فرض كونه مأموراً به أو محبوباً بملاك التمرين لا بنفس ملاكات صلاة البالغ.
ولا بأس بهذه المناسبة أن أتكلّم عمّا إذا بلغ الصبيّ في أثناء الوقت بعد الصلاة أو في أثنائها. فقد يقال بعدم وجوب الإعادة والاستيناف؛ وذلك بدعوى: أنّ تقييد الهيئة بالبلوغ لا يستلزم تقييد المادّة به، بناءً على أنّ فعليّة الوجوب لا تسقط بالامتثال وإنّما تسقط فاعليّته. فمقتضى إطلاق المادّة أنّه إذا بلغ في أثناء الوقت فقد وجب عليه مطلق الصلاة فيما بين الحدّين وقد أتى بها، فلا فاعليّة لهذا الوجوب من حين تكوّنه، ونحن نؤمن بأنّ تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادّة فيما إذا لم يتصوّر معنى معقول لانسحاب الوجوب على تلك الحصّة من المادّة المقترنة بفقدان القيد، وذلك كما في فرض عدم البلوغ إلى انتهاء الوقت.
وتوضيح المقصود: أنّه تارةً نفترض أنّ الوجوب أو مفاد الأمر يدخل في حقيقته قابليّة التحريك، بمعنى أن يكون محرّكاً لكلّ من هو مستعدّ للامتثال. وعليه فتقييد الهيئة يسري إلى المادّة دائماً ولا يمكن عدم السراية؛ إذ لو لم يسر إليها وأتى العبد بالمادّة قبل حصول القيد، كان إطلاق المادّة مساوقاً لفقدان الأمر لفاعليّته من حين وجوده، وهذا خلف كون التحريك أو قابليّة التحريك داخلا في حقيقة مفاد الأمر وهويّته. وبناءً على هذا فمقتضى القاعدة عدم اجتزاء الصبيّ إذا بلغ في أثناء الوقت بصلاته قبل بلوغه.
واُخرى نفترض أنّ الداخل في حقيقة الأمر هو عبارة عن قابليّته للتحريك على تقدير عدم كون العبد قد أتى بالفعل قبل الأمر. وعلى هذا فمتى ما كان عدم سراية قيد الهيئة إلى المادّة موجباً لسقوط الأمر عن قابليّة التحريك، حتّى على تقدير عدم كون العبد قد أتى بالفعل قبل الأمر، فلا محالة يسري القيد إلى المادّة، وذلك كما في فرض عدم البلوغ إلى انتهاء الوقت، فإنّه لو بلغ بعد ذلك في خارج الوقت لم يكن الأمر بالصلاة السابقة قابلا
←
لتحريكه حتّى على تقدير عدم إتيانه بالفعل قبل الأمر.
وهذا بخلاف ما لو بلغ في أثناء الوقت، فإنّ أمره بالصلاة مع عدم سريان قيد الهيئة ـ وهو البلوغ ـ إلى المادّة قابلٌ لتحريكه على تقدير عدم إتيانه بالفعل قبل الأمر، فإذا اكتفينا بهذا المقدار من قابليّة التحريك في حقيقة الأمر تأتّى القول بسقوط الصلاة عمّن صلّى ثُمّ بلغ في أثناء الوقت، وعدم وجوب الاستيناف عليه لو بلغ في أثناء الصلاة.
إلاّ أنّ هذا الكلام لو صحّ ثبوتاً ـ أي: صحّ القول بكفاية هذا المقدار من قابليّة التحريك في حقيقة الأمر ـ فلا ينبغي الإشكال في ظهور الأمر عرفاً في كون المطلوب صلاة جديدة غير ما صلاّها سابقاً في فرضين:
الأوّل: لو كان الأمر بالصلاة متوجّهاً بنحو القضيّة الخارجيّة إلى من يعلم المولى أنّه قد صلّى قبل هذا الأمر.
الثاني: لو لم يحدّد المولى للفعل المأمور به وقتاً خاصّاً كما لو قال: (إذا بلغت فصلّ)أو (إذا استطعت فحجّ)، فلا إشكال في ظهور ذلك في وجوب صلاة وحجٍّ بعد البلوغ والاستطاعة ولو صلّى أو حجّ قبل ذلك، وهذا يعني أنّ سريان القيد من الهيئة إلى المادّة في هذا الفرض عرفيّ على أقلّ تقدير.
نعم، لو حدّد المولى وقت العمل بفترة كان بعضها واقعاً قبل تحقّق القيد، فقد يدّعى عدم ظهور الأمر في إرادة خصوص الفرد الذي يتحقّق بعد القيد، وذلك كما هو الواقع بالنسبة للصلاة التي حدّد وقتها بما بين الحدّين، فإذا بلغ في الأثناء فقد وقع بعض الوقت قبل البلوغ، فلو استظهرنا في هذا الفرض إطلاق المادّة لم يجب على الصبيّ الإعادة. ولو قلنا بالإجمال أيضاً لم يجب عليه الإعادة؛ وذلك لجريان البراءة مع فرض الإجمال.
ثُمّ إنّ السيّد الخوئيّ(رحمه الله) ذكر ـ على ما في تقرير الشيخ الفيّاض ـ: أنّه لا يمكن إثبات
←
شرعيّة عبادة الصبيّ بعموم أدلّة التشريع، بدعوى: أنّ حديث رفع القلم ـ باعتباره امتنانيّاً ـ إنّما رفع الإلزام والوجوب، فأصل المحبوبيّة باقية على حالها؛ وذلك لأنّ الاعتبار المستفاد من الأمر بعد أن ارتفع بحديث الرفع لم يبق ما نستكشف به المشروعيّة والمحبوبيّة، فهذا يحتاج إلى دليل جديد.
أقول: إنّ هذا الكلام في غاية المتانة بناءً على مبنانا من كون الوجوب مفاداً للأمر. أمّا على مبناه من أنّ الأمر إنّما يدلّ على مطلق اعتبار الفعل في ذمّة المكلّف، وأنّ الوجوب ينتزعه العقل لو لم يقترن الأمر بالترخيص في الخلاف، فمن المحتمل كون هذا الرفع الامتنانيّ ناظراً إلى رفع الوجوب دون رفع أصل الاعتبار.
ولا يقال: إنّ الوجوب غير قابل للرفع باعتباره غير شرعيّ بحسب الفرض.
فإنّه يقال: إنّ الوجوب قابل للرفع بإفناء منشأ انتزاعه، ومنشأ انتزاعه عبارة عن مجموع أمرين: أحدهما الأمر بالفعل، والثاني عدم الترخيص في الخلاف. والقدر المتيقّن هو إفناء الثاني، فنتمسّك بإطلاق دليل الأمر في إثبات أصل المشروعيّة والمحبوبيّة مع الجزم بعدم الوجوب.
فإن قلت: إنّ التعبير برفع القلم ينصرف إلى رفع قلم التشريع، والمشرَّع إنّما هو الأمر لا الوجوب على ما هو المفروض من أنّ الوجوب أمر ينتزعه العقل.
قلت: كون المشرَّع إنّما هو الأمر وعدم كون الوجوب مشرَّعاً وإن كان صحيحاً فلسفيّاً وعقليّاً بحسب مبنى السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، ولكن يُفترض عرفاً الوجوب كأنّه شيء جاء من قِبَل الشريعة، وكأنّ القلم كتب الوجوب علينا عن طريق مجموع أمرين: أحدهما الأمر، والثاني عدم الترخيص، ويكون التعبير عن رفع الوجوب برفع القلم عرفيّاً ومعقولا.
إذا كرّر الأمر بشيء مع وحدة الشروط فهل يحمل على التأكيد، فلا يأتي العبد بالفعل إلاّ مرّة واحدة، أو على التأسيس، فيأتي العبد بالفعل مرّتين؟
ذكر صاحب الكفاية(رحمه الله): أنّه يقع التعارض بين ظهور الهيئة وظهور المادّة؛ فإنّ الهيئة ظاهرة في وجوب جديد، بينما المادّة بإطلاقها تقتضي كون الواجب هو ذات الطبيعة لا بقيد مرّة اُخرى، ويستحيل اجتماع أمرين على ذات الطبيعة، فهذا يوجب التأكيد. والنتيجة في المقام هي الحمل على التأكيد تطبيقاً لظهور المادّة؛ لأنّ الهيئة حينما تكرّرت بشكل متماثل ـ والتكرار المتماثل يناسب التأكيد ـ أصبحت(1) مجملة من حيث التأسيس والتأكيد، فيرجع إلى ظهور المادّة في كون المأمور به ذات الطبيعة، فيثبت التأكيد.
أقول: إنّ تحقيق الكلام في هذا المقام هو أنّ هيئة الأمر إنّما تدلّ على الوجوب، ولا تدلّ على أنّ هذا الوجوب تأسيس لا تأكيد؛ فإنّها لم توضع لخصوص وجوب لم يُكشَف قبل ذلك، ولهذا لو أمر شخص عبده بشيء كان قد أمره به قبل ذلك لأجل التأكيد لم يكن ذلك استعمالا مجازيّاً. نعم، قد يقال بدلالة سياقيّة وحاليّة للمتكلّم ـ بلحاظ حال المتكلّم ـ على كونه في مقام التأسيس
(1) يقول صاحب الكفاية(رحمه الله): أصبحت ظاهرة في التأكيد، ولعلّ مقصوده أنّها تفسَّر بظهور المادّة.
لا التأكيد، وذلك حينما يصدر من المتكلّم كلام مشتمل على جملتين، والجملة الثانية تنسجم مع معنى تأسيسيّ ومع تأكيد نفس الجملة الاُولى، وكانت نسبتها إليهما على حدّ سواء، فحينئذ يقال: إنّ الكلام ظاهر في التأسيس بدلالة سياقيّة؛ لأنّ التأكيد حالة استثنائيّة.
وهذا الكلام لا يمكن تطبيقه على المقام، فإنّ الأمر الثاني إمّا أن يُذكر متّصلاً بالأمر الأوّل بحيث يمكن عطفه عليه بالواو، أو يذكر منفصلا عنه، فإن ذُكر منفصلا عنه لم يكن له ظهور في التأسيس في مقابل الأمر الأوّل باعتبار ذلك الظهور الحاليّ؛ وذلك لأنّ ظهور حال المتكلّم إنّما هو التأسيس بلحاظ كلام واحد لا بلحاظ كلامين. وهذا ثابت في المقام، فإنّ هذا الأمر بلحاظ هذا الكلام تأسيس وليس تأكيداً.
وإن ذُكر متّصلاً به فإن عطفه عليه بالواو كان نفس العطف بالواو قرينة على التأسيس. وإن لم يعطفه عليه بالواو كان نفس عدم العطف بالواو قرينة عرفاً على التأكيد، حيث إنّ هذا اُسلوب متّبع عند العرف للتأكيد، وهو ذكر ما يناسب كونه تأكيداً لما سبق وترك العطف، ومتى ما كان كذلك يحمل عرفاً على التأكيد.
فقد تحصّل في المقام: أنّ الصحيح هو الحمل على التأكيد.
مباحث الألفاظ
3
وفيه فصول:
النواهي
الفصل الأوّل
ويقع البحث فيها من جهات:
مفاد صيغة النهي:
الجهة الاُولى: في مفاد صيغة النهي.
قد اشتهر في لسان جملة من الاُصوليّين: أنّ النهي والأمر مفادهما الطلب، إلاّ أنّ الأمر هو طلبٌ للفعل والنهي طلبٌ للترك.
وقد اشتهر في لسان جملة من المتأخّرين رفض كون الفرق بين الأمر والنهي في المتعلّق مع اتّحادهما في أصل معنى الطلب، وقالوا: إنّ هناك تبايناً بين مفادي الأمر والنهي غير راجع إلى اختلاف المتعلّقين.
وبإمكاننا تصنيف كلمات الرافضين لكون النهي كالأمر إلى ثلاث كلمات: الاُولى ما نسبه السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ إلى مشهور المعترضين على الرأي السابق. والثانية رأي السيّد الاُستاذ نفسه. والثالثة كلمتنا في المقام:
أمّا الكلمة الاُولى: فهي عبارة عن أنّ الأمر يدلّ على طلب الطبيعة والتحريك نحوها، والنهي يدلّ على الزجر عن الطبيعة والتبعيد عنها.
وهذا الكلام إن كان المقصود به مجرّد الإتيان بفرضيّة معقولة اُخرى في قبال ما قالوه: من أنّ مفاد النهي كالأمر هو الطلب وأنّ الفرق في المتعلّق، فهو أمر معقول كما سيتّضح، ولكنّه غير مشتمل على البرهان على المقصود. وإن كان المقصود به الاستدلال على رفض كون مفاد النهي هو الطلب، فلا يوجد في هذا المقدار من البيان دليل على ذلك، إلاّ إذا قصد الاستدلال بالوجدان العرفيّ واللغويّ، وهو صحيح إضافةً إلى ما سيأتي إن شاء الله من المنبّهات لهذا الوجدان.
والسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ علّق على هذا الرأي بأنّ هذا غير معقول؛ لأنّه إن قُصد بالتحريك والزجر التحريك والزجر التكوينيّان الحاصلان بمثل اليد، فمن الواضح عدم دلالة الأمر والنهي عليهما. وإن قُصد بهما التحريك والزجر التشريعيّان، فالأمر بنفسه تحريك تشريعيّ، والنهي بنفسه زجر تشريعيّ، فإنّ المولى بما هو مولى يحرّك بالأمر، ويزجر بالنهي، فلا معنى لافتراض أنّ الأمر يدلّ على التحريك، والنهي يدلّ على الزجر، بل هما مصداقان للتحريك والزجر، فيجب أن يكون مدلولهما شيئاً آخر به يتحقّق التحريك والزجر.
أقول: كأنّ هذا الكلام انسياق مع مبانيه ـ دامت بركاته ـ في الوضع، حيث ذهب إلى أنّ الوضع عبارة عن التعهّد، وتفرّع على ذلك القول بأنّ الوضع هو منشأ الدلالة التصديقيّة الموجودة في الجملة التامّة، وعليه يقال في المقام: إنّ الأمر والنهي لو كان مدلولهما اللغويّ التحريك والزجر كان معنى ذلك أنّ الأمر والنهي يدلاّن دلالة تصديقيّة على التحريك والزجر، أي: إنّها يكشفان عن التحريك والزجر، في حين أنّهما لا يكشفان عن التحريك والزجر التكوينيّين كما هو واضح، ولا التشريعيّين؛ لأنّهما بنفسهما مصداق للتحريك والزجر التشريعيّين لا كاشف عنهما.
أمّا على ما هو المشهور المختار من كون الوضع موجباً للدلالة التصوريّة فحسب، وأمّا الدلالة التصديقيّة فهي وليدة السياق وحال المتكلّم ومناسبات الحكم والموضوع، فمادّة الأمر والنهي تدلّ دلالة تصوريّة على معنى اسميّ، وهيئتهما تدلّ على النسبة التي هي معنى حرفيّ، أي: تدلّ على النسبة التحريكيّة التكوينيّة والنسبة الزجريّة التكوينيّة، بمعنى إخطار ذلك في الذهن لا الكشف(1)،
(1) مضى منّا في بحث مفاد هيئة الجمل: أنّ مفاد هيئة الأمر والنهي عبارة عن نسبة بعثيّة أو زجريّة تامّة ذات ثلاثة أطراف: الباعث أو الزاجر من ناحية، والمبعوث أو المزجور من ناحية اُخرى، والمبعوث إليه أو المزجور عنه من ناحية ثالثة، فراجع.
ثُمّ نحن نعرف بمناسبة الحكم والموضوع وبلحاظ حال المتكلّم أنّ الأمر كان بداعي التحريك التشريعيّ، والنهي كان بداعي الزجر التشريعيّ. وهذه فرضيّة معقولة لصالح اختلاف النهي عن الأمر في المفاد من دون فرض فرق في المتعلّق.
وأمّا الكلمة الثانية ـ وهي ما ذكره السيّد الاُستاذ دامت بركاته ـ: فهي أنّ الأمر يدلّ على اعتبار الفعل في ذمّة المكلّف، والنهي يدلّ على اعتبار حرمان المكلّف عن الفعل وابتعاده عنه، لا على اعتبار تركه في ذمّته، والشاهد على ذلك ـ بناءً على مسلك العدليّة من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ـ أنّ الأمر يتبع مصلحة في الفعل، فالمناسب هو اعتبار الفعل في الذمّة؛ لأنّ مركز الغرض هو الفعل. والنهي يتبع مفسدة في الفعل، فالفعل هو مركز الملاك والمبغوضيّة وليس الترك هو مركز الغرض، فالمناسب هو اعتبار حرمان المكلّف عن الفعل دون اعتبار الترك في ذمّته.
أقول: أمّا أصل كون مدلول الأمر والنهي هو الاعتبار بغضّ النظر عن أنّ متعلّق الاعتبار هل هو الترك أو الحرمان من الفعل، فهذا منسجم أيضاً مع مسلك كون الدلالة التصديقيّة مدلولا وضعيّاً للكلام. وقد مضى في محلّه توضيح أنّ المدلول الوضعيّ للأمر والنهي ليس هو الاعتبار وإن كان قد يُستظهر الاعتبار بدلالة سياقيّة وحاليّة. وهناك بعض الشواهد على ذلك، من قبيل: أنّ فكرة الاعتبار فكرة معقّدة لا تنسجم مع الدلالة الوضعيّة للأمر والنهي التي هي أبسط وأوضح تصوّراً بكثير من ذلك، وأنّ صيغة الأمر كما تصدر من العالي إلى الداني كذلك تصدر من الداني إلى العالي، فنحن نقول: (يا ربّنا اغفر لنا)، في حين أنّه لا يخطر ببالنا افتراض جعل شيء في ذمّة الله تعالى أو اعتباره فيها، فغاية الأمر أنّ الاعتبار وجعل الشيء في ذمّة المأمور به قد يستكشف من سياق وظهور حال ومناسبات، لا أنّ ذلك داخل في المدلول اللغويّ للأمر والنهي.
وأمّا الاستدلال على كون مفاد النهي هو اعتبار الحرمان من الفعل لا اعتبار الترك بمذهب العدليّة، فيرد عليه:
أوّلا: أنّنا نتكلّم في الوضع اللغويّ الثابت قبل تكوّن الإسلام ووجود أشاعرة وعدليّة، فما معنى الاستدلال على المدلول الوضعيّ بمذهب العدليّة؟!
وثانياً: فلتكن النواهي تابعة لمفسدة في الفعل، فالمولى يهدف للتوصّل إلى نقيض تلك المفسدة، وهذا كما يمكن باعتبار الحرمان كذلك يمكن باعتبار الترك في ذمّة المكلّف، فليس هذا دليلا على أنّ مفاد النهي هو اعتبار الحرمان من الفعل دون اعتبار الترك.
وغاية ما يمكن أن يقال هي: دعوى كون اعتبار الحرمان أنسب في المقام، ولكن متى صارت الأنسبيّة في الوضع دليلا على تعيين الوضع؟! فلعلّ الواضع ـ مثلا ـ لم يكن ملتفتاً إلى هذه الأنسبيّة التي التُفت إليها في المقام.
وأمّا الكلمة الثالثة: فهي أنّ ما ذُكر في الكلمة الاُولى من أنّ النهي يختلف عن الأمر في أنّ الأمر يدلّ على طلب الفعل والنهي يدلّ على الزجر عن الفعل، مطلب صحيح، وتوضيحه: أنّ النهي له مادّة وله هيئة، ومادّته تدلّ على الطبيعة، وهيئته تدلّ على النسبة الزجريّة. كما أنّ الأمر تدلّ مادّته على الطبيعة وهيئته على النسبة التحريكيّة، هذا بلحاظ الدلالة التصوّريّة. وأمّا بلحاظ الدلالة التصديقيّة الناشئة من ظهور الحال ومناسبات الحكم والموضوع، فالأمر يكشف عن داعي التحريك، والنهي يكشف عن داعي الزجر والمنع.
فعلى كلا المستويين ـ أعني: مستوى الدلالة التصوّريّة والتصديقيّة ـ يكون الفرق بين الأمر والنهي هو الفرق بين الطلب والزجر. ويدلّ على ذلك الوجدان العرفيّ واللغويّ، وهناك بعض المنبّهات لهذا الوجدان:
منها: أنّنا لو قلنا: إنّ النهي يدلّ على الزجر عن الطبيعة كان مدلول النهي مؤتلفاً
من عنصرين: عنصر اسميّ وهو الطبيعة، وعنصر حرفيّ وهو النسبة الزجريّة الثابتة بين الزاجر والمنزجر والطبيعة. وكذلك في نفس صيغة النهي يوجد عنصران يقابل كلّ منها واحداً من عنصري المدلول، وهما المادّة والهيئة، فالمادّة تدلّ على المعنى الاسميّ وهي الطبيعة، والهيئة تدلّ على المعنى الحرفيّ وهي النسبة الزجريّة.
أمّا لو فرضنا أنّ النهي يدلّ على طلب ترك الطبيعة، فإضافةً إلى عنصر الطبيعة التي تدلّ عليها المادّة، وعنصر النسبة الطلبيّة التي تدلّ عليها الهيئة يوجد عنصرٌ ثالث وهو الترك، وهو بحاجة إلى دالّ:
فإن فُرض الدالّ عليه أمراً ثالثاً غير المادّة والهيئة، فلا يوجد لدينا أمر ثالث غيرهما. وإن فُرض الدالّ عليه المادّة، فإن كان المفروض دلالة المادّة على الترك من باب الاستعمال، فمن أوضح الواضحات أنّ مادّة الصلاة في (لا تصلّ) مثلا لا تستعمل في ترك الصلاة. وإن كان المفروض دلالتها على الترك من باب الفناء والمرآتيّة، فأيضاً من الواضح أنّ الطبيعة إنّما تفنى في أفرادها الوجوديّة لا في عدمها.
وإن فُرض الدالّ عليه الهيئة كان معنى ذلك أنّ الهيئة تدلّ على معنى حرفيّ، وهي النسبة الطلبيّة مع طرفها الاسميّ وهو الترك، وهذا ممّا لا يُعهد في الحروف والهيئات.
أضف إلى ذلك: أنّ الترك منسوب ـ بنسبة ناقصة ـ إلى الطبيعة، وهذه النسبة الناقصة أيضاً بحاجة إلى دالّ عليها، إلاّ أن يقال: إنّ نفس تلك الهيئة دالّة عليها، وهذا يعني أنّ تلك الهيئة قد دلّت على نسبتين مع معنى اسميّ كان طرفاً لإحداهما، وهذا غريب في أوضاع الحروف والهيئات.
ومنها: أنّه قد ينهى عن الترك فيقال: (لا تترك)، فلو كان مفاد النهي عبارة عن طلب ترك الطبيعة لكان معنى (لا تترك): اترك الترك، في حين أنّنا لا نحسّ عرفاً
في (لا تترك) بحزازة تعليق الترك بالترك المحسوسة عرفاً في: (اترك الترك).
ومنها: أنّ (لا تفعل) صيغة للنهي وكلمة النهي مادّة له، أي: إنّنا لا نشكّ بحسب فهمنا العرفيّ أنّ هيئة النهي تدلّ على نفس معنى مادّة النهي بفرق: أنّ الاُولى في صياغة حرفيّة والثانية في صياغة اسميّة، فمادّة النهي ـ كما في: (نهيتك) ـ إن كانت دالّة على طلب الترك صحّ أن تكون هيئة النهي أيضاً دالّة على النسبة الطلبيّة، في حين أنّه لا ينبغي توهّم كون مادّة النهي معناها طلب الترك.
وينبّه على ذلك: أنّ مادّة النهي تتعدّى بـ (عن) فيقال: (النهي عن شرب الخمر) مثلا، بخلاف الطلب أو طلب الترك، فلا يقال مثلا: (طلب الترك عن شرب الخمر).
الشموليّة في إطلاق النهي والبدليّة في إطلاق الأمر:
الجهة الثانية: في كون الإطلاق في النهي شموليّاً انحلاليّاً وفي الأمر بدليّاً.
قد ذكر المشهور: أنّ الأمر يدلّ على طلب الطبيعة بنحو الإطلاق البدليّ، ولكن إطلاق النهي يكون شموليّاً انحلاليّاً.
ومن هنا يقع الكلام في أنّه كيف اختلف الإطلاق في النهي منه في الأمر، فصار في النهي شموليّاً وفي الأمر بدليّاً، في حين أنّ الدالّ على الإطلاق في كليهما واحد وهو مقدّمات الحكمة؟
وقد ذكر السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ(1) في تفسير ذلك: أنّ الفرق ينشأ من مقدّمة عقليّة خاصّة، وأمّا ذات مقدّمات الحكمة فنتيجتها في كلّ الموارد واحدة، وهي جامع الإطلاق من دون تعيين كونه شموليّاً أو بدليّاً، فالشموليّة والبدليّة إنّما تفهم دائماً من مقدّمة خاصّة اُخرى.
فمثلا في متعلّق الأمر من قبيل قوله: (صلّ) توجد ثلاثة احتمالات: كون الواجب هو صِرف وجود الصلاة على شكل الإطلاق البدليّ، وكونه كلّ الصلوات على شكل الإطلاق الشموليّ، وكونه مجموعة معيّنة من الصلوات كعشرين صلاةً في عشرين بيتاً مثلا. والاحتمال الثالث منفيّ بمقدّمات الحكمة المشتركة في الإطلاقين الشموليّ والبدليّ؛ لأنّ خصوصيّة تلك المجموعة بحاجة إلى البيان ولم يبيّن، والمفروض أنّه بصدد البيان، فيبقى الأمر دائراً بين الاحتمالين الأوّلين.
وهنا يأتي دور المقدّمة الفعليّة المعيّنة للاحتمال الأوّل، وهي: أنّ إيجاب كلّ الصلوات على المكلّف غير معقول؛ لأنّه غير قادر على الإتيان بكلّ الصلوات
(1) راجع المحاضرات للفيّاض، ج 4، ص 97 - 114.
خاصّة وأنّ فيما بينها أفراد متضادّة، كالصلاة في المسجد مع الصلاة في البيت في وقت واحد، فينحصر الأمر في الاحتمال الأوّل وهو وجوب صِرف الوجود على شكل الإطلاق البدليّ.
وهذا بخلاف باب النهي كـ (لا تكذب) فقوله مثلا: (لا تكذب)، أيضاً فيه احتمالات ثلاثة: كون الحرام كلّ كذب بنحو الإطلاق الشموليّ، وكون الحرام كذباً واحداً على سبيل البدل، أي: إنّه لو ترك كذباً واحداً لكفى وجاز له الإتيان بكلّ كذب آخر، وكون الحرام مجموعة معيّنة من الأكاذيب كالكذب على الله ورسوله، أو الكذب في حال الصوم. والاحتمال الثالث منفيٌّ بالإطلاق ومقدّمات الحكمة المشتركة؛ لأنّ دخل خصوصيّة تلك المجموعة من الأكاذيب بحاجة إلى البيان ولم يبيّن، فيدور الأمر بين الاحتمالين الأوّلين.
وهنا يأتي دور المقدّمة العقليّة المعيّنة للاحتمال الأوّل والنافية للاحتمال الثاني، وهي أنّ تحريم كذب واحد غير معقول؛ إذ لا يوجد أحدٌ يستطيع أن يكذب كلّ كذبة، فترك بعض أفراد الكذب حاصل قهراً، فتعيّن بذلك احتمال الإطلاق الشموليّ.
وفيما أسماه السيّد الاُستاذ بموضوع الأحكام الوضعيّة من قبيل: ﴿أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْع﴾قال دامت بركاته: هنا أيضاً توجد فيه ثلاثة احتمالات: كون المقصود تنفيذ أحد البيوع على سبيل الإطلاق البدليّ، وكونه تنفيذ كلّ البيوع على سبيل الإطلاق الشموليّ، وكونه تنفيذ مجموعة معيّنة من البيوع كالبيع العقديّ. والثالث منفيٌّ بمقدّمات الحكمة، والأوّل غير محتمل؛ إذ لا معنى لتنفيذ أحد البيوع، فيتعيّن الإطلاق الشموليّ.
أقول: إنّ هذا الكلام ترد عليه عدّة إشكالات نذكر منها هنا إشكالين:
الأوّل: أنّ في مثل (صلّ) لا مانع من الإطلاق الشموليّ، وكونه غير قادر على جميع أفراد الصلاة لا يعيّن الإطلاق البدليّ:
أمّا على مسلكه(رحمه الله) من أنّ القدرة دخيلة في التنجيز لا في التكليف ـ وإن كان
فيما أعلم لم يفرّع في علم الاُصول عليه شيئاً ـ فغاية الأمر أنّه لا يتنجّز عليه إلاّ المقدار المقدور.
وأمّا على القول بأنّ القدرة شرط في التكليف فليكن مفاد (صلّ) وجوب كلّ الصلوات بنحو الإطلاق الشموليّ لكن في دائرة ما هو المقدور. ولتكن القرينة على خصوصيّة القدرة التقييد اللبّيّ الذي هو كالمتّصل، وهو عدم إمكان تعلّق التكليف بغير المقدور، فلم يتعيّن الإطلاق البدليّ.
الثاني: أنّ هناك بعض الإطلاقات التي لا توجد معها مقدّمة عقليّة خاصّة تدلّ على نفي الإطلاق البدليّ أو الشموليّ ليتعيّن الآخر، ومع ذلك يكون أحدهما متعيّناً بلا إشكال ممّا يكشف عن وجود نكتة اُخرى لتعيين البدليّة أو الشموليّة وراء ما ذكره السيّد الاُستاذ دامت بركاته، فالإطلاق في موضوع الحكم التكليفيّ في مثل: (أكرم العالم) أو: (أكرم العلماء) لا إشكال في شموليّته، مع أنّ الجمع المحلّى باللام ـ فضلا عن المفرد المحلّى باللام ـ لا يدلّ على العموم لغة، في حين أنّ الإطلاق البدليّ معقول في المقام، ولذا يصحّ أن يقول: (أكرم عالماً)، مع أنّ الإطلاق فيه بدليّ(1).
(1) وأيضاً: إنّ كلام السيد الخوئيّ(رحمه الله) في المقام لا يخلو من تشويش، فهل المقصود بالشموليّة التي أثبتها في باب النواهي في مقابل البدليّة التي أثبتها في باب الأوامر ما ينسجم مع المجموعيّة، أو المقصود بها خصوص الانحلاليّة، وأنّ النهي لا يسقط بالمعصية كما أنّ الأمر يسقط بها، فلو عصاه مرّة واحدة ـ مثلا ـ لم تجز له المخالفة مرّة اُخرى؟ فإن كان المقصود هو الأوّل فهذا أجنبيّ عن الهدف الأصليّ من هذا البحث، وهو إثبات الانحلال وتعدّد المحرّمات في النهي. وإن كان المقصود هو الثاني فما أفاده لا يثبته؛ فإنّ غاية ما تثبته القرينة العقليّة التي ذكرها ـ وهي أنّ ترك فرد مّا ضروريّ من كلّ أحد ـ هي الشموليّة بالمعنى الجامع بين فرض الانحلال وفرض المجموعيّة.
وأمّا تحقيق حقيقة الحال في المقام فقد مضى منّا مفصّلا في مبحث الأوامر في بحث المرّة والتكرار، ونذكره هنا مختصراً فنقول: إنّ الشموليّة والبدليّة على قسمين:
أحدهما: الشموليّة والبدليّة المدلول عليها باللفظ والتي تكون داخلة في مدلول الكلام، وهذا هو الشموليّة والبدليّة العموميّة التي تكون مدلولا عليها بأداة العموم، من قبيل: أكرم كلّ عالم، وأيّ عالم شئت، وهذا خارج عن محلّ الكلام، فإنّ هذه البدليّة والشموليّة لا تكونان من شؤون مقدّمات الحكمة حتّى يأتي الإشكال المتقدّم.
والثاني: الشموليّة والبدليّة في موارد الإطلاق ومقدّمات الحكمة من دون أداة عموم، وهذا هو الداخل في محلّ الكلام، وقد نشأ الإشكال هنا من تخيّل أنّ الشموليّة والبدليّة هنا كالشموليّة والبدليّة في القسم الأوّل في أنّهما من مداليل الكلام، فيقال: كيف أوجبت المقدّمات ظهوراً في البدليّة تارة وفي الشموليّة اُخرى، إلاّ أنّ الصحيح أنّ الشموليّة والبدليّة خارجة عن مدلول الكلام؛ فإنّ مدلول الكلام بمقدّمات الحكمة لا يتجاوز عن أنّ موضوع الحكم أو متعلّقة هو ذات الطبيعة بلا قيد زائد، وذلك بأن يقال: إنّ موضوع الحكم أو متعلّقه لو كان هو الطبيعة مع قيد زائد لكان على المولى أن ينصب قرينة على القيد الزائد، ولم ينصب قرينة وهو في مقام البيان، فلابدّ أن يكون تمام مراده هو ما ذكره وهو الطبيعة، غاية الأمر أنّ هذا الحكم المتعلّق بالطبيعة يختلف في مقام الانحلال والتطبيق: فتارة يُفرض أنّه قابل للتكثّر في مقام التطبيق، واُخرى يُفرض أنّه غير قابل للتكثّر، فالأوّل هو الشموليّة، والثاني هو البدليّة.
وتوضيح ذلك: أنّ الحبّ له موضوع وله متعلّق، وهناك فارق بين الموضوع والمتعلّق، وهو: أنّ الموضوع دائماً يُرى مفروغاً عنه قبل الحكم، بينما المتعلّق
يُرى من تبعات الحكم، فمثلا في (أكرم العالم) الموضوع ـ وهو العالم ـ يُرى مفروغاً عنه قبل الوجوب، بينما الإكرام لا يُرى مفروغاً عنه قبل الوجوب(1)، وإلاّ لزم تحصيل الحاصل.
والطرف الذي يُرى مفروغاً عنه وموجوداً قبل الحكم ـ وهو الموضوع ـ يتكثّر وينحلّ لا محالة بعدد فعليّة أفراده في الخارج، وبقدر ما يكون الموضوع فعليّاً يكون الحكم فعليّاً؛ لتبعيّة فعليّة الحكم لفعليّة الموضوع.
وأمّا في طرف المتعلّقات فالقاعدة تقتضي العكس؛ فإنّه لم يفرض وجوده خارجاً، بل الإكرام يوجد بنفس وجوب الإكرام، وعليه لا معنى لأن يصبح فعليّاً بعدد فعليّات المتعلّق. ومن هنا يكون الأصل في المتعلّقات البدليّة، والأصل في الموضوعات الشموليّة.
ويستثنى ممّا ذكرنا في طرف الموضوع ما إذا نُوّن الموضوع فقيل: (أكرم عالماً)، فإنّ التنوين يدلّ على قيد الوحدة ومعه لا يمكن الانحلال. ويستثنى ممّا ذكرناه في طرف المتعلّق النهي؛ لأنّ غلبة نشوئه من المفسدة وغلبة انحلاليّة المفسدة قرينةٌ توجب للكلام ظهوراً في إرادة النهي بعدد أفراد المتعلّق بنحو الانحلال.
وقد ذكر السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ هذه القرينة وأورد عليها بإيرادين:
(1) مضى منّا في بحث الأوامر ـ بحث المرّة والتكرار ـ فرقٌ بين الموضوع الواقع في سياق الأمر والموضوع الواقع في سياق النهي، وهو أنّ الموضوع في باب النواهي يكون عادةً قيداً للمتعلّق لا موضوعاً مقدّر الوجود، كما هو الحال في الأوامر، وتكون نكتة انحلال النهي بلحاظ أفراد الموضوع هي نفس نكتة انحلاله بلحاظ المتعلّق، لا نكتة كون الموضوع مفروض الوجود، فراجع.
الأوّل: أنّ نشوء النهي من المفسدة إنّما هو على مذهب العدليّة من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد، أمّا على مسلك الأشاعرة فما معنى غلبة نشوء النهي من المفسدة؟!
الثاني: أنّنا لا نستطيع أن نعرف أنّ الملاك انحلاليّ إلاّ إذا كان الحكم انحلاليّاً، وحينئذ كيف يمكن أن نثبت انحلاليّة الحكم بانحلاليّة الملاك؟(1).
وكلا الإيرادين لا يمكن المساعدة عليهما؛ لأنّ الكلام إنّما هو في الظهور العرفيّ اللغويّ للكلمة، والنزاع بين الأشاعرة والعدليّة إنّما هو في الأحكام الشرعيّة بلحاظ ملاكاتها، أمّا تبعيّة نواهي الناس وأوامرهم للمصالح والمفاسد فهي واضحة حتّى عند الأشاعرة، والظهور العرفيّ ينشأ من غلبة كون النهي ناشئاً من المفسدة ولو عند العرف. هذا هو الجواب عن الإيراد الأوّل.
وبه يندفع الإيراد الثاني أيضاً؛ فإنّنا لا نريد أن ندّعي ـ بغضّ النظر عن انحلال النهي ـ انحلال ملاكات الشارع، بل ندّعي أنّ ملاكاتنا نحن الناس تكون انحلاليّة غالباً، وهذه الغلبة بنفسها تكون قرينة عرفيّة لظهور الكلام في الانحلاليّة والشموليّة، وكلّ ظهور في كلام الإنسان العرفيّ يثبت في كلام الشارع أيضاً(2).
وبما ذكرنا ظهر السرّ في بقاء النهي بعد صدور العصيان والامتثال وسقوط
(1) راجع المحاضرات للفيّاض، ج 4، ص 95 ـ 97.
(2) غفل السيّد الخوئيّ(رحمه الله) عن أنّ منشأ الظهور في المقام كون المفسدة في نواهي الناس في كلّ فرد فرد من أفراد المتعلّق، وفرض في أصل تقريب الفرق بين الأمر والنهي مجرّد أنّ الأمر دلّ على أنّ المصلحة قائمة بصرف وجود الطبيعة وفي النهي بمطلق وجودها؛ لعدم قرينة على اختصاص المبغوضيّة بالوجود الأوّل، ولذا أورد على ذلك بالإشكالين.
الأمر بالعصيان والامتثال، وهو انحلال النهي إلى أحكام عديدة، فلها امتثالات عديدة وعصيانات عديدة بخلاف الأمر.
كما ظهر بما ذكرناه أنّ ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من إمكان إثبات بقاء النهي بعد العصيان بالتمسّك بإطلاق المادّة، فقوله: (لا تشرب الخمر) يدلّ على حرمة شرب الخمر حتّى الشرب الذي يكون قبله شرب(1)، غير صحيح؛ لأنّ إطلاق المتعلّق الثابت بمقدّمات الحكمة لايقتضي أكثر من متعلّقيّة ذات الطبيعة، وأمّا كون هذا النهي استغراقيّاً أو انحلاليّاً فيحتاج إلى قرينة اُخرى، وبقاء النهي إنّما هو من تبعات هذا الانحلال ولايفي به مجرّد إطلاق المتعلّق.
(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 233 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات المشكينيّ في حواشي الكتاب.
الفرق العقليّ بين الأمر والنهي من جهة الامتثال والعصيان:
الجهة الثالثة: أنّه لو فرضنا أنّ النهي كان نهياً واحداً وغضضنا النظر عن قرينة الانحلال، أو فرضنا سقوطها بقرينة اُخرى فأصبح النهي كالأمر في كونه حكماً واحداً، بقي هنا فرق عقليّ بين النهي والأمر من ناحية الامتثال والعصيان، وهو أنّ الأمر يُمتثل بإتيان فرد واحد ولايُعصى إلاّ بترك كلّ الأفراد، والنهي لا يُمتثل إلاّ بترك كلّ الأفراد ويُعصى بالإتيان بفرد واحد، وبه يسقط النهي فيجوز ارتكاب باقي الأفراد، وذلك لما اشتهر بينهم من أنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد ولا تنعدم إلاّ بانعدام كلّ الافراد.
وهذا فارق عقليّ في مقام الامتثال والعصيان غير الفارق الذي مضى في الجهة الثانية الراجع إلى مسألة الانحلال وعدمه. وبهذا التمييز بين الجهتين اتّضح بعض الأخطاء، من قبيل ما جاء في تقرير المحقّق العراقيّ(رحمه الله) من تعليل سقوط الأمر بالعصيان وعدم سقوط النهي به، بأنّ الطبيعة لا تنعدم إلاّ بانعدام كلّ أفرادها وتوجد بوجود فرد واحد(1).
فقد عرفت أنّ كون الطبيعة لا تنعدم إلاّ بانعدام كلّ الأفراد أجنبيّ عن عدم سقوط النهي بالعصيان، ومرتبط بالجهة الثالثة. ولولا الانحلال لسقط النهي بالعصيان بالفرد الأوّل، ومع الانحلال لا يسقط النهي نهائيّاً بعصيان بعض أفراده؛ لأنّه في الحقيقة نواه عديدة وله امتثالات وعصيانات عديدة وكلّ نهي يسقط بعصيانه هو.
واستشكل المحقّقون المتأخّرون عن صاحب الكفاية فيما كان يقوله المشهور:
(1) راجع نهاية الأفكار مباحث الألفاظ طبعة جماعة المدرّسين بقم، ص 406.