها على الأمر التربوي الذي أشرنا إليه وهناك روايات اُخرى وردت في تفسير هذه الآيات بتفسير آخر كالتفسير بالكذب المصلحي(1).

وهناك رواية رواها ابن ادريس في آخر السرائر نقلا من كتاب عبد الله بن بكير بن أعين عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يستأذن عليه فيقول للجارية: قولي: ليس هو هاهنا قال: لا بأس ليس بكذب(2).

فقد تحمل على معنى انّ التورية ليست بكذب، وعلى أيّة حال فسند ابن ادريس إلى كتاب عبد الله بن بكير غير معلوم عندنا.

وهناك رواية اُخرى وردت في روضة الكافي(3) وفيها انّ أبا حنيفة ذكر أمراً فقال الإمام (عليه السلام) اصبت والله يا أبا حنيفة ثم خطّأه الإمام (عليه السلام) بعد خروجه


(1) راجع تفسير البرهان 2: 260 و 3: 65 و 4: 25.

(2) الوسائل 8: 580، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 8.

(3) روضة الكافي 8: 292، الحديث 447.

34

فقال له الراوي وهو محمد بن مسلم جعلت فداك فقولك أصبت وتحلف عليه وهو مخطئ؟! قال نعم حلفت عليه انّه أصاب الخطأ.

إلّا انّ سند الحديث ضعيف بأبي جعفر الصائغ، على انّ هذا الحديث قابل للحمل على النكتة التربوية التي أشرنا إليها، وللحمل على انّ النظر إلى حلّ مشكلة الحلف التي قد يقال: إنّها لا ترتبط بإفهام المخاطب معنى مخالفاً للواقع، بل ترتبط بكون المراد الاستعمالي معنى مخالفاً للواقع، فلو حلف أحد بالله كاذباً من دون وجود مخاطب يفهمه فقد فعل حراماً، وهذا الإشكال ينحلّ بالتورية التي توجب تغيير المراد الاستعمالي من الكذب إلى الصدق. وفي ذهني بعض روايات اُخرى في المقام لم أفحص عنها من قبيل ما ورد بشأن الشيخين من انّهما إمامان عادلان، يعني العدول عن الحقّ لو تمّت سنداً أمكن حملها ـ على الأكثر ـ على ما مضى من النكتة التربوية.

التفصيل بين التورية الابتدائيّة وغيرها:

هذا. وكان يقول استاذنا الشهيد (رحمه الله) بالتفصيل بين التورية الابتدائية والتورية في مقام الفرار عن بيان الحقيقة لدى الجواب على سؤال السائل(1) ولا أعرف ماذا كان مدركه (رحمه الله) لهذا الرأي وهل ثبت عليه إلى آخر حياته أو لا؟

ويمكن توجيه هذا التفصيل بوجوه:

الأول ـ أن يقال ـ بعد عدم قبول ما مضى من إلحاق التورية بالكذب


(1) الذي يفهم من تعليقته (رحمه الله) على منهاج الصالحين للسيد الحكيم (قدس سره) هو جواز التورية حيث افتى السيد الحكيم بذلك ولم يعلّق عليه استاذنا بشيء وذلك في تعليقته للجزء الثاني الصفحة 15.

35

موضوعاً أو حكماً ـ: انّ التورية الابتدائية تعتبر عقلائياً نوعاً من الخداع القبيح في الارتكاز العقلائي الثابت حرمته ولو بإمضاء الارتكاز على أساس عدم الردع أمّا التورية في مقابل إحراج السائل للمجيب بطرحه للسؤال فلا تحمل هذا القبيح الارتكازي أو الحرمة العقلائية، حيث انّ السائل لا يملك على المجيب ان يجيبه ببيان الواقع فكأنّ العقلاء يرون أنّه من حقّه بعد ان أحرج بالسؤال أن يورّي لكي ينجو من بيان الواقع من دون تورّط في الكذب.

إلّا انّ هذا النوع من التفصيل لو تمّ فانّما يتمّ بعد نفي ما مضى من لحوق التورية بالكذب موضوعاً أو حكماً وقد وضّحنا في ما سبق لحوقها به موضوعاً أو حكماً.

الثاني ـ أن يقال ـ بعد تسليم حرمة التورية في نفسها ـ إنّ إحراج السائل للمجيب بسؤاله هو الذي يحلّلها على أساس قاعدة نفي الحرج.

إلّا انّ هذا أخصّ من المدّعى إذ قد لا يصل الأمر إلى مستوى الحرج على انّه إن وصل الأمر إلى مستوى الحرج فلماذا لا يحلّ الكذب وتخلّ التورية؟! ومن هنا يتّضح انّه لو قيل بانّ مجرّد هذا الإحراج كاف في التحليل بلا حاجة إلى الوصول إلى مستوى الحرج الفقهي وذلك من قبيل(1) جواز الكذب لدى الظالم العشّار ولو لم يكن إعطاء العشر حرجياً قلنا: إنَّ هذا لا يثبت المطلوب أيضاً لانّه يحلّل الكذب الصريح لا خصوص التورية ولعلّ هذا كان مقصوداً لاستاذنا (رحمه الله)


(1) ومن قبيل جواز الكذب في الوعد مع الزوجة على ما ورد في بعض الروايات ولعلَّها غير تامّة سنداً راجع الوسائل 8: 578 ـ 579، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 2 و 5.

36

ولكنّه كان يذكر حلية التورية في المقام ولم يكن يبرز حليّة الكذب بلحاظ النكتة التربوية التي أشرنا إليها.

الثالث ـ أن يقال بعد تسليم كون مقتضى القاعدة حرمة التورية: انّه خرجت التورية التي تكون في مقام جواب السائل بالنص وهو ما مضى ذكرها من رواية ابن ادريس في السرائر إلّا انّك عرفت عدم تماميتها سنداً.

الرابع ـ أن يقال: انّ مَن يورّي ابتداءاً فالداعي له هو إفهامه للمخاطب قصد الحكاية عن أمر كان خلاف الواقع وهذا هو الملحق بالكذب موضوعاً أو حكماً ولو لم يكن له هذا الدّاعي ولا يقصد عدا مجرّد إخفاء الواقع دون إبراز خلاف الواقع لاكتفى بالسكوت أمّا مَن يورّي في مقام الجواب على سؤال السائل فانّما هدفه إخفاء الواقع دون إبراز خلاف الواقع وانّما لم يكتف بالسكوت لانّ سؤال السائل هو الذي الجأه إلى الجواب فجوابه التوروي وإن كان يفهم المخاطب الحكاية عن أمر خلاف الواقع لكن هذا ليس مراداً للمتكلّم وإن وقع قهراً وانّما كان مراده إخفاء الواقع دون إبراز خلاف الواقع فهذا ليس كذباً ولا ملحقاً بالكذب.

إلّا انّ هذا البيان أخصّ من المدّعى إذ قد يقصد المجيب إظهار خلاف الواقع خاصّة إذا لم يكن السائل يقنع بالجواب إلّا إذا أظهر له خلاف الواقع أي انّ الإجمال لم يكن يقنعه فالسائل الذي يسأل عن وجود فلان في الدار قد لا يرفع يده عن إلحاحه على أخذ الجواب إلّا إذا اُجيب بجواب عرف منه عدم وجوده في الدار ولو بالتورية بأن يشير المجيب إلى نقطة ليس فيها فلان فيقول: ليس هاهنا. فالمجيب يقصد عادة إبراز خلاف الواقع للسائل بهدف ان يقتنع بالجواب مع بقاء الواقع مستوراً وإن شئت فعبّر بانّ المجيب وإن كان هدفه إخفاء الواقع لكنّه يقصد

37

إخفاء الواقع عن طريق إبراز خلاف الواقع فليس المفروض الافتاء بحليّة التورية على الإطلاق لدى الجواب على السؤال.

فروع بحث الإكراه:

وفي ختام البحث عن شرط الرضا أو مانعيّة الإكراه نتعرّض لبعض الفروع.

الإكراه على الجامع:

الفرع الأوّل ـ لو اُكره على بيع إحدى العَينين أو على طلاق إحدى الزوجتين أو على بيع داره أو طلاق زوجته مثلا فالافتاء ببطلان ما يختاره من أحد فردي المكره عليه واضح يشبه المسلمات في الفقه رغم ما نسب إلى القواعد من القول بالصحّة وأوّل بإرادة فرض قناعة المكره بطلاق احداهما على الإبهام الذي هو باطل في ذاته(1) فيعود الأمر إلى دعوى انّ وجود المندوحة يصحّح العقد.

وعلى أيّة حال فرغم وضوح القول بالبطلان فقهيّاً في ذلك قد اُثير بوجهه إشكال فنّي وهو انّ الفرد الذي يختاره من أحد الأمرين المكره على الجامع بينهما انّما اختاره بمحض اختياره إذ لم يكن مكرهاً عليه بالخصوص فلماذا يبطل العقد مع عدم صدق الإكراه عليه أو مع صدق الطيب والرضا مثلا.

وأجاب الشيخ الانصاري (رحمه الله) على ذلك(2) تارة بالنقض بانّ الإكراه دائماً يكون على الجامع ولا يتّفق عادة الإكراه على الجزئي الحقيقي من جميع الجهات فلازم الإشكال في المقام هو انكار مبطليّة الإكراه للعقد خارجاً على الإطلاق لعدم وقوعه عادة.


(1) راجع المكاسب 1: 120، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

(2) راجع نفس المصدر.

38

واُخرى بالحل بصدق الإكراه لغة وعرفاً لانّ ما وقع منه يعتبر مكرهاً عليه بلحاظ القدر المشترك بين العملين اللذين خُيِّر المكرِه بينهما ويعتبر مختاراً بلحاظ الخصوصية فمتى ما اختصّ الأثر بإحدى الخصوصيتين لا يعتبر الإكراه رافعاً لذاك الأثر لانّ الإكراه انّما تعلّق بالقدر المشترك لا بالخصوصية فلو اكره على الجامع بين البيع الصحيح والبيع الفاسد فاختار البيع الصحيح صحَّ البيع ولم يبطله الإكراه وفي باب الحكم التكليفي لو اكره على الجامع بين شرب الخمر وشرب الماء فاختار شرب الخمر ثبت الحدّ والعقاب لانَّ الأثر مخصوص بإحدى الخصوصيتين ومتى ما لم يختصّ الأثر بإحدى الخصوصيتين كان الإكراه رافعاً للأثر كما لو اكره على طلاق إحدى زوجتيه أو على شرب أحد الخمرين.

وذكر (رحمه الله): انّه لو اكره على الجامع بين البيع وإيفاء مال غير مستحق أو الجامع بين البيع وشرب الخمر فاختار البيع كان الإكراه رافعاً لأثر البيع لانّه انّما اختار البيع فراراً من بدله أو وعيد المكرِه المضرّين ولو اكره على الجامع بين البيع وإيفاء مال مستحق لم يكن الإكراه رافعاً للأثر وصحّ البيع لانّ القدر المشترك بين الحقّ وغيره إذا اكره عليه لم يبطل وإلّا لبطل الحق أيضاً.

وأوردالسيد الخوئي(1) على الجواب النقضي الذي ذكره الشيخ الانصاري (رحمه الله)بأنّ رافعية الإكراه على الجامع للأثر حينما يكون الأثر أثراً للجامع وإن كان واضحاً إلّا انّنا نتكلّم في ما إذا لم يكن الأثر أثراً للجامع وانّما كان أثراً للخصوصية وكلتا الخصوصيتين كانتا ذا أثر كما لو اكره على الجامع بين بيع داره وطلاق زوجته فأثر البينونة خاص بالطلاق وأثر خروج الدار عن الملك خاص


(1) راجع المحاضرات 2: 253، أمّا ما جاء في مصباح الفقاهة بهذا الصدد في المقام فهو مشوش راجع مصباح الفقاهة 3: 309.

39

بالبيع وهنا يقال ببطلان ما اختاره من البيع أو الطلاق فيرجع الإشكال مرّة اُخرى وهو انّ الخصوصية لم تكن مكرهاً عليها فلماذا يفتي بارتفاع الأثر؟ ولا معنى لنقض ذلك بالقول بانّ الإكراه دائماً على الجامع إذ لا يتفق عادة الإكراه على الجزئي الحقيقي من جميع الجهات.

وهذا البيان بنفسه يبطل الجواب الحليّ الذي ذكره الشيخ أيضاً فالتفصيل بين أثر القدر المشترك والأثر الخاص بإحدى الخصوصيتين لا يحلّ الإشكال في المقام لانّه وإن كان الأثر في مفروض الافتاء بالبطلان ثابتاً على كلتا الخصوصيتين وغير مختص باحداهما لكنّه ليس أثراً للقدر المشترك وانّما هو أثر للخصوصية فلماذا يرتفع بالإكراه رغم انّ الإكراه لم يتعلّق إلّا بالقدر المشترك وهو الجامع الانتزاعي مثلا دون الخصوصية؟!

إلّا انّ الشيخ الانصاري (رحمه الله) جاءت في عبارته في المقام بعض الكلمات ممّا يمكن حمله على جواب على هذا الإشكال يكمّل به جوابه الحليّ بان يقال: إنّ الإكراه صادق في المقام عرفاً ولغة وذلك بان يدعى انّ الأثرين وإن كانا أثرين للخصوصيتين ولكن بعد ان شمل الأثر كلتا الخصوصيتين يعتبر أثراً للجامع وقد تمّ الإكراه على الجامع إذن فقد صدق الإكراه على ما فيه الأثر فيرتفع الأثر بالإكراه وهذا بخلاف ما لو كان الأثر مختصّاً بإحدى الخصوصيتين والاُخرى فاقدة للأثر فهنا لا يسند الأثر إلى الجامع وأمّا في خصوص ما إذا اكرهه على الجامع بين العقد وفعل الحرام فالإكراه صادق بالنسبة للعقد لانّه يصدر من الخوف من وعيدين احدهما الوعيد الاخروي على الحرام والآخر وعيد المكرِه على ترك الجامع فبما انّ المكرِه دخيل في تمامية الوعيد صدق الإكراه عليه وليس الإكراه صادقاً بالنسبة لفعل الحرام لانّه كان بإمكانه اختيار العقد الذي لا عقاب عليه.

 

40

وأمّا ما ذكره السيد الخوئي في المقام(1) فهو ان الإكراه وإن كان إكراهاً على الجامع والأثران أثران للخصوصيتين فلا إكراه على ماله الأثر ولكن في مقام التطبيق العملي والاتيان بالجامع فراراً من وعيد المكرِه يكون مضطراً إلى الاتيان بإحدى الخصوصيتين لاستحالة تحقيق الجامع من دون الخصوصيتين فايّاً منهما اختاره ارتفع أثره بالاضطرار وإن لم يرتفع أثره بالإكراه وحديث رفع الاضطرار انّما كنّا نقول في سائر موارد الاضطرار من قبيل مَن اضطر إلى بيع داره لعلاج ابنه بانّه لا يبطل العقد لانّ البطلان هناك كان خلاف الامتنان وهذا بخلاف ما نحن فيه.

وعليه فان اكره على أحد العقدين كبيع داره أو طلاق زوجته فهو مكره على الجامع ومضطر إلى اختياره إحدى خصوصيتين ذات أثر فيرتفع الأثر بالاضطرار في حين انّه لو اكره على الجامع بين عقد ذي أثر وعمل لا أثر له كشرب الماء أو عقد باطل فهو غير مضطر إلى اختيار إحدى خصوصيتين ذات أثره إذ بإمكانه ان يختار الخصوصية التي لا أثر لها وكذلك نقول: إنّه لو اكره على الجامع بين حرامين متساويين في الحرمة فهو مضطر إلى اختيار حرام فترتفع عنه الحرمة بالاضطرار في حين انّه لو اكره على الجامع بين حرام وحلال فهو ليس مضطراً إلى اختيار حرام كي ترتفع عنه الحرمة إذ بإمكانه ان يختار المباح ولو اُكره على الجامع بين حرامين احدهما أشدّ فهو بالقياس إلى مقدار الزيادة ليس مضطرا إذ بإمكانه ان يختار أخفّ الحرامين.

أقول: أوّلا ـ إن كان المقصود بهذا الكلام التفصيل بين الإكراه والاضطرار بدعوى انّ الإكراه انّما يتعلّق بالجامع والاضطرار يتعلّق بإحدى الخصوصيتين


(1) راجع المحاضرات 2: 254 ـ 256، ومصباح الفقاهة 3: 310 ـ 311.