119

والجواب: أنّ الثقتين إذا كان يتحدّثان عن زمنين مختلفين وجب العمل بالفتوى المنقولة عن الزمن المتأخّر.

مثال ذلك: أن يخبر أحدهما عن فتوى سمعها قبل سنة، ويخبر الآخر عن فتوى سمعها قبل شهر، فيعمل على أساس الخبر الثاني.

وأمّا إذا كانا يتحدّثان عن زمن واحد فلا يمكن للمقلِّد أن يعتمد على أيّ واحد منهما، بل يحتاط إلى أن يتّضح له واقع الحال.

(14) إذا شكّ المقلِّد في أنّ فتوى المقلَّد تغيّرت واحتمل أنّه عدل عنها إلى فتوىً جديدة فيعمل على أساس أنّ الفتوى السابقة لا تزال باقية، ما لم يقم دليل شرعي على العكس.

والشيء نفسه نقوله كلّما شكّ في بقاء واحد من الشروط التي يجب توفّرها في المرجع، فإنّه يعمل على أساس أنّها باقية، ويظلّ على علاقته به ما لم يثبت العكس.

(15) قد تعرض لصلاة المكلّف المقلِّد عارضة وهو يؤدّيها ولا يعرف لها حكماً ودواءً فماذا يصنع، وهو لا يستطيع أن يسأل عن الحكم في أثناء الصلاة؟

الجواب: يسوغ له في هذا الفرض أن يثق بظنّه ويعمل به، حيث لا وسيلة سواه، شريطة أن يرجع إلى مقلَّده ويسأله عن حكم ماعرض له ويعمل بموجب قوله وفتواه، ولا يجوز له أن يهمل السؤال ويكتفي بظنّه هو واحتماله.

في حالات موت المرجع:

(16) إذا مات المرجع في التقليد فما هو تكليف من كان مقتدياً به ومقلِّداً له؟

والجواب: عن هذا السؤال يستدعي التفصيل الآتي:

120

1 ـ قد يكون الميّت المقلَّد أعلم من كلّ الأحياء الموجودين بالفعل، وفي هذا الفرض يستمرّ المكلّف على تقليد الميّت تماماً، كما لو كان المرجع حيّاً بلا أدنى فرق فيما عمل به من أقوال المرجع وفيما لم يعمل.

2 ـ وقد يكون الحي أعلم من الميّت، وعلى هذا يجب العدول إلى تقليد الحي في كلّ المسائل دون استثناء.

3 ـ وقد يوجد في الأحياء من هو مساو للميّت علماً واجتهاداً، وحينئذ ينظر: فإن كان الميّت أسبق في الأعلمية استمرّ المكلّف على تقليد الميت، وإن تبيّن أنّهما كانا على مستوىً واحد منذ البداية فالواجب في كلّ واقعة الأخذ بمن كان قوله أقرب إلى الاحتياط(1).

ومن الضروريّ الإشارة إلى أنّه في الحالات التي يسوغ للمقلِّد أن يستمرّ على تقليد المرجع الميّت لا يحقّ له أن يستمرّ هكذا بصورة اعتباطية، وإنّما يسوغ له الاستمرار كذلك بعد أن يتعرّف على الأعلم من المجتهدين الأحياء ويرجع إليه في التقليد، فيسمح له بالاستمرار على العمل بفتاوى المرجع الميّت(2)، وإذا لم يصنع ذلك واستمرّ على تقليد الميت بصورة اعتباطية كان كمن يعمل بدون تقليد.

(17) إذا استمّر المكلّف على تقليد الميّت بفتوى الأعلم الحي، ثمّ مات هذا المفتي فعلى المكلّف أن يرجع ثانيةً إلى أعلم آخر من الأحياء في بقائه على تقليد


(1) بل يجوز له البقاء على تقليد الميّت.
(2) لو كان الميّت أعلم من أعلم الأحياء ولم يدرك المقلِّد بعقله وجوب البقاء على تقليد الميّت الأعلم ولا وجوب أخذ وظيفته من أعلم الأحياء ينحصر أمره لا محالة بالأخذ في كلّ مسألة بالأحوط مِن قولَي الميّت الأعلم من الأحياء وأعلم الأحياء.
121

الميت(1).

في حالات العدول:

(18) إذا عدل المقلِّد ـ بمبرّر شرعيّ ـ من مرجع إلى آخر فكيف يصنع بما أدّاه من صلاة وصيام ونحوهما في الفترة السابقة؟

ومثال ذلك: مَن يموت مرجعه فيعدل إلى تقليد المجتهد الحيّ الأعلم(2)، أو من يقلّد الأعلم ثم يصبح غيره أعلم منه في حياته فيعدل إليه؛ وكلّ من التقليدين في حينه صحيح.

والجواب: أنّه لا يجب عليه أن يقضي تلك الواجبات التي أدّاها وانتهى وقتها، حتّى ولو كانت باطلةً في رأي مقلَّده الجديد.

وأمّا إذا صلّى صلاة الظهر ـ مثلا ـ على رأي مقلَّده الأول، ثمّ عدل إلى المقلَّد الجديد بمبرّر شرعي قبل أن تغرب الشمس وجب عليه أن يقوّم صلاته على أساس فتاوى المرجع الجديد(3).

فإن كانت صلاته متّفقةً مع فتاواه فهي صحيحة ولا تجب إعادتها، وإن كانت صلاته مختلفةً مع فتاواه فالاختلاف على قسمين:

أحدهما: الاختلاف في نقطة يُعذر فيها الجاهل فلا تجب إعادة الصلاة؛ لأنّه كان جاهلا. ومثالها: أن يكون قد قرأ التسبيحات في الركعة الثالثة مرّةً


(1) هنا أيضاً قد تتكرّر المشكلة التي أثرناها في البند السابق، والعلاج نفس العلاج من الأخذ بالاحتياط، إلّا أنّه هنا يكون احتياطه بالأخذ بالأحوط من قولي أعلم الأحياء وأعلم الميّتين والذي هو في نفس الوقت أعلم من أعلم الأحياء.
(2) عرفت تعليقنا على ذلك.
(3) هنا أيضاً نقول بإجزاء عمله السابق.
122

واحدةً والمرجع الجديد يرى وجوبها ثلاث مرّات.

والآخر: الاختلاف في نقطة لا يُعذر فيها الجاهل فتجب الإعادة. ومثالها: أن يكون قد توضّأ للصلاة بماء الورد وفقاً لرأي مقلَّده السابق، والمرجع الجديد يرى بطلان هذا الوضوء.

(19) إذا قلّد المكلّف شخصاً وعمل على رأيه فترةً من الزمن، ثم اتّضح أنّ تقليده لم يكن صحيحاً، كما إذا ظهر له أنّ ذلك الشخص لم يكن مجتهداً، فعدل عنه إلى المجتهد فماذا يصنع بما أدّاه من فرائض على رأي مقلَّده السابق ؟

والجواب: أنّ الفريضة التي لا يزال وقتها باقياً يجب عليه إعادتها، إلّا في حالتين:

الاُولى: أن يعلم بأنّها متّفقة مع رأي مقلَّده الجديد.

الثانية: أن تكون مختلفةً في نقطة يُعذر فيها الجاهل.

وأمّا الفريضة التي مضى وقتها فيجب قضاؤها، إلّا في ثلاث حالات:

الاُولى: أن يعلم بأنّها متّفقة مع رأي مقلَّده الجديد.

الثانية: أن يشكّ هل هي متّفقة مع رأي المقلَّد الجديد، أو لا؛ نظراً لأنّه لا يتذكّر طريقة أدائه لها ؟

الثالثة: أن يعلم بأنّها مختلفة مع رأي المقلَّد الجديد، ولكن في نقطة يُعذر فيها الجاهل.

(20) الوكيل والوصي ينفّذان أمر الأصيل وفقاً لتقليده هو، وليس لتقليدهما(1)؛ لقرينة المناسبة والاعتبار، ولدلالة ظاهر الحال على أنّ الأصيل



(1) هذا يتمّ فيما لو كان هناك انصراف للتوكيل أو الوصيّة إلى إرادة العمل وفقاً لتقليد الموكِّل أو الموصِي.

123

لو باشر العمل بنفسه لأتى به على موجب تقليده، وليس على مقتضى تقليد الآخرين.

وأمّا الأصيل نفسه فهو إنّما يتصرّف وفقاً لتقليده، ويعتبر رأي مقلَّده هو المقياس، لا في عمله فحسب، بل في عمل الآخرين أيضاً بقدر ما يتّصل به.

ومثال ذلك: أن يقوم خالد بمعاملة خاصّة فيبيع ديناراً نقداً بدينار ونصف مؤجلا اعتماداً على رأي مقلَّده الذي يقول بجواز ذلك، وزيد مقلِّد لمن يرى بطلان هذه المعاملة، ففي هذه الحالة يجب على زيد أن يتّبع رأي مقلَّده، فيعتبر المعاملة التي قام بها خالد باطلةً، والمال الذي انتقل إلى خالد بسببها غير جائز، ولا يسمح لنفسه بأن يشتري منه ذلك المال.

وقد يرتبط زيد وخالد في معاملة واحدة كعقد بيع مثلا، وعقد البيع يشتمل على بيع ـ أي إيجاب ـ من قبل البائع وشراء ـ أي قبول ـ من قبل المشتري، ففي هذه الحالة لا يجوز لكلٍّ منهما أن يعتبر المعاملة صحيحةً إلّا إذا كانت متّفقةً مع رأي مقلَّده.

ويستثنى من ذلك الحالات التي يُعذر فيها الجاهل، ويقع العمل منه صحيحاً، كما إذا كان خالد مقلِّداً لمن يرى أنّ التسبيحات إنّما تجب في الركعة الثالثة والرابعة مرّةً واحدةً، وزيد مقلِّد لمن يرى أنّها تجب ثلاث مرّات، فيقتدي زيد بخالد الذي يأتي بها مرّةً واحدة، ويصحّ هذا الاقتداء؛ لأنّ التسبيحات يُعذَر الجاهل في تركها أو ترك شيء منها، فتكون صلاة خالد على هذا الأساس صحيحةً لدى زيد(1).



(1) طبعاً لا يشمل مقصوده(رحمه الله) فرض خطأ الإمام في القراءة التي يتحمّلها عن المأموم، فهنا رغم إيمان المأموم بصحّة قراءة الإمام لنفس الإمام لا يجزي اقتداؤه به.

124

الاجتهاد

 

(21) الاجتهاد واجب كفائي على المسلمين، ومعنى ذلك: أنّه إذا قام به البعض وبلغوا درجة الاجتهاد سقط الوجوب عن الآخرين، وإذا أهمل المسلمون جميعاً هذا الواجب فلم يتوفّر مجتهد كان الجميع آثمين.

والعدد الواجب توفّره من المجتهدين ليس محدّداً شرعاً، بل يتحدّد وفقاً للحاجة.

(22) والاجتهاد على قسمين:

أحدهما كامل، ويسمّى ذو الاجتهاد الكامل بالمجتهد المطلق، وهو القدير على استخراج الحكم الشرعي من دليله المقرّر في مختلف أبواب الفقه.

والآخر ناقص، ويسمّى ذو الاجتهاد الناقص بالمتجزّئ، وهو الذي اجتهد في بعض المسائل الشرعية دون بعض، فكان قديراً على استخراج الحكم الشرعي في نطاق محدود من المسائل فقط.

وكلّ من المجتهد المطلق والمجتهد المتجزّئ يجوز له أن يعمل على وفق اجتهاده في حدود قدرته على استخراج الحكم من دليله، ويجوز لكلٍّ منهما أن يعبّر عن رأيه وفتواه، ولكنّهما يختلفان في آثار اُخرى، كما يأتي في الفقرة التالية.

(23) المجتهد المطلق إذا توافرت فيه سائر الشروط الشرعية في مرجع التقليد المتقدّمة في الفقرة (4) جاز للمكلف أن يقلّده كما تقدم، وكانت له الولاية الشرعية العامة في شؤون المسلمين، شريطة أن يكون كُفؤاً لذلك من الناحية الدينية والواقعية معاً.

125

وللمجتهد المطلق أيضاً ولاية القضاء، ويسمّى على هذا الأساس بالحاكم الشرعي. وسيأتي الحديث عن الولاية العامة والقضاء وأحكامه في القسم الرابع من « الفتاوى الواضحة » إن شاء الله تعالى.

وأمّا المجتهد المتجزّئ فليست له الولاية الشرعية العامة، ولا ولاية القضاء(1)، ولا يجوز للمكلف أن يقلّده حتى في ما اجتهد فيه من مسائل، إلّا إذا أصبح فيها أعلم من المجتهد المطلق(2).

ويدخل ضمن ولاية المجتهد رعاية شؤون القاصرين من أيتام ومجانين إذا لم يكن لهم ولي خاصّ، وكذلك رعاية شؤون الأوقاف العامة التي ليس لها متولٍّ خاصّ بنصّ الواقف. ورعاية المجتهد لهذه الشؤون قد يكون بالمباشرة، وقد يكون بتعيين آخرين.

وإذا عيّن المجتهد شخصاً لرعاية شيء من ذلك ومات هذا المجتهد فهل يسوغ لذلك الشخص أن يواصل رعايته اعتماداً على ذلك التعيين؟

والجواب: أنّ المجتهد الذي مات: إن كان قد عيّن ذلك الشخص كوكيل عنه في الرعاية فبموت ذلك المجتهد ينتهي دور الشخص الوكيل، ويجب عليه أن يرجع إلى مجتهد حيّ.

وإن كان المجتهد الذي مات قد منحه ولايةً بأن قال له مثلا: جعلتك وليّاً على مال هذا اليتيم فتبقى هذه الولاية نافذة المفعول حتّى بعد موت ذلك


(1) وهذا لا ينافي جواز منح المجتهد المطلق منصب القضاء له، كما يجوز له أيضاً منحه لغير المجتهد الذي يلتزم في قضائه برأي المجتهد طبعاً.
(2) بل مع التساوي أيضاً يجوز تقليده، ولكنّ فرض التساوي مشكلٌ فضلاً عن فرض الأعلميّة.
126

المجتهد(1).

وإذا أمر الحاكم الشرعي بشيء تقديراً منه للمصلحة العامّة وجب اتّباعه على جميع المسلمين، ولا يعذر في مخالفته، حتّى من يرى أنّ تلك المصلحة لا أهميّة لها.

ومثال ذلك: أنّ الشريعة حرّمت الاحتكار في بعض السلع الضرورية، وتركت للحاكم الشرعي أن يمنع عنه في سائر السلع، ويأمر بأثمان محدّدة تبعاً لما يقدّره من المصلحة العامّة، فإذا استعمل الحاكم الشرعي صلاحيته هذه وجبت إطاعته.

(24) من ليس مجتهداً يحرم عليه الإفتاء، ومن كان مجتهداً ولكنّه لم تتوفّرفيه سائر الشروط الشرعية للمرجع لا يحرم عليه الإفتاء، بمعنى الإخبار عن رأيه وما أدّى إليه اجتهاده، ولكن يحرم عليه أن ينصب نفسه علماً ومرجعاً للإفتاء للآخرين.

(25) من ليس أهلا للقضاء يحرم عليه أن يقضي بين الناس، وتحرم المحاكمة والمرافعة لديه والشهادة عنده، وكلّ مال يحكم به فهو حرام محرّم حتى على صاحب الحقّ.

أجل، إذا انحصر استيفاء الحقّ واستنقاذه بالترافع عند من ليس أهلا جاز ذلك، فإن حكم بالحقّ وكان المحكوم به عيناً أخذها صاحبها، وإن كان مالا في الذمّة استأذن الحاكم الشرعي في أخذه(2).

 


(1) هذا غير صحيح؛ لأنّ ولاية الفقيه تنتهي بموته، بمعنى أنّ ولايته منذ البدء كانت بلحاظ مدّة حياته، لا بلحاظ ما هو أوسع من ذلك، فبانتهائها تنتهي ولاية من نصبه.
(2) بل يجوز له أخذه بعنوان التقاصّ.
127

(26) المجتهد الذي توافرت فيه الشروط الشرعية بكاملها إذا قضى في خصومة بين شخصين لأحدهما على الآخر ولم يألُ جهداً في تطبيق موازين القضاء لم يجز لأيّ مجتهد آخر أن ينقض ذلك الحكم بإصدار حكم على خلافه، حتّى ولو كان على يقين بأنّ من قضى المجتهد الأول لصالحه ليس هو صاحب الحقّ.

(27) وإذا قضى هذا المجتهد بأنّ الدار التي يدّعيها زيد له ـ مثلا ـ دون بكر، وهناك من يعلم بأنّ الدار لبكر لا لزيد فهل يعمل هذا العالم في سلوكه وتعامله الشخصي على أساس ما صدر من قضاء ؟ أو على أساس علمه ـ مثلا ـ إذا أراد أن يستأجر تلك الدار، فهل يتّصل بزيد أو ببكر ؟

والجواب: أنّه يعمل على أساس علمه(1)، وأمّا غير من يعلم يقيناً بأنّ الدار ليست لزيد فيجب عليه أن يسلك عملياً وفقاً لحكم المجتهد، ولا يجوز له أن يخالفه.



(1) بل تحرم عليه مخالفة حكم القاضي، كما تحرم عليه مخالفة علمه أيضاً، ففي هذا المثال المذكور في المتن لا يتصرّف في الدار إلّا بمراضاة بكر وزيد معاً.

128

الاحتياط

 

(28) الاحتياط هو الطريق الثالث لطاعة الله تعالى، وقد تقدم تعريفه، وهو على قسمين؛ لأنّه: تارةً يستدعي التكرار، واُخرى لا يستدعيه.

ومثال الأول: أن يجهل المكلّف في بعض الحالات أنّ الواجب عليه صلاة القصر ـ وهي صلاة الظهر مثلا تؤدّى ركعتين ـ أو صلاة التمام، وهي صلاة الظهر ـ مثلا ـ تؤدّى أربع ركعات، فإذا أراد أن يحتاط تحتّم عليه أن يعيد الصلاة مرّتين: قصراً تارةً، وتماماً اُخرى.

ومثال الثاني: أن يجهل المكلّف حكم الإقامة للصلاة، فلا يدري هل هي واجبة أو مستحبّة؟ فإذا أراد أن يحتاط أقام وصلّى، وليس في ذلك تكرار.

وكلا القسمين جائز، سواء كان المكلّف متمكّناً من التعرّف على الحكم الشرعي وتحديده بالضبط عن طريق الاجتهاد أو التقليد، أو لا.

(29) ولكنّ هذا لا يعني أنّ المكلّف الاعتياديّ يمكنه أن يستغني بالاحتياط عن التقليد؛ وذلك لأنّ معرفة الاُسلوب الذي يحصل به الاحتياط تحتاج إلى اطّلاع وانتباه فقهيّين واسعين، فلابدّ للمحتاط أن يحيط علماً بكلّ الأشياء التي من المحتمل وجوبها لكي يأتي بها، وبكلّ الأشياء التي من المحتمل حرمتها لكي يتركها، وقد يكون شيء واحد يحقّق الاحتياط في حالة دون اُخرى.

ومثال ذلك: أنّ إنشاء حياة زوجية بعقد نكاح يتمّ بلغة غير عربية مخالف للاحتياط؛ لأنّ هناك من يقول بأنّ اللغة العربية شرط في عقد النكاح، ولكن إذا

129

وقع العقد على هذا النحو فنفي الزوجية وما تستدعيه من تكاليف مخالف للاحتياط أيضاً، لأنّ هناك من يقول بصحة هذا العقد.

(30) وإضافةً إلى ذلك قد يتعذّر الاحتياط أحياناً بصورة نهائية، وذلك فيما إذا كان الإنسان يخشى من تورّطه في مخالفة حكم الله تعالى على أيّ حال، ولا يمكنه التأكّد من طاعته إلّا إذا تعرّف على الحكم بصورة محدّدة.

ومثال ذلك: أن ينذر شخص نذراً وينهاه والده عنه؛ فهو يحتمل أنّ الوفاء بالنذر واجب لأنّه نذر؛ ويحتمل أنّه حرام رعايةً لنهي الوالد، ولا يمكنه أن يحتاط والحالة هذه، فيتعيّن عليه الاجتهاد، أو التقليد للتعرّف على الحكم الشرعي بصورة محدّدة.

(31) وكثيراً ما تواجه الإنسان حالات لا يمكنه فيها أن يطمئنّ إلى أنّ تصرّفه تجاهها مرضي شرعاً ما لم يتعلّم مسبقاً أحكامها، إذ لا يتاح له الاحتياط في تلك اللحظة بدون تعلّم مسبق، ومن ذلك: حالات الشكّ في عدد الركعات، أو بعض أجزاء الصلاة، ولهذا يجب على المكلّف أن يتعلّم ويعرف حكم ما قد يعرض له من شكٍّ في ذلك، وأيضاً عليه أن يتعلّم حكم مايزيده في عباداته أو يتركه منها سهواً أو نسياناً.

وعلى العموم يجب على كلّ مكلّف ـ رجلا أو امرأةً ـ أن يكون على بصيرة من دينه، ومعرفة بالأحكام التي من الممكن أن يتعرّض لها ولا يمكن أن يعطيها حقّها إلّا بتعلمها.

ولا عذر للمكلف في ترك الفرائض والواجبات جهلا بما يجب عليه منها، ولا عذر له في الإتيان بها بصورة غير صحيحة جهلا منه بخصائصها وأجزائها وشروطها، بل يتحتّم عليه أن يتعلّم ذلك، حتّى إذا صلّى أو صام ـ مثلا ـ علم أنّه

130

أدّى لله ما عليه من هذه العبادة الواجبة على النهج المطلوب؛ لأنّه متفقِّه بقدر ما يعلم بصحّتها والاكتفاء بها، والخروج عن عهدة أمرها ووجوبها.

العدالة:

(32) تقدّم في الفقرة (4): أنّ العدالة شرط في مرجع التقليد، كما أنّها شرط في مواضع عديدة شرعاً، ولهذا نشير إليها فيما يلي:

العدالة: عبارة عن الاستقامة على شرع الإسلام وطريقته، قال تعالى: ﴿فاسْتَقِمْ كَمَا اُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ...﴾(1). وقال:﴿وَأنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلى الطّرِيقَةِ...﴾(2). شريطة أن تكون هذه الاستقامة طبيعةً ثابتةً للعادل تماماً، كالعادة. ولا فرق من هذه الجهة بين ترك الذنب الكبير والذنب الصغير، ولا بين فعل الواجب المتعب وغيره ما دام الإذعان والاستسلام ركناً من أركان السمع والطاعة لأمر الله ونهيه، أيّاً كان لونهما ووزنهما.

أمّا من استثقل شرع الله وأحكامه فهو من الذين أشارت إليهم الآية الكريمة ﴿وَإنّهَا لَكَبِيرَةٌ إلّا على الخَاشِعِينَ﴾(3).

ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى أنّ العدالة شرط أساسي في مواقع شرعية متعدّدة، فالمرجعية العليا للتقليد، والولاية العامة على المسلمين، والقضاء، وإمامة صلاة الجماعة، وإقامة الشهادة التي يأخذ بها القاضي، والشهادة على الطلاق، كلّ هذه المسؤوليات يشترط فيها عدالة الإنسان الذي يتحمّلها، والعدالة


(1) هود: 112.
(2) الجنّ: 16.
(3) البقرة: 45.
131

في الجميع بمعنى الاستقامة على الشرع كما تقدم، وهذه الاستقامة تستند إلى طبيعة ثابتة في الإنسان المستقيم، وكلّما كانت المسؤولية أكبر وأوسع وأجلّ خطراً كانت العدالة في من يتحمّلها بحاجة إلى رسوخ أشدّ وأكمل في طبيعة الاستقامة لكي يُعصم بها من المزالق، ومن أجل ذلك صحّ القول: بأنّ المرجعية تتوقّف على درجة عالية من العدالة، ورسوخ أكيد في الاستقامة والإخلاص لله سبحانه وتعالى.

(33) طرق معرفة العدالة: تُعرَف العدالة:

أوّلا: بالحسّ والممارسة.

ثانياً: بشهادة عادلين بها.

ثالثاً: بشهادة الثقة(1). مرّ تفسير الثقة في الفقرة (12).

رابعاً: بحسن الظاهر والسيرة الحسنة بين الناس، بمعنى: أن يكون معروفاً عندهم بالاستقامة والصلاح والتديّن، فإنّ ذلك دليل على العدالة ولو لم يحصل الوثوق والاطمئنان بسبب ذلك.

(34) إذا مارس العادل في لحظة ضعف أو هوىً ذنباً زالت عنه العدالة، فإذا ندم وتاب فهو عادل ما دام طبع الطاعة والانقياد ثابتاً في نفسه.



(1) ثبوت العدالة بجميع ما لها من الأحكام بخبر الواحد الثقة دون حاجة إلى شهادة عدلَين مشكلٌ.

133

أبْحَاث تَمهيديّة

4

التكليف وَشُروطه

 

 

○  شروط التكليف.

○  آثار عامّة للتكليف الشرعي.

○  تقسيم الأحكام.

 

 

135

(1) التكليف: تشريف من الله سبحانه وتعالى للإنسان وتكريم له؛ لأنّه يرمز إلى ماميّز الله به الإنسان من عقل وقدرة على بناء نفسه والتحكّم في غرائزه، وقابلية لتحمّل المسؤولية، خلافاً لغيره من أصناف الحيوانات ومختلف كائنات الأرض، فإن أدّى الإنسان واجب هذا التشريف وأطاع وامتثل شرّفه الله تعالى بعد ذلك بعظيم ثوابه، وبملك لا يبلى ونعيم لا يفنى. وإن قصّر في ذلك وعصى كان جديراً بعقاب الله سبحانه وسخطه؛ لأنّه ظلم نفسه، وجهل حقّ ربّه، ولم يقم بواجب الأمانة التي شرّفه الله بها وميّزه عن سائر مخلوقات الأرض ﴿ إنّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلى السَّمَاواتِ والأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وَأشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسانُ... الآية ﴾(1).

ويجب شرعاً وعقلا على العاصي أن يتوب عن معصيته، ويؤوب إلى ربّه، وإذا لم يتب كان ذلك معصيةً اُخرى منه. والتوبة تتلخّص في أن يندم على ما وقع منه من ذنب، ويتّخذ قراراً بالتحفّظ وعدم تكرار ذلك في المستقبل.


(1) الأحزاب: 72.
136

شروط التكليف

 

وللتكليف شروط عامّة، وهي كما يلي:

(2) أوّلا: البلوغ، فلا يتّجه التكليف إلى الإنسان ـ رجلا كان أم امرأةً ـ إلّا إذا بلغ. وللبلوغ تقدير شرعي محدّد يأتي شرحه. فغير البالغ ليس بمكلّف؛ ونعني بذلك أنّ جانب الإلزام والمسؤولية الاُخروية ـ العقاب في الآخرة ـ من أحكام الله تعالى لا يثبت بشأن الإنسان غير البالغ، فلو كذب أو ترك الصلاة لا يعاقب يوم القيامة؛ نظراً إلى وقوع ذلك منه قبل بلوغه.

ولكن ينبغي الالتفات إلى ما يلي:

(3) أ ـ إنّ ذلك لا يعني عدم كون الولي مسؤولا عن تصرّف هذا الإنسان غير البالغ وتوجيهه وإنزال العقاب به في حالات التأديب، فالولي من أهله يجب عليه أن يقيه النار والتعرّض لسخط الله تعالى عند بلوغه؛ وذلك بأن يهيّئه قبل البلوغ للطاعة، ويقرّبه نحو الله تعالى بالوسائل المختلفة للتأديب: من الترهيب والترغيب والتعويد والتثقيف، عملا بقوله تعالي: ﴿قُوا أنْفُسَكُمْ وَأهْلِيْكُمْ ناراً وَقُودُها النّاسُ وَالحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أمَرَهُمْ ويَفَعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون﴾(1).

وإذا أدّى الولي كلّ ما عليه ولم يفلح في حمل ولده على الهدى والصلاح فلا وزر عليه من هذه الناحية.

(4) ب ـ إنّ إعفاء غير البالغ من المسؤولية الاُخروية وما تمثّله من الإلزام


(1) التحريم: 6.
137

لا يعني عدم استحسان الطاعة منه وعدم وقوع العبادة صحيحة إذا أدّاها بالصورةالكاملة، فيستحبّ منه ما يجب على البالغ وما يندب إليه البالغ من عبادات، على أن لا تكون مضرّةً بحاله.

وينبغي للصبي أن يبدأ بالتعوّد على الصلاة إذا أكمل سبع سنين، وعلى الصيام إذا أكمل تسع سنين، ولو بأن يصوم قسطاً من النهار ثمّ يفطر إذا أجهده الصوم وغلب عليه العطش أو الجوع.

(5) ج ـ إنّ عدم كونه ملزماً ومكلّفاً شرعاً لا يعفيه نهائياً من التبعات التي قد تنجم عن بعض تصرّفاته، كتعويض الآخرين إذا تسبّب إلى إتلاف أموالهم مثلا، وإنّما يوجب تأجيل إلزامه بهذا التعويض إلى حين البلوغ، على ما يأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في المواضع المناسبة من هذا الكتاب.

(6) ثانياً: العقل، ونقصد به: أن يكون لديه من الرشد ما يمكن أن يعيَ به كونه مكلّفاً، ويحسّ بمسؤولية تجاه ذلك.

فلا تكليف للمجنون، أو الأبلَه الذي لايدرك الواضحات؛ لبلاهته وقصور عقله.

(7) وإذا كان الإنسان مجنوناً في حالة وسوياً في حالة اُخرى سقط عنه التكليف في الحالة الاُولى، ويثبت عليه في الحالة الثانية.

وقد يكون الإنسان مجنوناً أو قاصر الإدراك بدرجة مّا لا يمكن أن يعيَ معها بعض التكاليف، ولكن يعي بعضها الآخر.

ومثال ذلك: إنسان ضعيف الإدراك لا يمكنه أن يعي أعمال الحجّ ولا أن يؤديّها، ولكنّه يمكنه أن يدرك أنّه لا ينبغي للإنسان أن يقتل إنساناً، ومثل هذا المجنون تثبت عليه التكاليف التي يمكن أن يدركها ويعيها وتسقط عنه من التكاليف ما لا يمكنه إدراكها ووعيها بحكم جنونه وقصور إدراكه.

(8) ثالثاً: القدرة، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلّا

138

وُسْعَها ﴾(1). فمن عجز عن الطاعة كان معذوراً وسقط عنه التكليف، سواء كانالتكليف أمراً وإلزاماً بشيء وقد عجز عنه ـ كالمريض يعجز عن القيام في الصلاة ـ أو نهياً وتحريماً لشيء وقد عجز عن اجتنابه وتركه، كالغريق يعجز عن اجتناب الخطر.

(9) وقد لا يعجز بالمعنى الكامل، ولكنّ الطاعة تكلّفه التضحية بحياته، وفي هذا الفرض يسقط التكليف أيضاً؛ حفاظاً على حياته، إلّا في حالتين:

الاُولى: أن تكون تلك الطاعة ممّا يفرضها الجهاد الواجب، فإنّ الجهاد إذا توفّرت شروطه وجب على أيّ حال.

الثانية: أن يأمره شخص قادر على قتله بأن يقتل مسلماً بدون حقٍّ ويهدّده بالقتل إذا امتنع عن ذلك، فإنّ عليه في هذه الحالة أن يطيع الله تعالى بالامتناع عن قتل ذلك الإنسان، ولو تعرّض للموت.

(10) وقد يواجه المكلّف تكليفين لا يعجز عن طاعة كلّ واحد منهما بصورة منفردة عن الآخر، ولكنّه يعجز عن طاعتهما معاً.

ومثال ذلك: أن تكون عليه صلاة واجبة ضاق وقتها ويشبّ أمامه حريق، وهو قادر على أن يصلّي ويهمل الحريق، وقادر على أن يطفئ الحريق وتفوته الصلاة، وفي فروض من هذا القبيل يسقط من التكليفين التكليف الأقلّ أهميّةً في تلك الحالة، وهذا أمر لا يمكن في كثير من الأحيان لغير المجتهد البتّ فيه إلّا بالرجوع إلى مقلَّده ليعيّن له موقفه.

(11) وإذا توجّه التكليف إلى الإنسان فعلا فلا فرق في عصيانه بين أن يكون بترك ما أمر به الله اختياراً، أو بالإقدام على عمل معيّن يعلم المكلّف بأنّه


(1) البقرة: 286.
139

سوف يعجز بسببه عن الطاعة.

ومثاله: أن يحلّ عليه وقت الصلاة ويتوجّه إليه التكليف بها، فيركب القطار وهو يعلم بأنّه سوف يعجز ـ عند ركوبه ـ عن أداء فريضة الصلاة، فإنّ هذا يعتبر عصياناً أيضاً، بل لا يجوز له أن يقدم حينئذ على عمل يحتمل بأنّه يعجز بسببه عن القيام بما وجب عليه فعلا.

(12) الإسلام ليس من الشروط العامة للتكليف، فالتكاليف الشرعية كما تتّجه إلى المسلم تتّجه إلى الكافر أيضاً، ويستثنى من ذلك وجوب قضاء الصلاة والصيام، فإنّ الكافر يُخاطَب شرعاً بالصلاة والصيام في أوقاتهما، ولكن لا يخاطب بوجوب قضائهما.

البلوغ وعلاماته:

(13) عرفنا أنّ أحد الشروط العامة للتكليف: البلوغ، ويتحقّق البلوغ إذا توفّرت في الذكر أو الاُنثى أحد الاُمور التالية:

أ ـ خروج المني(1)، سواء كان ذلك في حالة النوم أو في اليقظة، في حالة جماع واتّصال جنسيّ أو بدونه.

ب ـ نبات الشعر على العانة إذا كان خشناً، ولا اعتبار بالزغب (الشعر الناعم)، والعانة تقع بين العورة ونهاية البطن.

ج ـ إكمال مرحلة معيّنة من العمر، وذلك في الذكر بأن يكمل خمس عشرة


(1) خروج المني يكون في الذكر، وأمّا الاُنثى فتخرج منها رطوبات، ومن تلك الرطوبات ما يكون مصحوباً برعشة ولذّة تشبه رعشة الرجل ولذّته لدى خروج المني، وهذا أيضاً حاله حال خروج المني في دلالته على البلوغ، أي كما أنّ خروج المني من الذكر دليل على بلوغه كذلك خروج رطوبة من هذا القبيل من الاُنثى دليل على بلوغها.
140

سنةً من السنين القمرية، وفي الاُنثى بأن تكمل تسع سنين قمرية. والأفضل والأحوط للدين استحباباً أن يعتبر الصبي نفسه مكلفاً منذ إكماله ثلاث عشرة سنةً ودخوله في السنة الرابعة عشرة، فلا يتهاون بشيء من الواجبات التي يلزم بها البالغون.

(14) وإذا شكّ الصبي وكذلك الصبية في بلوغه بنى على عدم البلوغ، حتّى يحصل له اليقين ببلوغه.

(15) وإذا شكّ البالغ المكلّف في قدرته على الطاعة والامتثال لم يسمح له بأن يفترض في نفسه العجز لمجرّد الشكّ، بل يجب عليه أن يحاول إلى أن يثبت لديه أنّه عاجز.

 

آثار عامة للتكليف الشرعي

 

(16) إذا ثبت تكليف شرعي وكان أمراً كالأمر بالصلاة والأمر بالصدقة ترتّب على ذلك أنّ كلّ مقدمة يتوقّف عليها ذلك الواجب الذي أمرت به الشريعة تصبح واجبةً ولابدّ للمكلف من القيام بها.

(17) وإذا ثبت التكليف وكان نهياً وتحريماً كالنهي عن شرب الخمر أو قتل النفس ترتّب على ذلك أنّ المكلّف لابدّ له حذراً من الوقوع في الحرام أن يجتنب كلّ موقف أو عمل يؤدّي بطبيعته إلى وقوع الحرام وصدوره منه.

(18) وإذا وجب على إنسان القيام بفعل حَرُم على أيّ إنسان آخر أن يحاول صرفه عن القيام به، وإذا حرم على إنسان القيام بفعل حرم على أيّ إنسان آخر أن يسعى من أجل أن يقوم بذلك الفعل.

ومثاله: إذا حرم على الجنب أن يدخل المسجد حرم عليك أن تُدخله، وإذا

141

حرم على إنسان أن يأكل النجس حرم عليك أن تقدّمَ له طعاماً نجساً وتستدرجهإلى أكله، وهكذا.

(19) وإذا وجب على الإنسان شيء يقيناً وشكّ في أنّه هل أتى به أو لا ؟ وجب عليه أن يأتي به ما دام في الوقت متّسع.

ومثال ذلك: أن يشكّ في أنّه هل صلّى أو لا ؟ ولا يزال وقت الصلاة باقياً.

ومثال آخر: أن يشكّ المدين في أنّه هل وفّى زيداً وسدّد له دينه ؟

ومثال ثالث: أن يشكّ من وجبت عليه الزكاة في أنّه هل أدّى الزكاة ؟ ففي كلّ هذه الحالات يجب عليه أن يأتي بالواجب ليكون على يقين بالطاعة.

(20) إذا وجب شيء على المكلّف فأدّاه، ثمّ شكّ بعد الفراغ منه أنّه هل أدّاه على الوجه الصحيح الكامل شرعاً أو لا ؟ بنى على الصحة، واكتفى بما أدّاه في حالتين.

الاُولى: أن يكون العمل الذي أدّاه غير قابل للتكميل فعلا لو لم يكن كاملا؛ لأنّه اُدّي بصورة ناقصة. ومثاله: أن يصلّي ثمّ يشكّ في أنّه هل كان على وضوء حين الصلاة ؟ أو هل استقبل القبلة في الصلاة ؟ أو هل ركع في كلّ ركعة ؟ فإنّ التكميل هنا غير ممكن لو لم تكن الصلاة كاملة، وإنّما الممكن إعادتها من الأساس، ففي مثل ذلك لاتجب الإعادة ويكتفي بما أدّاه.

وكذلك إذا ركع ثمّ قام وشكّ في أنّه هل كان مستقرّاً في ركوعه أوْ لا ؟ فإنّ الركوع الذي وقع لا يمكن إصلاحه، وإنّما الممكن إعادة الركوع ولو بإعادة الصلاة من الأساس، فلا قيمة للشكّ حينئذ.

الثانية: أن يكون ذلك العمل الذي أدّاه محدّداً شرعاً بأن يؤدّى قبل عمل

142

آخر، وقد بدأ المكلّف في العمل الآخر ثمّ شكك في صحة عمله الأول.

ومثاله: الأذان المحدّد بأن يؤدّى قبل الإقامة، ويشكّ المكلّف بعد أن بدأ بالإقامة أنّه هل أتى بكلّ أجزاء الأذان أو لا ؟

ومثال آخر: الإقامة المحدّدة بأن تؤدّى قبل الصلاة، ويشكّ المكلّف بعد أن بدأ بالصلاة أنّه هل أقام أو لا ؟

ومثال ثالث: الركوع محدّد بأن يكون قبل السجود، فيسجد المكلّف ويشكّ في أنّه ركع أو لا ؟ ففي هذه الفروض يمضي ولا يلتفت إلى شكّه.

ويستثنى ممّا ذكرناه في هذه الفقرة الوضوء، فإنّ له أحكاماً خاصّةً يراجع فيها باب الوضوء الفقرة (101). وقد يخطئ المقلِّد في تطبيق الحالتين المذكورتين أحياناً، ولهذا يحسن به أحياناً أن يستعين بمقلَّده في التعرّف على أنّ هذا الفرض أو ذاك هل يدخل ضمن الحالة الاُولى أو الثانية، أو لا ؟ وسوف نذكر في الأبواب المقبلة عدداً من التطبيقات لهاتين الحالتين.

(21) كلمة « اليقين والعلم » تعني: الجزم الذي لا يبقى معه مجال لأيّ تردّد واحتمال للعكس، و « الظن » يعني: أنّ احتمال هذا الشيء أكبر من احتمال العكس، فحينما نقول: « نظنّ أنّ المطر سينزل » نعني أنّ احتمال المطر أكثر من خمسين في المائة. والاطمئنان يعني درجةً عاليةً من الظنّ يقارب العلم واليقين، على نحو يبدو احتمال العكس ضئيلا إلى درجة يلغى عملياً عند العقلاء، كما إذا كان احتمال العكس واحداً في المائة مثلا.

وكلّما جاءت كلمة « اليقين والعلم » بصدد حكم شرعيّ في الأحكام الشرعية الآتية فنريد بها الجزم والاطمئنان معاً، فما يثبت للجزم والعلم من آثار شرعاً يثبت للاطمئنان أيضاً.

143

تقسيم الأحكام

 

وأحكام الشريعة على الرغم من ترابطها واتّصال بعضها ببعض يمكن تقسيمها إلى أربعة أقسام كما يلي:

(1) العبادات، وهي: الطهارة والصلاة والصوم والاعتكاف والحجّ والعمرة والكفّارات.

(2) الأموال، وهي على نوعين:

أ ـ الأموال العامة، ونريد بها: كلّ مال مخصّص لمصلحة عامة، ويدخل ضمنها الزكاة والخمس، فإنّهما على الرغم من كونهما عبادتين يعتبر الجانب المالي فيهما أبرز، وكذلك يدخل ضمنها الخراج والأنفال وغير ذلك. والحديث في هذا القسم يدور حول أنواع الأموال العامة، وأحكام كلّ نوع وطريقة إنفاقه.

ب ـ الأموال الخاصة، ونريد بها: ما كان مالا للأفراد، واستعراض أحكامها في بابين:

الباب الأول: في الأسباب الشرعية للتملّك، أو كسب الحقّ الخاصّ، سواء كان المال عينياً ـ أي مالا خارجياً ـ أو مالا في الذمّة، وهي الأموال التي تشتغل بها ذمّة شخص لآخر، كما في حالات الضمان والغرامة.

ويدخل في نطاق هذا الباب: أحكام الإحياء والحيازة والصيد والتبعية والميراث والضمانات والغرامات، بما في ذلك عقود الضمان والحوالة والقرض والتأمين، وغير ذلك.

الباب الثاني: في أحكام التصرّف في المال، ويدخل في نطاق ذلك: البيع