كلمة المكتب
هذا الكتاب هو مجموعة محاضرات ألقاها سماحة آية الله العظمى السيّد كاظم الحسينيّ الحائريّ دام ظلّه في شهر رمضان المبارك سنة (1406 هـ ق)، وكانت بحثاً متسلسلاً عن الإمامة ومقامها، وعن دور الأئمّة(عليهم السلام) وأساليبهم في قيادة المجتمع وحفظ الرسالة.
وقد اشتمل هذا البحث على فصول وأفكار مهمّة ناقشها سماحة السيّد بنَفَس علمي موضوعي ومحايد، خصوصاً الاُمور التي قد يثار حولها الشكّ أو الشبهات، أو تقصر فيها الرؤى عن إدراك حقيقتها وكنهها، كعصمة الأنبياء والأئمّة(عليهم السلام)، ومنشأ العصمة وشروطها وأهمّيتها، ومعنى ذنوب الأنبياء(عليهم السلام)، ومناقشة مسألة الشورى ودور النصّ في تعيين الإمام(عليه السلام)، والولاية التكوينيّة للمعصوم(عليه السلام)، وما إلى ذلك من عناوين طرحت في البحث، نجد أهمّيتها ليس لأنّها مواضيع حيوية وتحتاج إلى دراسة واستقصاء فقط؛ بل لأنّ المنهج الذي اتّبعه سماحة آية الله العظمى السيّد كاظم الحسينيّ الحائريّ دام ظلّه هو منهج علمي تحليلي اعتمد استقراء الوقائع والأفكار ومناقشتها
بهدوء ورصانة علميّة أفضت إلى نتائج مقنعة وقاطعة، برغم أنّ هذا البحث هو محاضرات لوحظ فيها مستوى الطرح المتلائم مع تنوّع المستمعين وأفهامهم، لكي لا يقعوا في عسرة استيعاب المطالب فيما إذا اعتمد الطرح المركّز والاستدلالي.
إنّنا نجد في هذا البحث، وفيما سواه من البحوث التي تناولها سماحة المؤلّف ملامح تلك المدرسة التي أسّس بنيانها المرجع الشهيد السيّد محمّدباقر الصدر(قدس سره)، بل نرى الامتداد الطبيعي لها، خصوصاً على صعيد المنهج وطريقة الأداء العلمي والفكري المتّبعة، وعلاوة على ذلك فإنّ ثمّة عناوين ومداخل تركها الإمام الشهيد(قدس سره)، وفي جوانب بحثيّة متنوّعة تستأهل التأسيس عليها واستكمال مشروعها، وهذا ما وجدناه في طريقة هذا الكتاب، حيث إنّ المخطّط العامّ في قيادة الأئمّة(عليهم السلام) للمجتمع يتّبع الطريقة نفسها التي وضعها السيّد الشهيد(قدس سره)، والتي قسّمت حياتهم(عليهم السلام) السياسيّة والاجتماعيّة إلى أدوار ثلاثة كلّ مجموعة من الأئمّة يختصّون بدور معيّن يمهّد للدور الثاني، ويؤسّس لمعالجة قضايا المجتمع الإسلاميّ الراهنة في وقتهم بما يهيّئ لاستقبال المجتمع الدور الجديد الذي سوف يقوده مجموعة اُخرى من الأئمّة(عليهم السلام) في إطار الهدف العامّ الرامي إلى حفظ المجتمع الإسلاميّ من صدمات الانحراف في تجارب الحكم المتعاقبة بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله).
ولئن تمكّن سماحة السيّد المؤلِّف من إشباع الكلام حول أئمّة الدور الأوّل بحثاً ودراسة، ولم يتمكّن من ذلك بالنسبة إلى أئمّة
الدورين الآخرين في هذا الكتاب، فالسبب يرجع إلى أنّ بحث الإمامة في الفصول الخمسة الاُولى قد استغرق جميع ليالي شهر رمضان، فلم يبقَ وقت لتكميل البحث سوى ختمه بلمحة عن مبدأ ولاية الفقيه في إطار بحث المنهج السياسيّ للأئمّة(عليهم السلام) قبل وبعد عصر الغيبة، وهو ما كان في الفصل السادس الذي خُتم به الكتاب.
ولهذا فنحن نأمل أن نُضيف الحديث عن أئمّة الدورين الثاني والثالث في طبعة اُخرى ـ إن شاء الله ـ بعد أن يبحثهما سماحة آية الله العظمى السيّد الحائريّ دام ظلّه في مناسبة اُخرى.
إنّ هذا الكتاب هو باكورة مشروع واسع لجمع نتاجات سماحة السيّد الحائري الفكريّة والثقافيّة، سواء كانت محاضرات أو دروساً أو مقالات أو بحوثاً منشورة أو غير منشورة، جمعها بحسب عناوينها الكبيرة وإعدادها لصلاحيّة النشر بهيئة كُتب ووفق منهجيّة تبتعد عن أداء المحاضرة والإلقاء ـ إذا كان البحث أو الموضوع محاضرة عامّة ـ ممّا يستلزم تصرّفاً في العبارة وصياغةً للمواضيع انسجاماً مع ضرورة المشروع ومقتضياته اللازمة.
وهذا ما نضعه بين يدي القارئ آملين الانتفاع، ومؤمّلين صدور كتب اُخرى هي حاليّاً قيد الإنجاز. والله تعالى بعد ذلك الموفّق.
تقديم
بقلم سماحة آية الله العظمى
السيّد كاظم الحسينيّ الحائريّ دام ظلّه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
إنّ فكرة الإمامة بما تشتمل عليها من قيادة المجتمع، وبما لها من الامتداد في خطّ ولاية الفقيه لهي فكرة حيّة حركيّة واسعة النطاق عميقة الغور. وهي تشكّل من ناحية مبدأً عقائديّاً مذهبيّاً للشيعة يكون حدّاً فاصلاً لتمييز الشيعي من غيره، وتعبّر من ناحية اُخرى عن شكل الحكم لدى الشيعة، فتكون هي الحجر الأساس للفكر السياسيّ الإسلاميّ من زاوية نظرهم، وتملأ من ناحية ثالثة ـ بامتدادها المتمثّل في ولاية الفقيه ـ الفراغ الذي يحسّ به الشيعة لدى غيبة الإمام المعصوم، ولهذا أصبح بحث الإمامة وبهذا العرض العريض من أرقى الأبحاث الإسلاميّة، وأضخمها وأجلّها شأناً وأعلاها، ومن أزخرها بالأفكار الإسلاميّة الرائعة التي بها تحلّ مشاكل المجتمع الإسلاميّ.
ولا أظنّ أنّه كُتب حتّى الآن بحث في الإمامة يشمل بعمق كلّ
جوانب هذا البحث تحت دفّتي كتاب واحد. وكلّ كتاب كُتب في هذا المضمار يمثّل جزءاً من هذا البحث الواسع، ومنها كتابان صدرا عنّا وطُبعا من ذي قبل سمّي أحدهما باسم (أساس الحكومة الإسلاميّة)، والآخر باسم (ولاية الأمر في عصر الغيبة)، وكلا الكتابين قد فرضا أصل فكرة الإمامة ـ بشكلها الذي يعتبر مايزاً بين الشيعة وغيرهم ـ أمراً مفروغاً عنه، فلم يقع فيهما بحث عن ذاك الأساس.
وها هو ذا كتاب ثالث بين يديك يتناول بعض أبحاث الإمامة، ويتطرّق في بعض طيّاته بشكل بسيط إلى بحث الأساس المختلف فيه بين فرقتي المسلمين، محاولاً موضوعيّة البحث ونزاهته، ومتجنّباً حالة التعصّب أو الاستفزاز.
وإنّ هذا الكتاب لهو في واقعه تجميع لمحاضرات ألقيناها في إحدى السنين السابقة في شهر رمضان المبارك في مجلسنا العامّ الذي كان يعقد في مكتبنا في قم المقدّسة، ومن هنا ترى أنّ هذا الكتاب يختلف عن سائر تأليفاتنا المباشرة بتجنّب العمق الذي لم يكن يناسب المجلس العامّ من ناحية، وبالوضوح والبساطة من ناحية اُخرى، الأمر الذي يجعل الكتاب قابلاً للاستفادة من قبل عموم الناس، بخلاف كتابينا أساس الحكومة الإسلاميّة وولاية الأمر في عصر الغيبة اللذين ينفعان أهل الاختصاص أكثر من نفعهما لعموم الناس.
وقد تمّ كلّ هذا الجهد في شهر ذي القعدة (1415 هـ )، ثُمّ أحدثنا في ذلك بعض التعديلات في شهر رمضان المبارك (1424 هـ ).
أسأل الله تعالى أن يجعل كلّ هذه الأعمال خالصةً لوجهه نافعةً في يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم.
قال الله تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين﴾(1).
هذه الــ ﴿كَلِمَات﴾ التي ابتلى الله بها إبراهيم(عليه السلام) لا يقصد بها ـ على مايبدو ـ عبائر وألفاظ، وإن رأيت أنّ بعض الروايات قد فسّرت الــ ﴿كَلِمَات﴾ بشيء من هذا القبيل، فعلى أغلب الظنّ أنّ المقصود بالــ ﴿كَلِمَات﴾ هنا وقائع واُمور واقعيّة، فهي من سنخ قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَة مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ... ﴾(2). فالــ ﴿كَلِمَة﴾ هنا لا يقصد بها عبارة ما أو لفظ ما أو اسم ما، وإنّما يقصد بها عيسى نفسه(عليه السلام).
وهي أيضاً من سنخ قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لاَِبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(3)، وذلك بناءً على الاحتمال الثاني من الاحتمالين في تفسير هذه الآية، فإنّها تفسّر بتفسيرين:
الأوّل: أن يكون الضمير المؤنّث في ﴿جَعَلَهَا﴾ راجعاً إلى كلمة التوحيد التي أطلقها إبراهيم(عليه السلام) بقوله: ﴿إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ...﴾،
(1) سورة البقرة، الآية: 124.
(2) سورة آل عمران، الآية: 45.
(3) سورة الزخرف، الآية: 26 ـ 28.
أي: جعل كلمة التوحيد كلمة باقية في عقبه ومستمرّة بعد مماته(عليه السلام)، لعلّ الناس يرجعون إليها ويهتدون بها بعده. ففاعل ﴿جَعَلَهَا﴾ هنا هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
الثاني: أن يكون فاعل ﴿جَعَلَهَا﴾ هو الله سبحانه وليس إبراهيم(عليه السلام)، فيكون المعنى هو: أنّ الله تعالى جعل الإمامة كلمة باقية في عقب نبيّه إبراهيم (عليه السلام)، أي: أنّها مستمرّة بعده(عليه السلام). فالله سبحانه وتعالى جعل إبراهيم(عليه السلام) إماماً ثمّ جعل الإمامة مستمرّة لِما بعد إبراهيم(عليه السلام)في نسله إلى الحجّة عجّل الله تعالى فرجه؛ إذ إنّ الأئمّة(عليهم السلام) كلّهم من نسل إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وقد رأيت بعض الروايات فسّرت هذه الآية المباركة بهذا المعنى الثاني.
وبناءً على هذا التفسير (الثاني) تكون الــ ﴿كَلِمَة﴾ الوارد ذكرها في الآية الكريمة ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً...﴾ بمعنى حقيقة واقعيّة، وهي حقيقة الإمامة، وليست بمعنى العبارة واللفظ والتعبير من قبيل كلمة التوحيد مثلاً، وهكذا الأمر بالنسبة إلى قوله تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات﴾، فالظاهر أنّ المقصود من لفظ ﴿كَلِمَات﴾ هنا هو حقائق ووقائع، وليست هي عبائر وألفاظ.
إذن فلفظ الــ ﴿كَلِمَات﴾ ـ الوارد في آية ﴿وَإِذِ ابْتَلَى...﴾ ـ يشير إلى الامتحانات الإلهيّة الصعبة التي مرّ بها النبيّ إبراهيم(عليه السلام)، من قبيل أمره بذبح ابنه، حيث استعدَّ(عليه السلام) لذبحه وهيّأ نفسه لذلك، وشرع بتنفيذ الأمر الإلهي إلى أن نُسخ الأمر في قصّة معروفة، ومن قبيل ابتلائه(عليه السلام)بمسألة إلقائه في النار لكي يُحرَق، وإن كان الله تبارك وتعالى قد
أنجاه بعد ما ثبت في امتحانه، فأكبر الظنّ أنّ المقصود بالــ ﴿كَلِمَات﴾هنا هي هذه الاُمور وأمثالها من المحن والمصائب والابتلاءات التي ابتلى الله تعالى نبيّه إبراهيم(عليه السلام) بها.
كما يحتمل أيضاً أن يقصد بها أيضاً الأوامر.
ولا منافاة في الجمع بين المعنيين، بأن يكون المقصود بالــ ﴿كَلِمَات﴾ عبارة عن:
أ ـ القضايا التي ابتُلي بها النبيّ إبراهيم(عليه السلام).
ب ـ الأوامر الإلهيّة والتكاليف الإلهيّة التي ابتلي بها(عليه السلام) والتي استطاع(عليه السلام) أن يخرج منها جميعاً بنجاح كامل.
وأمّا قوله تعالى: ﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾، فإنّه يُعطي لنبيّ الله إبراهيم(عليه السلام) ميزةً لا نراها مذكورةً في القرآن لباقي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل نرى أنّ بعض التعابير القرآنيّة تقول بأنّ بعض الأنبياء العظام (عليهم السلام) قد ابتلي بترك الأولى، من قبيل التعبير القرآني الوارد في قصّة أبينا آدم (عليه السلام)، حيث قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾(1)، ومن قبيل التعبير القرآني الوارد بشأن نبيّ الله داود(عليه السلام)، حيث قال تعالى: ﴿وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ﴾(2)، ومن قبيل يونس(عليه السلام) الذي أخطأ في دعوته على قومه خطأً لا بمعنى المعصية ـ طبعاً ـ وإنّما بمعنى أنّ المفروض به(عليه السلام)أن يكون حلمه أكبر وأكثر ممّا كان، وأن لا يدعو على قومه الظالمين، بل يدعولهم بالهداية، ولكنّه دعا على قومه، وكان جزاؤه
(1) سورة طه، الآية: 115.
(2) سورة ص، الآية: 24.
أنّه ابتلي بالحوت، كما حدّثنا القرآن الكريم في قصّته(عليه السلام)، حيث قال تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾(1)، وقال تعالى في آية اُخرى: ﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(2)، أي: لكان جزاء خطئه الذي صدر عنه أن يلبث في بطن الحوت إلى يوم يبعثون، ولكنّ الله تعالى رحمه وتلطّف عليه وأنجاه من هذا السجن؛ لأنّه كان من المسبِّحين.
فتعبير ﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾ لم يرد في الأنبياء الكرام السابقين غير النبيّ إبراهيم(عليه السلام)، إذن معنى الآية المباركة ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ...﴾ هو أنّ الله سبحانه قد ابتلى نبيّه إبراهيم(عليه السلام) بكلمات (ابتلاءات)، وقد أتمّ إبراهيم(عليه السلام) تلك الكلمات التي ابتُلي بها وخرج من الامتحان بنجاح كامل، فلم يزلّ ولم يخطأ حتّى بذلك المستوى من الخطأ الذي حصل لآدم(عليه السلام)، أو ما يشابه ذلك الخطأ.
فنحن نؤمن بمبدأ العصمة، ونقول بأنّ الأنبياء العظام والأئمّة عليهم الصلاة والسلام كلّهم معصومون على ما سيأتي البحث فيه مفصّلاً إن شاء الله تعالى، ولكنّ هذا لا ينافي صدور مستوىً من «الخطأ» إن صحَّ التعبير، أو من «ترك الأولى» كما يعبَّر في لسان علمائنا الأعلام، أو من «ما لم يكن ينبغي لمقامات عالية»، كما
(1) سورة الأنبياء، الآية: 87 ـ 88.
(2) سورة الصافّات، الآية: 143 ـ 144.
يمكن أن نعبّر عنه من قبيل: «حسنات الأبرار سيّـئات المقرّبين».
فحينما ننظر إلى تلك المستويات السامية للأنبياء العظام(عليهم السلام) نرى أنّ بعضهم قد صدر عنه «ما لم يكن ينبغي أن يصدر»، وليس ذلك بمعصية بالمعنى المألوف للمعصية والذنب الذي يعارض العصمة على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وعلى الرغم من أنّ تلك الأخطاء التي كانت تصدر عن بعض الأنبياء الكرام(عليهم السلام) هي من المستوى الذي لا ينافي العصمة، فإنّه لم يصدر شيء من قبيلها عن نبيّ الله إبراهيم(عليه السلام)، كما يبدو من الآية الكريمة ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ...﴾، فهو إذن أتمَّ الكلمات ولم ينقص منها شيئاً، ولم يخطأ بشيء، فخرج من الامتحان بنجاح كامل، وكما قلنا آنفاً يبدو أنّ هذا إشارة إلى المصائب والمحن والأوامر التي وجِّهت إلى النبيّ إبراهيم(عليه السلام)، والتي خرج منها بنجاح، والتي كان في طليعتها قصّة أمرهِ بذبح ابنه اسماعيل؛ إذ لم يكن(عليه السلام) يعلم بأنّ هذا أمر امتحاني وأنّه سينسخ بعد حين، ومع ذلك فإنّه(عليه السلام) أقدم على ذبح ابنه، ولعلّ هذا شيء يصعب صدوره عن أقرب المقرَّبين، وهو امتحان ما فوقه امتحان.
وكذلك قصّة إلقائه(عليه السلام) في النار حينما صمّم الكفّار على أن يحرقوه بها؛ إذ إنّ إبراهيم(عليه السلام) صبر على ذلك، وخرج من الامتحان مُبيضّ الوجه أيضاً، فبعض الروايات الواردة في قصّة مخاطبة جبرائيلله(عليه السلام) حينما ألقوه في النار تؤكّد قوّة توكّله على الله، فقد كان توكّل إبراهيم(عليه السلام) على الله سبحانه بمستوىً لا يخطر على بال
إنسان اعتيادي، ولهذا خرج من هذا الامتحان بنجاح أيضاً. تقول الرواية: إنّ إبراهيم(عليه السلام)حينما ألقوه في النار نزل جبرائيل وأدركه في الهواء وقال له: «يا إبراهيم، ألك حاجة؟» فقال: «أمّا إليك فلا»(1). فهذا هو مستوى التوكّل والاعتماد على الله تبارك وتعالى الذي كان يتمتّع به إبراهيم(عليه السلام) في تلك اللحظة الحرجة، وهو مستوى لم يتمتّع به بعض الأنبياء(عليهم السلام) ـ فضلاً عن غيرهم ـ في مواقف وظروف أقلّ حراجة.
فيوسف(عليه السلام) نبيّ من الأنبياء، وعلى الرغم من ذلك فإنّه قال للسجين الذي كان معه:﴿اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ﴾(2). صحيح أنّ هذا ليس من الأخطاء التي تعارض العصمة أو تنافيها، ولكنّه ـ على أيّ حال ـ بالنسبة إلى ذلك المستوى يكون من قبيل: «حسنات الأبرار سيّـئات المقرّبين»(3).
شموليّة الامتحان الإلهي للناس جميعاً
إنّ مسألة الامتحان عامّة لا تختصّ بنا نحن البشر الاعتياديين، وإنّما تشمل أيضاً الأنبياء والأئمّة(عليهم السلام)، ولا يصل الإنسان إلى مقام الإمامة الذي هو فوق المقامات ـ على ما سنُبيّنه إن شاء الله ـ من دون أن يمتحن، ومن دون أن يخرج من الامتحان بنجاح.
فالله سبحانه امتحن حتّى الأنبياء سلام الله عليهم أجمعين، كما
هو واضح في تعابير القرآن الكريم والحكايات والقصص المذكورة عن الأنبياء العظام(عليهم السلام)، فقد امتحن الله آدم وإبراهيمويوسف وسليمان وداود وأيّوب وسائر الأنبياء العظام عليهم الصلاة والسلام، وحتّى الأنبياء الذين اُعطوا النبـوّة في صغر سنِّهم كعيسى ويحيى(عليهما السلام).
فعيسى(عليه السلام) أصبح نبيّاً وهو في المهد صبيّاً؛ إذ قال تعالى: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً* قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً﴾(1).
فهنا ربّما يقول قائل: إنّ عيسى(عليه السلام) لم يمرّ بالامتحان؛ لأنّه أصبح نبيّاً وهو في المهد، وكذا الأمر بالنسبة إلى يحيى(عليه السلام)؛ إذ قال تعالى: ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّة وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً﴾(2)، فقد يقال: إنّ يحيى(عليه السلام) قد خرج عن قانون الامتحان.
ولكنّ الذي يبدو لي هو أنّ عيسى ويحيى(عليهما السلام) لم يخرجا عن نظام الامتحان الإلهي، ولم يحصلا على المقام الذي حصلا عليه مجّاناً وبلا عوض، ولم يكونا مستثنَيَين من هذه القاعدة، وهنا نحتاج إلى أن نلتفت إلى معنى الامتحان الإلهي.
إنّ الامتحان الإلهي ليس كالامتحان الذي نقوم به حينما نريد أن نمتحن بعض أبنائنا أو أطفالنا، وليس كامتحان المعلم لتلاميذه؛ إذ إنّ الامتحان الذي يقوم به الأب أو المعلّم تجاه الابن أو التلميذ إنّما هو
(1) سورة مريم، الآية: 29 ـ 30.
(2) سورة مريم، الآية: 12.
من أجل كشف الحقيقة؛ إذ إنّ مثل هذا الأب أو المعلم لا يعرف مدى قابليّة ابنه أو تلميذه، فيريد أن يمتحنه حتّى يكشف حقيقته ويجازيه بقدر ما ينكشف له منها، فهذا هو معنى الامتحان الذي يقوم به الناس بعضهم تجاه بعض، وهذا النوع من الامتحان يجب أن يكون متقدّماً على الجزاء، ويجب أن يكون متقدّماً على المنصب الذي يُعطى، فالطبيب والمهندس وغيرهما لا يُعطَونَ الشهادة والمقام قبل أن يؤدّوا الامتحانات التي كانت بهدف كشف الحقيقة.
أمّا امتحان الله تبارك وتعالى، فهو ليس من هذا القبيل، فالله سبحانه لا يمتحن عبيده من أجل أن تنكشف له حقائقهم؛ إذ إنّه تعالى عارف بالحقائق، عالم بالسرائر، عالم بالقابليّات والرتب والمستويات، عالم بمن يخرج من الامتحان بنجاح وبمن يسقط، عالم بكلّ شيء، فليس معنى امتحان الله تبارك وتعالى للإنسان كشف حقيقته قبل إعطائه المنصب والجزاء، ولكنّ الله تبارك وتعالى حينما يعطي الإ نسان مقاماً أو منصباً أو ثواباً فإ نّ ذلك يجب أن يكون بإزاء قابليّة ما، بحيث لولا هذه القابليّة لكان تمييز ذلك الإ نسان من غيره من البشر قد يُعدّ ظلماً؛ لأنّ الشخص الذي لا يعطى الثواب العظيم أو المنصب المرموق سوف يقول لله تعالى: لماذا لم تعطني هذاالمقام؟ أو لماذا لم تعطني هذا الثواب كما أعطيت فلاناً؟
وأمّا إذا كان ذلك الشخص ( صاحب الثواب والمنصب ) يمتاز من الآخرين بتحمّل المصائب والمتاعب، والصبر على المحن
والرزايا، والخروج منها بنجاح، فإنّ الله سبحانه وتعالى إذا أعطاه المنصب المناسب والأجر والثواب الذي يستحقّه، فعندئذ لا يكون للآخرين أيّ مجال للاحتجاج أو الاعتراض على الله سبحانه.
ومن هنا فإنّ المنصب ربّما يكون سابقاً للامتحان الذي سيمتحن به الشخص.
فعيسى ويحيى(عليهما السلام) أيضاً امتُحنا في حياتهما على الرغم من أنّ المنصب كان قد ثبت لهما قبل الامتحان؛ إذ إنّ الامتحان الإلهي ليس بمعنى كشف الحقيقة لكي يشترط أن يتقدم على المنصب، وإنّما هو بمعنى أنّ هذا الإ نسان إنّما اُعطي هذا المقام لأنّه كان سينجح حتماً في كلّ قضاياه ومحنه التي ستمرّ به خلال حياته نجاحاً كاملاً، وقد يكون هذا في آخر عمره، لا في أوّله.
فالمنصب قد يسبق الامتحان باعتبار أنّ الله تبارك وتعالى يعرف هذا الرجل الذي يستحقّ هذا المنصب.
نعم، نحن لا نعرف حقيقة ذلك الرجل، ولا ندري بأنّه سوف يخرج من الامتحان بنجاح حقّاً إلّا في آخر عمره، وبعد أن نراه يخرج من الامتحان بنجاح نكتشف أنّ ذلك المقام الذي أعطاه الله تبارك وتعالى له كان قد وقع في محلِّه.
الفصل الثاني
مقام الإمامة
إنّ الذي يبدو من الروايات أنّ مقام الإمامة فوق المقامات الاُخرى ـ ما عدا مقام الربوبيّة طبعاً ـ التي يمكن أن يصل إليها الإنسان، فقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: « إنّ الله اتّخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتّخذه نبيّاً، وإنّ الله اتّخذه نبيّاً قبل أن يتّخذه رسولاً، وإنّ الله اتّخذه رسولاً قبل أن يتّخذه خليلاً، وإنّ الله اتّخذه خليلاً قبل أن يتّخذه إماماً »(1).
و( العبوديّة ) هنا ليست بمعنى المملوكيّة، فكلّ الناس هم عبيد الله، وحتّى أخبث الخبثاء هو عبد لله، وإنّما العبوديّة تعني أن يصل الإ نسان إلى مقام الإخلاص بمستوى أن يذوب في الربّ تبارك وتعالى، فلا يكون الرسول رسولاً مالم يكن عبداً، فالعبوديّة مقدّمة على الرسالة.
والنبوّة لا تعني الإرسال إلى الاُمّة، فالله قد يخبر الإ نسان عن اُمور، ولكن قد لا يكون مرسلاً إلى اُمّة من الناس، فهو ليس برسول،
ويبدو من قوله(عليه السلام): « وإنّ الله اتّخذه نبيّاً قبل أن يتّخذه رسولاً » أنّ مقام الرسالة فوق مقام النبوّة، وليس كلّ نبيٍّ رسولاً.
ومن قوله(عليه السلام): « إنّ الله اتّخذه رسولاً قبل أن يتّخذه خليلاً » يبدو أنّ مقام الخلّة فوق مقام الرسالة، فليس كلّ رسول يصل إلى مستوى أن يكون خليلاً لله تبارك وتعالى، وإبراهيم خرج من كلّ الامتحانات بنجاح ولم يصدر عنه حتّى ما يسمّى بــ «ترك الأولى» على ما يبدو من قوله تعالى: ﴿... فَأَتَمَّهُنّ...﴾، وليس من الصدف أن نرى كلّ الحجّاج يصلّون خلف مقام إبراهيم(عليه السلام)، وليس من الصدف ما نراه من أمر الله تبارك وتعالى لكلّ الطائفين أن يدخلوا حجر إسماعيل(عليه السلام) في مطافهم، فلولا نجاح إسماعيل في ذلك الامتحان العظيم واستسلامه لأبيه ليذبحه لم نكن نعرف نكتةً لدخول حجر إسماعيل في المطاف.
وكذا قوله(عليه السلام): «وإنّ الله اتّخذه خليلاً قبل أن يتّخذه إماماً » يدلّ في ظاهره على تفوّق مقام الإمامة على مقام (العبوديّة، النبوّة، الرسالة، الخلّة)، وهذا ما يظهر أيضاً من قوله تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين﴾؛ إذ إنّ تعبير هذه الآية المباركة يُشير إلى أنّ إبراهيم(عليه السلام) قد حصل على منصب الإمامة ومقامها في أواخر عمره الشريف، أي بعد ابتلائه(عليه السلام)، فلم يكن إبراهيم(عليه السلام)في أوائل أ يّام حياته أو في أوائل أمره إماماً، وإنّما كان(عليه السلام) إماماً في
أواخر عمره؛ وذلك لعدّة شواهد في الآية المباركة ذكرها المرحوم العلاّمة الطباطبائي(رحمه الله) في كتابه الميزان في تفسير القرآن، وهي:
1 ـ كلمة ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾ في قوله تعالى: ﴿قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي...﴾، فهذه الكلمة تشير إلى أنّ إبراهيم(عليه السلام) إمّا كانت له ذرّيّة وقتئذ أو كان(عليه السلام) قد علم أنّه سوف تكون له ذرّيّة، ولذلك قال: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾، وأمّا إذا لم تكن له ذرّيّة ولم يكن(عليه السلام) يعلم أنّه ستكون له ذرّيّة، فلا معنى لقوله: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾، ونحن نعلم أنّ علم النبيّ إبراهيم(عليه السلام) واطّلاعه بأنّه ستكون له ذرّيّة قد كان في أواخر أيّامه وكِبَر سنّه؛ إذ قال تعالى: ﴿وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ * قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلام عَلِيم * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ﴾(1)، فهذا شاهد على أنّ تبشير إبراهيم(عليه السلام) بالذرّيّة قد كان بعد أن مسَّه الكِبَر. وقال تعالى أيضاً في آية اُخرى: ﴿وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَـذَا لَشَيءٌ عَجِيبٌ * قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ﴾(2).
2 ـ كلمة ﴿ابْتَلَى﴾ في قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ...﴾،
(1) سورة الحجر، الآية: 51 ـ 55.
(2) سورة هود، الآية: 71 ـ 73.