الأوامر
الفصل التاسع
الواجب ينقسم إلى قسمين: تعيينيّ وتخييريّ، فالواجب التعيينيّ هو الواجب الذي ليس له بدل. والواجب التخييريّ هو الواجب الذي يجوز تركه إلى بدل.
ومن هنا يبدأ الإشكال، حيث إنّ افتراض واجب يجوز تركه إلى بدل قد يتراءى كونه مستبطناً للتهافت؛ إذ الوجوب المفترض فيه يمثّل عنصر الإلزام، وجواز الترك إلى بدل المفترض فيه يمثّل عنصر عدم الإلزام، وهما متهافتان.
ومن هنا جاءت عدّة محاولات ونظريّات للتكييف الفنّيّ للوجوب التخييريّ وتفسيره بنحو يتخلّص فيه من هذا التهافت:
النظريّات في تفسير الوجوب التخييريّ:
النظريّة الاُولى: أنّ الوجوب قد تعلّق بواحد معيّن وهو ما سوف يختاره المكلّف. وكأنّ هذه محاولة لإخفاء عنصر التخيير وإرجاعه إلى الوجوب التعيينيّ.
وقد أورد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على ذلك بعدّة إيرادات:
الإيراد الأوّل: أنّ هذا خلاف قانون اشتراك المكلّفين المتّحدين في الظروف والشرائط في الحكم؛ إذ معنى ذلك اختلافهم في الحكم، فأحدهم مثلا يجب عليه الصوم، والآخر العتق، والثالث الإطعام بالرغم من اتّحادهم في الظروف والشرائط.
الإيراد الثاني: أنّ إيجاب شيء على المكلّف على تقدير اختياره يكون بمثابة تحصيل الحاصل.
أقول: إنّ هذين الإيرادين متهافتان في طريقة فهم هذه النظريّة؛ وذلك لأنّ عنوان ما يختاره المكلّف إن اُخذ بنحو الموضوعيّة لم يكن مجال للإيراد الأوّل؛ إذ الكلّ يشتركون في الحكم، وهو وجوب ما يختارونه وإن اختلفوا في مصداق ذلك، نظير اشتراك الكلّ في وجوب الوفاء بالنذر أو وجوب العمل بأمر الوالد ـ مثلا ـ وإن اختلف المنذور أو المأمور به باختلاف الأشخاص.
وإن اُخذ بنحو المعرّفيّة إلى واقع ما يختارونه لم يكن مجالٌ للإيراد الثاني؛ إذ لم يؤخذ في موضوع الحكم عنوان الاختيار والفعل حتّى يكون بمثابة تحصيل الحاصل، بل قد اُمر بعضٌ بالعتق بعنوانه، وبعضٌ بالصوم بعنوانه، وبعضٌ بالإطعام بعنوانه مثلا.
الإيراد الثالث: أنّه لو عصى فلم يأت بشيء من الاُمور المخيّر بينها فهل الحكم قد توجّه إليه أو لا؟ فإن قيل: لا، لزم أن يكون هذا الحكم غير قابل للعصيان، والحكم الذي لا يقبل العصيان غير معقول. وإن قيل: نعم، لزم توجّه الحكم إليه بلا موضوع؛ فإنّ موضوعه ما يختاره وهو لم يختر شيئاً.
أقول: إنّ هذا الإيراد إنّما يرد لو قُصد باختيار المكلّف لأحد الأطراف اختياره بالفعل، فالعاصي بما أنّه لم يختر بالفعل أحد الأطراف يلزم أن لا يجب عليه شيء. أمّا لو اُريد من ذلك اختياره بنحو القضيّة الشرطيّة، بمعنى أنّه لو اضطرّ إلى عدم الخروج من دائرة هذه الأفعال العديدة أو أراد ذلك، فأيّ واحد منها كان يختاره فذاك هو الواجب عليه الآن، فهذه القضيّة الشرطيّة ثابتة حتّى في فرض العصيان، فلا مجال لهذا الإشكال؛ فإنّ العاصي أيضاً لو كان يريد الإتيان ببعض هذه الأفعال ـ ولو لاضطرار خارجيّ ـ لكان يختار أحدها، فذاك هو الواجب عليه.
وبهذا يظهر جوابٌ على الإيراد الثاني أيضاً، فإنّه لو قصد الاختيار على نحو القضيّة الشرطيّة بالنحو الذي ذكرناه لم يلزم طلب الحاصل؛ إذ لم يفرض الحصول الفعليّ.
فكلا هذين الإيرادين يمكن دفعهما بإرادة الاختيار بنحو القضيّة الشرطيّة، أي: اختيار أحد الأفعال على تقدير إرادته لعدم ترك الجميع. أو بتعبير آخر: يقصد بالاختيار كون أحد هذه الأفعال أقرب إلى ميله وظروفه من باقي الأفعال، ولو فرض أنّه بالفعل قد ترك الجميع.
نعم، لو فُرض كون الترجيح بلا مرجّح في الاختياريّات ـ كطريقي الهارب ورغيفي الجائع ـ ممكناً وواقعاً، إذن ففي فرض كون هذا العاصي نسبته ونسبة ظروفه إلى كلّ الأفعال على حدٍّ سواء، لم يُعقل تعيين متعلّق الوجوب فيما يختاره على تقدير إرادته لأحدها، أو فيما هو أقرب إلى ميله وظروفه؛ إذ ليس في الواقع تعيّنٌ من هذا القبيل، فيبطل هذا الجواب.
إلاّ أنّ الصحيح أنّ هذا الفرض إن كان ممكناً فهو ليس فرضاً عمليّاً يقع في الخارج، وهذا كاف في رفع الإشكال.
الإيراد الرابع: أنّ هذا خلاف ظاهر الدليل؛ فإنّ ظاهر دليل الوجوب التخييريّ كون نسبة الوجوب إلى جميع الأفعال على حدٍّ سواء(1)، وعدم كونه ألصق ببعضها دون بعض. بينما هذا الوجه يفترض تعلّق الوجوب بما سوف يختاره المكلّف، فهو أقرب إلى ذاك الفعل الذي سوف يختاره وليست نسبته إلى كلّ الأفعال على حدٍّ سواء.
(1) لو كان الاختيار مأخوذاً على نحو الموضوعيّة كانت نسبة الوجوب إلى جميع الأفعال على حدٍّ سواء، فلا يرد هذا الإشكال. ولعلّ المقصود هو أنّ ظاهر الدليل هو كون نسبة الوجوب إلى الكلّ حتّى بعد اختيار المكلّف على حدٍّ سواء، أو قل: إنّ ظاهر الدليل هو أنّ ما يختاره المكلّف هو مصداقٌ لما كان واجباً، أيّ: إنّ الاختيار وقع على مصداق الواجب، فلابدّ من تعيين الواجب في المرتبة السابقة على الاختيار. أو قل: إنّ ظاهر الدليل هو أنّ ما يختاره هو مصداق الواجب لا الواجب بعينه، وهذا التعبير الأخير هو المطابق لما في تقرير الفيّاض، ولكن ما قبل الأخير أدقّ وأعمق.
وهذا الإيراد يوجد ضعفٌ في منهجته وصياغته(1). وتوضيح ذلك: أنّ من يفسّر الوجوب التخييريّ بالتفسير الذي عرفت فهو في الحقيقة يفسّر ويحلّل المعنى الارتكازيّ العقلائيّ لذلك، حيث لا إشكال في عقلائيّة الوجوب التخييريّ ووجوده عند العرف والعقلاء وارتكازيّة معنى له، فلو كان هذا التفسير مطابقاً لذاك الارتكاز وجب إخضاع ظاهر الدليل له بقرينيّة هذا الارتكاز، ولو لم يكن مطابقاً له، إذن كان هذا هو الردّ على هذا التفسير وهو الردّ الصحيح.
وتوضيحه: أنّه إن فُرض كون عنوان اختيار المكلّف مأخوذاً بنحو المعرّفيّة، أي: إنّ الواجب هو واقع ما يختاره المكلّف، كان هذا معناه أنّ غرض المولى يكمن في ذلك الفعل المعيّن، وليست نسبته إلى كلّ هذه الأفعال والمكلّفين على حدٍّ سواء، بينما هذا خلاف الارتكاز الحاكم بكون غرض المولى نسبته إلى كلّ هذه الأفعال والمكلّفين على حدٍّ سواء.
وإن فُرض كونه مأخوذاً بنحو الموضوعيّة ففي الحقيقة هذا العنوان عنوان انتزاعيّ يختلف انطباقه في الخارج باختلاف المكلّفين، واختيار كلّ واحد منهم غير ما اختاره الآخر. وإذا صار القرار على تصوير العنوان الانتزاعيّ وافتراضه هو متعلّق الحكم، إذن فهناك عنوانٌ انتزاعيّ أقرب، وهو ما سوف يأتي بيانه من عنوان أحدها بلا حاجة إلى توسيط اختيار المكلّف في البين(2).
(1) ولو أبقيناه على صياغته فقد يقول من يوجّه الواجب التخييريّ بهذا التوجيه: إنّه حتّى لو كان خلاف ظاهر الدليل ابتداءً لابدّ من المصير إليه، لو لم يمكن توجيه الواجب التخييريّ بشكل آخر. أو يقول: بأنّ هذا الظهور بما أنّه لا ينتهي إلى تنجيز وتعذير لا حجّيّة فيه.
(2) على أنّنا نحسّ بالوجدان في الواجبات التخييريّة العقلائيّة أنّه كثيراً مّا يتّفق أنّ هذا المولى العرفيّ أو أيّ إنسان طلب أحد الاُمور على سبيل التخيير، لا يكون اختيار المكلّف ـ بأيّ معنى من المعاني ـ دخيلا في مقصوده وموضوعاً مؤثّراً في طلبه.
النظريّة الثانية: ما ذكره صاحب الكفاية بالنسبة لبعض موارد الواجب التخييريّ: من أنّه إذا كان في كلّ واحد من العِدلين ملاك إلزاميّ مستقلّ إلاّ أنّه لم يمكن الجمع بين الملاكين ـ لتنافر بينهما ـ وإن أمكن الجمع بين الفعلين، فحينئذ يصبح وجوب كلّ منهما مشروطاً بترك الآخر، فيرجع الوجوب التخييريّ في هذا المورد إلى وجوبين تعيينيّين مشروطين(1).
وقد أورد على ذلك السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ وغيره بعدّة إيرادات:
الإيراد الأوّل: أنّ هذا خلاف ظاهر الدليل، فإنّ مثل قوله: (صُمّ أو أطعم) ظاهرٌ في وجوب واحد لا وجوبين تعيينيّين. فكأنّ هذا إيراد إثباتيّ على هذه النظريّة.
ويرد عليه: أنّه ليس دائماً الوجوب التخييريّ مستفاداً من دليل واحد يكون من قبيل قوله: (صُم أو أطعم) حتّى يدّعى ظهوره في وجوب واحد، بل قد يصل الفقيه إلى الوجوب التخييريّ من الجمع بين دليلين، كأن يدلّ كلّ واحد منهما على الوجوب التعيينيّ لأحد الأمرين، مع افتراض عدم تماميّة الإطلاق في كلّ واحد منهما لصورة الإتيان بالآخر، كما لو كانا دليلين لبّيّين لا إطلاق لهما، أو كانادليلين لفظيّين مع عدم تماميّة مقدّمات الحكمة فيهما لوجود خلل في ذلك، أو مع افتراض تماميّة الإطلاق فيهما ولكن يُفرض أنّنا علمنا من الخارج بعدم وجوب الجمع بينهما، فيتعارضان بلحاظ الإطلاق، وقلنا في مثل ذلك بما قاله السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في بحث التعادل والتراجيح: من تقييد كلّ من الإطلاقين بالدليل
(1) كأنّ هذا توجيه لكلام صاحب الكفاية، وإلاّ فهو لم يصرّح برجوع الوجوب التخييريّ في هذا القسم إلى وجوبين مشروطين، وإنّما قال ما نصّه: «كان كلّ واحد واجباً بنحو من الوجوب يستكشف عنه تبعاته: من عدم جواز تركه إلاّ إلى الآخر، وترتّب الثواب على فعل الواحد منهما والعقاب على تركهما».
الآخر، أو قلنا بتساقط الإطلاقين، فما يثبت من الدليلين ليس إلاّ بمقدار وجوبين مشروط كلّ منهما بترك الآخر. ففي موارد من هذا القبيل ليس إرجاع الوجوب التخييريّ إلى وجوبين تعيينيّين كلّ واحد منهما مشروط بعدم الآخر خلاف ظاهر الدليل.
الإيراد الثاني: أنّه هل يُفرض عدم إمكان اجتماع الملاكين حينما يؤتى بالفعلين مترتّباً؟ فالسابق لا يُبقي مجالا للاّحق، ولكن لا بأس باجتماعهما بشكل التقارن، أو يُفرض عدم إمكان اجتماعهما حتّى لو اُتي بالفعلين بنحو التقارن؟
فإن فُرض الأوّل لزم إيجاب الجمع بينهما بنحو التقارن تحفّظاً على الملاكين الإلزاميّين، وهو خلف الواجب التخييريّ، وإن فُرض الثاني لزم أنّه لو أتى بهما بنحو التقارن لم يمتثل ولم يحصل شيء من الملاكين، وهذا خلاف الضرورة الفقهيّة.
والجواب: أنّه لا أقلّ من وجود فرضيّتين لا يرد عليهما هذا الإشكال:
الفرضيّة الاُولى: هي التلفيق بين الفرضيّتين اللتين ذكرهما صاحب الإيراد، بأن يُفرض أنّ أحد الفعلين ـ وهو الصوم مثلا ـ يكون تحقيقه للملاك مشروطاً بعدم الفعل الآخر لا سابقاً ولا مقارناً، والفعل الآخرـ وهو الإطعام مثلا ـ يكون تحقيقه للملاك مشروطاً بعدم الفعل الآخر سابقاً، فلا يلزم إيجاب الجمع بنحو التقارن؛ إذ به لا يحصل المولى إلاّ على ملاك الفعل الثاني، ولا يلزم فوت كلا الملاكين عند الجمع بنحو التقارن؛ لأنّ ملاك الثاني لا يفوت إلاّ بتقديم الفعل الأوّل.
الفرضيّة الثانية: أن يُفرض أنّ كلّ واحد من الفعلين لو قُدِّم على الآخر لم يبق مجالا لملاك الآخر، ولو قُرن أحدهما بالآخر ضعف كلّ واحد من الملاكين إلى مرتبة النصف، فلا يلزم إيجاب الجمع بينهما بنحو التقارن؛ إذ لا يحصل المولى بذلك على أكثر من نصفي الملاكين، وهو يعادل ملاكاً واحداً. ولا يلزم الخسارة في الجمع؛ لأنّه في الجمع يحصل بحسب الفرض نصف من كلّ من الملاكين، وهو
في قوّة ملاك واحد. وفي الحقيقة يصبح الوجوب التخييريّ هنا ذا أطراف ثلاثة: الإتيان بهذا وحده، والإتيان بذاك وحده، والإتيان بهما مقترنين.
الإيراد الثالث: أنّ لازم إرجاع الوجوب التخييريّ إلى وجوبين كلّ واحد منهما مشروط بترك الآخر: أنّه لو تركهما معاً كان عليه عقابان؛ لحصول شرط الوجوب لكلّ واحد منهما.
ولا يقال: كيف يعاقَب عقابين مع أنّه غير قادر على تحصيل كلا الفرضين؟
فإنّه يقال: إنّ هذا من قبيل التزامكم بتعدّد العقاب في باب الترتّب، مع أنّه غيرُ قادر على الجمع بين الفعلين. والحاصل: أنّ لازم إرجاع الوجوب التخييريّ إلى وجوبين مشروطين من هذا القبيل هو تعدّد العقاب بتركهما معاً، بينما لا يُلتزم بذلك في الواجبات التخييريّة.
أقول: إنّ الواجبين المشروط كلّ واحد منهما بترك الآخر لو كان ترك كلّ واحد منهما شرطاً لاتّصاف الآخر بالملاك لزم تعدّد العقاب؛ إذ بتركهما يخسر المولى كلا الملاكين، بينما كان بإمكان العبد أن يعمل عملا يوجب انتفاء كلتا الخسارتين، وذلك بأن يأتي بأحد الواجبين، فقد حصّل أحد الملاكين ورفع موضوع الآخر.
أمّا إذا كان كلّ منهما ذا ملاك فعليّ إلاّ أنّ تحصيل الملاكين معاً غير ممكن ـ وهو الذي فرضه صاحب هذه النظريّة ـ فهنا لو غضضنا النظر عن عالم الإنشاء والجعل فمن الواضح أنّه لا يتعدّد العقاب بتركهما معاً؛ لأنّ الملاك وإن كان متعدّداً لكن فوات أحدهما على المولى ممّا لابدّ منه، فالعبد لم يورد على المولى إلاّ خسارة واحدة. أمّا إذا لاحظنا عالم الإنشاء فنقول: إنّ الإنشاء والجعل وإن كان متعدّداً ولكن الإنشاء والجعل لا يضيف عقاباً على عقاب أو ملاكاً على ملاك، وإنّما يوجب العقاب لأجل كشفه عن الملاك، ولذا لا فرق في مقدار استحقاق العقاب بين إبراز الملاك والرغبة اللزوميّة بالإنشاء، وإبرازه بالإخبار. إذن فشبهة تعدّد العقاب غير واردة في المقام.
فقد تحصّل: أنّ هذه النظريّة لا بأس بها. نعم، هي لا تصدق في جميع موارد الوجوب التخييريّ، خصوصاً إذا افترضنا التخيير في الواجبين الضمنيّين كالحمد والتسبيحات، فإنّه حينئذ لا معنى لإرجاع ذلك إلى وجوبين مشروطٌ كلّ منها بترك الآخر؛ لأنّ الوجوبات الضمنيّة جميعاً مجعولة بجعل واحد لا بجعول متعدّدة، وصاحب هذه النظريّة ـ أعني: صاحب الكفاية(رحمه الله) ـ لم يدّع كون هذا تفسيراً للوجوب التخييريّ في جميع الموارد.
النظريّة الثالثة: ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) حيث افترض أنّ كلاًّ من الواجبين مشتمل على ملاك، ولم يفترض أنّ الملاكين لا يمكن تحصيلهما معاً كما افترضه صاحب الكفاية، بل افترض أنّهما بمجموعهما يزاحمان مصلحة التسهيل، فذكر: أنّ الوجوب التخييريّ مرجعه إلى وجوبين تعيينيّين، مضافاً إلى حكم ثالث وهو الترخيص في ترك المجموع؛ حيث إنّ مصلحة التسهيل تارةً تكون بنحو تزيل الوجوب رأساً وتوجب الترخيص في ترك الجميع. واُخرى لا تكون بهذه المثابة، بل تكون بمثابة توجب الترخيص في ترك المجموع، حيث إنّ الالتزام بأحدهما ليست صعوبته إلى درجة توجب الترخيص في الخلاف رأساً، لكن الالتزام بهما معاً صعب إلى درجة توجب الترخيص في ترك أحدهما، فلو فعل كليهما فقد أتى بواجبين ويثاب بثوابين. ولو فعل أحدهما وترك الآخر لم يُعاقَب؛ لأنّ تركه كان مرخوصاً فيه. ولو تركهما معاً لم يعاقب إلاّ بعقاب واحد؛ لأنّ أحد التركين مرخوص فيه، فهو يعاقب بمقدار ترك واحد.
وقد أورد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على ذلك بعدّة إيرادات:
الإيراد الأوّل: أنّ هذا خلاف ظاهر الدليل؛ فإنّ ظاهر الدليل هو جعل وجوب واحد لا وجوبين.
إلاّ أنّه ـ كما قلنا في النظريّة الثانية ـ إنّما يكون ذلك خلاف ظاهر الدليل حينما
يكون الوجوب التخييريّ مستفاداً من دليل واحد، لا من مجموع دليلين كلّ منهمادلّ على وجوب أحدهما.
على أنّه ينبغي أن نعرف أنّ المقصود من ذكر نظريّة من هذا القبيل إنّما هو تصوير تفسير معقول للوجوب التخييريّ، بحيث لو لم يُتعقّل صورة اُخرى صحّ تنزيل الدليل على هذه الصورة، إذن فلا معنى للإيراد على تلك النظريّة بكونها خلاف ظاهر الدليل؛ فإنّه لو انحصر الأمر بها تعيّن تنزيل الدليل عليها ولو كانت خلاف ظاهر الدليل. وليس المقصود من ذكر هذه النظريّة استفادتها من دليل الحكم إثباتاً حتّى يقال: إنّ دليل الحكم لا يدلّ على ذلك وأنّها خلاف ظاهر الدليل، وإنّما المقصود مجرّد تصوير صورة معقولة ثبوتاً.
الإيراد الثاني: أنّه من قال لنا بوجود ملاكين إلزاميّين في المقام؟ فإنّ الكاشف عن الملاك إنّما هو الحكم، وظاهر الدليل هو الحكم بوجوب واحد لا وجوبين.
وهذا ـ كما ترى ـ راجع إلى الإيراد الأوّل وهو كون ظاهر الدليل جعل وجوب واحد، فإنّنا نسلّم أنّه لم يخبرنا أحد بوجود ملاكين، لكنّنا نفترض فرضيّة معقولة لتصوير الوجوب التخييريّ وهي تعدّد الملاك والحكم بهذا النحو. ولو انحصر تصوير الوجوب التخييريّ به لنُزّل الدليل عليه وثبت تعدّد الحكم بهذا الترتيب وتعدّد الملاك، فإن قيل: إنّ ظاهر الدليل هو وحدة الحكم، قلنا: إنّ هذا رجوع إلى الإيراد الأوّل.
الإيراد الثالث: أنّه من قال لنا: إنّ مسألة التسهيل مهمّة في مقابل مجموع الملاكين بحيث توجب الترخيص في ترك أحدهما؟(1).
(1) وأضاف إلى ذلك في تقرير الفيّاض: أنّ مصلحة التسهيل لو كانت بمقدار مؤثّر في المقام لمنعت عن أصل جعل الوجوب للجميع، لا أنّ الوجوبين يبقيان ولكن مصلحة التسهيل توجب جواز ترك الواجب.
←
وهذا أيضاً يرجع بروحه إلى الإيراد الأوّل، فإنّنا لو فرضنا وجوبين فحتماً هناك ترخيص في ترك أحدهما بوجه من الوجوه، فيبقى الكلام في دعوى: أنّ فرض وجوبين خلاف الظاهر، وهذا هو الإيراد الأوّل.
الإيراد الرابع: أنّه كيف يعقل سقوط أحد الواجبين بفعل الآخر؟ بينما المسقط منحصر في الامتثال والعجز ـ ولو الناشئ من العصيان ـ وعدم الشرط في الواجب المشروط. أمّا الامتثال فهنا غير موجود؛ لأنّ المفروض أنّه لم يمتثل إلاّ أحدهما ومع ذلك سقط الآخر. وأمّا العجز فأيضاً غير موجود؛ إذ يمكنه أن يأتي بكلا الفعلين، فينحصر الأمر في الثالث وهو كون الوجوبين كلّ منهما مشروطاً بترك الآخر، بينما ظاهر الدليل هو وجوبٌ واحد مطلق.
وهذا أيضاً راجع إلى الإيراد الأوّل؛ إذ بعد تسليم انحصار تفسير كلام المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله)بالواجبين المشروطين ـ لعدم تصوّر سقوط أحدهما بفعل الآخر بغير هذا الشكل ـ نقول: لو فُرض في المقام وجوبان فهما مشروطان حتماً، بداهة عدم وجوب الجمع بين الفعليّة وكفاية أحدهما بحسب الفرض، فيبقى الكلام في أنّ فرض الوجوبين خلاف الظاهر، وهذا هو الإيراد الأوّل.
وقد تحصّل: أنّ هذه الإيرادات الأربعة يمكن تلخيصها في إيراد واحد، وهو
أقول: بناءً على إرجاع هذا الوجه إلى واجبين مشروطين لا يرد هذا الإشكال، فإنّ المقصود عندئذ أنّ مصلحة التسهيل رفعت إطلاق الوجوب، باعتبار أنّ إطلاقهما كان يقتضي إرغام المكلّف على الجمع بينهما وكان ذلك خلاف التسهيل.
أمّا لو قلنا بأنّ المجعول إنّما هو الطلب وليس الوجوب إلاّ أمراً ينتزعه العقل عند عدم الترخيص، فمعقوليّة طلبين للفعل مع الترخيص في ترك المجموع ـ كما سيأتي بيانه في المتن ـ أوضح.
أنّ ظاهر الدليل هو وحدة الجعل والوجوب والملاك، وقد عرفت جوابه.
الإيراد الخامس: أنّ فرض وجوبين من هذا القبيل يستتبع تعدّد العقاب عند تركهما معاً؛ لأنّ الترخيص إنّما كان في الترك البدليّ لا في الترك الجمعيّ.
وهذا الإشكال إشكال فنّيّ قابل للبحث والنقاش، فنقول: إنّ الترخيص في الترك المفروض في المقام يمكن تصويره بإحدى صور أربع:
1 ـ الترخيص المطلق في حصّة خاصّة من ترك كلّ واحد منهما وهي الترك المقترن بفعل الآخر. وهذا قد يقال: إنّه يرد عليه لزوم تعدّد العقاب عند تركهما معاً؛ لأنّه عندئذ يكون كلّ من التركين غير الحصّة المرخوص فيها.
2 ـ الترخيص المشروط في ترك كلّ واحد منهما، أي: إنّه مرخّص في ترك كلّ واحد منهما بشرط الإتيان بالآخر، وهذا أيضاً قد يقال: إنّه يرد عليه لزوم تعدّد العقاب عند تركهما معاً؛ لأنّه عندئذ قد ترك كلّ واحد منهما من دون تحقّق شرط الترخيص.
3 ـ الترخيص في ترك أحدهما، وهذا لا مجال لأن يورد عليه ما قد يقال بوروده على الوجهين الأوّلين، فإنّه لو تركهما معاً فترك أحدهما مرخوص فيه فلا يعاقب إلاّ على ترك الثاني، وإن كان لا يمكن تمييز ما هو المرخوص فيه عمّا ليس مرخوصاً فيه، إلاّ أنّ الانتباه إلى هذا الوجه يعني الانتباه إلى إمكان جعل الحكم على عنوان انتزاعيّ هو عنوان أحدهما، ومعه قد يختصر الطريق ويُفرض رأساً أنّ الوجوب ثابت على عنوان أحدهما بلا حاجة إلى فرض وجوبين مع ترخيص ثابت على عنوان أحدهما. وهذا رجوع إلى النظريّة الخامسة.
4 ـ الترخيص في ترك المجموع، وهذا لا يلزم منه الانتباه إلى إمكان ثبوت الحكم على عنوان أحدهما، وفي نفس الوقت لا يوجب تعدّد العقاب؛ فإنّ ترك الجميع يزيد على ترك المجموع المرخّص فيه بترك واحد فيوجب عقاباً واحداً.
فبفرض هذه الصورة نجيب على الإيراد الخامس. إذن فكلّ هذه الإيراداتغير واردة على هذه النظريّة.
وتحقيق الحال في هذه النظريّة هو: أنّه لو بُني على ما تقوله مدرسة المحقّق النائينيّ(رحمه الله): من أنّ الوجوب ليس مفاداً للدليل الشرعيّ وإنّما هو بحكم العقل، وأمّا الدليل الشرعيّ فلا يدلّ على أكثر من الطلب، كانت هذه النظريّة صحيحة لا إشكال فيها، وذلك بأن تقرَّب ببيان: أنّ المولى قد طلب كلاًّ من الفعلين طلباً تعيينيّاً، فلو لم يقرن المولى هذا الطلب بترخيص من قِبَله ـ لأجل مصلحة التسهيل ـ انتزع العقل الوجوب التعيينيّ لكلّ واحد منهما. ولو قرن المولى ذلك بترخيص في ترك الجميعـ لمصلحة التسهيل ـ انتزع العقل استحبابهما. ولو قرن المولى ذلك بترخيص في ترك المجموع ـ لعدم اقتضاء مصلحة التسهيل أكثر من ذلك ـ انتزع العقل وجوبهما تخييراً. وهذا البيان في غاية المتانة بناءً على مسلك مدرسة المحقّق النائينيّ(رحمه الله).
أمّا لو بنينا على ما هو الصحيح: من أنّ الوجوب هو مفاد الدليل ابتداءً وكذلك الاستحباب، أو كان ـ صدفةً ـ الدليل دالاّ على الوجوب، فهنا لو فُرض إطلاق في ذلك في كلّ واحد منهما لصورة الإتيان بالآخر، لزم كونهما واجبين تعيينيّين لابدّ من الجمع بينهما وهو خلف، فينحصر تفسير هذه النظريّة بفرض جعل كلّ من الوجوبين، ومفاد كلّ من الدليلين مشروطاً بترك الآخر، وبهذا تقترب جدّاً إلى النظريّة التي نقلناها عن صاحب الكفاية(رحمه الله)(1).
(1) وإشكال تعدّد العقاب يكون جوابه: أنّه لدى ترك العبد لكلا الملاكين، وإن كان العبد قد خسّر المولى ملاكين، ولكنّنا نعلم ـ بحسب الفرض ـ أنّ المولى يطيب نفساً بخسارته لملاك واحد لأجل مصلحة التسهيل، فالعبد لم يخسّر المولى فوق المقدار الذي يطيب نفساً به إلاّ ملاكاً واحداً. ولكي ينحلّ إشكال تعدّد العقاب يجب أن نفترض أنّ مصلحة التسهيل شملت العاصي أيضاً، بمعنى التسهيل في تخفيف استحقاق عقابه.
النظريّة الرابعة: أنّ الوجوب ليس متعدّداً ولا متعلّقاً بالجامع، بل هو وجوب واحد متعلّق بالفرد المردّد. وهذا الوجه مبنيّ على تصوير الفرد المردّد على تردّده.
وقد أورد على ذلك المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) بأنّه إن قُصد بذلك مفهوم الفرد المردّد بالحمل الأوّلي فهو جامع، فرجع الأمر إلى تعلّق الوجوب بالجامع. وإن قُصد بذلك ما هو الفرد المردّد بالحمل الشائع، أي: واقع الفرد المردّد، فالفرد المردّد مستحيل في أيّ عالَم من العوالم، سواء في عالم الذهن أو الخارج أو الاعتبار، فإنّ الفرد المردّد بين (ألف) و(باء) مثلا معناه أن يُحمل عليه (ألف) و(باء) بدلا لا جمعاً، وهذا معناه أنّه (ألف) وليس بـ (ألف)، وأنّه (باء) وليس بـ (باء). أمّا لو حُمل عليه أحدهما فقط لا كلاهما على سبيل البدل فقد أصبح فرداً معيّناً لا مردّداً.
وهذا البيان ـ في مقام إبطال الفرد المردّد ـ أحسن وأوضح ممّا يُذكر من التمسّك بهذا الصدد بمسألة فلسفيّة، وهي: أنّ الوجود يساوق التشخّص والتعيّن، فإنّ هذا تطويل للمسافة، فنحن نُنهي المسألة منطقيّاً بلا حاجة إلى بحث فلسفة الوجود، فنقول: إذا كانت حقيقة مردّدةً بين (ألف) و(باء) كان معنى ذلك أنّها (ألف) و ليست بـ (ألف) وأنّها (باء) وليست بـ (باء)، وهذا تناقض.
النظريّة الخامسة: هي فرض تعلّق وجوب تعيينيّ بالجامع بينهما، فيرجع التخيير الشرعيّ إلى التخيير العقليّ. وهذا له إحدى فرضيّتين:
الاُولى: فرض جامع حقيقيّ من المعقولات الأوّليّة يثبت ـ كما في كلمات المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) ـ ببرهان (أنّ الواحد لا يصدر إلاّ من واحد)، وذلك حينما يكون الملاك في كليهما واحداً. وقد تقدّم في بحث الصحيح والأعمّ كلام في (أنّ قانون أنّ الواحد لا يصدر إلاّ من واحد) هل هو في الواحد الشخصيّ أو يشمل
الواحد النوعيّ؟ فعلى الأوّل لا يمكن تطبيقه في المقام، لأنّ الواحد هنا نوعيّ لا شخصيّ، وعلى الثاني يمكن تطبيقه في المقام.
وعلى أيّ حال فالصحيح هنا أنّه يمكن وجود جامع حقيقيّ أحياناً إلاّ أنّه أحياناً لا يمكن افتراضه، خصوصاً إذا رجع العِدلان إلى الوجود والعدم كما في القصر والإتمام، حيث إنّه يتخيّر بين وجود الركعتين الأخيرتين فيما بين الاُوليين والتسليم وعدمهما؛ إذ لا جامع بين الوجود والعدم.
الثانية: فرض جامع انتزاعيّ ولو كان هو عنوان أحدهما، فإنّ هذا العنوان وإن كان عنواناً مختلقاً من قِبَل النفس لكن حينما يُلحظ بالحمل الأوّليّ يكون فانياً في الخارج وحاكياً عنه بمقدار ما له من قابليّة الحكاية، فيصح تعلّق التكليف به.
خلاصة الكلام في تصوير الوجوب التخييريّ:
وخلاصة الكلام(1) في تصوير الوجوب التخييريّ: أنّ مناسبة شكل الوجوب التخييريّ مع المورد تختلف باختلاف الموارد، ففي مورد تعدّد الملاك ـ بأن يكون في كلّ واحد من العِدلين ملاك مستقلّ ـ يناسب جعل وجوبين كلّ واحد منهما مشروط بترك الآخر. وفي مورد وحدة الملاك يناسب جعل وجوب واحد على الجامع، فالحقّ مع صاحب الكفاية(رحمه الله) إلاّ أنّه فرض الجامع في صورة وحدة الملاك جامعاً حقيقيّاً دائماً.
وتظهر الثمرة بين هذين التحليلين للوجوب التخييريّ في درجة وضوح جريان البراءة وخفائه عند الشكّ في كونهما تعيينيّين أو تخييريّين؛ إذ بناءً على إرجاعه إلى وجوبين مشروطين يكون الشكّ في التكليف الزائد، وهو وجوب
(1) تارةً نتكلّم عن حقيقة الواجب التخييريّ في مرحلة روح الحكم، أعني: الحبّ والبغض. واُخرى نتكلّم عن حقيقته في مرحلة الجعل والاعتبار.
أمّا في مرحلة المبادئ أو روح الحكم فإن كان الملاك في الجامع رجع إلى حبّ الجامع أو حبّ كلّ واحد منهما مشروطاً بترك الآخر. وإن كان الملاك في كلّ واحد منهما مستقلاّ عن الآخر:
فإن كان المانع عن إيجابهما معاً عدم إمكان تحصيل كلا الملاكين رجع أيضاً إلى حبّ كلّ واحد منهما مشروطاً بترك الآخر، أو حبّ الجامع. وقد عرفت في الأبحاث الماضية أنّ حبّ شيء مشروطاً بشيء يرجع إلى حبّ الجامع بينه وبين عدم الشرط.
وإن كان المانع مصلحة التسهيل رجع إلى حبّ كليهما مع حبّ التسهيل.
وأمّا في مرحلة الجعل والاعتبار فعلى أيّ شكل يُفرض الملاك يُعقل جعل الوجوب على الجامع، ويُعقل جعل الوجوب على كلّ واحد منهما مشروطاً بترك الآخر.
الصوم في فرض العمل بالعتق مثلا وبالعكس، فتجري البراءة بلا إشكال. وبناءً على إرجاعه إلى وجوب الجامع فقد يشكل جريان البراءة؛ للعلم الإجماليّ بوجوب الصوم بعنوانه أو عنوان أحد الفعلين، وإن كان الصحيح انحلال هذا العلم الإجماليّ حكماً؛ لجريان البراءة عن أشدّهما مؤونة وهو الوجوب التعيينيّ، وعدم جريانها عن أخفّهما مؤونة على ما نقّحناه في محلّه، فليست البراءة عن الوجوب التعيينيّ مبتلاة بالمعارض.
التخيير بين الأقلّ والأكثر:
بقي الكلام في التخيير بين الأقلّ والأكثر، فهل هو معقول بعد الفراغ عن معقوليّة أصل الوجوب التخييريّ أو لا؟ وقد عرفت أنّ الوجوب التخييريّ يتصوّر بأحد شكلين، إمّا بإيجابين كلّ واحد منهما مشروط بترك الآخر، أو بإيجاب الجامع بين الفعلين، فهل كلا التصويرين أو أحدهما يأتي في تصوير التخيير بين الأقلّ والأكثر أو لا؟
ووجه الاستشكال في خصوص التخيير بين الأقلّ والأكثر: أنّه إن كان الواجب تدريجيّاً فبعد الإتيان بالأقلّ قد حصل الغرض وتمّ الامتثال، فأيّ مجال يبقى لوجوب الزائد؟! وإن كان دفعيّاً ـ كدوران الأمر بين وجوب التصدّق بدرهم والتصدق بدرهمين دفعة واحدة ـ قلنا: إنّ الوجوب الضمنيّ للزائد ولو بنحو التخيير غير معقول؛ إذ الزائد يجوز تركه لا إلى بدل، وذلك بأن يقتصر على الأقلّ، فما معنى وجوبه؟ فإنّ وجوب الشيء لابدّ أن يكون إمّا بنحو لا يجوز تركه أصلا كما في الوجوب التعيينيّ، أو لا يجوز تركه إلاّ إلى بدل كما في الوجوب التخييريّ.
وقد ذكر المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) تصويراً للتخيير بين الأقلّ والأكثر راجعاً إلى افتراض إرجاعه إلى الجامع وهو: أنّ الطبيعيّ الذي له فردان فرد طويل وفرد قصير، قد يكون الملاك قائماً بهذا الطبيعيّ بلا فرق بين أن يوجد في ضمن هذا الفرد أو ذاك، فهنا لا محالة يتعلّق الأمر بالجامع بين كلا الفردين المنطبق على تمام هذا الفرد تارةً وتمام الفرد الآخر اُخرى.
وقد ذكر تلميذه المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) في شرح كلام اُستاذه: أنّ هذا مبنيٌّ على التشكيك الخاصّيّ في الوجود ببيان: أنّ كلّ فردين من الطبيعيّ إذا كان يتراءى إلى الذهن أنّ الفارق بينهما من سنخ جهة الاشتراك، كما في العدد القليل والكثير؛
حيث يُرى أنّ الكثير يختلف عن القليل بالعدد الذي هو جهة الاشتراك، يوجد في تحقيق حال ذلك عدّة مسالك:
الأوّل: إرجاع الفارق إلى فارق عَرَضيّ، من قبيل الفرق بالعلم والجهل أو السواد والبياض ونحو ذلك، بأن يقال: إنّ كون هذا العدد ثلاثة أو أربعة ـ مثلا ـ من عوارض العدد، وهذان الفردان يختلفان في هذا العارض.
الثاني: التسليم بكون الفارق جوهريّاً إلاّ أنّه مع ذلك يلتزم بالتشكيك العامّي، وهو كون ما به الامتياز غير ما به الاشتراك، فيُفرض أنّ ثلاثة وأربعة ـ مثلا ـ مشتركان في الجنس ومختلفان في الفصل، فالفرق بينهما إنّما هو بلحاظ الفصل.
الثالث: الالتزام بالتشكيك الخاصّيّ، بمعنى أنّ ما به الامتياز عين ما به الاشتراك. ويوجد في داخل هذا المسلك مشربان:
الأوّل: إرجاع هذا التشكيك الخاصّيّ إلى أصل الماهيّة والمفهوم، فالخطّ الطويل ـ مثلا ـ أجدر وأولى بكونه خطّاً من الخطّ القصير، ويكون دخوله تحت مفهوم الخطّ أشدّ وأولى منه. وهذا ما قال به الشواذّ من أصحاب مسلك التشكيك الخاصّيّ.
والثاني: إرجاع هذا التشكيك إلى الوجود لا الماهيّة، بأن يقال: إنّ الخطّ الطويل لا يختلف في خطّيّته ومفهوم الخطّ عن الخطّ القصير، لكنّ الخطّ الطويل أشدّ وجوداً وأولى بالوجود منه في القصير.
فإن بنينا على المسلك الأوّل ـ وهو كون الفارق عرضيّاً ـ فلا مجال لما ذكره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)في المقام؛ إذ لو فُرض الملاك كامناً في طبيعة الماهيّة الجامعة بين الأقلّ والأكثر، دون الفارقين العَرَضيّين اللذين بهما الامتياز، إذن لم ينطبق الواجب على كلّ من الأقلّ والأكثر بتمامه؛ لأنّ أقلّيّته وأكثريّته إنّما هي بأمر عَرَضيّ لا نصيب له من الملاك والوجوب، فلم يكن هذا تخييراً بين الأقلّ والأكثر.
وإن فُرض الملاك كامناً في المايزين ـ وهما العَرَضان ـ لزم صدور الواحد من الكثير، وهذا ما لا يقبله المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله).
وإن بنينا على المسلك الثاني ـ وهو كون الفارق جوهريّاً وكونه فصلاً ـ قلنا أيضاً: إنّ الملاك لو كان قائماً بالجنس لم ينطبق الوجوب على كلّ واحد من الفردين بما هما أقلّ وأكثر، وإن كان قائماً بالفصلين لزم صدور الواحد من الكثير.
وإن بنينا على المسلك الثالث ـ وهو التشكيك الخاصّيّ ـ فإن اُرجع ذلك إلى التشكيك في الماهيّة قلنا: إنّ فرض تأثير الماهيّة بكلتا حصّتيها المشكّكتين في ملاك واحد لا ينسجم مع مشرب: (أنّ الواحد لا يصدر إلاّ من واحد). وإن اُرجع ذلك إلى التشكيك في الوجود صحّ ما ذكره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من افتراض أنّ الملاك قائم بالطبيعة الموجودة في ضمن أيّ واحد من الفردين، المنطبقة على تمام هذا الفرد وتمام ذاك الفرد، ولا ينافي ذلك كون الواحد لا يصدر إلاّ من واحد؛ فإنّ المقصود من ذلك: الوحدة الماهويّة، والمفروض أنّ التشكيك في الوجود لا في الماهيّة. هذا ما يُستفاد من كلام المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) في مقام شرح مرام اُستاذه.
ولا يرد على هذا التصوير الذي ذكره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) ـ وهو تعلّق الوجوب بالطبيعة المنطبقة على كلّ واحد من الفردين ـ: أنّ الأقلّ موجود في ضمن الأكثر فيلغو الزائد؛ فإنّ مقصوده(رحمه الله) هو أنّ هذه الطبيعة تؤثّر في ضمن أيّ فرد مستقلّ لها، والأقلّ الذي هو في ضمن الأكثر ليس فرداً مستقلاًّ بل الفرد حينئذ هو الأكثر.
وبهذا يتّضح أنّه لا حاجة في مقام تكميل هذا التصوير ـ فيما إذا كان كلّ من الأقلّ والأكثر فرداً مستقلاًّ للطبيعة ـ إلى افتراض إضافة شرط على الأقلّ، بأن يجعل بشرط لا عن الزائد لكي يرجع إلى التصوير الثاني الذي سوف ننقله عن
صاحب الكفاية(رحمه الله). وبذلك يصبح هذا وجهاً مستقلاًّ عن التصوير الثاني الآتي عنه.
نعم، يوجد لنا حول هذا التصوير كلامان:
الكلام الأوّل: أنّ الوجوب التخييريّ بناءً على هذا التصوير ينحلّ إلى وجوب ضمنيّ لذات الأقلّ ووجوب ضمنيّ للجامع بين حدّ الأقلّ والزائد، بينما هذا الوجوب الضمنيّ لا يقبل التحريك إلى شيء جديد؛ إذ هل يحرّك نحو ذات الطبيعة بغضّ النظر عن استقلالها في الوجود الذي قالوا لا يكون في المتحرّك إلاّ بعد تماميّة الحركة، أي: إنّه قبل تماميّة الحركة لم يتمّ وجودها الكامل، أو يحرّك إلى استقلالها؟
أمّا الأوّل فهو حاصل بالأمر الضمنيّ الأوّل. وأمّا الثاني ـ وهو الاستقلال ـ فهو شيء قهريّ يتحقّق لا محالة بعد فرض الإتيان بأصل الطبيعة؛ إذ هذا الذي يخطّ بجرّ القلم على الورق ـ مثلا ـ لا يبقى يجرّ القلم إلى الأبد، بل سوف يقف إلى حدٍّ لا محالة.
إلاّ أنّ هذا الإشكال إن كان وارداً(1) فإنّما يرد فيما لو لم يعيّن مقدار محدّد من الوقت للواجب، أمّا لو عيّن ذلك بأن قال مثلا: يجب عليك الإتيان بفرد مستقلّ من أفراد الخطّ في دقيقة واحدة، فالأمر الضمنيّ الثاني يكون أثره التحريك نحو إيجاد الاستقلال في ذاك الوقت المحدّد؛ إذ لو لا هذا الأمر كان من المحتمل أنّ العبد يبقى مستمرّاً في جرّ القلم إلى ما بعد انتهاء هذا الوقت المحدّد. إذن فيبقى لنا مورد يمكن تخريج التخيير بين الأقلّ والأكثر فيه بهذا النحو.
(1) لعلّه إشارة إلى أنّ هذا الإشكال يمكن دفعه أيضاً بما يستدفع به الكلمة الاُولى، على ما سيأتي قريباً من التصوير الثاني من تصويري الآخوند(رحمه الله) للتخيير بين الأقلّ والأكثر.
الكلام الثاني: أنّ هذا التصوير إنّما يتصوّر إذا كان الأكثر بتمامه فرداً واحداً مستقلاًّ من أفراد الطبيعة كالأقلّ، أمّا إذا لم يكن كذلك بل كان الأكثر عبارة عن أفراد متعدّدة من تلك الطبيعة، كما في مثال التخيير بين تسبيحة واحدة وثلاث تسبيحات، فلا يأتي فيه هذا البيان؛ فإنّ الواجب وهو الإتيان بفرد مستقلّ يحصل بتسبيحة واحدة، والباقي لا مبرّر لوجوبه ولو تخييراً.
وقد التفت المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)إلى هذا النقص في هذا التخريج، فتداركه بذكر تصوير آخر لتخريج التخيير بين الأقلّ والأكثر يسري إلى مثل موارد التسبيحة الواحدة وثلاث تسبيحات ممّا يكون الزائد فيه عبارة عن فرد إضافيّ، وهو إضافة شرط إلى جانب الأقلّ، أعني: شرط عدم الزائد، فالواجب هو الجامع بين الأقلّ بشرط لا والأكثر.
ولا ينبغي الإيراد على صاحب الكفاية(رحمه الله) بأنّ هذا ليس تخييراً بين الأقلّ والأكثر بل بين المتباينين؛ لأنّ بشرط لا مباين لبشرط شيء؛ فإنّ المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) أجلّ شأناً من أن يخفى عليه هذا الشيء، وهو لم يقصد تصوير التخيير بين الأقلّ والأكثر بمعناه الدقيق، وإنّما قصد الإتيان بفرضيّة معقولة لتفسير ما يتعارف خارجاً وقوعه في الفقه ممّا يسمّى بالتخيير بين الأقلّ والأكثر.
ولنا حول هذا التصوير الذي ذكره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) ثلاث كلمات:
الكلمة الاُولى: أنّ الوجوب التخييريّ بهذا المعنى ينحلّ إلى وجوب ضمنيّ لذات الأقلّ، ووجوب ضمنيّ للجامع بين بشرط لا والزائد، بينما وقوع هذا الجامع بعد فرض أصل الإتيان بذات الأقلّ ممّا لابدّ منه، فإنّه إمّا أن يأتي بالزائد أو لا، فلا مجال للأمر بذلك ولو ضمنيّاً.
إلاّ أنّ هذا الكلام إن تمّ فإنّما يتمّ فيما لو لم يوجَد شقّ ثالث يخالف شرط العدم والزيادة معاً، أمّا لو وُجد مثل ذلك كما لو وجب إمّا الإتيان بتسبيحة واحدة
بشرط لا عن الزيادة، أي: بشرط أن لا يضاف إليها تسبيح آخر ولو كانت تسبيحة واحدة، وإمّا الإتيان بثلاث تسبيحات، ففي هذا الفرض لا يرد هذا الإشكال؛ إذ لو لا الأمر الضمنيّ بالجامع بين بشرط لا والزيادة كان بالإمكان أن يختار العبد ذلك الشقّ الثالث، وهو الإتيان بتسبيحتين.
الكلمة الثانية: أنّه بناءً على مسلك المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من (أنّ الواحد لا يصدر إلاّ من واحد) يقال في المقام: إنّ الملاك هل هو كامن في الجامع بين الأقلّ والأكثر الذي يكفي في تحقّقه ذات الأقلّ، أو أنّه تتدخّل في تحقيق الملاك، ـ ولو ضمناً ـ خصوصيّة عدم الزيادة مع خصوصيّة الزيادة، فعلى الأوّل رجع الإشكال جذعاً، وعلى الثاني لزم صدور الواحد من اثنين.
الكلمة الثالثة: أنّه لو كانت خصوصيّة عدم الزيادة مع خصوصيّة الزيادة دخيلتين في الملاك، فلئن لم نؤمن بقاعدة (أنّ الواحد لا يصدر من اثنين) فلا أقلّ من الايمان بـ (أنّ الواحد لا يصدر من نقيضين، أعني: من وجود الشيء وعدمه)، بينما هذا معناه كون الزيادة بوجودها دخيلة في الملاك وبعدمها دخيلة في الملاك أيضاً.
إلاّ أنّه يمكن دفع الإشكال الثاني والثالث بافتراض فرضيّة لا يرد عليها هذان الإشكالان، وهو أن يفرض أنّ الملاك يكمن في الجامع، أي: إنّ الجامع هو المولّد للملاك، ولكن ذاك الشقّ الثالث الذي فرضناه في الكلمة الاُولى، أعني: كون عدد التسبيحة اثنين يفرض مانعاً عن تأثير الجامع، فلا محالة يخيّره المولى بين تسبيحة واحدة وثلاث تسبيحات.
نعم، يبقى في المقام استبعاد هذه الفرضيّة خارجاً إلى حدّ الاطمئنان بالعدم، فنحن لا نتصوّر افتراض كون عدد التسبيحة اثنتين مانعاً عن تحقّق الملاك.
وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه: أنّ التخيير بين الأقلّ والأكثر في مثل تسبيحة
واحدة وثلاث تسبيحات بناءً على وحدة الملاك وإرجاع الحكم إلى إيجاب الجامع إنّما يُعقل بشرطين:
1 ـ أن يكون هناك شقّ ثالث مشتمل على ذات الأقلّ مع فقدانه لكلٍّ من شرط الزيادة وشرط العدم، لكي لا يرد عليه ما ذكرناه في الكلمة الاُولى.
2 ـ أن يُفرض أنّ الملاك يكمن في الجامع، وأنّ ذاك الشقّ الثالث يشكّل مانعاً عن تأثير ذاك الجامع.
هذا كلّه بناءً على افتراض ملاك واحد وإرجاع الوجوب التخييريّ إلى وجوب الجامع.
أمّا بناءً على افتراض ملاكين وإرجاع الوجوب التخييريّ إلى وجوبين مشروطين، فالتخيير بين الأقلّ والأكثر بكلا التصويرين اللذين ذكرهما المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) ـ من كون المطلوب الفرد المستقلّ أو جعل الأقلّ بشرط لا ـ معقول وخال عن كلّ الإشكالات الثلاثة:
أمّا الإشكال الأوّل ـ وهو تعلّق الوجوب بما لابدّ منه خارجاً ـ فمن الواضح عدم وروده هنا؛ إذ عندنا وجوبان: أحدهما متعلّق بالأقلّ على شرط أن لا يأتي بالأكثر، ومن الواضح أنّ من لا يأتي بالأكثر قد لا يأتي بالأقلّ أيضاً، فهذا الوجوب يحثّه نحو الإتيان بالأقلّ. وثانيهما متعلّق بالأكثر على شرط أن لا يأتي بالأقلّ بحدّه الأقلّيّ. ومن الواضح أنّ من لا يأتي بالأقلّ بحدّه الأقلّيّ قد لا يأتي بالأكثر أيضاً، فهذا الوجوب يحثّه نحو الإتيان بالأكثر.
وأمّا الإشكال الثاني والثالث ـ وهما لزوم صدور الواحد من اثنين أو من نقيضين ـ فمن الواضح أيضاً عدم ورودهما في المقام؛ لأنّنا قد افترضنا ملاكين مختلفين لا ملاكاً واحداً.
هذا تمام الكلام في الوجوب التخييريّ.