417

 

الاستثناء بالاسم:

المقام الثاني: في الاستثناء بالاسم، ككلمة (غير)، وهذا أيضاً له ثلاث صور وهي عين الصور التي مضت في المقام الأوّل:

الاُولى: أن يتعدّد الموضوع والمحمول معاً، كما لو قال: (أكرم العلماء وأكرم السلاطين وأكرم التجّار غير الفسّاق منهم).

والثانية: أن يتعدّد الموضوع فقط، كأن يقول: (أكرم العلماء والسلاطين والتجّار غير الفسّاق منهم).

والثالثة: أن يتعدّد المحمول فقط، كأن يقول: (جالس العلماء وسلّم عليهم وأضفهم غير الفسّاق منهم).

وقد قلنا في الصورة الاُولى من المقام الأوّل: إنّه لابدّ من كون الاستثناء راجعاً إلى خصوص الأخير؛ لجزئيّة المعنى الحرفيّ.

وهذا البرهان ـ كما ترى ـ لا يأتي في المقام الثاني؛ لأنّ المفروض أنّ الاستثناء بالاسم، فنقول في هذا المقام في جميع الصور الثلاث: إنّه لا مانع من الرجوع إلى الجميع.

نعم، هنا فرق بين الصورة الاُولى والصورتين الأخيرتين، وهو: أنّه في الصورتين الأخيرتين بعد أن لم يكن مانع عن الرجوع إلى الجميع يثبت ـ لا محالة ـ عدم تعيّن الرجوع إلى خصوص الأخير، فيدور الأمر بين الإجمال والظهور في الرجوع إلى الجميع، ولا يبعد دعوى موافقة الفهم العرفيّ للثاني.

وأمّا في الصورة الاُولى ـ وهي تكرّر الموضوع والمحمول معاً بحيث تكون كلّ جملة كلاماً مستقلاًّ برأسه ـ فيمكن أن يدّعى أنّ نفس هذا الوصف قرينة عرفاً على

418

اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة، فعدم المانع من الرجوع إلى الجميع ليس في هذه الصورة برهاناً على عدم تعيّن الرجوع عرفاً إلى خصوص الأخيرة.

والظاهر: أنّ العرف لا يفرّق بين الاستثناء بالاسم والاستثناء بالحرف، ففي كلا المقامين يكون ظاهر الكلام في الصورة الاُولى رجوع الاستثناء إلى خصوص الأخيرة، إلّا أنّ الفرق بينهما أنّه في المقام الأوّل دلّ الفنّ أيضاً على ذلك وفي المقام الثاني لم يدلّ الفنّ عليه(1).



(1) قد يقال: إنّ فرض الفرق بين باب الاسم وباب الحرف في الصورة الاُولى غير معقول؛ لأنّ أداة الاستثناء وإن فرضت هذه المرّة اسماً ولكن إنّما نستثني من الموضوعات السابقة عن طريق جعلها وصفاً لها، فلابدّ في البين من النسبة الوصفيّة، فلو كان هناك برهان في النسبة الاستثنائيّة يدلّ على أنّها ترجع إلى الأخير فحسب فعين ذاك البرهان يأتي في النسبة الوصفيّة فكلاهما معنى حرفيّ وجزئيّ.

أمّا لو قيل بأنّ الموضوعات المتعدّدة يمكن أن يكون كلّ واحد منها جزء طرف للنسبة الوصفيّة بلا حاجة إلى فرض وحدة اعتباريّة سابقة بينها فعين الكلام يأتي في النسبة الاستثنائيّة حرفاً بحرف.

والجواب: أنّ النسبة الوصفيّة مستفادة من الهيئة التركيبيّة وهي هيئة وقوع الوصف بعد الموصوف، ومع تعدّد الموصوف تكون الهيئة أيضاً متعدّدة، فيمكن افتراض استعمال كلّ واحدة منها في نسبة كما يمكن إهمالها جميعاً ما عدا الأخيرة، والمقياس في إهمال ما عدا الأخيرة أو استعمالها في النسبة الوصفيّة هو ما يقصد به من كلمة (غير)، فلو قصدت به أفراد من الموضوع الأخير كان وصفاً للأخير، ولو قصد الجامع بين المواضيع كان وصفاً للجميع، وبما أنّه اسم وليس حرفاً ومستعمل في معنى اسميّ لا النسبة فقصد الجامع به معقول.

419

ثمّ إنّ المحقّق العراقيّ(قدس سره) بعد أن ذهب إلى إمكان الاستثناء من الجميع بلامؤونة ولو كان الاستثناء بالحرف، وقال بعدم الفرق بين كون الاستثناء بالحرف وكونه بالاسم ساق كلا القسمين من الاستثناء مساقاً واحداً وذكر تفصيلاً في المسألة، وبما أنّ كلامنا فعلاً في الاستثناء بالاسم فلنمثّل بذلك فنقول:

لو قال المولى مثلاً: (أكرم العلماء وجالس الأسخياء وسلّم على العبّاد غير الفسّاق) فهل يرجع الاستثناء إلى الأخيرة أو إلى الجميع؟

ذكر المحقّق العراقيّ(قدس سره) أنّ مقتضى إطلاق الاستثناء والمستثنى هو الرجوع إلى الجميع، وهذا الإطلاق معارض بظهور ما عدا الجملة الأخيرة في الإطلاق أو العموم، فإن كان ظهور ما عدا الجملة الأخيرة بالعموم، ككلمة (كلّ) قدّم على إطلاق الاستثناء والمستثنى؛ لأنّ إحدى مقدّمات الحكمة عدم البيان، وعموم ما عدا الجملة الأخيرة بيانٌ، فهو مانع عن انعقاد مقدّمات الحكمة.

وإن كان ظهور ما عدا الجملة الأخيرة بالإطلاق ففي الحقيقة لا يتمّ شيء من الإطلاقين المتعارضين ويحصل الإجمال، وليس ذلك لأجل صلاحيّة كلّ منهما للقرينيّة للآخر، فإنّ قرينيّة كلّ منهما فرع ظهوره بتماميّة مقدّمات الحكمة بالنسبة إليه، ولا تتمّ؛ لما فيها من الدور ـ كما ستعرف ـ بل الإطلاق بنفسه غير جار في شيء من الطرفين؛ لأنّه مستلزم للدور، فإنّ الإطلاق في كلّ طرف متوقّف على عدم تحقّق البيان بالإطلاق في الطرف الآخر، وهو متوقّف على إطلاق الطرف الأوّل؛ لأنّه لولاه لكان إطلاق الطرف الآخر تامّاً، فلا يجري شيء من الإطلاقين للدور. هذا ما أفاده المحقّق العراقيّ(قدس سره)(1).



(1) المقالات، ج 1، المقالة: 37، ص 475 ـ 476 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم.

420

أقول: أمّا ما ذكره من أنّ إطلاق الاستثناء والمستثنى يقتضي الرجوع إلى الجميع فيرد عليه: أنّ (غير) مبهم في غاية الإبهام، وبإبهامه ليس قابلاً لصيرورته موضوعاً للحكم الشرعيّ، فإن أراد(قدس سره)إجراء الإطلاق في (غير) مع قطع النظر عن تحصّل مفهوم معيّن له بوقوعه صفة للمستثنى منه ومضافاً إلى الاستثناء لم يكن ذلك معقولاً؛ لما عرفت من أنّه بإبهامه لا تعقل صيرورته موضوعاً للحكم الشرعيّ. وإن أراد إجراء الإطلاق فيه بعد تحصّل مفهوم معيّن له بوقوعه صفة للمستثنى منه ومضافاً إلى المستثنى فالشكّ إنّما هو في نفس ذلك المفهوم المتعيّن، هل هو موضوع الجملة الأخيرة فقط المتّصف بكونه غير فاسق أو موضوع جميع الجمل المتّصف بكونه غير فاسق، وعلى أحد الفرضين لا يعقل رجوع الاستثناء إلى الجميع، فكيف يمكن إثبات رجوعه إلى الجميع بالإطلاق؟ هذا بلحاظ أداة الاستثناء.

وكذلك الأمر بلحاظ المستثنى، فإنّه بعد أن شككنا في المفهوم المتحصّل المتعيّن من أداة الاستثناء ولم ندر أنّه هل هو موضوع الجملة الأخيرة المتّصف بكونه غير الفسّاق أو هو موضوع تمام الجمل المتّصف بذلك لم يعقل إجراء الإطلاق في المستثنى، فإنّه على أحد الفرضين يستحيل كون المستثنى الفاسق من جميع تلك الموضوعات.

وأمّا ما ذكره من أنّ إطلاق الاستثناء والمستثنى معارض بظهور ما عدا الجملة الأخيرة، فإن كان ظهوره بالعموم قدّم على الإطلاق وإلّا فهما متساويان، فيرد عليه ـ بعد تسليم إطلاق المستثنى والمستثنى منه ـ: أنّه إن بنينا على مبنى كون العبرة في التقدّم بالقرينيّة ـ كما هو الحقّ ـ فإطلاق الاستثناء والمستثنى مقدّم على ظهور ما عدا الجملة الأخيرة ولو فرض ذلك بالوضع؛ وذلك لأنّ العرف يرى ملابسات الكلام ومتعلّقاته قرينة لأصل الكلام دون العكس، فلو قال: (رأيت أسداً يرمي) يكون قوله: (يرمي) قرينة على أنّ المراد بالأسد الرجل الشجاع، لا أنّ قوله:

421

(أسداً) قرينة على أنّ المراد بــ (يرمي) رمي قطع اللحم من الفم مثلاً، وكذلك الأمر فيما نحن فيه، فإنّ الاستثناء والمستثنى قرينة بالنسبة للمستثنى منه دون العكس، فظهر: أنّ إطلاق الاستثناء والمستثنى مقدّم على إطلاق المستثنى منه وعمومه.

وإن بنينا على مبنى كون العبرة في التقدّم بالأظهريّة ـ كما ذهب إليه المحقّق العراقيّ(قدس سره) ـ فالمتعيّن كون إطلاق الاستثناء والمستثنى في عرض ظهور ما عدا الجملة الأخيرة ولو فرض بالعموم، لا تقدّم العموم عليه؛ وذلك لأنّه كما يكون الإطلاق متوقّفاً على عدم البيان المتّصل أو مطلقاً، كذلك العموم متوقّف على عدم البيان المتّصل؛ لما مضى في السابق من أنّ أداة العموم إنّما تشمل وضعاً أفراد المفهوم المتحصّل من تمام ما يكون متّصلاً بمدخوله، فظهر: أنّه لا رجحان فيما نحن فيه للعموم على الإطلاق.

وأمّا ما ذكره من عدم جريان الإطلاقين رأساً ـ لمكان الدور لا لصلاحيّة كلّ منهما للقرينيّة للآخر ـ فيرد عليه: أنّه بعد تسليم كون كلّ منهما في مرتبة واحدة لا يجري شيء منهما، لكن لا لما ذكره من عدم تماميّة مقدّمات الحكمة رأساً لمكان الدور. توضيح ذلك: أنّ بطلان الدور معناه استحالة توقّف الشيء على نفسه لا أنّه بعد أن فرض توقّفه على نفسه يستحيل وجوده في الخارج؛ لأنّه علّة نفسه وهو ليس موجوداً حتّى يوجد نفسه مثلاً، والمحقّق العراقيّ(قدس سره) سلّم توقّف الشيء على نفسه فيما نحن فيه حيث قال: إنّ الإطلاق في كلّ طرف موقوف على عدمه في الطرف الآخر، وعدمه في الطرف الآخر موقوف على الإطلاق في الطرف الأوّل، فكأنّه توهّم أنّ معنى استحالة الدور استحالة وجود ما توقّف على نفسه، مع أنّ الأمر ليس كذلك.

وبكلمة اُخرى: لو لم يعترف بالتوقّفين فلا دور، ولو اعترف بهما فقد اعترف بالدور المحال، فإنّ المحال هو نفس توقّف الشيء على نفسه، هذا.

422

وممّا ذكرنا يظهر: أنّ استحالة الدور لا تختصّ بجانب الوجود بل تجري في جانب العدم أيضاً؛ لما عرفت من أنّه ليست الاستحالة في وجود ما توقّف على نفسه، بل الاستحالة في نفس علّيّة كلّ منهما للآخر بحسب نظام العلل وترتيبها بلا فرق بين جانب الوجود والعدم، فما ذكره من الدور في جانب وجود الإطلاق ـ بدعوى أنّ الإطلاق في كلّ طرف متوقّف على عدمه في الطرف الآخر وبالعكس ـ يأتي في جانب عدمه أيضاً؛ إذ عدمه في كلّ طرف متوقّف على وجوده في الطرف الآخر وبالعكس.

والتحقيق في حلّ المغالطة: أنّ الإطلاق في كلّ طرف وإن كان معلولاً لعدمه في الطرف الآخر أو معلولاً لما يلازمه(1) ـ وهو الصحيح كما سيظهر ـ لكن هذا العدم عبارة عن عدم الإطلاق الشأنيّ، فإنّ الإطلاق في كلّ طرف بوجوده الشأنيّ ـ أي: بصدق أنّه لولا الإطلاق في الطرف الآخر لتمّ هذا الإطلاق ـ يكون مانعاً عن الإطلاق في الطرف الآخر، فنقول مثلاً: إنّ الإطلاق الشأنيّ في كلّ طرف علّة لعدم الإطلاق الفعليّ في الطرف الآخر، وعدم الإطلاق الشأنيّ في كلّ طرف علّة للإطلاق الفعليّ في الطرف الآخر، وهاتان العلّيّتان ليستا دوراً؛ لاختلاف طرفيهما.

وبكلمة اُخرى: إنّه(قدس سره) لو أراد تصوير الدور في الإطلاق الشأنيّ في كلّ طرف قلنا: إنّ ما يتوقّف على هذا الإطلاق غير ما يتوقّف عليه هذا الإطلاق، فإنّ الأوّل هو عدم الإطلاق الفعليّ في الطرف الآخر، والثاني هو عدم تماميّة مقدّمات الحكمة في ذاك الطرف في نفسه مع قطع النظر عن الطرف الآخر.

وإن أراد تصوير الدور في الإطلاق الفعليّ في كلّ طرف، فإنّه وإن كان متوقّفاً على عدم الإطلاق الشأنيّ في الطرف الآخر لكن لا عكس فلا دور؛ لأنّ عدم



(1) وهو عدم العلم الإجماليّ بكذب أحدهما.

423

الإطلاق الشأنيّ ناش من عدم تماميّة مقدّماته في نفسه.

وقرينيّة كلّ منهما بالفعل لعدم إرادة الإطلاق وإن كانت موقوفة على فعليّة الإطلاق في ذاك الطرف لكن الصلاحيّة للقرينيّة يكفي فيها الإطلاق الشأنيّ.

بل التحقيق أنّ كلا الإطلاقين ساقطان بعلّة واحدة لا بصلاحيّة قرينيّة كلّ منهما للآخر ولا بما ذكره من الدور، وتلك العلّة عبارة عن العلم الإجماليّ بكذب أحد الإطلاقين.

ولا يصحّ فيما نحن فيه دعوى صلاحيّة القرينيّة، لا بالمعنى الملازم لفعليّة القرينيّة، ولا بمعنى كون الشيء بحيث يصحّ اعتماد المتكلّم عليه عند إرادة خلاف ما هو الظاهر من الكلام لولاه:

أمّا الأوّل: فواضح، فإنّ فعليّة القرينيّة متوقّفة على تماميّة الإطلاق الفعليّ، فيلزم تماميّة الإطلاقين، وهذا خلف علمنا الإجماليّ بكذب أحدهما.

وأمّا الثاني: فلأنّ الصلاحيّة بذاك المعنى لا تكون إلّا في موردين:

أحدهما: أن نشكّ في مفهوم الكلام ويكون ذلك على أحد التقديرين قرينة، وذلك كما في المخصّص المتّصل المجمل.

وثانيهما: أن يكون الكلام مشتركاً أو يكون قد دار أمره بين الحقيقة والمجاز الراجح، بناءً على أنّ المجاز الراجح في رتبة الحقيقة، وكان الكلام على أحد التقديرين قرينة.

وما نحن فيه ليس من شيء منهما.

هذا تمام الكلام في الاستثناء المتعقّب للجمل من ناحية قابليّة نفس الأداة للرجوع إلى الجميع وعدمه.

بقي الكلام فيه من ناحية قابليّة المستثنى للرجوع إلى الجميع وعدمه، فنقول: إنّ لذلك صوراً عديدة:

الاُولى: أن يكون قابلاً للرجوع إلى الجميع، كما في قولنا: (أكرم العلماء

424

والتجّار إلّا الفسّاق). ولا إشكال في ذلك من ناحية المستثنى في إمكان الرجوعإلى الجميع والرجوع إلى خصوص الأخيرة، فإن استظهرنا ممّا مضى من البحث في أداة الاستثناء أحد الأمرين فهو، وإلّا لم يمكن التمسّك بعموم غير الأخيرة؛ للإجمال.

الثانية: أن لا يكون قابلاً للرجوع إلى الجميع، كما في قولنا: (أكرم العلماء والتجّار إلّا الجهّال) وقولنا: (أكرم العلماء والتجّار إلّا زيداً). فإنّه لا يمكن إرجاع زيد إلى كليهما ولو فرض وجود مسمّى بزيد في العلماء ووجود مسمّى بزيد في التجّار، فإنّ الموضوع له في الأعلام جزئيّ، فلا يعقل رجوعه إلى الجميع إلّا بالتأويل بأن يراد من زيد المسمّى بزيد وهذا خلاف أصالة الحقيقة.

وبكلمة اُخرى: إنّ في هذا الكلام ثلاثة احتمالات: رجوع المستثنى إلى الجميع بتأويله إلى المسمّى، ورجوعه إلى الجميع بلا تأويل، ورجوعه إلى خصوص الأخير، والأوّل منفيّ إثباتاً، والثاني منفيّ ثبوتاً فيتعيّن الثالث.

الثالثة: أن يكون المستثنى مشتركاً لفظيّاً بين معنيين: أحدهما يصحّ رجوعه إلى الجميع دون الآخر، ولم يتعيّن أحدهما بالقرينة فيثبت الإجمال بالنسبة لما قبل الأخيرة؛ لاتّصاله بما يصلح للقرينيّة بمعنى ما يصحّ للمتكلّم الاعتماد عليه عند إرادة الخلاف.

الرابعة: أن يكون المستثنى بمعناه الحقيقيّ مختصّاً بالجملة الأخيرة وبمعناه المجازيّ قابلاً للرجوع إلى الجميع، فيتعيّن الأوّل بأصالة الحقيقة ويبقى ما عدا الأخيرة على عمومه.

الخامسة: عكس الرابعة، فتجري أصالة الحقيقة ويحصل الإجمال بالنسبة إلى غير الأخيرة مع عدم القرينة على الاختصاص بها.

425

 

الكلام في تخصيص العامّ الكتابيّ بخبر الواحد

الجهة التاسعة: في أنّه هل يخصّص العامّ الكتابيّ بخبر الواحد ـ بعد تسليم تخصّص خبر الواحد بخبر الواحد ـ أو لا؟

ومرجع هذا في الحقيقة إلى البحث عن أنّ خبر الواحد المخالف لعموم الكتاب حجّة أو لا؟ فإنّه بعد تسليم حجّيّته لا إشكال في تخصيص عموم الكتاب به؛ لأنّ المفروض أنّ الخاصّ قرينة على العامّ، وإلّا لما كان يخصّص خبر الواحد بخبر الواحد، وإذا كان مرجع البحث إلى ذلك فلابدّ للقائل بجواز تخصيص العامّ الكتابيّ به من إقامة البرهان على حجّيّة هذا الخبر الواحد؛ لأنّ مقتضى الأصل عدم الحجّيّة.

 

الاستدلال على حجّيّة خبر الواحد المخالف بالأخصّيّة لعموم الكتاب:

وقد أقام المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) ثلاثة براهين على ذلك(1):

الأوّل: الإجماع على حجّيّته(2).

ويرد عليه: أنّه إن أراد من ذلك الإجماع الفتوائيّ فإفتاء جميع العلماء على ذلك ممنوع، كيف؟! وأصل حجّيّة الخبر الواحد مختلف فيه حتّى ادّعى بعض الإجماع على عدم حجّيّته.



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 366 ـ 367 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق الشيخ المشكينيّ.

(2) صريح كلام الآخوند في الكفاية هو التمسّك بسيرة الأصحاب لا الإجماع.

426

وإن أراد من ذلك الإجماع العمليّ الذي تكون العبرة فيه بعمل أصحاب الأئمّة الكاشف عن رأي المعصوم(1) فهو غير معلوم، فإنّه إن لاحظنا السامع للخبر بنفسه من الإمام(عليه السلام) فمن الواضح أنّ الخبر عنده قطعيّ الصدور، ولا إشكال في جواز تخصيص الكتاب بذلك، وإن لاحظنا مَن ليس راوياً عن الإمام(عليه السلام) بلا واسطة بل يراجع الراوي عنه، فإن كان مقلّداً له فهو إنّما يأخذ بالفتوى وليس هو الذي يخصّص الكتاب بخبر الواحد وإنّما يخصّصه مجتهده به، وإن لم يكن مقلّداً له وكان بنفسه مخصّص الكتاب بهذا الخبر فمن المحتمل أنّه كان يخصّص الكتاب بالخبر مع تحصيل القطع أو الاطمئنان بصدوره، فإنّهم كانوا متمكّنين من تحصيل القطع أو الاطمئنان بصدور كثير من الأخبار، نظير تمكّن الناس في زماننا وفي كلّ زمان من تحصيل القطع أو الاطمئنان بصدور كثير من الأخبار الصادرة من فقيه زمانهم، وأمّا الأخبار التي لم يتمكّنوا من تحصيل الاطمئنان بصدورها فلم يعلم أنّهم كانوا يخصّصون الكتاب بها.

الثاني: دلالة أدلّة حجّيّة خبر الواحد على حجّيّة الخبر المخالف لعموم الكتاب بالصراحة؛ وذلك لأنّ جميع أخبار الآحاد مخالف لعموم الكتاب إلّا ما شذّ وندر لو وجد نادراً ما لا يخالفه، فيلزم من عدم تخصيص الكتاب بخبر الواحد طرح دليل حجّيّة خبر الواحد رأساً أو في غير مورد الندرة.

ويرد عليه: أنّ هذه الدعوى ممنوعة جدّاً، بل خبر الواحد المخالف لعموم الكتاب في غاية الندرة، فإنّك إن لاحظت أخبار باب الطهارة والنجاسة الخبثيّة لم تجد منها ما يخالف عموم الكتاب؛ لعدم ورود آية في الكتاب في ذلك إلّا نادراً



(1) نعم الظاهر أنّ هذا هو المقصود كما قلنا.

427

كقوله تعالى: ﴿أَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً﴾(1)، بناءً على دلالته على طهارة الماء.

وأمّا أخبار العبادات: فلا شيء منها يخالف عموم الكتاب وإطلاقه، وقد صرّح المحقّق الخراسانيّ(قدس سره)في بحث الصحيح والأعمّ أنّ آيات العبادات لا إطلاق فيها؛ لورودها في مقام التشريع لا في مقام البيان(2).

وأمّا أخبار المعاملات: فالغالب منها غير مخالف لعموم الكتاب وإطلاقه؛ إذ لم يرد في الكتاب عموم وإطلاق في ذلك إلّا بالنسبة للبيع في قوله تعالى: ﴿أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْع﴾(3). وأمّا قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُود﴾(4) فقد حقّق في محلّه عدم دلالته على صحّة العقود وإنّما يدلّ على لزومها. وأمّا قوله تعالى: ﴿تِجَارَةً عَن تَرَاض﴾(5) فالتجارة عن تراض مختصّة بالبيع وليس غيره من المعاملات تجارة.

والخلاصة: أنّ أخبار المعاملات ليس شيء منها ينافي إطلاق الكتاب إلّا ما دلّ على بطلان بعض أقسام البيع.



(1) سورة 25 الفرقان، الآية: 48. والآية إنّما تدلّ على طهارة ماء السماء في ذاته، فلا يعدّ دليل نجاسة ماء الاستنجاء مثلاً مخصّصاً له.

(2) المقدار الوارد في الكفاية في بحث الصحيح والأعمّ هو قوله: «نعم، لابدّ في الرجوع إليه. فيما ذكر (يعني الرجوع إلى الإطلاق بناءً على الأعمّ) من كونه وارداً مورد البيان»، وكأنّ هذا إشارة إلى ما نسب إليه اُستاذنا هنا.

(3) سورة 2 البقرة، الآية: 275.

(4) سورة 5 المائدة، الآية: 1. والظاهر أنّ العقد إن كان على مباح دلّت الآية على نفوذه بالمعنى المثبت للصحّة واللزوم.

(5) سورة 4 النساء، الآية: 29.

428

وأمّا أخبار العقوبات والحدود والديات: فالغالب فيها أيضاً عدم المخالفة لعموم الكتاب؛ لعدم ورود آية في ذلك في الكتاب إلّا نادراً كآية حدّ السرقة والزنا وشرب الخمر والعبث في الأرض فساداً.

وأمّا الأخبار المفردة غير الداخلة في شيء من الأبواب الدالّة على حرمة بعض الأشياء ـ كما دلّ على حرمة التختّم بالذهب للرجال مثلاً ـ: فليس في القرآن ما يدلّ على خلافها عموماً أو إطلاقاً؛ إذ لم ترد آية تدلّ على حلّيّة كلّ شيء، وإن توهّم بعض الأساطين أنّ الآية الشريفة هكذا: (اُحلّ لكم ما في الأرض جميعاً)، وليس كذلك بل الآية الشريفة هكذا: ﴿خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾(1).

وأمّا الأخبار المفردة الدالّة على حلّيّة بعض الأشياء: فأيضاً ليس في القرآن ما يدلّ على خلافها عموماً أو إطلاقاً؛ إذ لم ترد آية تدلّ على حرمة كلّ شيء.

والخلاصة: أنّ دعوى كون أخبار الآحاد ـ إلّا ما شذّ وندر ـ مخالفةً لعموم الكتاب أو إطلاقه ممنوعة جدّاً، وصدور مثلها عن المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) غريب غايته.

الثالث ـ وهو الوجه المتعارف بين المحقّقين ـ: إطلاق دليل حجّيّة خبر الواحد الشامل للخبر المخالف لعموم الكتاب، فإنّ هذا الإطلاق مقدّم بالحكومة.

توضيح ذلك: أنّ التعارض في الحقيقة يكون بين دليل حجّيّة ظاهر الكتاب ودليل حجّيّة خبر الواحد المخالف لعموم الكتاب، ودليل حجّيّة الظاهر قد اُخذ في موضوعه عدم ورود القرينة المنفصلة على الخلاف، ولذا سلّمنا تخصيص خبر الواحد بخبر الواحد، وإطلاق دليل حجّيّة الخبر الواحد الشامل للخبر المخالف لعموم الكتاب مثبت لقرينيّته، فيرتفع موضوع دليل حجّيّة ظاهر الكتاب بالحكومة.



(1) سورة 2 البقرة، الآية: 29.

429

أقول: لايخفى أنّ الأمر في ذلك يختلف باختلاف المباني في الدليل على حجّيّة خبر الواحد والدليل على حجّيّة ظاهر الكتاب، توضيح ذلك أنّه:

إن بنينا على أنّ الدليل على حجّيّة خبر الواحد هو الإجماع فهو في محلّ الفرض منتف؛ لوقوع الخلاف بينهم في جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد وعدمه، فلا مجال لدعوى الحكومة وتخصيص الكتاب به.

وإن بنينا على أنّ الدليل على حجّيّة خبر الواحد هو السيرة العقلائيّة فلابدّ من النظر إلى دليل حجّيّة ظاهر الكتاب:

فإن بنينا على أنّ الدليل عليه أيضاً هو السيرة العقلائيّة على حجّيّة الظهور فمن الواضح عدم إمكان اجتماع سيرتين متخالفتين في مورد واحد، والموجود فيما نحن فيه هو السيرة الاُولى لا الثانية؛ لأنّ السيرة على حجّيّة الظهور مقيّدة بعدم ورود قرينة على الخلاف، والسيرة على حجّيّة خبر الواحد مثبتة للقرينة وليست مقيّدة بعدم ورود عامّ كتابيّ على خلافه، فقد انتفى موضوع دليل حجّيّة ظهور الكتاب. لكن ليس هذا من الحكومة المصطلحة؛ لأنّها عبارة عن أن ينتفي الموضوع بالتعبّد، وما نحن فيه ليس كذلك.

وإن بنينا على الاستدلال بحجّيّة ظهور القرآن بالأخبار الواردة في وجوب العمل بالقرآن ـ إذ يصدق عرفاً على العمل بظاهر القرآن أنّه عمل بالقرآن، مع البناء على أنّ دليل حجّيّة خبر الواحد هو السيرة العقلائيّة ـ فإطلاق هذه الأخبار شامل لفرض ورود خبر واحد على خلاف عموم الكتاب ورادع للسيرة الثابتة في جانب خبر الواحد في هذا الفرض.

وإن بنينا على أنّ الدليل على حجّيّة خبر الواحد هو الكتاب كآية النبأ أو السنّة، والدليل على حجّيّة الظاهر ـ وهو عموم الكتاب ـ هو السيرة العقلائيّة فالسيرة

430

مقيّدة بعدم القرينة، وذلك الخبر قرينة تعبّداً لدليل حجّيّته فتتمّ الحكومة.

وإن بنينا على أنّه تدلّ على حجّيّة ظاهر الكتاب ـ مضافاً إلى السيرة العقلائيّة ـ الأخبار الدالّة على وجوب العمل بالقرآن، والدليل على حجّيّة خبر الواحد هو الكتاب كآية النبأ، فتقع المعارضة بين إطلاق تلك الأخبار لآية النبأ في المحلّ المفروض وإطلاقها للعموم المفروض ورود خبر واحد على خلافه ويتساقطان، فنرجع إلى السيرة الدالّة على حجّيّة ظاهر الكتاب وتثبت الحكومة بالنظر إلى السيرة كما عرفت.

وإن بنينا على أنّ الدليل على حجّيّة خبر الواحد هو الأخبار فدليل حجّيّة خبر الواحد هو الخبر المتواتر؛ لأنّه لا معنى للاستدلال على حجّيّة خبر الواحد بخبر الواحد، وبنينا على أنّه تدلّ على حجّيّة ظاهر القرآن الأخبار الدالّة على وجوب العمل بالقرآن التي هي أيضاً متواترة بلا إشكال، فالمعارضة في الحقيقة واقعة بين خبرين متواترين وتعارضهما بالعموم من وجه، فيمكن أن يقال بأنّهما يتساقطان وتبقى في البين السيرة الدالّة على حجّيّة ظاهر الكتاب سليمة عن الحاكم، هذا.

ولكن التحقيق: أنّ الأخبار الدالّة على وجوب العمل بالقرآن في بعضها قيّد الحكم بما بعد الرجوع إلى أهل البيت(عليهم السلام) فيما ورد منهم في مقام بيان المراد من الكتاب والقرينة عليه، والخبر المتواتر الدالّ على حجّيّة هذا الخبر الواحد دالّ تعبّداً على قرينيّته(1) فتتمّ الحكومة، هذا.



(1) كأنّ المقصود: أنّ الخبر المتواتر الدالّ على حجّيّة خبر الواحد دليل على حجّيّة خبر القيد بما بعد الرجوع إلى أهل البيت(عليهم السلام)، فيكون خبر القيد هذا دليلاً تعبّديّاً على حجّيّة الخبر المخصّص وقرينيّته.

431

وقد تنقّح من جميع ما ذكرناه: أنّه تتمّ الحكومة على جميع المباني إلّا على مبنى انحصار دليل حجّيّة خبر الواحد بالإجماع أو السيرة العقلائيّة، فعلى هذا المبنى لا تتمّ الحكومة بل إمّا يقدّم الكتاب أو يقدّم الخبر بلا حكومة. وسوف يظهر ـ إن شاء الله ـ في بحث حجّيّة الخبر الواحد عدم انحصار دليلها في ذلك فالحكومة ثابتة.

هذا تمام الكلام في تخصيص العامّ الكتابيّ بخبر الواحد من ناحية قيام الدليل على حجّيّة خبر الواحد المخصّص للكتاب وعدمه، وقد عرفت أنّ الدليل على حجّيّته هو إطلاق دليل حجّيّة خبر الواحد.

 

شبهة ورود المقيّد الدالّ على عدم حجّيّة الخبر المخالف بالأخصّيّة لعموم الكتاب:

بقي الكلام في شيء، وهو: أنّه هل ورد لهذا الإطلاق مقيّد يدلّ على عدم حجّيّة خبر الواحد المخالف للكتاب بالأخصّيّة أو لا؟ فنقول: لم يرد شيء يتوهّم كونه مقيّداً لذلك عدا الأخبار الواردة في عدم صدور خبر مخالف للكتاب عنهم(عليهم السلام)، وأنّ ما خالف قول ربّنا فهو زخرف أو باطل أو لم نقله أو فاطرحه أو فاضرب به عرض الجدار أو نحو ذلك، فإنّ هذه الأخبار أخصّ مطلقاً من أدلّة حجّيّة خبر الواحد، وعنوان المخالفة تصدق عند الأخصّيّة ولا تختصّ بالتعارض التباينيّ والعموم من وجه. وكون الخاصّ يعدّ قرينة على العامّ لا ينافي صدق عنوان المخالفة؛ لأنّ القرينة المنفصلة لا ترفع أصل الظهور وإنّما ترفع حجّيّته، فظهور العامّ ثابت بحاله يكذّب بمدلوله الالتزاميّ ظهور الخاصّ، كما أنّ ظهور الخاصّ يكذّب بمدلوله الالتزاميّ ظهور العامّ، ولا نعني بالمتخالفين إلّا ما يكذّب كلّ واحد منهما الآخر.

432

 

وجوه الجواب عن الشبهة:

وقد اُجيب عن ذلك بوجوه:

الوجه الأوّل: ما هو المشهور بين المحقّقين ـ قدّس الله أسرارهم ـ وتقريبه: أنّ المراد بالمخالفة في هذه الأخبار هي غير المخالفة بالأخصّيّة، وذلك لمقدّمتين:

الاُولى: أنّه لا ريب ـ بحسب الفهم العرفيّ ـ أنّ هذه الأخبار آبية عن التخصيص. هكذا قالوا، ونِعْم ما قالوا، وإن لم يذكروا النكتة الفنّيّة لهذا الفهم العرفيّ.

الثانية: أ نّا نعلم إجمالاً بورود مخصّصات للكتاب، فإنّا نعلم قطعاً أنّ جميع أقسام البيع ليس صحيحاً، بل قد صدر من الشارع الحكم ببطلان بعضها، مع أنّ مقتضى إطلاق قوله تعالى: ﴿أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْع﴾ صحّة الجميع، وكذا نعلم بعدم لزوم جميع أقسام العقود، مع أنّ مقتضى إطلاق قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُود﴾ ذلك، وهكذا.

فإذا عرفت هاتين المقدّمتين قلنا: إنّه لو فرض أنّ المراد بالمخالفة في هذه الأخبار ما يشمل المخالفة بالأخصّيّة، فإن فرضنا أنّه في الحقيقة لم يصدر عنهم ما يخصّص الكتاب كان ذلك خلف ما ذكرناه في المقدّمة الثانية من العلم الإجماليّ. وإن فرضنا صدور بعض الأخبار المخصّصة للكتاب عنهم كان ذلك خلف ما مضى في المقدّمة الاُولى من عدم قابليّة تلك الأخبار للتخصيص، فعلمنا من ذلك أنّ المراد بالمخالفة في هذه الأخبار هي المخالفة بالتباين أو العموم من وجه دون التباين بالأخصّيّة.

وهذا بنفسه وإن كان نوعاً من التخصيص لكن مرادنا من عدم قابليّة هذه الأخبار للتخصيص عدم قابليّتها للتخصيص الاعتباطيّ، بأن يقال: إنّه لا يصدر عنهم ما يخالف الكتاب إلّا عدّة أخبار خاصّة لا جامع بينها خرجت اعتباطاً، لا

433

عدم قابليّتها للتخصيص بمعنى كون المراد من المخالفة فيها غير المخالفة بالأخصّيّة.

هذا غاية تقريب الوجه الأوّل المشهور بين المحقّقين، والإنصاف أنّه في غاية المتانة.

ولكن يمكن أن يقرّب بوجه أحسن، وإن شئت جعلته وجهاً فنّيّاً لما ذكروه من إباء هذه الأخبار عن التخصيص، وذلك الوجه هو أن يقال: إنّ تلك الأخبار لحنها لحن استفضاع واستنكار وبيان شناعة صدور كلام منهم على خلاف كتاب الله، وأنّهم(عليهم السلام) أنزه من أن يعارضوا كلام الله ويتكلّموا على خلاف كلامه تعالى مع أنّهم عبيده، وإنّما جاؤوا لترويج كلام الله وتبيينه وإيصاله إلى العباد، لا لمخالفة كلام الله تعالى، وهذا بنفسه قرينة على عدم شمول تلك الأخبار للمخالفة بالأخصّيّة؛ إذ بعد أن استقرّت طريقة القرآن على عدم بيان كلّ حكم من الأحكام بجميع قيوده وخصوصيّاته دفعة واحدة، بل البناء على أن تُبيَّنَ الأحكام وخصوصيّاتها وقيودها بالتدريج، لا يعدّ المخصّص الصادر عنهم(عليهم السلام) للعموم القرآنيّ من المخالفة الفضيعة لكلام الله التي ليس من شأنهم صدورها عنهم ويكونون أنزه من ذلك، بل يعدّ من البيان والتفسير لمراد الله تعالى الذي هو شأنهم(عليهم السلام)، هذا.

وما ذكرناه من الوجه له مزيّتان على الوجه الذي ذكروه:

إحداهما: أنّه لا يحتاج إلى ما ذكروه من العلم الإجماليّ، بل يكفي فيه العلم بأنّه ليس من طريقة القرآن في بيان كلّ حكم من الأحكام بيانه بجميع قيوده دفعة واحدة، ويكفي في حصول هذا العلم ملاحظة نفس القرآن الكريم؛ إذ فيه من الأحكام ما لها من الشروط والقيود منفصلة الذكر، وكذا ملاحظة السنّة القطعيّة.

ثانيتهما: أنّه يظهر ممّا ذكرناه نكتة ما ذكروه من إباء تلك الأخبار عن التخصيص، فإنّ ما يكون لحنه بيان شناعة صدور ما يخالف القرآن منهم وأنّه ليس من شأنهم ذلك ـ لكونه أمراً قبيحاً مستنكراً ـ لا يقبل التخصيص الاعتباطيّ. نعم،

434

يقبل التخصيص العنوانيّ بأن يخرج منه عنوان المخالفة بالأخصّيّة بأن يقال: إنّ هذا ليس داخلاً من أوّل الأمر في المخالفة الفضيعة المستنكرة. نعم، لو لم يكن لحنه ذلك، كما لو ورد عدم حجّيّة خبر الثقة ما لم يوجب الاطمئنان لم يكن مانع من التخصيص بذلك، بأن يُخرج عن ذلك ثقات معيّنون مثلاً.

والخلاصة: أنّه فرق بين ما لو كان لحن الكلام في مقام بيان نفس عدم حجّيّة الخبر الكذائيّ، وما لو كان في مقام بيان شناعة حجّيّته وأنّه لا ينبغي أن يكون الخبر الكذائيّ حجّة، هذا.

ويمكن أن يبيّن سقوط إطلاق هذه الأخبار بالنسبة للخبر المخالف بالأخصّيّة بوجه ثالث أدقّ من كلا الوجهين، وهو: أنّ نفس هذه الأخبار مخالفة للكتاب بالأخصّيّة، سواء قلنا بأنّ آية النبأ أو نحوها تدلّ على حجّيّة الخبر الواحد أم لا:

أمّا على الأوّل: فواضح؛ إذ آية النبأ مثلاً تشمل الخبر المخالف للكتاب، وهذه الأخبار تدلّ على عدم حجّيّة مثل هذا الخبر، فهي مخالفة لآية النبأ بالأخصّيّة. ولا يمكن جعل هذه الأخبار مختصّة بما كان ضعيفاً في نفسه سنداً مع قطع النظر عن مخالفة الكتاب، فإنّ جعل عنوان عدم الحجّيّة هو المخالفة للكتاب مع فرض عدم الحجّيّة في نفسه مع قطع النظر عن المخالفة لا معنى له.

وأمّا على الثاني: فلأنّه قد دلّت السنّة القطعيّة على حجّيّة خبر الواحد، وتلك السنّة القطعيّة داخلة في إطلاق قوله تعالى: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾، فبالآخرة دلّت الآية على الأخذ بخبر الواحد، وإطلاقها يشمل فرض المخالفة للكتاب.

فظهر: أنّه على كلا الفرضين تكون الأخبار الدالّة على طرح الخبر المخالف للكتاب مخالِفةً له بالأخصّيّة، وعلى هذا فنقول: إنّ إطلاق هذه الأخبار يدلّ على

435

عدم حجّيّة خبر المخالف للكتاب بالأخصّيّة، ونحن نعلم إجمالاً أنّ هذا الإطلاق إمّا كذب أو غير حجّة؛ لأنّه على فرض عدم كذبه تكون الأخبار المخالفة للكتاب بالأخصّيّة غير حجّة، ولا نحتمل الفرق بين هذا الخبر وباقي الأخبار المخالفة بالأخصّيّة للكتاب، بأن تكون هي غير حجّة وهذا بالخصوص حجّة؛ للقطع بوحدة الملاك لعدم الحجّيّة فيهما، وهو عدم كون صدور الخبر المخالف للكتاب عنهم من شأنهم(عليهم السلام)، ومع هذا العلم الإجماليّ نقطع بعدم حجّيّة هذا الإطلاق فتبقى باقي الأخبار المخالفة للكتاب بالأخصّيّة تحت إطلاق دليل الحجّيّة. هذا.

ومع التنزّل عمّا ذكرناه من العلم الإجماليّ نقول: إنّ إطلاق هذه الأخبار يدلّ على عدم حجّيّة الخبر المخالف للكتاب بالأخصّيّة، وإطلاق آخر له يدلّ على عدم حجّيّة هذا الإطلاق لمخالفته للكتاب بالأخصّيّة، وذلك لمكان الانحلال بالتقريب المذكور في مسألة الخبر مع الواسطة، وعندئذ لابدّ من الأخذ بالإطلاق الثاني؛ لأنّه حجّة بلا معارض، فيسقط بذلك الإطلاق الأوّل عن حجّيّته وتبقى باقي الأخبار المخالفة للكتاب بالأخصّيّة تحت إطلاق دليل الحجّيّة.

الوجه الثاني ـ من الوجوه التي ذكرت في المقام ـ: دعوى احتمال أنّ المراد من تلك الأخبار أنّ كلّ ما صدر عنهم(عليهم السلام) لا يخالف شيئاً ممّا أراد الله تعالى واقعاً من كلامه الشريف، بل ما يكون بحسب الظاهر منافياً له يكون في الحقيقة مفسّراً ومبيّناً لما أراد الله تعالى.

أقول: هذا الجواب في غاية الغرابة(1)؛ إذ هذا المعنى خلاف الظاهر جدّاً،



(1) رغم أنّه استقربه صاحب الكفاية. راجع الكفاية، ج 1، ص 367 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

436

وظاهر تلك الأخبار ما مضى من شناعة الخبر المخالف للكتاب وعدم قابليّة مثلهللحجّيّة.

الوجه الثالث: الاستشهاد على كون المراد من المخالفة غير المخالفة بالأخصّيّة بالأخبار العلاجيّة، وذلك بتقريبين:

الأوّل: ما ورد من الترجيح بموافقة القرآن ومخالفته، وتقريب الاستدلال به: أنّه لا إشكال في أنّ الترجيح فرع كون كلّ منهما عند فرض الانفراد حجّة، أي: أنّ ظاهر قول السائِل: (إذا أتانا خبران متعارضان فبأيّهما نعمل؟) أنّ العمل بكلّ واحد منهما لولا الآخر كان مفروغاً عنه، وإنّما الكلام أنّه مع فرض اجتماعهما ما هو التكليف؟ وقد رجّح الإمام(عليه السلام) بالموافقة والمخالفة للكتاب.

وأهون أنحاء المخالفة هو المخالفة بالأخصّيّة، فيعلم أنّ أحد الخبرين الذي هو مخالف للكتاب بالأخصّيّة يكون في نفسه حجّة لولا الآخر، وهو المطلوب.

والإنصاف: أنّ هذا التقريب في غاية المتانة.

الثاني: ما في مقبولة عمر بن حنظلة من تقديم الترجيح ببعض الاُمور كالأعدليّة ونحوها على الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفته، فيعلم أنّه لو فرض حديثان أحدهما مخالف للكتاب بالأخصّيّة ـ التي هي أهون أنحاء المخالفة ـ لكن كان أرجح من الآخر بترجيح مقدّم على الترجيح بالموافقة والمخالفة للكتاب قدّم على الآخر، ولو فرض عدم حجّيّة ما يخالف الكتاب بالأخصّيّة في نفسه لم يكن معنى لذلك كما هو واضح.

أقول: إنّ هذا التقريب تتوقّف تماميّته على تماميّة المقبولة سنداً ودلالةً، وسوف نذكر في محلّه ـ إن شاء الله ـ عدم تماميّتها سنداً ولا دلالة.

هذا تمام الكلام في تخصيص العامّ الكتابيّ بخبر الواحد.

ولم يبق من مباحث التخصيص سوى مبحث دوران الأمر بين التخصيص والنسخ،

437

وهذا مناسب لباب التعادل والتراجيح حيث يبحث فيه عن أنّه إذا تعارض دليلان فهل يقدّم أحدهما بنسخ أو تخصيص أو غير ذلك أو لا؟ وقد ذكر هذا المبحث ـ أعني: دوران الأمر بين التخصيص والنسخ ـ فيما نحن فيه، لكنّه ذكر أيضاً في ذاك الباب ونحن نؤخّره إلى هناك(1).

هذا تمام كلامنا في بحث العامّ والخاصّ.(1)



(1) بما أنّه(رحمه الله) لم يبحث هذا البحث هناك فنحن نبحثه هنا إن شاء الله، وذلك بالشكل التالي:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

دوران الأمر بين التخصيص والنسخ

إذا كان الخاصّ منفصلاً عن العامّ ـ ولم يكن أيضاً مقارناً له زماناً وإلّا لكان تعيّن التخصيص ممّا لا غبار عليه ـ فلا يخلو الأمر من إحدى عدّة صور:

الصورة الاُولى: أن يكون الخاصّ متأخّراً عن العامّ وقبل حضور وقت العمل به، فقد يقال: إنّه لا يمكن أن يكون الخاصّ ناسخاً؛ للزوم لغويّة المنسوخ حينما نفرض الأمر المنسوخ أمراً حقيقيّاً. نعم، يعقل ذلك في الأوامر الصوريّة الامتحانيّة.

وأورد على ذلك المحقّق النائينيّ(رحمه الله) بأنّ هذا إنّما يتمّ في القضايا الخارجيّة، أمّا الحقيقيّة (كما هو الحال في أحكام الشريعة المقدّسة) فلا مانع من نسخها بعد جعلها بزمن قليل وقبل تحقّق الموضوع؛ إذ المفروض أنّها جعلت على موضوع مقدّر الوجود. نعم، في الموقّتات كوجوب صوم شهر رمضان لا يصحّ نسخها قبل حضور الوقت(1).


(1) راجع أجود التقريرات ج 1، ص 507 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

438


وكأنّه(رحمه الله) ينظر في هذا الكلام إلى مبادئ الحكم فيقول: إنّ النسخ في القضايا الخارجيّة قبل تحقّق الموضوع يكشف ـ بعد استحالة البداء الحقيقيّ ـ عن عدم وجود المبادئ حقيقة حين الجعل، فيستحيل الجعل إلّا إذا كان جعلاً صوريّاً، وأمّا في القضايا الحقيقيّة فعدم تحقّق الموضوع صدفة خارجاً لا يعني عدم وجود المبادئ قبل تحقّقه، فإنّ المبادئ متقوّمة بالموضوع الفرضيّ، ومعنى تحقّق الحكم حقيقة قبل تحقّق الموضوع أنّ المولى يريد حقيقةً الفعل الفلانيّ على تقدير تحقّق الموضوع الفلانيّ، ولا ينافي ذلك عدم تحقّق ذاك الموضوع. نعم، نسخ الموقّت قبل وقته ينافي تحقّق المبادئ حين الجعل.

إلّا أنّ السيّد الخوئيّ(رحمه الله) أورد على ذلك بأنّ صدور الحكم من المولى بداعي البعث مع علمه بعدم تحقّق الموضوع قبل النسخ غير معقول. وقد صرّح المحقّق النائينيّ(رحمه الله) نفسه في عدّة موارد بأنّ امتناع فعليّة الحكم يستلزم امتناع جعله. نعم، حينما يتّفق أنّ نفس الحكم يسبّب عدم فعليّة الموضوع كما في جعل القصاص والديات والحدود ليس عدم تحقّق الموضوع المسبّب عن الحكم موجباً لعدم معقوليّة الحكم، كيف وغرض الجعل هو ذلك، أمّا في غير ذلك فلا يعقل جعل الحكم ونسخه قبل تحقّق الموضوع، فالخاصّ يحمل على التخصيص دون النسخ بلا إشكال(1).

أقول: إنّ ما يقال: من عدم معقوليّة النسخ قبل حضور العمل ـ للزوم لغويّة الجعل ـ تارة: يقصد به مجرّد لغويّة الجعل بمعناه الساذج وهو عدم ترتّب أثر وثمرة على الجعل، على حدّ ما يقال: من أنّ صدور اللغو من العاقل مستحيل أو قبيح. واُخرى: يقصد به أنّ


(1) راجع المحاضرات للشيّخ الفيّاض، ج 5، ص 317 ـ 318 بحسب طبعة مطبعة صدر بقم.

439


الحكم متقوّم بمبادئه، والنسخ قبل وقت العمل يكشف عن عدم المبادئ وعدم الحبّ والبغض، ومع عدم الحبّ والبغض لا يتعقّل حكم. وثالثة: يقصد به أنّ الحكم متقوّم بقصد البعث والتحريك، والنسخ يكشف عن عدم ذلك، ومع عدم داعويّة البعث لا يعقل الحكم:

فإن قصد الثاني: فمن الواضح صحّة كلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في التفصيل بين القضايا الخارجيّة والحقيقيّة.

وإن قصد الثالث: فقد يتخيّل أنّ كلام السيّد الخوئيّ(رحمه الله) هو الصحيح؛ إذ لا معنى لداعويّة البعث مع العلم بأنّ الحكم قبل أن يؤثّر أثره في البعث سينسخ، فلا يتعقّل الحكم من دون فرق بين القضايا الخارجيّة والحقيقيّة.

إلّا أنّ الصحيح أنّه على هذا الفرض أيضاً لا يتمّ كلامه(رحمه الله)؛ وذلك لأنّ داعي التحريك في القضايا الحقيقيّة تقديريّ على حدّ تقديريّة مبادئ الحكم فيها، فلو قال: (أكرم العالم إن جاءك) فكما أنّ المصلحة في الإكرام وحبّه يكونان على تقدير مجيء العالم كذلك التحريك يكون على هذا التقدير، فالحكم واجد لمقوّمه حتّى لو لم يجئه العالم إلى الأخير، ولذا ترى صحّة الحكم الذي يسبّب انتفاء موضوعه كما في الحدود والديات والقصاص حتّى لو سبّب انتفاءه إطلاقاً، وما ذكره السيّد الخوئيّ(رحمه الله) من أنّ هذه الأحكام صدرت لهدف إفناء موضوعها صحيح، ولكن هذا لا ينفي كون قوام الحكم على أيّ حال بالباعثيّة نحو متعلّقه ولا معنى لحكم بلا باعثيّة نحو المتعلّق، فنسأل ما هي الباعثيّة في هذه الأحكام لو قدّر أنّها سبّبت انتفاء موضوعها إلى الأبد؟ أفليست هي الباعثيّة التقديريّة، وهي المناسب لكون القضيّة في ذاتها حقيقيّة وتقديريّة؟!

وإن قصد الأوّل: فقد يقال بصحّة ما ذكره السيّد الخوئيّ(رحمه الله)؛ إذ حتّى لو كانت القضيّة

440


حقيقيّة فجعلها مع عدم تحقّق موضوعها قبل النسخ لغو صرف؛ لعدم ترتّب أيّ فائدة عليه فيسقط باللغويّة، رغم الاعتراف بكون الجعل كاشفاً حقيقة عن روح الحكم وهو الحبّ ومستبطناً لما به قوام الحكم بنحو القضيّة الحقيقيّة من الباعثيّة التقديريّة.

إلّا أنّه يمكن أيضاً افتراض مصلحة في نفس إبراز الحكم بوجوب إكرام العالم عند مجيئه مثلاً أو جَعلِه كتوضيح عظمة العالم أو غير ذلك، وهذا لا يعني خروج الحكم عن تبعيّته للمصلحة في المجعول أو خروجه عن كونه حكماً حقيقة، فإنّ روح الحكم لا زال تابعاً للمصلحة في المجعول.

كما بودّي الإلفات إلى أنّ الأوامر الامتحانيّة أيضاً بالإمكان أن تكون أوامر حقيقيّة لا صوريّة، بأن تكون المصلحة في كون المكلّف مُلزَماً لا في محض الجعل.

وعلى أيّ حال فلو كان الحديث عن محض اللغويّة ـ بمعنى عدم ترتّب الفائدة ـ لا عن عدم معقوليّة الحكم ـ لكونه متقوّماً بالحبّ أو بالباعثيّة ـ فهذا الحديث لا أثر له فيما نحن فيه إطلاقاً؛ لأنّ الكلام إنّما هو فيما إذا ورد عامّ ثمّ ورد خاصّ مخالف له قبل حضور وقت العمل، فلو فرض أنّ حمله على النسخ يعني لغويّة جعل الحكم ثبوتاً بالنسبة لمقدار موضوع الخاصّ فيتعيّن التخصيص أمكن أن يقال في التخصيص أيضاً بلغويّة إبراز عموم الحكم لمقدار موضوع الخاصّ، وبأيّ وجه يجاب عن اللغويّة هناك يجاب به هنا، فإمّا أن يقال: إنّ إبراز الحكم بنحو العموم لم يكن يستبطن مؤونة زائدة على إبرازه بنحو الخصوص حتّى يقال بعدم صدورها من العاقل لغواً، وكذلك يقال: إنّ جعل الحكم بنحو العموم لم يكن يستبطن مؤونة زائدة على جعله بنحو الخصوص، وإمّا أن تفرض مصلحة في هذا الإبراز وكذلك تفرض مصلحة في ذاك الجعل مع الاحتفاظ بأنّ روح الجعل تابعة

441


للمصلحة في المجعول وأنّ الحكم قد جعل حقيقة لا صورة؛ لما وضّحناه من ثبوت الحبّ والباعثيّة بالنحو المناسب للقضايا الحقيقيّة.

ومن هنا اتّضح: أنّ الذي يفيدنا في المقام ـ كبرهان على بطلان النسخ ـ إنّما هو إثبات أنّ النسخ يستوجب فقدان مقوّم الحكم من الحبّ أو الباعثيّة لا أنّه يستوجب محض اللغويّة، وبما أنّك عرفت أنّ النسخ في المقام لا يستوجب فقدان الحكم لمقوّمه، إذن يبقى احتمال النسخ قائماً.

بل يمكن أن يقال بتقديم النسخ على التخصيص؛ لأنّ التخصيص خلاف أصالة العموم، والنسخ إمّا هو خلاف الإطلاق الأزمانيّ فيتقدّم على التخصيص بناء على أنّ العموم متقدّم على الإطلاق، وإمّا أنّه ليس خلافاً للعموم ولا للإطلاق بناءً على كون حقيقة النسخ رفع الجعل، وأنّ الجعل لا ينظر إلى الأزمان بل يجعل ذات الحكم ويبقى إلى أن ينسخ.

والصحيح هو: أنّ نفس ورود المخصّص قبل زمان العمل بالعامّ يعطي للمخصّص ظهوراً في كونه بروح التخصيص وبروح النظر إلى الزمان السابق، لا بروح النسخ وبروح النظر إلى زمان صدوره فما بعد، فنفس استبعاد النسخ عرفاً قبل زمان العمل ـ رغم إمكانه بالدقّة العقليّة كما مضى ـ يعطي للمخصّص ظهوراً في التخصيص، فليس المخصّص مجملاً مردّداً بين التخصيص والنسخ حتّى يوجب إيقاع التعارض في داخل العامّ بين العموم الأفراديّ والإطلاق الأزمانيّ مثلاً، ويقدّم العموم أو يتعيّن النسخ باعتباره غير مخالف للعموم ولا للإطلاق فيبقى العموم بلا معارض.

الصورة الثانية: أن يكون الخاصّ متأخّراً عن العامّ ووارداً بعد حضور وقت العمل بالعامّ، وهذا يمتاز عن الصورة الاُولى بوضوح إمكانيّة النسخ وعدم المحذور العقليّ فيه