قد وقع الإشكال أيضاً في تصوير الوجوب الكفائيّ من قبيل الإشكال الذي وقع في تصوير الوجوب التخييريّ، حيث يقال: إنّه كيف يجتمع الوجوب مع جواز الترك؛ إذ الواجب الكفائيّ يجوز تركه على كلّ واحد من المكلّفين عند إتيان الآخرين به.
ولتحقيق حال الوجوب الكفائيّ ندرس أربع فرضيّات:
1 ـ فرض تعلّق الوجوب بجميع المكلّفين بأن يكون على كلّ واحد منهم وجوب مستقلّ.
2 ـ فرض تعلّق الوجوب بمجموع المكلّفين بأن يكون هناك وجوب واحد متعلّق بالمجموع.
3 ـ فرض تعلّق الوجوب بالجامع بين المكلّفين، أو بكلمة اُخرى: يكون الوجوب متوجّهاً إلى صرف الوجود.
4 ـ فرض عدم الموضوع لهذا الوجوب بأن يجب ـ مثلا ـ تحقّق غسل الميّت من دون أن يكون هذا الحكم متوجّهاً إلى أحد من المكلّفين.
والوجوب الكفائيّ يتمتّع بثلاث خصائص مفروغ عنها فقهيّاً وعقلائيّاً:
الأوّل: أنّه لو أتى به واحد سقط عن الباقين.
الثاني: أنّه لو تركه الجميع عمداً عوقب الجميع.
الثالث: أنّه لو كان الفعل قابلا للتكرار من قِبَل أشخاص متعدّدين مع التقارن،
فأتى به عديدون متقارنين كانوا ممتثلين، فلا يقال: إنّه مادام الفعل قد قام به عديدون، إذن لم يتحقّق الامتثال. ولو لم يكن قابلا للتكرار ـ كقتل حيوان مفترس مثلا ـ ولكن تعاون على فعله عديدون إلى أن حقّقوه بمجموعهم كانوا أيضاً ممتثلين، فلا يقال: مادام الفعل قد تعاون عليه عديدون ولم يستقلّ به واحد لم يحصل الامتثال.
فكلّ فرضيّة من الفرضيّات الأربع يجب أن ندرسها على هُدى هذه الخصائص الثلاث، أي: يجب أن نرى في كلّ فرضيّة من هذه الفرضيّات ـ بعد فرض معقوليّتها في نفسها ـ أنّها هل تفي بهذه الخصائص الثلاث أو لا، فنقول:
أمّا الفرضيّة الاُولى ـ وهي: تعلّق الوجوب بالجميع ـ: فتصويرها يكون بإحدى صيغ أربع:
الصيغة الاُولى: أن يكون على عهدة كلّ واحد من المكلّفين بنحو الوجوب المطلق أن يُؤتى بالفعل بنحو المبنيّ للمفعول، أي: أن يجب على كلّ واحد منهم أن يغسَّل الميّت ـ مثلا ـ لا أن يغسِّله. وبتعبير آخر: يجب على كلّ واحد منهم تحقّق الجامع بين فعله وفعل الآخرين.
وقد ذكرنا في بحث التعبّديّ والتوصّليّ: أنّ وجوب الجامع بين فعل الشخص وفعل غيره عليه أمر معقول؛ لأنّ الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور. وهذا الشكل الثاني يفي بكلّ الخصائص الثلاث بكلّ وضوح:
أمّا الخصيصة الاُولى ـ وهي: أنّه لو فعله شخص سقط عن الآخرين ـ فلأنّه قد وقع على العهدة تحقّق الفعل، وقد حصل.
وأمّا الخصيصة الثانية ـ وهي: أنّه لو ترك الجميع عوقب الجميع ـ فلأنّ الوجوب ثابت على الجميع، وقد خالفوا.
وأمّا الخصيصة الثالثة ـ وهي: حصول الامتثال عند إتيان أشخاص عديدين
بالفعل بنحو التقارن أو تعاونهم على فعل واحد ـ فلأنّ الواجب كان هو حصول الفعل وتحقّقه خارجاً بأيّ نحو اتّفق، وقد حصل ذلك.
الصيغة الثانية: أن يجب على كلّ مكلّف فعل هذا الواجب مشروطاً بترك الآخرين.
وقد اُورد على ذلك بإيرادين:
الإيراد الأوّل: أنّه لو فُرض هنا ملاك واحد في كلا الفعلين فالملاك الواحد يستدعي وجوباً واحداً مطلقاً لا وجوبين مشروطين. وإن فُرض ملاكان لا يجتمعان فتعدّد الملاك إنّما يعقل حينما يعقل تعدّد الفعل كالصلاة على الميّت، أمّا فيما لا يتعدّد كتغسيل الميّت فلا معنى لتعدّد الملاك.
والجواب على هذا الإيراد سهل، فمن أجوبته: أنّنا نفترض تعدّد الملاك بعدد الفعل، حيث إنّ النتيجة ومعنى الاسم المصدريّ وإن كان طبيعة واحدة لكنّه حينما يلحظ جانب الصدور يكون الفعل متعدّداً بتعدّد الأشخاص، فالغسل الصادر من زيد غير الغسل الصادر من عمرو، فيمكن افتراض وجود ملاكات عديدة بعدد الأفعال لا يمكن اجتماعها، فتولّدت وجوبات مشروطة(1).
(1) كما يمكن الجواب أيضاً بفرض ملاك واحد موجود في أصل صدور الفعل من أحد المكلّفين بنحو صرف الوجود، ولكن كان الملاك مهمّاً بنحو أراد المولى أن يجعله على عهدة كلّ واحد منهم لكي يضمن بشكل أقوى تحقّقه، أو لم يرد المولى تخصيص ثقل تحصيله ببعض المكلّفين دون بعض؛ لما في جعله بنحو الوجوب الكفائيّ من الإرفاق بالمكلّفين، أو أنّه لم تكن نكتة لتخصيص ثقل تحصيله ببعض المكلّفين بعد أن كانت نسبته إليهم على حدّ سواء، فلا بأس بتعدّد الخطاب بعدد المكلّفين بنحو الخطاب المشروط مثلا.
←
الإيراد الثاني: أنّه لو وجب على كلّ واحد منهما الفعل مشروطاً بترك الآخر فلو فعلا معاً لم يحصل الامتثال؛ لعدم حصول شرط الوجوب أصلا، بينما ليس الأمر كذلك كما بيّنّا في الخصيصة الثالثة.
وهذا الإيراد مسجّل في المقام. ولا يمكن قياس المقام بالوجوب التخييريّ، فإنّه في الوجوب التخييريّ أمكن فرض مجموع الفعلين عدلا ثالثاً، فهو مخيّر بين هذا الفعل وحده وذاك وحده ومجموعهما، بينما في المقام لا يمكن فرض مجموع المكلّفين مكلّفاً ثالثاً يوجّه إليه الخطاب المشروط(1).
الصيغة الثالثة: أن يقال ما هو من قبيل ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) في الوجوب التخييريّ، وذلك بأن يفرض تعدّد الملاك، وأنّ مجموع الملاكين تزاحم مع مصلحة التسهيل، فأوجبت مصلحة التسهيل ترخيص كلّ واحد منهما في الترك بشرط فعل الآخر، بل لا حاجة إلى فرض مصلحة التسهيل، فبالإمكان أن يُفرض أنّ كلّ واحد من الملاكين ليس بدرجة الإلزام وبنحو يكون فوته مؤذياً للمولى إلى حدّ يوجب حفظه، لكن فوتهما معاً تتحقّق فيه تلك الدرجة من الخسارة والأذيّة التي لا يريدها المولى. وهذا أمر عرفيّ يتّفق في حياتنا الاعتياديّة، فطلب المولى
ويمكن الجواب أيضاً بافتراض أنّ الملاك وإن كان واحداً بالنوع لكنّه كان موجوداً في فعل كلّ المكلّفين بنحو الاستغراق لا بنحو صرف الوجود، وعندئذ كان يُترقّب إيجاب الفعل على كلّ المكلّفين بنحو الوجوب المطلق والعينيّ، ولكنّ المولى عدل إلى الوجوب المشروط إرفاقاً بالمكلّفين لأجل مصلحة التسهيل.
(1) ولا يمكن أن يقال: إنّ الحكم في حقّ كلّ واحد منهم مشروط بعدم سبق الآخر عليه؛ إذ من الواضح أنّه إذا علم أحدهما أنّ الآخر سوف يأتي بالعمل في آخر الوقت جاز له أن لا يفعل.
الفعل من كلّ واحد منهما ورخّص في نفس الوقت كلّ واحد منهما في الترك بشرط فعل الآخر.
وهذه صياغة معقولة على مسلك المحقّق النائينيّ(رحمه الله): من كون مفاد الأمر هو الطلب، وأنّ الوجوب والاستحباب منتزع بحكم العقل من الطلب عند عدم اقتران الترخيص في الخلاف به أو اقترانه، فيقال في المقام: إنّه لو رخّص في الخلاف لكلا المكلّفين مطلقاً انتزع منه الاستحباب، ولو لم يرخّص في الخلاف أصلا انتزع منه الوجوب العينيّ، ولو رخّص كلّ واحد منهما في الخلاف بشرط فعل الآخر انتزع منه الوجوب الكفائيّ.
وحينئذ إذا فعله أحدهما سقط عن الآخر؛ لأنّه مرخّص في تركه على تقدير أن يفعله صاحبه وقد فعل. وإذا فعلاه معاً فقد امتثل كلاهما الطلب. وإذا تركاه معاً عوقبا؛ لأنّ ترخيص كلّ واحد منهما في الترك كان مشروطاً بفعل الآخر ولم يتحقّق.
نعم، بناءً على أنّ الوجوب والاستحباب من مفاد نفس الأمر لا يتمّ هذا الوجه، فإنّه لو فُرض توجّه الأمر الوجوبيّ إلى كلّ واحد من المكلّفين متعلّقاً بالإتيان بهذا الفعل، فإن كان الأمران مطلقين فلا معنى للترخيص في مخالفة الأمر الوجوبيّ المطلق، وإن كانا مشروطين رجع إلى الصياغة السابقة.
الصيغة الرابعة: ما يكون بديلا عن الصيغة الثالثة، حيث لم تتمّ على رأي المشهور: من كون الوجوب والاستحباب داخلين في مفاد الأمر، فيقال: بما أنّ مجموع الملاكين زاحم مصلحة التسهيل، أو أنّ كلّ واحد منهما كان بمقدار يتحمّل المولى ضرر فوته، لكنّه لا يتحمّل ضرر فوتهما معاً، فالمولى حرّم على كلّ واحد من المكلّفين بعض حصص الترك وهو الترك المقترن بترك الآخرين، فلو تركوا جميعاً عوقبوا؛ لأنّهم أتوا بتلك الحصّة من الترك المنهيّ عنها. ولو فعله أحدهم لم
يعاقب الآخرون؛ لأنّهم لم يتركوا تركاً مقترناً بترك غيرهم. ولو فعلوا جميعاً معاً فقد امتثلوا؛ لأنّهم لم يأتوا بتلك الحصّة من الترك. ولعلّ لسان الإيجاب الكفائيّ صياغة عرفيّة لإيصال هذه التحريمات، أعني: تحريم الترك الجمعيّ على كلّ واحد منهم، أو إيجاب سدّ بعض أبواب العدم وهو العدم المقترن بترك الآخرين.
وأمّا الفرضيّة الثانيةـ وهي: تعلّق الوجوب بمجموع المكلّفين ـ: فلذلك تصويران:
التصوير الأوّل: أن يُفرض تعلّق الأمر بالمجموع، بمعنى كون المطلوب اشتراك تمام الأفراد في تلك العمليّة الواحدة، من قبيل الأمر المتوجّه إلى مجموع عشرة أشخاص بدحرجة حجر ثقيل لا يمكن لأحدهم وحده دحرجته مثلا. وهذا مرجعه بحسب الحقيقة إلى توجّه أمر إلى الجميع على نحو الاستغراق لا المجموعيّة، إلاّ أنّ المأمور به ليس هو ذلك الفعل ـ وهو دحرجة الحجر مثلا ـ بل المساهمة في ذلك الفعل، فالمأمور به في مثال دحرجة الحجر هو دفع كلّ واحد منهم هذا الحجر بحسب قدرته، لكي تتجمّع قوى الدفع على هذا الحجر فيتدحرج من مكانه.
والوجوب الكفائيّ لا يمكن تفسيره بهذا التفسير، فإنّه:
أوّلا: قد يكون الفعل الواجب ممّا لا يمكن اشتراك المكلّفين جميعاً فيه، فلئن كان الدفن ـ مثلا ـ بالإمكان اشتراك عديدين فيه، فالصلاة على الميّت ـ مثلا ـ لا يمكن ذلك فيها بأن يأتي كلّ واحد منهم بجزء من الصلاة مثلا.
وثانياً: أنّه حتّى فيما يُفرض إمكان اشتراك الكلّ فيه، لو أتى به بعض سقط عن الكلّ لا محالة ولم يكن عليهم عقاب، بينما مقتضى هذا الوجه خلاف ذلك؛ إذ المطلوب كان اشتراك كلّ واحد منهم في العمليّة ولم يتحقّق ذلك.
التصوير الثاني: أن يُفرض تعلّق الأمر بمركّب ارتباطيّ يكون كلّ واحد من المكلّفين جزءاً من هذا المركّب الارتباطيّ قياساً على متعلّقات الحكم الارتباطيّة، من قبيل تعلّق الوجوب بالصلاة التي هي بالرغم من تعدّد ما فيها من
أعمال وتشتّتها توجد لها وحدة اعتباريّة تجتمع وتتركّب فيها كلّ الأجزاء.
وهذا التصوير أيضاً غير صحيح؛ فإنّ العمل الواحد المركّب الاعتباريّ يمكن تحريك العبد نحوه، ولكن تحريك الواحد الاعتباريّ ـ وهو المجموع المركّب ـ غير معقول، وإنّما التحريك يكون دائماً لواقع الآحاد، أمّا المجموع بما هو مجموع فلا يحرّك ولا يبعث ولا يزجر ولا يعاقب ولا يثاب.
وأمّا الفرضيّة الثالثة ـ وهي: فرض تعلّق التكليف بصرف الوجود من المكلّفين، قياساً للمكلّف بالمتعلّق الذي قد يكون صرف الوجود، كما في (أكرم عالماً) ـ: فهي أيضاً غير معقولة؛ فإنّ صِرف الوجود في المتعلّق إمّا يكون بمعنى أوّل الوجود، أو يكون بمعنى أحد الأفراد، وكذلك في المكلّف لو أردنا فرضه بنحو صِرف الوجود يجب تقييده بأوّل الوجود أو بعنوان أحدها، وإلاّ انتشر الحكم على كلّ المكلّفين على نحو الاستغراق ومطلق الوجود. وكلّ واحد من التقييدين غير محتمل في المقام: أمّا التقييد الأوّل وهو التقييد بأوّل الوجود، فسواءٌ اُريد به أوّل من تولّد من المكلّفين، أو اُريد به أوّل من اطّلع من المكلّفين على الموضوع، أو أيّ معنى آخر، من الواضح أنّه غير مقصود؛ فإنّ نسبة الوجوب الكفائيّ إلى آخر الأفراد كنسبته إلى أوّل الأفراد(1).
وأمّا التقييد الثاني وهو التقييد بأحد الأفراد فغير معقول؛ إذ فرقٌ بين التحريك نحو عنوان أحد الاُمور وبين تحريك عنوان أحد الأفراد، فالتحريك نحو عنوان
(1) ولا يمكن أن يقال في المقام: إنّه يجب على أوّل من يوجده، كما يمكن أن يقال في المتعلّق: إنّه يجب أوّل ما يوجده؛ إذ يلزم من ذلك أنّه لو لم يوجده أحد لم يكن أحد مكلّفاً به ولم يعاقب أحد، في حين أنّه لا يلزم نظير ذلك في المتعلّق بأن يقال: إنّه لو لم يوجد شيئاً لزم عدم وجوب شيء عليه؛ وذلك لأنّ قيد أوّل ما يوجده كان مأخوذاً في متعلّق الحكم لا في موضوع الحكم، وكلّ قيد يؤخذ في متعلّق الحكم يكون بذاته تحت الطلب.
أحد الاُمور معقول بلا حاجة إلى فرض سريان الحكم إلى أفراد تلك الاُمور؛ فإنّ المكلّف المطيع حينما رأى نفسه مكلّفاً بعنوان أحد الاُمور فهو لا محالة يختار فرداً من تلك الأفراد لكي يكون محقِّقاً لعنوان أحد الاُمور.
أمّا الإيجاب على عنوان أحد المكلّفين وإشغال ذمّته فلا أثر له؛ إذ هل يُفرض هذا الإيجاب وإشغال الذمّة واقفاً على عنوان أحد المكلّفين من دون أن يسري إلى واقع أفراد المكلّفين، أو يُفرض سريان ذلك إلى أفراد المكلّفين بفناء هذا العنوان في الأفراد مثلا؟ فإن فُرض الأوّل فهذا لا يحرّك واقع أفراد المكلّفين. وإن فُرض الثاني فهل يسري الحكم وإشغال الذمّة إلى كلّ الأفراد أو إلى فرد معيّن أو إلى فرد مردّد؟ والكلّ غير معقول؛ إذ لو سرى إلى كلّ الأفراد لانقلب إلى الوجوب العينيّ، ولو سرى إلى فرد معيّن كان ترجيحاً بلا مرجّح، والفرد المردّد لا وجود له.
نعم، يبقى أن يُدّعى أنّ الحكم وإشغال الذمّة الشرعيّ يقف على عنوان أحدهم، ولكنّ العقل يحكم على أفراد المكلّفين بوجوب إفراغ ذمّة ذاك العنوان، ولزوم الإتيان بما أوجب المولى على ذاك العنوان إيصالا للمولى إلى ما أراد.
وهذه دعوى إن صحّت لأحوجتنا إلى تصوير آخر للوجوب الكفائيّ غير هذا التصوير؛ لأنّ هذا الوجوب العقليّ كفائيّ لا محالة، بينما هذا التصوير لم يفسّر لنا كفائيّة هذا الوجوب الذي جاء من قِبَل العقل، فلابدّ من تصويره بإحدى الصور الاُخرى لكي يختلف عن اللزوم العينيّ في كنهه أو في متعلّقه أو في إطلاقه، وإلاّ لكان لزاماً على الجميع أن يأتوا جميعاً بما اُوجِبَ على عنوان أحدهم وهو خلف. فعلى الأقلّ يتبرهن بذلك أنّ تصوير الوجوب الكفائيّ غير منحصر بهذا النحو من التصوير(1).
(1) ومن الغريب ما اختاره السيّد الخوئيّ(رحمه الله) في تقرير الفيّاض: من إرجاع الوجوب الكفائيّ إلى الوجوب على صرف الوجود، ودعوى انحصار تصوير الوجوب الكفائيّ بذلك بإبطال باقي الوجوه الاُخرى المتصوّرة في نظره.
وأمّا الفرضيّة الرابعة ـ وهي: فرض تعلّق الحكم بذات الفعل من دون توجّه إلى مكلّف أصلا ـ: فذلك بأن يقال: إنّ الحكم بالرغم من عدم تعلّقه بأحد المكلّفين يرى العقل لزاماً على المكلّفين وفقاً لقانون العبوديّة تحصيل ما هو متعلّقه إيصالا للمولى إلى ما أراد.
إلاّ أنّ فرضيّة تعلّق الحكم بذات الفعل من دون توجّه إلى المكلّف إنّما هو أمر معقول بلحاظ مبادئ الحكم من الحبّ والبغض، فإنّ الحبّ والبغض وإن كانا من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة إلاّ أنّه يكفي في تحقيق هذه الإضافة ارتباطه بمتعلّق، وهو الفعل المحبوب بلا حاجة إلى توجّهه إلى من يصدر منه هذا الفعل. أمّا بلحاظ نفس الحكم أي: البعث والزجر وإشغال الذمّة فغير معقول؛ إذ الباعث له علاقة تضايف مع المبعوث، وإشغال الذمّة بحاجة إلى من تنشغل ذمّته. على أنّه لو تعقّلنا هذا الوجه احتجنا أيضاً إلى تصوير آخر للوجوب الكفائيّ لكي نفسّر به كفائيّة حكم العقل على المكلّفين بلزوم الإتيان بمتعلّق هذا الحكم.
قد قسّموا الواجب إلى الموقّت وغير الموقّت، والموقّت إلى المضيّق وهو ما كان وقته بقدر فعله، والموسّع وهو ما كان وقته أوسع من فعله، فكان للمتعلّق أفراد طوليّة قد وجب الجامع بينها. وقد وقع الإشكال تارةً في تصوير الواجب الموسّع، واُخرى في تصوير الواجب المضيّق إلاّ أنّه ممّا لا يستحقّ الذكر.
وإنّما الجدير بالذكر هنا أنّه لو انتهى الوقت في الموقّت ولم يأت بالعمل فهل يحتاج وجوب الإتيان به بعد الوقت إلى أمر جديد ودليل جديد أو لا؟ وهذه هي المسألة المعروفة بتبعيّة القضاء للأداء وعدمها.
تبعيّة القضاء للأداء:
وتحقيق الحال في ذلك يكون بأن نذكر أوّلاً الفروض المتصوّرة في دليل الموقّت وبيان نتيجة كلّ واحد من هذه الفروض فيما نحن بصدده. ثُمّ نتكلّم عن أنّ أيّ فرض من هذه الفروض يتّفق مع الأدلّة الإثباتيّة.
الفروض المتصوّرة في دليل الموقّت ثبوتاً:
فنقول: إنّ الفروض المتصوّرة في المقام أربعة:
الفرض الأوّل: أن يكون الدليل دالاًّ على أصل وجوب الفعل، ويكون دليل التوقيت منفصلا غير ناظر إلى تقييد ذلك الدليل، بل ناظراً إلى وجوب جديد
منصبّ على التقيّد بالوقت أو على المقيّد به، فعندنا واجبان: أحدهما أصل الصلاة مثلا، والآخر التقيّد بالوقت أو الحصّة المقيّدة بالوقت على كلام في معقوليّة الثاني مضى في مبحث الإجزاء.
ونتيجة ذلك أنّ وجوب العمل بعد الوقت ليس بحاجة إلى أمر جديد ولا إلى دليل جديد بل يكفي فيه الدليل الأوّل؛ فإنّ ما سقط بالعصيان إنّما هو الأمر الثاني ـ وهو الأمر بالتقيّد أو المقيّد ـ ولا موجب لسقوط الأمر الأوّل ورفع اليد عن إطلاق دليله.
الفرض الثاني: أن يكون دليل التوقيت ناظراً إلى تقييد دليل الواجب إلاّ أنّه يقيّد بعض مراتب الوجوب لا جميعها، وعليه فعند فوات الوقت ينتهي أمر المرتبة الشديدة من الوجوب المتعلّقة بالحصّة الخاصّة، أي: الصلاة في الوقت، أمّا المرتبة الخفيفة من الوجوب فلا مقيِّد لها فهي متعلّقة بجامع الصلاة، فلا مبرّر لسقوط إطلاق الدليل أو الأمر بانتهاء الوقت، فنتمسّك أيضاً بنفس الدليل السابق والأمر السابق.
فالنتيجة على هذا الفرض ـ لو تعقّلناه ـ كالنتيجة على الفرض السابق، وإنّما الفرق بين الفرضين أنّ الأمر بالحصّة الخاصّة في الفرض الأوّل كان مستفاداً من الدليل الثاني، أعني: دليل التوقيت، بينما في هذا الفرض يكون كلا الأمرين مستفاداً من الدليل الأوّل، وإنّما دليل التقييد وظيفته تضييق دائرة الواجب الذي يتمتّع بالدرجة الشديدة من الوجوب وتقييده بالوقت.
الفرض الثالث: أن يكون دليل التوقيت ناظراً إلى تقييد دليل الواجب بكلّ مراتب الوجوب، ولو من باب أنّ الوجوب لم يكن له مراتب عديدة، ولكنّه كان تقييداً غير مطلق لكلّ الحالات بل مادام متمكّناً.
ونتيجة ذلك أنّه إذا انتهى الوقت فقد انتهى التمكّن، فنبقى نتمسّك بإطلاق
الدليل الأوّل لإثبات وجوب القضاء. إلاّ أنّ هذا معناه إثبات أمر جديد بنفس ذلك الدليل، لا بقاء الأمر الأوّل؛ فإنّ الأمر الأوّل كان متعلّقاً بالحصّة المقيّدة بالوقت وقد انتهى بالعصيان.
الفرض الرابع: أن يكون دليل التوقيت مقيّداً للواجب بلحاظ تمام مراتب الوجوب وتمام الحالات.
ونتيجة ذلك أنّ وجوب القضاء يحتاج إلى ثبوت أمر جديد بدليل جديد.
مناقشة الفروض إثباتاً:
بقي الكلام فيما يتّفق من هذه الفروض مع الأدلّة الإثباتيّة فنقول:
أمّا الفرض الأوّل ـ وهو حمل دليل التوقيت على بيان وجوب مستقلّ ـ: فهو خلاف ظاهر الأدلّة بعد ما كان المفروض في أدلّة القيود الاُخرى غير الوقت ـ كالجهر ونحوه ـ هو حمل المطلق على المقيّد بحسب ما قُرِّر في بحث المطلق والمقيّد؛ إذ لا فرق بين الزمان والزمانيّات من هذه الناحية.
وأمّا الفرض الثاني ـ وهو حمل دليل التوقيت على تقييد بعض مراتب الوجوب ـ: فقد يقال في مقام تقريبه: إنّ دليل التوقيت إذا كان متّصلاً لم يُبق مجالا لتكوّن الإطلاق في دليل الواجب. أمّا إذا كان منفصلا فبالإمكان التمسّك بإطلاق دليل الواجب لإثبات مرتبة نازلة للوجوب لذات الصلاة بلا تقيّد بالوقت، وذلك بشرطين:
الأوّل: أن يكون دليل الواجب ذا إطلاق، بأن لا يكون من قبيل الدليل اللبّيّ الذي لا إطلاق له أو نحو ذلك.
والثاني: أن لا يكون لدليل التقييد إطلاق، كما لو كان لبّيّاً، أو لم يكن في مقام بيان أصل المطلب، فعندئذ نقول: إنّ القدر المتيقّن من التقييد هو تقييد المرتبة
العالية من الوجوب. أمّا المرتبة النازلة منه فلم يُعلم تقييدها، فنتمسّك بإطلاق الدليل الأوّل.
ويرد عليه: أنّه إن فُرض أنّ دليل التوقيت لم يُعلم نظره إلى تقييد الدليل الأوّل وكان من المحتمل كونه بياناً لوجوب مستقلّ، فهذا معناه أشدّ في أصل التقييد وهو أجنبيّ عن المقصود.
وإن فُرض أنّنا علمنا بكونه مقيّداً لدليل الواجب في الجملة، قلنا: إنّ دليل الواجب ليس له إطلاق يدلّ على تعدّد الوجوب ذاتاً أو مرتبة، وإنّما غاية ما يوجد فيه إطلاقان: إطلاق للهيئة يدلّ على ثبوت الوجوب في تمام الحالات، وإطلاق للمادّة يدلّ على أنّ الواجب هو الجامع بين الحصص، ولا يوجد إطلاق آخر يدلّ على تعدّد الوجوب ذاتاً أو مرتبة حتّى يقال: إنّ القدر المتيقّن تقيّد بعضها فنأخذ بالبعض الآخر، ولذا لو ورد أمر بشيء لم نستظهر من ذلك الأمر بالإطلاق أنّ ذلك الشيء في أعلى درجات الوجوب.
على أنّه لو دلّ دليل الوجوب ـ بوجه من الوجوه ـ على كون الواجب في درجة عالية من الوجوب، والمفروض تقيّد تلك الدرجة بالصلاة في الوقت، لم تبق في دليل الواجب دلالة على وجوب من الدرجة النازلة لمطلق الصلاة؛ فإنّ ذات الوجوب الذي دلّ عليه الدليل واحد، وقد قُيّد بالحصّة التي في الوقت. نعم، لو كان ـ صدفة ـ في دليل الواجب خصوصيّة تدلّ على وجوبين، أو في دليل التوقيت خصوصيّة تدلّ على المقصود فهذا مطلب آخر خارج عن البحث.
وأمّا الفرض الثالث ـ وهو كون دليل التقييد مقيّداً لفرض حالة التمكّن ـ: فقد يقال في تقريبه سنخ ما مضى في تقريب الفرض الثاني، أي: أنّه بعد فرض دليل التقييد منفصلا، وفرض دليل الواجب سنخ دليل له إطلاق ـ كَأن لا يكون دليلا لبّيّاً مثلا ـ وفرض دليل التقييد غير مطلق ـ لكونه لبّيّاً أو لغير ذلك ـ يقال: إنّ القدر
المتيقّن هو تقيّد الواجب بالوقت مادام متمكّناً، فبعد زوال الوقت يتمسّك بإطلاق دليل الواجب لإثبات الوجوب.
ويرد عليه: أنّ هذا التبعيض في التقييد إنّما يُعقل بالنسبة إلى فرض تعدّد المكلّفين، بأن وجب الصلاة على الكلّ ودلّ دليل مقيِّد على تقيّد الصلاة بالجهر، وكان القدر المتيقّن من هذا التقييد هو صلاة الرجال مثلا، فهنا يتمسّك في صلاة النساء بإطلاق دليل الواجب، حيث إنّ الحكم الواحد هنا انحلاليّ، فقد قيّد بلحاظ الرجال دون النساء.
وواقع المطلب: أنّ الواجب يصبح هو الجامع بين صلاة جهريّة رجاليّة وصلاة إخفاتيّة نسائيّة. أمّا إذا لوحظ مكلّف واحد اُريد إثبات وجوب المقيّد عليه حدوثاً ووجوب المطلق عليه بقاءً ـ كما في المقام ـ فهذا يعني تعدّد الجعل والوجوب، بينما لا يدلّ دليل الواجب إلاّ على جعل واحد ووجوب واحد، والمركّب الارتباطيّ إذا سقط بعض أجزائه أو شرائطه ـ بعجز أو غيره ـ وبقى الباقي واجباً فهذا وجوب جديد لا محالة؛ إذ يستحيل بقاء وجوب الباقي مع سقوط ما سقط؛ لأنّ المفروض أنّه ارتباطيّ.
إذن فانحصر الأمر بالفرض الرابع. نعم، يبقى كلام في أنّه بعد انتهاء الوقت هل يمكن إثبات وجوب ذات العمل بالاستصحاب أو لا؟ وهذا بحث تعرّضنا له في بعض تنبيهات الاستصحاب، فلا حاجة إلى التعرّض له هنا.
الأوامر
الفصل الثاني عشر
الاحتمالات في المقصود من الأمر بالأمر:
الأمر بالأمر يوجد فيه عدّة احتمالات:
الاحتمال الأوّل: أن يكون مقصود المولى من ذلك أمر العبد الثاني بالفعل مع أمر العبد الأوّل بإيصال هذا الأمر إليه. وهذا وإن كان في الحقيقة خارجاً عن حقيقة الأمر بالأمر، لكنّه احتمال عرفيّ معقول في كلام المولى حينما يقول لعبده الأوّل: اُؤمر فلاناً يفعل كذا.
وبناءً على هذا الاحتمال يجب على العبد الثاني أن يفعل ذلك الفعل ولو لم يصله أمر المولى عن طريق العبد الأوّل؛ فإنّ كلام المولى في الحقيقة ينحلّ إلى أمرين عرضيّين: أحدهما متوجّه إلى العبد الثاني وهو الأمر بالفعل. والآخر متوجّه إلى العبد الأوّل وهو إيصال هذا الأمر بالفعل إلى العبد الثاني.
الاحتمال الثاني: أن يكون مقصود المولى حقيقةً هو الأمر بالأمر، إلاّ أنّ أمره للعبد الأوّل بأمر العبد الثاني لم يكن على وجه الموضوعيّة بل كان طريقاً لحصول الفعل من العبد الثاني، وهذا يستفاد منه عرفاً بالدلالة الالتزاميّة ـ لا بانحلال الدلالة المطابقيّة كما في الاحتمال الأوّل ـ أمر العبد الثاني بالفعل، فيجب عليه الفعل ولو لم يصله هذا الأمر عن طريق العبد الأوّل.
الاحتمال الثالث: أن يكون مقصوده هو الأمر بالأمر بنحو الموضوعيّة، بأن كان الملاك كامناً في أمر العبد الأوّل لا في فعل العبد الثاني، وهنا وجوب العمل على
العبد الثاني يبتني على استظهار نكتة عرفاً من أمر المولى عبده الأوّل بأن يأمر العبد الثاني، وهي أن يقال: إنّ هذا ظاهرٌ عرفاً في منح مقام الآمريّة والولاية للعبد الأوّل على العبد الثاني، فإن تمّت هذه النكتة عرفاً وجب على العبد الثاني أن يأتي بذلك الفعل، مع فرقين بين هذا الاحتمال والاحتمالين السابقين: أحدهما: أنّه إنّما يجب عليه الفعل لو أمره العبد الأوّل، بينما في الاحتمالين السابقين يجب عليه الفعل مطلقاً. والثاني: أنّه إنّما يجب عليه الفعل في هذا الفرض من باب كونه إطاعةً للعبد الأوّل، بينما في الاحتمالين السابقين كان يجب عليه الفعل لا بهذا العنوان.
الاحتمال الرابع: أن يكون غرض المولى كامناً في مجموع أمر العبد الأوّل وفعل العبد الثاني، وذلك بأحد شكلين:
الأوّل: أن يكون المجموع المركّب من أمر العبد الأوّل وفعل العبد الثاني دخيلا في حصول الغرض، بأن يكون كلّ واحد منهما ركنين عرضيّين لما هو متّصف بالملاك. وعليه فيجب على العبد الثاني الفعل لو صدر الأمر من العبد الأوّل؛ إذ لو لم يصدر منه الأمر لما أفاد هذا الفعل؛ لعدم كفايته وحده في حصول الغرض، ولو صدر منه الأمر كان هذا الفعل مفيداً في حصول الغرض والملاك. وبما أنّ هذا الملاك كان إلزاميّاً موجباً لإيجاب المولى الركن ـ وهو أمر العبد الأوّل ـ فالمستظهر عرفاً بالملازمة هو وجوب الركن الثاني أيضاً.
الثاني: أن يكون أمر العبد الأوّل ذا ملاك ويكون من شرط اتّصاف فعل العبد الثاني بالملاك، فأيضاً يجب على العبد الثاني الفعل لو أمره العبد الأوّل(1).
(1) فإنّه بناءً على أن يُستظهر من الأمر بالأمر ثبوت الملاك في الفعل ـ ولو بأن يكون نفس الأمر موجباً لاتّصاف الفعل به ـ تكون لهذا الأمر دلالة التزاميّة عرفيّة على كونه بمرتبة إلزام العبد الثاني بالفعل.