5

 

 

 

 

 

كلمة المكتب

نحاول في هذه المقدّمة الموجزة تسليط الضوء على محورين نرى أهمّيّة اطّلاع القارئ الكريم عليهما، وهما:

أوّلاً: تعريف موجز بمنهج السيّد المرجع الفقهيّ.

ثانياً: تعريف موجز بالكتاب.

 

أوّلاً: تعريف موجز بمنهج السيّد المرجع الفقهيّ:

يمكن الادّعاء بكلّ ثقة أنّ مستوى البحث الفقهيّ الذي أسّس له الفقيه المرجع سماحة آية الله العظمى السيّد كاظم الحائريّ ـ مدّ ظلّه ـ يمتاز بحداثة وتجديد سواء على صعيد العمق والدقّة في آلة وأداة الاستنباط أو على صعيد الموضوعيّة والأصالة في الهدف المحدّد للفقه.

فإنّ لدرجة العمق في أساليب الاستدلال التي تختلف في مراحل الاجتهاد تبعاً لتطوّر الفكر العلميّ دوراً هامّاً في تحديد متانة الفقه ودقّة عمليّة الاستدلال، كذلك لموضوعيّة الهدف دور مؤثّر في تحديد تجاهاته ومعالمه، ومن خلال ما يطرأ على هذين الصعيدين من تطوّر أو تغيير تتطوّر حركة الفقه وعمليّة الاجتهاد ومن ثمّ معالم الفقه نفسها.

 

الدقّة في آلة وأداة الاستنباط:

ونقصد بالدقّة في آلة الاستنباط: الدقّة في الجانب الفنّيّ والنظريّ من العمليّة الفقهيّة والتي تتمثّل في عمق وصرامة المباني الاُصوليّة التي تستدعي دقّة أعلى في

6

استخدام العناصر المشتركة وتطبيقها في عمليّة الاستنباط على العناصر الخاصّة في الميدان الفقهيّ؛ إذ إنّه كلّما كان البحث الاُصوليّ أدقّ وأعمق وكان التفكير الاُصوليّ في تكوين النظريّات العامّة والعناصر المشتركة أكثر دقّة وصرامة استدعى ذلك دقّة أكثر في عمليّات التطبيق على العناصر الخاصّة في الفقه، لوضوح أنّ الترابط بين العمليّتين والتفاعل بينهما في تمام المراحل يستدعي أنّه إذا بلغ مستوى التفكير الاُصوليّ درجة بالغة من الدقّة والعمق بلغ مستوى التفكير الفقهيّ التطبيقيّ الدرجة نفسها. فإنّ النظريّات العامّة الاُصوليّة كلّما كانت موضوعة في صيغ أكثر عمقاً وصرامة وأكبر دقّة كانت أكثر غموضاً، وتطلّبت في مجال التطبيق دقّة أعلى والتفاتاً أكثر. إذن، ترتبط دقّة النتائج الفقهيّة إلى حدّ كبير بالجانب النظريّ الفنّيّ من الاستنباط، فكلّما كان الجانب الفنّيّ من الاستنباط قائماً على دقّة أعلى كانت النتائج الفقهيّة أقرب إلى الصواب.

وقد تأثّر الجانب الفنّيّ من الاستنباط بالبحث الاُصوليّ في المدرسة الاُصوليّة التي تبنّاها السيّد المرجع ـ مدّ ظلّه ـ والمتمثّلة بمدرسة اُصوليّة أحدثت ثورة علميّة تغييريّة في مجال علم الاُصول شملت اُمّهات المسائل في هذا العلم، أسّس لها اُستاذه المرجع الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر رضوان الله عليه، وتبنّى السيّد المرجع تقريرها وشرحها وتحليلها والتعليق عليها أو المناقشة في بعض مفرداتها ممّا زادها نضوجاً وعمقاً ممّا لايمكن في هذه العجلة بيانه المفصّل، لكن نشير بشكل مختصر لبعض المسائل الاُصوليّة التي حصل فيها تغيير أو جيء فيها بنظريّات جديدة كنموذج لسعة التغيير الذي حدث في إطار هذه المدرسة الاُصوليّة كشاهد لما تمتاز به من دقّة وإبداع وتجديد:

1 ـ السيرة المتشرّعيّة والعقلائيّة:

لم يكن مألوفاً لدى الاُصوليّين أن يخصّصوا مبحثاً مستقلاًّ لبحث السيرة بشقّيها في علم الاُصول برغم تمسّكهم بها في مقام الاستنباط في مواضع عدّة، فلم تبحثشرائط صحّة التمسّك بكلّ من شقّي السيرة وكيفيّة إثبات توفّر تلك الشروط،

7

والفرق العلميّ والعمليّ بين التمسّك بكلّ من السيرة المتشرّعيّة والعقلائيّة. وعلى خلاف ذلك فقد خصّصت المدرسة الاُصوليّة للسيّد الشهيد(قدس سره) مبحثاً مستقلاًّ لكيفيّة التمسّك بالسيرة، ويمتدّ تأثير هذا البحث إلى بحث حجّيّة خبر الواحد وحجّيّة الظهور اللفظيّ؛ إذ إنّ أهمّ ما يستدلّ به على هذين البحثين هو السيرة بشقّيها، وما لم تتّضح حدود التمسّك بالسيرة وصلاحيّتها في مقام الاستدلال لا يمكن الخروج بنتائج واضحة ومحدّدة في هذين البحثين.

2 ـ كيفيّة الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ:

وقد أسّست هذه المدرسة لمبنىً جديد في كيفيّة الجمع المذكور مبتن على تفسير جديد لحقيقة الحكم الظاهريّ قائم على أساس أنّ الأحكام الظاهريّة خطابات تعيّن الأهمّ من الملاكات والمبادئ الواقعيّة حين يتطلّب كلّ نوع منها الحفاظ عليه بنحو ينافي ما يضمن به الحفاظ على النوع الآخر. وهذا النوع من التزاحم بين ملاكات الأحكام الواقعيّة لدى اشتباه المكلّف وشكّه أسمته بالتزاحم الحفظيّ، وصوّرت للأحكام الظاهريّة فيه دور ترجيح الأهمّ ملاكاً من الأحكام على الأقلّ أهمّيّة عند وقوع هذا النوع من التزاحم.

وهذا منهج جديد من البحث لم يكن مألوفاً لدى الاُصوليّين ويختلف اختلافاً جوهريّاً عمّا تعارف عندهم، وتمتدّ تأثيرات هذا المنهج على مباحث اُخرى من علم الاُصول من قبيل البحث عن حقيقة الفرق بين الأمارات والاُصول، والبحث عن حجّيّة مثبتاتهما، والبحث عن كون الاستصحاب أمارة أو أصلاً.

3 ـ حجّيّة القطع:

ترى هذه المدرسة الاُصوليّة أنّ حجّيّة القطع ليست من اللوازم الذاتيّة للقطع، أي: لا تدور مدار ذات القطع كما يقول به المشهور من الاُصوليّين، بل تدور مدار مولويّة المولى تعالى، ولمّا كانت مولويّة المولى تعالى تدور مدار مطلق انكشاف التكليف سواء على مستوى الاحتمال أو القطع كان العبد مسؤولاً عقلاً عن تكاليف المولى

8

المظنونة والمحتملة على حدّ سواء ما لم يرخّص بترك التحفّظ تجاه التكليف المحتمل.

و على ضوء النتائج التي انتهت إليها في بحث حجّيّة القطع وضعت هذه المدرسة مسلك (حقّ الطاعة) في مقابل قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، وأنكرت البراءة العقليّة وقالت بالاحتياط العقليّ في موارد الاحتمال البدويّ للتكليف.

وهذه النتائج ذات تأثير في عدد من المباحث الاُصوليّة ومن أهمّها مبحث العلم الإجماليّ.

4 ـ التواتر:

ذكر الاُصوليّون الخبر المتواتر في كتبهم بشكل موجز اعتقاداً منهم بأنّه أوضح مصاديق الخبر القطعيّ المفيد للعلم بالصدور، فلا يبقى معه معنىً للبحث في حجّيّته بعد أن كان قطعيّاً، وإنّما تركّز البحث وتوسّع في إثبات حجّيّة الخبر الظنّيّ الصدور، فبدلاً عن أن يستقلّ البحث عند الاُصولييّن في الخبر المتواتر تركّز البحث عندهم في إثبات حجّيّة خبر الواحد بالخصوص.

هذا، إلّا أنّ المدرسة الاُصوليّة التي تبنّاها السيّد المرجع ـ مدّ ظلّه ـ أفردت للتواتر بحثاً مستقلاًّ، ذلك لما أسّسته في هذا البحث من تجديد في مجال الكشف عن حقيقة التواتر وكيفيّة إفادته العلم، وبيان العوامل المؤثّرة في تسريع أو إبطاء عمليّة إفادة ذلك، وعلى ضوء ذلك ذكرت التقسيمات التي يمكن أن يكون عليها التواتر.

5 ـ العلم الإجماليّ:

جاءت هذه المدرسة الاُصوليّة في مبحث العلم الإجماليّ بنتائج جديدة، من قبيل إمكان ورود الترخيص في أطراف العلم الإجماليّ عقلاً، وتوفيقه بين مسالك ثلاثة مطروحة في تفسير حقيقة العلم الإجماليّ.

6 ـ حقيقة المعاني الحرفيّة:

وافقت مدرسة الشهيد الصدر(قدس سره) على أصل ما اختاره المحقّقون المتأخّرون من كون المعاني الحرفيّة هي المعاني النسبيّة المغايرة هويّة للمعاني الاسميّة،

9

ولكن مع إدخال تعديل وإصلاح جوهريّين على ما أفاده الأصحاب. وتظهر ثمرة هذا البحث في إمكان تقييد المعنى الحرفيّ بقرينة خاصّة وإمكان إثبات إطلاقه بقرينة الحكمة العامّة وعدمه.

هذا، إضافة إلى مباحث اُصوليّة اُخرى من قبيل إبطاله لحكومة الاُصول بعضها على بعض حينما تكون متوافقة في النتيجة، كحكومة استصحاب الطهارة على قاعدة الطهارة، أو الأصل السببيّ على الأصل المسبّبيّ الموافق له، وكذلك إبطاله لحكومة الأمارة على الأصل لدى توافقهما في النتيجة. وإبطاله أيضاً لما اشتهر من جريان أصالة الطهارة في ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة، على تفصيل مذكور في محلّه(1).

ولا تفوتنا الإشارة إلى أنّ ما له الدخل في الامتياز الفقهيّ لا يختصّ بالتدقيق في علم الاُصول بل يشمل التدقيق في كافّة الجهات المؤثّرة في الفقه كعلم الرجال، فلابدّ من الالتفات أيضاً إلى ذلك وأمثاله.

 

الموضوعيّة على صعيد الهدف المحدّد للفقه:

ونقصد بالموضوعيّة في الهدف: كون الأثر الذي يتوخّاه الفقه ويريد تحقيقه من خلال حركة الاجتهاد وإنجازه في واقع الحياة متناسباً مع التخطيط الإلهيّ لتمكين المسلمين من تطبيق النظريّة الإسلاميّة في الحياة.

ومن الطبيعيّ أن يكون للموضوعيّة هذه في جانب الهدف آثارها وانعكاساتها على مختلف جوانب الحركة الفقيّة وسير عمليّة الاجتهاد، وفي ضوء طبيعة انعكاسات الهدف الذي يتوخّاه الفقيه ويؤمن به على حركة اجتهاده وعمليّة استنباطه يمكن أن نصوغ فكرتنا عن تجاهات ومعالم وطبيعة ذلك الفقه الذي سيشيّده ذلك الفقيه.

ولكي تتّضح انعكاسات الهدف على طبيعة الفقه وتجاهاته بوضوح يجب أن



(1) راجع مباحث الاُصول، الجزء الأوّل من القسم الثاني، ص 52 ـ 54.

10

نميّز بين مجالين لتطبيق النظريّة الإسلاميّة للحياة: أحدهما: تطبيق النظريّة على مستوى الحلول والإجابات ذات العلاقة بالمجال الفرديّ بالقدر الذي يتّصل بسلوك الفرد وتصرّفاته وما يواجهه في حياته اليوميّة، والآخر: تطبيق النظريّة على مستوى الحلول والإجابات ذات العلاقة بالمجال الاجتماعيّ ومشاكل حياة الجماعة البشريّة وعلاقاتها الاجتماعيّة اقتصاديّة وسياسيّة.

وحركة الفقه بسبب ظروف تاريخيّة قاهرة عانت الانكماش في هدفها فلم تستهدف كلا مجالي التطبيق على حدّ سواء، واتّجهت في هدفها نحو المجال الأوّل فحسب، واقتصرت في الأغلب على معالجة ما يتّصل بسلوك الفرد وما يواجهه في حياته اليوميّة تأثّراً بظروف العزلة التي مرّت في حقبات التاريخ حيث واجه الفقه الإماميّ عزلاً سياسيّاً عن المجالات الاجتماعيّة نتيجة لارتباط أجهزة الحكم ومؤسّساته في العصور الإسلاميّة المختلفة وفي أكثر البلاد الإسلاميّة بالفقه السنّيّ ورجالاته الذي عمّق على مرّ الزمن شعوراً لدى الفقيه الإماميّ بأنّ مجاله الوحيد الذي يمكن أن ينعكس عليه فقهه من واقع الحياة ويستهدفه منها هو مجال التطبيق الفرديّ. وهكذا بسبب الانكماش في الهدف ارتبط الاجتهاد بصورة الفرد المسلم في ذهن الفقيه الإماميّ، لا بصورة المجتمع المسلم، واتّجه ذهن الفقيه حين الاستنباط غالباً إلى الفرد المسلم وحاجته إلى التوجيه بدلاً عن الجماعة المسلمة وحاجتها إلى تنظيم حياتها الاجتماعيّة، وهكذا وجد الإهمال في الساحة الفقهيّة للمواضيع ذات الصلة بالجانب التطبيقيّ الاجتماعيّ من حياة الاُمّة.

وقد امتدّ أثر الانكماش في الهدف وترسّخ النظرة الفرديّة إلى الشريعة أحياناً إلى طريقة فهم النصّ الشرعيّ أيضاً، لذا نجد صعوبة لدى البعض في استظهار مبدأ ولاية الفقيه المطلقة من النصوص الشرعيّة أو استغراباً فقهيّاً من الإفتاء بها، والغفلة عن فهم شخصيّة النبيّ(صلى الله عليه وآله) أو الإمام(عليه السلام) كحاكم ورئيس للدولة، فإذا ورد أمر أو نهي عن النبيّ مثلاً كنهيه أهل المدينة عن منع فضل الماء فُهِمَ أنّه: إمّا نهي تحريم أو

11

نهي كراهة، مع أنّه قد لايكون هذا ولا ذاك، بل قد يصدر النهي عن النبيّ(صلى الله عليه وآله)بوصفه رئيساً للدولة ووليّاً للأمر، أو إذا فرض أمير المؤمنين(عليه السلام) أمراً كوضعه الزكاة على الخيل فقد يؤخذ كدليل على الحكم الشرعيّ الفقهيّ، بلا ملاحظة الإمام(عليه السلام) بوصفه رئيساً للدولة، في حين أنّه قد لا يريد من فرضه أمراً، حكماً شرعيّاً عامّاً، بل يريد إنشاء حكم ولائيّ بوصفه وليّاً للأمر. ومن آثار ترسّخ النظرة الفرديّة إلى الشريعة وارتباط الاجتهاد بصورة الفرد المسلم في ذهن الفقيه الإماميّ لا بصورة المجتمع والدولة الإسلاميّة ما نجده من تعيين الوظيفة بالنسبة إلى سهم الإمام(عليه السلام) من الخمس في عصر الغيبة؛ إذ يرى البعض وجوب حفظه والإيصاء به للمؤمنين إلى أن يظهر القائم (عجّل الله فرجه) فيخرجه أو يعطى له، ويرى الآخر صرفه في الأصناف الثلاثة من بني هاشم أو في مطلق الموالين والعارفين بحقّهم، وقال مشهور المتأخّرين بجواز صرفه في الموارد التي يحرز فيها رضاه...

وهذا الطرز من الاستنباط قائم على أساس أنّ سهم الإمام(عليه السلام) حاله حال سائر الأموال الشخصيّة، فأعمل القواعد المقرّرة التي تحدّد الوظيفة تجاه التصرّف في الأموال الشخصيّة، في حين يمكن فرض تلك الأموال ملكاً للإمام بما هو وليّ وحاكم في الدولة الإسلاميّة، أو فرضها ملكاً لمنصب الإمامة والولاية الشرعيّة، فيكون الوليّ الشرعيّ في كلّ زمان هو المتولّي الشرعيّ على صرفها، ويكون الفقيه في عصر الغيبة هو المتولّي على صرفها إمّا على أساس النصّ على ولاية الفقيه أو من باب الحسبة.

ومن ناحية اُخرى لم تعالج النصوص بروح التطبيق على الواقع واتّخاذ قاعدة منه، ولهذا سوّغ الكثير لأنفسهم أن يجزّئوا الموضوع الواحد ويلتزموا بأحكام مختلفة له، فقد بحثوا مسألة أنّ المستأجر هل يجوز له أن يؤجر العين باُجرة أكبر من الاُجرة التي دفعها هو حين الإيجار. وقد جاءت في هذه المسألة نصوص تنهى عن ذلك، والنصوص كعادتها في أغلب الأحيان جاءت لتعالج مواضيع خاصّة: فبعضها نهى عن ذلك في الدار المستأجرة، وبعضها نهى عن ذلك في الرحى

12

والسفينة المستأجرة، وبعضها نهى عن ذلك في العمل المأجور، وحين ننظر إلى هذه النصوص بروح التطبيق على الواقع وتنظيم علاقة اجتماعيّة عامّة على أساسها سوف نتوقّف كثيراً قبل أن نلتزم بالتجزئة وبأنّ النهي مختصّ بتلك الموارد التي صرّحت بها النصوص دون غيرها، وأمّا حين ننظر إلى النصوص على مستوى النظرة الفرديّة لأعلى مستوى التقنين الاجتماعيّ فإنّنا نستسيغ هذه التجزئة بسهولة(1).

وهكذا أثّرت طبيعة الهدف المحدّد للفقه على عمليّة الاستباط وتحديد معالم الفقه، إلّا أنّنا إذ ألقينا نظرة ولو خاطفة على الفقه الذي رسمته عمليّة الاجتهاد لدى سماحة السيّد المرجع ـ مدّ ظلّه ـ وحدّدت هدفه الذي يتوخّاه ويريد إنجازه في واقع الحياة لوجدناه متناسباً مع التخطيط الإلهيّ لتمكين المسلمين من تطبيق النظريّة الإسلاميّة في الحياة، وبمعنىً آخر: لوجدناه متحرّراً من حالة الانكماش في الهدف ومن ارتباط الاجتهاد لديه بصورة الفرد المسلم وحاجته إلى التوجيه بدلاً عن الجماعة المسلمة وحاجتها إلى تنظيم حياتها الاجتماعيّة والمدنيّة.

وهاك بعض الشواهد لذلك:

1 ـ انفتاح ذهنيّة سماحته ـ مدّ ظلّه ـ الفقهيّة على الدائرة الواسعة من الفقه بحيث امتدّت إلى مجالاته المهمّشة التي غفلت عنها الرؤية الرسميّة والاتّجاه التقليديّ في البحث، فسبر غورها بروح منفتحة ووعي معمّق، وفهم نصوصها بذوق عرفيّ وشرعيّ أصيل، وحاكم أدلّتها بأدوات فنّيّة غاية في الدقّة، فتجد أنّ أوّل تأليف ينجزه سماحته كان في علاج مبدأ مشروعيّة الدولة والأساس القانونيّ الذي ترتكز إليه في مشروعيّة سلطتها وحاكميّتها هو كتاب (أساس الحكومة الإسلاميّة)، وقد تمّ تأليفه قبل انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، وهو دراسة استدلاليّة مقارنة بين



(1) انظر المقال المنسوب للمرجع الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر(قدس سره) بعنوان الاتّجاهات المستقبلة لحركة الاجتهاد.

13

الديمقراطيّة والشورى وولاية الفقيه، وقد صدرت طبعته الاُولى عام 1399 هـ، وانعكست أحدث تحقيقاته وأهمّ آرائه الجديدة في كتابه الآخر الذي ألّفه في نفس الاتّجاه وهو (ولاية الأمر في عصر الغيبة)، وهو بحث فقهيّ استدلاليّ تناول فيه سماحة المرجع أهمّ الأسئلة التي تثار على ولاية الأمر في عصر غيبة الإمام المنتظر عجّل الله فرجه، حيث عالج في المقدّمة شبهات عدم إمكان قيام الدولة الإسلاميّة في عصر الغيبة، ثمّ طرق أبحاثاً هامّة على صعيد الحكم وإدارة الدولة الإسلاميّة مثل الفقيه رئيساً للدولة الإسلاميّة في عصر الغيبة، ودور الانتخاب في الولاية، وشورى القيادة، والمرجعيّة والولاية، وقد صدرت الطبعة الاُولى من الكتاب عام 1414 هـ، كما ذكر آخر متبنّياته وما توصّل إليه في مجال ولاية الفقيه في كتاب البيع، كما بحث سماحته أهمّ مسائل الجهاد في كتاب (الكفاح المسلّح في الإسلام)، حيث بحث أهمّ المسائل ذات الصلة بالفقه السياسيّ والجنائيّ الإسلاميّ ممّا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقضايا العصر السياسيّة والقانونيّة والجنائيّة وقضايا الأمن الجماعيّ من قبيل مبدأ الثورة ضدّ الحاكم الضالّ المنحرف أو الذي يسعى لتطبيق النظم الجاهليّة، ومبدأ استعمال القوّة ضدّ البغاة من قبل الدولة الشرعيّة، ومبدأ مكافحة الجرائم المخلّة بالأمن الجماعيّ، وقد صدرت الطبعة الاُولى للكتاب عام 1403 هـ.

كلّ ذلك لأجل ممارسة الفقه على مستوى الحلول والإجابات ذات العلاقة بالمجال الاجتماعيّ ومشاكل حياة الجماعة البشريّة وعلاقاتها الاجتماعيّة.

2 ـ بحث سماحة السيّد المرجع ـ دام ظلّه ـ من وحي الحاجة الميدانيّة سيما بعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران وبروز الاستفهامات العلميّة المتعدّدة تجاه عدد من القضايا المتعلّقة بموضوعات القضاء وما يرتبط به من فروع بعض المسائل المهمّة في القضاء بحثاً فقهيّاً استدلاليّاً معمّقاً مثل وجوب القضاء، وشخصيّة القاضي، وطرق إثبات الدعاوى لدى القاضي، والحكم على الغائب، ومدى نفوذ حكم القاضي. وهذه ممارسة للفقه على مستوى التطبيقات ذات العلاقة

14

بالمجال الاجتماعيّ ومشاكل حياة الجماعة البشريّة الحقوقيّة والنظام القضائيّ.

والذي يزيد في أهمّيّة هذا البحث ويميّزه عمّا سواه من البحوث التي طرقت نفس الباب ـ ونعدّه نتاج ذهنيّة سماحة السيّد المرجع الفقهيّة الواعية والمنفتحة على قضايا العصر ـ اشتماله على المقارنة العلميّة في جملة من بحوث القضاء بين مواقف الفقه الإسلاميّ والفقه الوضعيّ، فتجده مثلاً يقارن بين وجهة نظر الفقه الإسلاميّ والفقه الوضعيّ الحديث في مسألة حجّيّة علم القاضي والبيّنة وشرائطها. وكذا تطرّقه إلى حقوق المرأة ومنزلتها في الإسلام بمناسبة بحث شرط الذكورة في القاضي دافعاً عن الإسلام بعض الشبهات التي يثيرها أعداؤه في هذا المجال. وقد شرع سماحته في بحث القضاء ليلة 28 ربيع الأوّل عام 1403 هـ، وصدر بعد تدوينه عام 1415 هـ في كتاب باسم (القضاء في الفقه الإسلاميّ).

وقد بحث سماحة السيّد المرجع ـ مدّ ظلّه ـ في مجال آخر من مجالات الحاجة البشريّة إلى التشريع وهو فقه العقود والمعاملات بوصفه ركناً مهمّاً من أركان النظام الاقتصاديّ في الاُطروحة الإسلاميّة ممّا يمهّد لخلق الرؤية الفقهيّة اللازمة لتطبيق النظريّة الإسلاميّة في المجال الاقتصاديّ، وقد بحث سماحة السيّد ذلك بحثاً استدلاليّاً قيّماً، تطرّق في مقدّمته إلى الحديث عن (الملك) وتصوّرات عامّة عنه، وكذلك عن (المال) لمعرفة معناه المقصود في البحث، وكذلك عن (الحقّ) وحقيقته، ثمّ عن مفهوم (العقد) وحقيقته. وبدأ سماحته البحث في فقه العقود ضمن ثلاثة فصول: الأوّل في البحث عن إطلاقات أدلّة العقود، والثاني في أركان العقود وشرائطها، والثالث في بحث المقبوض بالعقد الفاسد. وقد صدر ضمن كتاب باسم (فقه العقود) في جزءين عام 1421 هـ.

وقد امتاز هذا البحث باشتماله على المقارنة بين الفقه الإسلاميّ والفقه الوضعيّ في القواعد العامّة للحقوق المدنيّة ممّا زاد في حيويّته وفائدته، فتجد المقارنة في المبحث الأوّل من الفصل الأوّل بين الفقه الغربيّ والفقه الإسلاميّ في كفاية ابراز

15

ربط قرار بقرار بأيّ مبرز عرفيّ في العقد، والمقارنة في الفصل الثاني بين الفقه الغربيّ والفقه الإسلاميّ في أركان العقود وشرائطها.

3 ـ مضافاً إلى ما تقدّم فإنّ لسماحة السيّد المرجع ـ مدّ ظلّه ـ فقهه الذي واكب مسيرة الحركة الإسلاميّة السياسيّة والجهاديّة والفكريّة، وسدّد لها مواقفها في كثير من مجالات العمل السياسيّ والفكريّ ودوائر الصراع مع العدوّ الجاثم على ربوع البلاد الإسلاميّة، فقد غطّى سماحة السيّد بسعة دائرة هدف الفقه لديه، وعمق ودقّة ممارسته الفقهيّة دوائر حاجة الإسلاميّين بمختلف ألوانها وأصعدتها بدءاً بدائرة العمل في الساحة العراقيّة، ومروراً بدائرة المقاومة الباسلة في لبنان، وانتهاء بمستجدّات الأحداث العلميّة في مؤسّسات الجمهوريّة الإسلاميّة الفتيّة في إيران والشبهات الفكريّة والفقهيّة التي كانت تتطلّب موقفاً علميّاً وردّاً استدلاليّاً حاسماً، وكتاب (دليل المجاهد) وبحث الأعلميّة والقيادة، وبحث شبهة إنكار أن تكون الحكومة من حقّ النبيّ أو الإمام فضلاً عن الفقيه ـ وقد نشرت في ملحق كتاب المرجعيّة والقيادة ـ وغير ذلك من البحوث العلميّة المتعدّدة المنشورة في المجلاّت التخصّصيّة شاهد حيّ على ما نقول.

هذا، وقد امتدّت حدود الفقه عند سماحة السيّد إلى دائرة تطبيق النظريّة الإسلاميّة على مستوى الحلول والإجابات ذات العلاقة بالمجال الفرديّ بالقدر الذي يتّصل بسلوك الفرد وممارساته وما يواجهه في حياته اليوميّة أيضاً، فقد اجتمع لدى مكتب سماحتة العديد من الرزم من الاستفتاءات التي وجّهت إلى سماحته على مدى سنين طويلة مذيّلة بجواب سماحته، وقد طبع عدد منها في جزءين بعد تبويبها وتهذيب لغة أسئلتها باسم (الفتاوى المنتخبة) في عام 1417 وعام 1423 هـ، وقد عالجت الاُمور التي كانت محلاًّ للابتلاء من قبل المكلّفين في شتّى بقاع العالم، والذي يميّز هذه الفتاوى أنّها كانت وفي موارد عديدة تعالج المسائل المستجدّة في الحياة الفرديّة لدى المكلّفين كالتي تتعلّق بمسائل التمثيل والنشاطات السينمائيّة، وتغيير الجنس، وتعيين جنس الجنين، ومسألة اللجوء إلى البلدان الكافرة، والتعامل مع القوانين الحاكمة في

16

الدول غير الإسلاميّة، والتعامل الاقتصاديّ مع البورصة، وبيع وشراء أو الوصيّة بأعضاء الإنسان، والاستنساخ البشريّ، والصيد والذباحة بالطرق الحديثة، وحدود نفوذ ولاية وليّ الأمر، والتلقيح الصناعيّ، وما شابه ذلك من اُمور مستحدثة.

4 ـ وقد امتاز المنحى الاستدلاليّ في الفقه لدى سماحة السيّد المرجع ـ مدّ ظلّه ـ بتحرّر ذهنيّته الفقهيّة عن النزعة التجزيئيّة في فهم النصوص الشرعيّة، وسلامة الفهم الفقهيّ عن النظرة الفرديّة إلى التشريع، والقدرة الفائقة على تطبيق ما حقّقه من مبان في الاُصول على عمليّة الاستنباط، إلى جانب الذوق العرفيّ السليم في فهم النصّ واستظهار معناه، فضلاً عن الإحاطة والمتابعة التامّة والرصد الدقيق للنتاج العلميّ المدنيّ وحاصل الحركة الفكريّة للذهنيّة الغربيّة، فتجده مثلاً يناقش في كتاب أساس الحكومة الإسلاميّة أفكار جان جاك روسو في كتابه العقد الاجتماعيّ ويسجّل ملاحظاته على مبدأ الديمقراطيّة كأساس للحكم، فينكر على بعض الكتّاب تأكيدهم نسبة الديمقراطيّة إلى الإسلام غافلين عن أنّها تتقاطع فكريّاً مع مبادئ الإسلام(1).

وتجده أيضاً في مناقشة ركنيّة سبب الإرادة في العقد في الفقه الغربيّ يستعرض مثلاً النظريّة التقليديّة والحديثة في السبب، ويشرح عوامل تكوّن البذور الأوّليّة للنظريّة التقليديّة في السبب في القانون المدنيّ الفرنسيّ والمصريّ، وثمّ يقول: إنّها هوجمت من قبل الفقيه البلجيكيّ (ارنست) عام 1828م، ثمّ هاجمها آخرون بلجيكيّون وفرنسيّون إلى أن جاء دور (بلانيول) وانحاز إلى خصوم السبب، وكان معولاً فعّالاً في هدمها. ثمّ يذكر: أنّه قد دافع الكثيرون عن النظريّة التقليديّة بعد تحويرها، وعلى رأس هؤلاء (كابيتان) في كتابه المعروف (السبب في الالتزامات)(2).



(1) انظر: أساس الحكومة الإسلاميّة، ص 17 ـ 25.

(2) انظر: فقه العقود، الجزء الأوّل، ص 335 ـ 340. وقد اعتمد سماحة السيّد في ذلك على كتاب الوسيط للسنهوريّ.

17

إذن ببركة الدقّة والعمق في الجانب الفنّيّ من الفقه الذي تمثّله متانة أساليبالاستدلال وكذلك موضوعيّة الهدف الذي يتوخّاه ويريد إنجازه في واقع الحياةوتناسبه مع التخطيط الإلهيّ لتمكين المسلمين من تطبيق النظريّة الإسلاميّة في الحياة إضافة إلى المؤهّلات الذاتيّة لدى سماحة السيّد المرجع ـ مدّظلّه ـ تطوّرت حركة الفقه وتعمّقت عمليّة الاجتهاد في فقه سماحته، وامتدّ الفقه في سيره الامتداد الاُفقيّ ليستوعب كلّ مجالات الحياة، وتحوّل الاتّجاه نحو تبرير التعامل مع الواقع الفاسد إلى تجاه جهاديّ نحو تغيير الواقع الفاسد وتقديم البديل الفكريّ الكامل عنه من وجهة نظر الإسلام، ومحى في مفهوم حركة الاجتهاد أيّ تصوّر ضيّق للشريعة، وأزال من الذهنيّة الفقهيّة كلّ آثار ذلك الضيق وانعكاساته على البحث الفقهيّ.

 

ثانياً: تعريف موجز بالكتاب:

أمّا الكتاب الذي اختاره سماحة السيّد المرجع ـ مدّ ظلّه ـ للتعليق عليه فهو الرسالة العمليّة للمرجع الراحل آية الله العظمى السيّد محسن الحكيم(رحمه الله) والمسمّاة بمنهاج الصالحين، وقد وقع اختيار سماحة السيّد على هذا الكتاب لأجل اختيار اُستاذه المرجع الشهيد آية الله العظمى السيّد محمّد باقر الصدر(قدس سره) لهذا الكتاب للتعليق عليه، فكان ذلك يسهّل على سماحة السيّد إن أراد بيان جوانب الاختلاف أو الاتّفاق في الفتوى مع اُستاذه في كلّ مسألة من المسائل.

أمّا اختياره للجزء الثاني من الكتاب الخاصّ بالمعاملات دون الجزء الأوّل الخاصّ بالعبادات فلأجل أنّ سماحة السيّد ـ مدّ ظلّه ـ قد كتب فتاواه في العبادات في تعليقته على كتاب (الفتاوى الواضحة) لاُستاذه الشهيد(قدس سره) وقد حوى الكتاب: التقليد والاجتهاد والطهارة والصلاة والصيام والاعتكاف والحجّ والعمرة والكفّارات، وأتمّها بكتاب (فتاوى في الأموال العامّة) الذي حوى فتاوى سماحته في الزكاة وزكاة الفطرة والخمس والفيء والأنفال واللقطة ومجهولة المالك، وألّف سماحته كتاب

18

(مباني فتاوى في الأموال العامّة) لبيان أهمّ الأدلّة على فتاواه في الأموال العامّة، فأرادسماحته أن يملأ الفراغ الحاصل في باب المعاملات فوقع اختياره على الكتاب المذكور.

ولأجل التأخير الحاصل في إعداد الكتاب بشكله الكامل للطباعة ـ لأسباب عديدة ـ دعت شدّة الحاجة وإلحاح مقلّدي سماحة السيّد أن نجدّد طباعة ما نشرناه سابقاً من الكتاب بعنوان القسم الأوّل ملحقين به ما اُنجز إلى نهاية كتاب الإيلاء، نسأل الله أن يوفّقنا لإنجاز ما بقي منه، وهو إلى آخر كتاب الإرث، وإلحاقه به، ليكتمل به قسم المعاملات إن شاء الله تعالى.

هذا، وقد يجد القارئ الكريم من غير الدارسين للفقه بعض الصعوبة في فهم بعض العبائر أو الفقرات من تعليقات سماحة السيّد مدّ ظلّه، وهذا يعود إلى اعتماد سماحته العبائر العلميّة والتركيبات الفقهيّة المتداولة في لغة الفقه التي لا يمكن للفقيه في كثير من الأحيان أن يستغني عنها إذا أراد بيان مقصوده بشكل علميّ ودقيق، سيّما إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ سماحة السيّد يرى أنّه بحاجة إلى بيان دليله في موارد مخالفة فتواه لفتوى المشهور أو فتوى اُستاذه أو فتوى صاحب المتن، فلا سبيل إلى ذلك إلّا اعتماد لغة الفقه والاستلال المتداولة في الكتب الفقهيّة، وهي لغة عسيرة الفهم في كثير من فقراتها وتراكيبها واصطلاحاتها على عموم المثقّفين والقرّاء الكرام.

ولذا نوصي إخواننا الكرام بمراجعة الفضلاء من السادة والمشايخ ممّن يسهل الاتّصال بهم من أساتذة الحوزة العلميّة المباركة للاستعانة بهم في فهم ما قد يصعب فهمه من فقرات أو عبائر الكتاب أو التعليقة المثبّتة في هامشه، آملين أن تكون هذه الفتاوى موضع اهتمام ومطالعة سائر المكلّفين لأجل تحصيل التفقّه في الدين والتقيّد بشريعة سيّد المرسلين(صلى الله عليه وآله)، فإنّه ورد عن الصادقين(عليهما السلام): «إذا أراد الله بعبد خيراً فقّهه في الدين» و«الكمال كلّ الكمال التفقّه في الدين»(1).

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.



(1) الكافي للكليني(رحمه الله)، ج 1، ص 32، ح 3 و4.

19

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

العمل بالجزء الثاني من منهاج الصالحين تأليف آية الله العظمىالسيّد محسن الحكيم (رحمة الله عليه) مع الأخذ بعين الاعتبار تعليقاتنا عليه مجز إن شاء الله.

13 / رجب / 1430 هـ . ق كاظم الحسينيّ الحائريّ

 

 

 

21

المعاملات

 

 

○  التجارة.

○  الشفعة.

○  الإجارة.

○  المزارعة والمساقاة.

○  الجعالة.

○  السبق والرماية.

○  الشركة.

○  المضاربة.

○  الوديعة.

○  العارية.

○  اللقطة.

○  الغصب.

○  إحياء الموات.

○  الدين.

○  الرهن.

○  الحجر.

 

 

○  الضمان.

○  الصلح.

○  الإقرار.

○  الوكالة.

○  الهبة.

○  الوصيّة.

○  الوقف.

○  النكاح.

○  الطلاق.

○  الظهار.

○  الإيلاء.

○  اللعان.

○  الأيمان.

○  الصيد والذباحة.

○  الأطعمة والأشربة.

○  الميراث.

 

 

 

23

المعاملات

1

 

 

 

كتاب التجارة

 

وفيه مقدّمة وفصول:

○  مقدّمة.

○  شروط العقد.

○  شروط المتعاقدين.

○  شروط العوضين.

○  الخيارات.

○  أحكام الخيار.

○  ما يدخل في المبيع.

○  التسليم والقبض.

○  النقد والنسيئة.

○  الربا.

○  بيع الصرف.

○  السَلَف.

○  بيع الثمار والخضر والزرع.

○  خاتمة في الإقالة.

25

 

 

 

 

 

مقدّمة

التجارة في الجملة من المستحبّات الأكيدة في نفسها، وقد تستحبّ لغيرها، وقد تجب كذلك إذا كانت مقدّمةً لواجب أو مستحبّ، وقد تكره لنفسها أو لغيرها، وقد تحرم كذلك.

 

[المعاملات المحرّمة:]

والمحرَّم منها أصناف. وهنا مسائل:

(مسألة: 1) تحرم ولا تصحّ التجارة بالأعيان النجسة(1) كالخمر وباقي



(1) أفاد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في تعليقه على المتن في هذا المورد(*): «الظاهر جواز البيع وسائر المعاوضات في الأعيان النجسة إذا كانت لها منفعة محلّلة شرعاً، إلّا المسكر والخنزير والكلب غير الصيود، والأحوط ذلك في الميتة أيضاً وإن كان الجواز في الميتة لا يخلو من وجه».

أقول: الوجه في جواز بيع الميتة لدى المنفعة المحلّلة ضعف رواية السكونيّ الناهية عن ثمن الميتة بسبب النوفليّ. وهي الرواية الخامسة من الباب الخامس ممّا يكتسب به من الوسائل، ج 17 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام)، ص 93، وفي سند الصدوق وقع موسى بن عمر الصيقل، وعليه فلو كانت للميتة منفعة محلّلة فالظاهر جواز بيعها وإن كان الأحوط الترك.


(*) يشير سماحة السيّد (مدّ ظلّه) بهذه العبارة وسائر العبائر المماثلة التي سترد إلى تعليقة اُستاذه المرجع الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر(قدس سره) على هذا الكتاب (من المكتب).

26

المسكرات والميتة والدم وغيرها، ولا فرق بين أن يكون لها منفعة محلَّلة مقصودة كالتسميد بالعذرة أو لا، كما لا فرق في الحرمة بين بيعها وشرائها وجعلها اُجرة في الإجارة، وعوضاً عن العمل في الجعالة، ومهراً في النكاح، وعوضاً في الطلاق الخلعي، وغير ذلك من الموارد التي يعتبر فيها المال ؛ لأنّها ليست أموالا شرعاً وإن كانت أموالا عرفاً. نعم، يستثنى من ذلك العصير العنبي إذا غلى قبل ذهاب ثلثيه بناءً على نجاسته، وكلب الصيد، والعبد الكافر وإن كان مرتدّاً عن فطرة، فإنّ هذه الاُمور تجوز التجارة بها فضلا عن غيرها من أنواع المعاوضة. وفي إلحاق كلب الماشية والزرع بكلب الصيد إشكال، والمنع أظهر.

(مسألة: 2) الأعيان النجسة التي لايجوز بيعها ولا المعاوضة عليها لايبعد ثبوت حقّ الاختصاص لصاحبها فيها، فلو صار خلّه خمراً، أو دابّته ميتةً، أو اصطاد كلباً غير كلب الصيد لايجوز أخذ شيء من ذلك قهراً عليه، وكذا الحكم في بقيّة الموارد، وتجوز المعاوضة على الحقِّ المذكور فيُبذَل له مال في مقابله ويحلّ ذلك المال له(1).

(مسألة: 3) الميتة الطاهرة كميتة السمك والجراد يجوز بيعها والمعاوضة عليها إذا كان لها منفعة محلّلة معتدّ بها عند العرف بحيث يصحّ عندهم بذل المال بإزائها.

(مسألة: 4) يجوز بيع ما لا تُحلّه الحياة من أجزاء الميتة إذا كانت له منفعة محلّلة معتدّ بها، كما تقدّم.

(مسألة: 5) يجوز الانتفاع بالأعيان النجسة في غير الجهة المحرّمة، مثل التسميد



(1) الأحوط وجوباً عدم حلّيّة المال المبذول بهذا العنوان في مقابل المسكر والخنزير والكلب غير الصيود والميتة حينما لم نجوّز بيعها.

27

بالعَذرات، والإشعال، والطلي بدهن الميتة النجسة، والصبغ بالدم، وغير ذلك.

(مسألة: 6) يجوز بيع الأرواث الطاهرة إذا [كانت] لها منفعة محلَّلة معتدّ بها كما هي كذلك اليوم، وكذلك الأبوال الطاهرة.

(مسألة: 7) الأعيان المتنجّسة كالدبس والعسل والدهن والسكنجبين وغيرها إذا لاقت النجاسة يجوز بيعها والمعاوضة عليها إن كان لها منفعة محلَّلة معتدّ بها عند العرف، فلو لم يكن لها منفعة كذلك لايجوز بيعها ولا المعاوضة عليها، والظاهر بقاؤها على الملكيّة لمالكها، ويجب إعلام المشتري بنجاستها.

(مسألة: 8) تَحرم ولا تصحّ التجارة بما يكون آلةً للحرام بحيث يكون المقصود منه غالباً الحرام، كالمزامير، والأصنام، والصلبان، والطبول، وآلات القمار كالشطرنج ونحوه، والظاهر أنّ منها صندوق حبس الصوت(1). أمّا (الراديو) فليس منها فيجوز بيعه، كما يجوز أن يستمع منه الأخبار وقراءة القرآن والتعزية ونحوها ممّا يباح استماعه. أمّا (التلفزيون) فالمستعمل منه في بلادنا معدود من آلات اللهو المثيرة للشهوات الشيطانيّة، فلا يجوز بيعه؛ لحرمة منافعه غالباً(2)،



(1) ليس هذا من أدوات اللهو، بل هو أداة لحبس الصوت، فيمكن حبس الصوت المحرّم فيه، ويمكن حبس الصوت المحلّل. وإن كان حين البيع مشتملاً على الصوت المحرّم، أمكن للمشتري محوه والاستفادة المحلّلة من الجهاز.

(2) الظاهر أنّ الضابط في كون شيء آلةً للَّهو وللحرام كونه بحسب طبعه ذا منفعة لهويّة غالبة على سائر منافعه، وأمّا إذا كانت نسبته إلى اللهو وغيره في نفسه على نحو واحد غير أنّه استعمل خارجاً في اللهو أكثر ممّا استعمل في غيره، فلا يكفي هذا في صدق عنوان آلات اللهو عليه عرفاً. ومن هذا القبيل التلفزيون كما أفاد ذلك اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)في تعليقه على المتن في هذا المورد، ولكن مع هذا لا نسمح باشترائه للاتّخاذ

28

وأمّا استعماله والنظر فيه فلا بأس به إذا كان لايثير شهوة، بل كان فيه فائدة علميّةأو ترويح النفس. وإذا اتّفق أن صارت فوائده المحلّلة المذكورة كثيرة الوقوع جاز بيعه ويكون كالراديو. وأمّا آلة تسجيل الصوت فلا بأس ببيعها واستعمالها.

(مسألة: 9) كما يحرم بيع الآلات المذكورة يحرم عملها وأخذ الاُجرة عليها، بل يجب إعدامها ولو بتغيير هيئتها(1)، ويجوز بيع مادّتها من الخشب والنحاس والحديد بعد تغيّر هيئتها، بل قبله، لكن لا يجوز دفعها إلى المشتري إلّا مع الوثوق بأنّ المشتري يغيِّرها أو يمنعها من أن يترتّب عليها الفساد، أمّا مع عدم الوثوق بذلك فالظاهر جواز البيع وإن أثِم بترك التغيير مع انحصار الفائدة في الحرام، أمّا إذا كان لها فائدة ولو قليلة لم يجب تغييرها.

(مسألة: 10) تحرم ولا تصحّ المعاملة بالدراهم الخارجة عن السكّة المعمولة لأجل غشّ الناس، فلا يجوز جعلها عوضاً أو معوّضاً عنه في المعاملة مع جهل من تدفع إليه، أمّا مع علمه ففيه إشكال، والأظهر الجواز، بل الظاهر جواز دفع الظالم بها من دون إعلامه بأنّها مغشوشة، وفي وجوب كسرها إشكال، والأظهر عدمه.

(مسألة: 11) يجوز بيع السباع كالهرّ والأسد والذئب ونحوها إذا كانت لها منفعة محلّلة معتدّ بها، وكذا يجوز بيع الحشرات والمسوخات إذا كانت كذلك، كالعَلَق الذي يمصّ الدم، ودود القزّ، ونحل العسل، والفيل. أمّا إذا لم تكن لها منفعة كذلك فلا يجوز بيعها ولا يصحّ.



والاستعمال في البيت إن كان يؤدّي ذلك إلى الاستفادات المحرّمة في البيت، أمّا البيع والشراء التجاريّ له فجائز.

(1) إذا توقّف المنع من استعمالها ومن نشوء الفساد بسببها على ذلك، وقد أفاد ذلك اُستاذنا في تعليقه على هذا المقام.

29

(مسألة: 12) المراد بالمنفعة المحلّلة المجوِّزة للبيع: الفائدة المحلّلة المحتاج إليها حاجةً كثيرةً غالباً الباعثة على تنافس العقلاء على اقتناء العين، سواء أكانت الحاجة إليها في حال الاختيار أم في حال الاضطرار، كالأدوية والعقاقير المحتاج إليها للتداوي مع كثرة المرض الموجب لذلك(1).

(مسألة: 13) المشهور المنع عن بيع أواني الذهب والفضّة للتزيين، أو لمجرّد الاقتناء، والأقوى الجواز(2).

(مسألة: 14) يحرم ولا يصحّ بيع المصحف الشريف على الكافر، وكذا



(1) أو الاهتمام النوعيّ بالتحفّظ منه ولو لم يقع كثيراً، كما هو الحال في الأدوية التي تستعمل للوقاية من الوباء ولو كانت الإصابة الفعليّة به قليلةً جدّاً. هذا ما علّق به اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) على المتن.

وأقول: قد يتّفق أنّ المسألة ليست مسألة الاهتمام النوعيّ لا بالتحفّظ ولا بالمداواة، وإنّما المسألة مسألة منفعة شخصيّة نادرة وحاجة خاصّة عرضت لشخص مّا، كما لو احتاج شخص صدفةً إلى حشرة لمداواة نادرة بها غير مألوفة، أو لجعلها تحت التجزئة والتحليل لاستفادة علميّة، أو لغير ذلك، وكانت تلك الحشرة نادرة الوجود، فوجدت صدفةً لدى زيد وكان له حقّ الاختصاص بالاستيلاء، فمثل هذا الحقّ، ومثل هذه الفائدة يصحّح البيع والشراء الذي احتاجها.

وهدفنا من هذا المثال إعطاء الفكرة الكلّيّة للأمر في المقام، وبيان أنّ المنفعة المحلّلة ليست منحصرة في الضابط الذي اُعطي في المتن، ولا الذي اُعطي في تعليق اُستاذنا(رحمه الله).

(2) الأحوط وجوباً عدم شراء أواني الذهب والفضّة للتزيين(1)، ولكن هذا لا يوجب بطلان البيع؛ لأنّ لهما منفعة محلّلة ولو بلحاظ مادّتهما.


(1) عملاً بإطلاق صحيحة موسى بن بكر، عن أبي الحسن موسى(عليه السلام): «آنية الذهب والفضّة متاع الذين لا يوقنون». الوسائل، ب 65 من النجاسات، ح 4.