229

لو فسخت المرأة بالعيب قبل الدخول فهل لها نصف المهر أو لا؟

بسم الله الرحمن الرحيم

قد يقال: إنّ مقتضى القاعدة بعد الإجماع سقوط المهر؛ لأنّها إنّما ملكت نصف المهر بالعقد فمن الطبيعي أن يسقط ذلك بسقوط العقد.

إلّا أنّ هذا المقدار من البيان لا يكفي؛ لأنّ المهر لو كان عوضاً حقيقياً في مقابل نفس الزوجة أو بضعها في العقد من قبيل مقابلة الثمن بالمثمن في البيع صحّ أن يقال: إنّ معنى الفسخ رجوع كلّ من العوضين إلى محلّه الأوّل، ولكن الأمر ليس كذلك وإنّما التقابل في عقد النكاح بين الزوج والزوجة في تحقّق العلقة الزوجية، وقد ثبت أنّ المهر أو نصفه يملك بسبب العقد، أمّا أنّه هل رجع بالفسخ بعد أن تمّ امتلاك نصف المهر على الأقلّ بالعقد أو لم يرجع، فلم يتّضح بهذا البيان.

وبالإمكان أن يستدل على نفي المهر لدى الفسخ قبل الدخول بأنّه لا إشكال بحسب النصوص في عدم المهر لدى الفسخ من قبل الزوج قبل الدخول، من قبيل:

صحيحة أبي عبيدة الحذّاء عن أبي جعفر(علیه السلام)في العَفلاء والبرصاء والمجنونة والمفضاة ومن كان بها زمانة ظاهرة: «...تردّ على أهلها من غير طلاق... وإن لم يكن دخل بها فلا عدّة عليها ولا مهر»(1).

 


(1) وسائل الشيعة، ج21، ص211، الباب2 من أبواب العيوب والتدليس، ح1.

230

وصحيحة الحلبي عن أبي عبدالله(علیه السلام)في امرأة دلّست عيباً هو بها: قال: «...يؤخذ المهر منها، ولا يكون على الذي زوّجها شيء»(1).

ورواية علي بن جعفر عن أخيه(علیه السلام)قال: «سألته عن امرأة دلّست نفسها لرجل هي رتقاء قال: يفرّق بينهما ولا مهر لها»(2).

وحديث أبي الصباح في القرناء عن أبي عبدالله(علیه السلام): «تردّ على أهلها صاغرة ولا مهر لها»(3).

وحديث غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عن علي(علیه السلام)«في رجل تزوّج امرأة فوجدها برصاء أو جذماء قال: إن کان لم يدخل بها ولم يتبيّن له فإن شاء طلّق وإن شاء أمسك، ولا صداق لها، وإذا دخل بها فهي امرأته»(4).

ووجه الاستدلال بهذه الروايات: أنّه لئن كان الفسخ من قبل الزوج يسقط المهر ففي فسخ الزوجة يكون الأمر بطريق أولى.

وهذا أيضاً يقبل المناقشة بمنع ثبوت الأولوية؛ وذلك بإبداء احتمال أنّ سقوط المهر في مورد تلك الروايات لعلّه كان بنكتة أنّ التدليس كان من قبلها أو أنّ العيب كان فيها، فلا يعلم بذلك أنّه لو كان العيب في الرجل واضطرّت المرأة إلى الفسخ لذلك لم يكن لها نصف المهر.

وقد يستدل على سقوط المهر بخبر السكوني عن جعفر عن أبيه قال: «قال علي(علیه السلام)في المرأة إذا زنت قبل أن يدخل بها زوجها قال: يفرّق بينهما ولا صداق لها؛ لأنّ الحدث كان من قبلها»(5).

 


(1) وسائل الشيعة، ج21، ص212، الباب2 من أبواب العيوب والتدليس، ح4.

(2) المصدر السابق، ص214، ح8.

(3) المصدر السابق، ص208، الباب الأول من أبواب العیوب والتدلیس، ح4.

(4) المصدر السابق، ص210، ح14.

(5) المصدر السابق، ص218، الباب 6 من أبواب العيوب والتدليس، ح3.

231

ووجه الاستدلال بهذا الحديث هو التمسّك بعموم التعليل في قوله: «لأنّ الحدث كان من قبلها»، فهذا يدل على أنّه متى ما كان الحدث من قبلها سقط المهر، وفي المقام حدث الفسخ كان من قبلها.

إلّا أنّ ضعف هذا الوجه واضح، فإنّ المقصود بالحدث في الرواية عيب الزنا، وفي ما نحن فيه يكون العيب من قبل الرجل لا من قبل المرأة. هذا إضافة إلى ضعف سند الحديث.

ويبدو بهذا العرض أنّ العمدة في سقوط المهر هو التسالم والإجماع.

نعم، يستثنى من ذلك الفسخ لأجل العنن؛ لثبوت النص في ذلك بثبوت نصف المهر لها، وهو ذيل صحيح أبي حمزة عن أبي جعفر(علیه السلام): «وأُعطيت نصف الصداق ولا عدّة عليها»(1).

وأمّا ما دل على ثبوت تمام المهر _ وهو: خبر علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر(علیه السلام)في عنّين دلّس نفسه لامرأة ما حاله؟ قال: «عليه المهر ويفرّق بينهما إذا علم أنّه لا يأتي النساء»(2)_ فهو ضعيف سنداً بعبدالله بن الحسن.

أمّا التعدّي من العنن إلى سائر العيوب فيدفعه احتمال الخصوصية بنكتة أنّ العنّين يعاشرها سنة ويستفيد منها بسائر الاستمتاعات غير الدخول.

 


(1) المصدر السابق،ص233، الباب15 من أبواب العيوب والتدليس، ح1.

(2) المصدر السابق، ص232، الباب14، ح13.

233

الاستنساخ البشري

235

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطيّبين الطاهرين.

إنّ هذا البحث رغم أنّه كان بحثاً جمعيّاً في ما بيننا نحن أعضاء المجمع العلمي الفقهي لأهل البيت(علیه السلام)، ولكن الأصل والأساس فيه كان لأبحاث سماحة آية الله الشيخ محمد المؤمن.

وقد صمّمت على أخذ خلاصة منه مع تغييرات عديدة:

فأوّلاً: قد حذفت من ذلك الأبحاث الكثيرة الكثيرة.

وثانياً: قد غيّرت من العبارات الكثير ممّا صغته بتعبيري ما عدا النصوص؛ إذ لا سبيل لتغييرها.

وثالثاً: في موارد الخلاف كتبت البحث وفق رأيي، وليس وفق رأي الجمع، ولا وفق رأي سماحة الشيخ.

أسأل الله تعالى القبول، إنّه سميع مجيب.

4 صفر 1426 ھ

كاظم الحسيني الحائري

237

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطيّبين الطاهرين.

إنّ الثورة العلمية التي تُحدِث في كلّ زمان حديثاً جديداً بعد آخر قد وُفّقت _ حسب ما يقوله علماء الفنّ الجيني وغيرهم _ لاستنساخ عضو أو نبات أو حيوان بطرق مختلفة مُبيَّنة، وقد ينتهي الأمر إلى استنساخ الإنسان، ولذلك فعلى العالِم الديني المسلم أن يُبيَّن حكم ذلك بالنسبة للإنسان بعد أن يأخذ بعين الاعتبار ما يقوله أُولئك العلماء في بيان ماهيّة الاستنساخ _ حسب ما أبرزوه في كتبهم _ فلابدّ لتبيين المطلب من ذكر مقدّمات:

المقدّمة الأُولى

إنّ جسم كلّ شيء مادّي من الإنسان والحيوان يتألّف من أجزاء صغيرة متّصلة، وكلّ جزء لا يكون أصغر منه يسمّى بالخليّة، والخليّة ذات غشاء خاص، ولهذه الخليّة نواة هي بمنزلة لبّ الخليّة، ومادّة سائلة أحاطت بالنواة يعبّر عنها بالسائل الخلوي، أو السيتوبلازم، وفي داخل النواة شبكة مكوّنة من ستّة وأربعين شريطاً تُسمّى مجموعها: «الكروموزومات».

238

والخلايا الجسدية كلّها على هذا العدد من الأشرطة باستثناء الخلايا الجنسية، أعني: خلايا المنيّ الذي تفرزه الخُصْية في الرجال وخلايا بُيَيْضَة النساء التي يفرزها المِبْيَض؛ فإنّ هذه الخلايا الجنسية وإن شاركت خلايا الجسم في اشتمالها على غشاء خاص، وعلى السائل الخلوي (السيتوبلازم)، والنواة، ولكن نواتها تحتوي على ثلاثة وعشرين (كروموزوماً) لا على ستّة وأربعين.

المقدّمة الثانية

إنّ تكوّن الإنسان أو الحيوان الذي تلده أُمّه بطريق الحمل والتوالد الطبيعي يكون باختلاط واندماج خليّة المنيّ من الأب وخليّة البُيَيْضَة من الأُمّ في داخل رحم الأُمّ لدى الإنزال، وتتحقّق بالاندماج خليّة جديدة واجدة لستّة وأربعين (كروموزوماً)، هي مجموع كروموزومات خليّة المنيّ والبُيَيْضَة، وتتغذّى هذه الخليّة داخل الرحم، وتتكثّر، فتنقسم إلى خليّتين، ثم أربع خلايا، ثم ست عشرة، ثم اثنتين وثلاثين. وكلّ هذه الخلايا أمثال سواء من جميع الجهات والخصوصيات، إلّا أنّها إذا بلغت الاثنتين والثلاثين، لا تتكاثر مثل السابق بهذه الخصوصيات، بل تصبح كلّ خليّة منها موظّفة بأعمال خاصّة بحسب ما قدّره الله تعالى في الإنسان والحيوان من الأعضاء المختلفة التي يتكوّن الإنسان أو ذاك الحيوان منها: فمنها ما يحقّق الجلد، ومنها ما يحقّق اللحم، ومنها ما يحقّق العظم، أو المخّ، أو القلب... وما إلى ذلك، فكأنّه ليس في كلّ واحدة منها إلّا مبدأ ذاك العضو الذي جُعل باختيارها حتّى يصبح الجنين طفلاً كاملاً تلده الأُمّ خلقاً سويّاً.

المقدّمة الثالثة

الحمل إذا أصبح تامّ الخلقة، فكلّ عضو من أعضائه المتعدّدة يكون متكوّناً من خلايا متماثلة، فالجلد مهما نما وامتدّ وكبر، فهو متكوّن من خلايا جلديّة متماثلة

239

مختصّة بصنع الجلد، والكبد مهما امتدّ ونما، فهو متكوّن من خلايا متماثلة مختصّة بصنع الكبد، وكذلك القلب والعظم... وما إلى ذلك، وكما أشرنا: إنّ الكروموزومات الستّة والأربعين واجدة لجميع ما بعهدة كلّ كروموزوم، إلّا أنّها في مقام الفاعليّة والتأثير لا تفعل ولا تؤثّر إلّا ما يحتاج إليه الجلد مثلاً أو أيُّ عضو آخر.

المقدّمة الرابعة

إنّ التقدّم العلمي وصل إلى الكشف عن أنّ تلك الكروموزومات هي الدخيلة في كامل الصفات الوراثيّة والخصوصيات المختصّة بكلّ نوع أو فرد، فهي بمنزلة المخّ للخليّة، وهي الحاملة لجميع خصوصيّات الفرد الكامل للإنسان أو الحيوان، ولا فرق في ذلك بين أن يكون التكاثر والتوالد بشكل طبيعي أو بشكل صناعي.

المقدّمة الخامسة

إنّ الاستنساخ _ معناه المطابقي الذي أُريد منه هنا _ هو: طلب نسخة ثانية، فكأنّ ما كان أوّلاً تكوّن من جديد كصورة أُخرى متّحدة الخصوصيّات له، ويعبّر عنه باللغة اللاتينيّة بـ (كلونينك)، ولفظة (كلونينك) مأخوذة من (كلون)، وهي كلمة يونانيّة بمعنى ما يُغْرَس من جذع الشجر مثلاً؛ لينمو ويصبح شجراً كاملاً، فكلونينك عبارة أُخرى عن العمل بصدد الحصول على أمر جديد هو نماء ونسخة كاملة لما غرسنا جذعه؛ ولذلك كلّه يعبّر عن الاستنساخ بأنّه خَلْق المشابه وخَلْق المشابهات؛ لأنّ الحاصل الجديد شبيه للأصل الذي كان، إلّا أنّ هذه المشابهة ربّما تكون بلحاظ العضو الذي تكثّرت خليّته حتّى صارت نسخة ثانية لذلك العضو، وأُخرى تكون بلحاظ الفرد من الإنسان أو الحيوان الذي أُخذت خليّته وتكثّرت.

240

المقدّمة السادسة

يقسّم الاستنساخ إلى أقسام ثلاثة:

القسم الأوّل: استنساخ العضو:

فثورة العلوم الطبيعية الجينيّة انتهت إلى نتيجة إمكان أخذ خليّة واحدة من بعض الأعضاء بوسائل صناعيّة، فتجعل في جهاز خاص أبدعته العلوم الحديثة، وتغذّى بالوسائل الصناعية، فتتكثّر إلى خلايا متماثلة متّصلة إلى أن نحصل على قطعة من الجلد أو العضو الآخر الذي أخذنا خليّته، فنفوز بجلد جديد مثلاً يكون نسخة ثانية للجلد الأصلي.

وربّما يستفاد من هذا العضو الجديد في معالجة ذاك العضو أو ذاك الشخص الذي أخذنا خليّته، فيبدّل المعيوب أو المقطوع بذلك، وتقبّله هذه القطعة الفاقدة لمشابهته تماماً إيّاه.

ونتجاوز ما فعله بعض من إخراج هذا عن اسم الاستنساخ بسبب أنّ حصيلته ليست إنساناً أو حيواناً.

القسم الثاني: الاستتئام:

قد عرفنا أنّ البُيَيْضَة بعد ما لقّحت في رحم المرأة بمنيّ الرجل فالخليّة الملقّحة تتكاثر فتصبح اثنتين، ثم أربعاً، ثم ثمانياً وستّ عشرة... وهذه الخلايا بجميعها داخلة تحت غشاء واحد يكسوها، ولكلّ منها ما عرفت: من غلاف، ومادّة سائلة، والنواة المشتملة على الكروموزومات.

وتقدّم العلم أوجب إمكان خرق ذاك الغشاء الذي كسى جميعها، وتفريقَ الخلايا التي تكاثرت وتعدّدت؛ لتغشى كلّ خليّة بغشاء جديد قالوا: إنّه يؤخذ من بعض الموادّ في البحار، فتكون كلّ خليّة نسخة ثانية للخليّة الأُولى، وتشرع في المحيط المناسب _ أعني الرحم _ بالتكاثر إلى أن تصل إلى اثنتين وثلاثين، وتنمو وتصبح ولداً

241

كاملاً، وهؤلاء الأولادُ أمثال في جميع الصفات والخصوصيّات، وتكون توائم مشابهة.

فيمكن أن توضع كلّ منها في رحم امرأة؛ كي تصبح ولداً كاملاً، كما يمكن جعل بعض منها في رحم المرأة، ويُحْفَظ بعض آخر بصورة جامدة، وبعد عامين مثلاً يجعل في رحم المرأة، فيكون الولدان أو الأولاد متشابهة وتوائمَ كلّ منها عين الآخر، لا فرق بينها، إلّا بأنّ المتقدّم أكبر سنّاً من المتأخّر.

قالوا: إنّه قد عمل بعض علماء الفنّ هذا العمل، إلّا أنّه لم تصل جميع الموارد إلى المطلوب الأقصى، بل نجح من كلّ ثلاثة موارد واحدٌ منها، ولعلّه لعدم كمال الأدوات اللازمة، ولعلّه سيتمّ الأمر فيها بلا استثناء في المستقبل.

ونسبة النواة بما لها من الكروموزومات إلى المادّة السائلة (السيتوبلازم) نسبة النواة إلى الماء الذي تغوص فيه وتتغذّى منه، فالسيتوبلازم ليس إلّا غذاءً كما صرّح بذلك الدكتور «إحسان حتحوت» في رسالته (الاستنساخ البشري) حيث قال:

«يتكوّن الجسم كلّه من خلايا كما يتكوّن البناء من قطع الحجارة أو قوالب الطوب، وبداخل كلّ خليّة نواة هي سرّ النشاط الحياتي للخليّة، ويحيط بالنواة غشاء نوويّ، وتحتوي بداخلها على شبكة مكوّنة من ستّة وأربعين شريطاً تلتقط الصبغة القاتمة؛ ولهذا تسمّى الأجسام الصبغيّة (الكروموزومات)، أمّا باقي مساحة الخليّة في ما بين النواة وبين جدار الخليّة، فمليء بسائل يعرف بالسائل الخلوي أو السيتوبلازم، والأجسام الصبغيّة (الكروموزومات) الستّةُ والأربعون هي حوامل الصفات الوراثيّة على هيئة وحدات من حمض النوويك(1)، تسمّى الجينات مرتّبة ترتيباً خاصّاً، فكأنّها حروف تؤلّف كلمات، وهذه تؤلّف رسالة عامّة، وكذلك الصفات الوراثيّة لفرد بذاته لا يطابقه مثيل بين الناس على مدى الزمان والمكان.

 


(1) نسبة إلى النواة.

242

وتتكاثر الخليّة بالانقسام الذي بموجبه ينشقّ كلّ شريط من هذه الأجسام الصبغيّة طوليّاً إلى نصفين، يتمّم كلّ منهما نفسه إلى شريط كامل بالتقاط الموادّ اللازمة من السائل المحيط به، وهكذا تتكوّن صبغيّتان، تُغَلَّف كلّ منهما نفسَها بغلاف نوويّ؛ لتصبح هناك توأمان تقتسمان السائل الخلويّ، ويحيط بكلّ منهما غشاء خلويّ، وتصبح الخليّة خليّتين، وهكذا أجيال بعد أجيال من الخلايا المتماثلة»(1).

ثم قال في الخلايا الجنسيّة: «هي المنويّات التي تفرزها الخُصْية والبُيَيْضات التي يفرزها المِبيَض، وهي كسائر الخلايا لولا أنّ لها خاصيّة ليست لغيرها؛ ذلك أنّها في انقسامها الأخير الذي تتهيّأ به للقدرة على الإخصاب لا ينشطر الشطر الكروموزومي إلى نصفين يكمّل كلّ منهما نفسه، لكن تبقى الأجسام الصبغيّة سليمة، ويذهب نصفها ليكون نواة خليّة، والنصفُ الآخر ليكون نواة خليّة أُخرى، فتكون نواة الخليّة الجديدة إذاً مشتملة على ثلاثة وعشرين من الأجسام الصبغيّة، لا على ثلاثة وعشرين زوجاً؛ ولهذا يسمّى هذا الانقسام بالانقسام الاختزالي، فكأنّ النواة في ما يختصّ بالحصيلة الإرثيّة نصف نواة.

والقصد من ذلك: أنّه إذا أخصب منويّ ناضج بُيَيْضَة ناضجة باختراق جدارها السميك، التحمت نواتهما إلى نواة واحدة ذات ثلاثة وعشرين زوجاً لا فرداً (46) من الأجسام الصبغيّة كما هي سائر خلايا جسم الإنسان، فكأنّهما جسمان التحما إلى خليّة واحدة هي البُيَيْضَة الملقّحة. وهي أُولى مراحل الجنين».

ثم أفاد الفرق في تكاثر الخلايا الجنسيّة وخلايا الجسم بأنّ البُيَيْضَة الملقّحة تشرع في الانقسام إلى خلايا مماثلة لعدد محدود من الأجيال، فما تكاد تُفضي إلى كتلة من اثنتين وثلاثين خليّة حتّى تتفرّع خلايا الأجيال التالية إلى اتّجاهات وتخصّصات

 


(1) صورة فتوغرافيّة من الرسالة، ص2.

243

شتّى ذات وظائف متباينة، وتتخلّق إلى خلايا الجلد والأعصاب والأمعاء وغيرها، أي: تنمو إلى تكوين جنين ذي أنسجة وأعضاء مختلفة ومتباينة(1).

فهو _ كما ترى _ قد صرّح في تكاثر خلايا الجسم بأنّ نواتها تنمو، وتنشقّ نصفين، وتلتقط، وتستفيد من الموادّ اللازمة الموجودة في السائل الخلويّ، وعطف على ذلك تكاثر الخلايا الجنسيّة، وذكر:

أنّ غاية الفرق بينهما: أنّ البُيَيْضَة الملقّحة ذات ثلاثة وعشرين زوجاً من الكروموزومات، وأنّ تكاثرها المشابهي إنّما يصل إلى اثنتين وثلاثين خليّة، ثم تتفرّع الأجيال التالية إلى تخصّصات شتّى ذات وظائف متباينة، ففي تكاثر الخلايا المحقّقة للنطفة أيضاً إنّما تنمو النواة المتحقّقة من المنيّ والبُيَيْضَة، وليس (السيتوبلازم) إلّا غذاءً مناسباً لها.

وبهذا ظهر أنّه إن ابتُليَت امرأة متزوّجة بمرض في سيتوبلازمها فنقلت نواة بُيَيْضتها بعد تلقيحها بمضاجعة الزوج مكان نواة بُيَيْضة امرأة أُخرى مسلوبة النواة، وجعلت في رحم الثانية؛ كي يستفيد الجنين من سيتوبلازمها السالم، فالأُمّ الحقيقية لهذا الجنين هي تلك الزوجة، وليست صاحبة السيتوبلازم، ولا كلّ واحدة منهما ولا مجموعَهما؛ لأنّ السيتوبلازم لم يكن إلّا غذاءً، والذي نما إنّما هو نواة الزوجة.

القسم الثالث من الاستنساخ:

أن نأخذ خليّة بُيَيْضة امرأة غير ملقّحة، فننزع نواتها، هذا من ناحية، ومن ناحية أُخرى نأخذ خليّة بعض أعضاء رجل أو امرأة _ ولو كانت نفس هذه الامرأة صاحبة البُيَيْضَة _ فنأخذ مثلاً خليّة جلده، ونجعل هذه الخليّة مكان نواة البُيَيْضَة المنزوعة النواة، ثم نجعل هذه الخليّة المتكوّنة بهذا الشكل في داخل رحم امرأة، فتشرع في

 


(1) صورة فتوغرافيّة من الرسالة، ص3.

244

التكاثر إلى أن تبلغ اثنتين وثلاثين خليّة، ثم تصل إلى مراحل رشد الجنين، ويولد طفل يكون من جميع الخصوصيّات والجهات نسخة ثانية لصاحب الجلد في المثال المفروض الذي أخذنا منه خليّة جلده.

فخليّة بُيَيْضة المرأة كانت تشتمل على ثلاثة وعشرين كروموزوماً، ولم تقدر على التكاثر والبلوغ إلى مرحلة جنين كامل، ولكن خليّة العضو الذي أخذنا خليّته مشتملة على ستّة وأربعين كروموزوماً، فإذا وضعت مكان نواة خليّة البُيَيْضَة، تقدر الخليّة المتحقّقة من الخليّتين على أن تتكاثر، وتصل إلى مرتبة كاملة للجنين، ويتولّد الطفل من أُمّه.

والمفهوم من مقالة الدكتور «إحسان حتحوت» ومن بيان الدكتور (في سيلقر) بنقل الدكتور سليمان السعدي: أنّ بُيَيْضة المرأة المنزوعة النواة التي تجعل خليّة الجسم كنواة لها لا تكون ملقّحة بمنيّ الرجل، فقد روى الدكتور داود سليمان السعدي في ما ألّفه من كتاب «الاستنساخ بين العلم والفقه» _ المطبوع بلبنان في سنة 1423 ھ / 2002 م _ ما يلي:

«كيف يُستنسخ البشر؟

تمّ تحديد هذه المعلومات من قبل الدكتور (في سيلقر) من جامعة برنستون، وهو خبير بارز في الاستنساخ: إنّ عمليّة إجراء الاستنساخ ليست عمليّة خياليّة، بل هي شيء حقيقي، وهي مبنيّة على إجراءات استنساخ الشياة، ويبدو أنّ عمليّة استنساخ الفئران يمكن إجراؤها بصورة أفضل. والعمليّتان متشابهتان، ولكنّهما ليستا متماثلتين.

لوازم العمل:

1_ نسيج بشري: خلايا بشريّة نقيّة لنسيج واحد، وتؤخذ من الشخص المراد استنساخه.

245

2_ وسائط زرع للنسيج البشري: وهي الوسائط التي سوف تنمو فيها تلك الخلايا البشريّة، وتنقسم.

3_ وسائط زرع دنيا للنسيج البشري: وهي الوسائط التي سوف تتوقّف الخلايا المزروعة فيها عن الانقسام، وتدخل في حالة من «السُبات» من غير أن تموت.

4_ تجهيزات مختبريّة حاضنة: غطاءٌ واقٍ للرأس والعنق، صحون بتري _ صحون صغيرة رقيقة _ مختبريّة خاصّة للزرع، مجاهر، أدوات قادرة على نزع وغرس جُسَيْمات الخليّة _ كالنواة _ من خليّة إلى أُخرى.

5_ خلايا بُيَيْضات بشريّة غير ملقّحة.

6_ وسائط إنماء خليّة البُيَيْضة البشريّة: وهي وسائط تنمو فيها البُيَيْضات المخصّبة، وتنقسم.

مناهج العمل:

1_ يتمّ إنماء الخلايا البشريّة المراد استنساخها حتّى يتمّ الحصول على كمّيّة كافية منها.

2_ تنقل الخلايا إلى وسائط دنيا _ وهنا فإنّ بحث استنساخ الخراف هو مرجعٌ جيّد لمعرفة الفترة المطلوبة بالضبط_، ويسمح ذلك للخلايا بأن تعيش، ولكنّها تتوقّف عن الانقسام وتدخل في مرحلة السُبات، ويحتمل أنّ هذه المرحلة هي المرحلة التي تفقد فيها الخلايا تمايزها (تخصّصها) وتعود إلى حالة كليّة القدرة، أي: تصبح قادرة على التخصّص والتمايز إلى نوع من أنواع الخلايا المختلفة.

3_ عندما تصبح الخلايا المغروسة في حالة سُبات يتمّ الحصول على خليّة بُيَيْضة بشريّة غير مخصّبة، تُنزع النواة من هذه البُيَيْضة، ثم تطرح النواة وبأقلّ ضرر ممكن للبُيَيْضة.

4_ تؤخذ واحدة من الخلايا المُسبِتة كاملة، وتغرس في داخل الغلاف المحيط بالبُيَيْضة ويُعرف بـ «الطبقة الشفّافة»، في ما يلي البُيَيْضة مباشرة.

246

5_ يتمّ توجيه صعقة كهربائيّة إلى البُيَيْضة _ وهنا بحث استنساخ الخراف يمكن أن يكون مرجعاً جيّداً لقوّة وطول فترة الصعقة_. إنّ الصعقة الكهربائيّة تستحثّ الخليّتين على الاندماج بحيث يمكن أن نعرف إن كانت الصعقة كافيةً من خلال النظر إلى الخلايا وحسب، ويُعتقد بأنّ برمجة الجينات الجنينيّة تبتدئ بإحلال الإشارات البروتينيّة للبُيَيْضة، إلّا أنّ الصعقة الكهربائيّة قد تساعد في تحريك هذه المؤشّرات البروتينيّة عبر غشاء النواة أيضاً. إنّ النفاذيّة الكهربائيّة طريقة شائعة لتسيير جُزَيئات «الدنا» عبر جدار الخليّة.

6_ تعاد الخطوات الثلاثة الأخيرة حسب الحاجة كلّما دعت الضرورة إلى ذلك حتّى يصير لدينا ما يكفي من النُسوخ، وعلينا أن نتوقّع أنّ الكثير منها لن يبقى على قيد الحياة بسبب الأضرار المسبَّبة للخليّة والحوادث الأُخرى. يُسمح للأجنّة بالنموّ والانقسام مرّات قليلة في وسط زرع خليّة البُيَيْضة البشريّة.

7_ تغرس الأجنّة من أُمّهات بشريّات حيث يمكن حملها حتّى يحين أجل وضعها الطبيعي.»

انتهى كلام الدكتور «في سيلقر» حسب نقل الدكتور «داود سليمان السعدي».

وهو كما ترى صريح في أنّ من لوازم العمل خلايا بُيَيْضات بشريّة غير ملقّحة.

وهذه الأقسام الثلاثة للاستنساخ يسمّى الأوّل والثالث منها بالاستنساخ التقليدي، والثاني منها بالاستتئام. وسرّ تسمية الأوّل والثالث منها بالاستنساخ التقليدي هو: أنّ ما يحصل منهما من نتاج يكون نسخة ثانية ومقلّدة للنسخة الأُولى: إمّا نسخة للعضو، أو نسخة للإنسان، أو الحيوان، في حين أنّ التوائم في الاستتئام كلّها في عرض واحد، وليس بعضها تقليداً لبعض.

وقد انتهينا إلى هنا من المقدّمات التي توضّح حقيقة الاستنساخ.

247

حکم الاستنساخ

أمّا البحث عن حكم ذلك، فتارةً يكون عن جواز نفس الاستنساخ في شريعة الإسلام، وأُخرى يكون عمّا يترتّب من الأحكام على الحصيلة المتحصّلة بهذه العملية:

أمّا البحث عن جواز أصل عمليّة الاستنساخ، فلا ريب في أنّه يجب في ذلك الاجتناب عن المحرّمات التي ربّما يكون الإقدام على ذلك مصاحباً لها، فليجتنب مثلاً عن مسّ الأجنبي أو الأجنبيّة لبدن إنسان تُؤخذ منه الخليّة، وكذا النظر إلى ما يحرم النظر إليه، ونظر غير الزوجين إلى عورة غيرهما وإن كان من المحارم.

إلّا أنّ هذه الأحكام أحكام مستقلّة وإذا لم يراع أمثالها، لم يوجب ذلك حرمة نفس الاستنساخ.

نعم، في الاستنساخ التقليدي للإنسان قد يقال: بأنّ استنساخه بشكل وافر يخلق الهرج والمرج في المجتمع: كإمكانيّة اشتباه المجرم كثيراً، وتكثّر الإجرام، وإخفاء الجرم دائماً، وما إلى ذلك.

إلّا أنّ هذا أيضاً إن تحقّق فهو خاص بصورة غير ملازمة، فلا يحرّم الاستنساخ الفردي القليل مثلاً.

وفي الاستتئام قد يقال: إنّه يحرم إعدام النطفة وإلقاؤها من الرحم في جميع مراحل وجودها كما دلّت على ذلك روايات معتبرة من قبيل موثّقة إسحاق بن عمّار: «قلت لأبي الحسن(علیه السلام): المرأة تخاف الحبل فتشرب الدواء، فتلقي ما في بطنها؟ قال: لا. فقلت: إنّما هو نطفة. فقال: إنّ أوّل ما يخلق نطفة»(1). ونظيرها صحيحة رفاعة: قال: «قلت لأبي عبدالله(علیه السلام): أشتري الجارية، فربّما احتبس طمثها من فساد دم أو ريح

 


(1) وسائل الشیعة، ج29، ص25، الباب7 من أبواب القصاص في النفس، ح7.

248

في رحم، فتسقى دواءً لذلك، فتطمث من يومها، أفيجوز لي ذلك وأنا لا أدري من حبل هو أو غيره؟ فقال لي: لا تفعل ذلك. فقلت له: إنّه إنّما ارتفع طمثها منها شهراً، ولو كان ذلك من حبل إنّما كان نطفة كنطفة الرجل الذي يعزل. فقال لي: إنّ النطفة إذا وقعت في الرحم تصير إلى علقة، ثم إلى مضغة، ثم إلى ما شاء الله، وإنّ النطفة إذا وقعت في غير الرحم لم يخلق منها شيء، فلا تسقها دواءً إذا ارتفع طمثها شهراً وجاز وقتها الذي كانت تطمث فيه»(1).

فهاتان الروايتان صريحتان في تحريم إسقاط ما يصلح أن يكون منشأً للولد من الرحم ولو كان على مستوى النطفة، فإذا كان الاستتئام موجباً لفقد خليّة منها كما لعلّه الأغلب كان حراماً، فليجتنب عنه.

وقد يقال في جواب ذلك: إنّ ما وقعت في الرحم من الخلايا ليست عادةً كلّها قادرة لطيّ المسافة إلى حين تكوّن الولد في عرض واحد، وإنّما يتكوّن منها القليل كالواحدة مثلاً، فإذا كان ما أُخذ من الرحم بالطريقة الماضية يموت بعضها، وتتكوّن منها الواحدة، فهذا كاف لتلبية ما تتطلّبه حرمة الإسقاط أو الإعدام؛ إذ لا نعلم بقابلية أكثر من الواحدة على سبيل البدل لذلك.

إلّا أنّ هذا الإشكال إن صحّ، ولم نقل بكفاية قابلية ما يُعدم لنشوء الولد ولو بدلاً في الحرمة، يبقى أنّ احتمال موت الجميع بالعمليّة الماضية وعدم تمامية الإنجاب نهائيّاً واردٌ؛ فإنّ نجاح العمليّة ليس مضموناً في كلّ قضيّة قضيّة، وإنّما أثبت العلم النجاح في بعض العمليّات، وهذا تقريب آخر للحرمة، وهو كاف لضرورة الاجتناب.

إلّا أنّ هذا العمل المحرّم بكلا تقريبيه يقع في مقدّمة الوصول إلى الاستتئام، ونفس الاستتئام ليس بمحرّم بمقتضى هذه الروايات.

 


(1) وسائل الشيعة، ج2، ص338، الباب 33 من أبواب الحيض، ح1.

249

هذا حكم نفس الإقدام على هذه العمليّات.

وأمّا حكم ما يتحقّق من كلّ واحد من هذه الأقسام، فالبحث فيها ما يلي:

القسم الاݨٔوݧّل من الاستنساخ

القسم الأوّل من الاستنساخ هو الاستنساخ التقليدي المؤدّي إلى حصول عضو جديد كالجلد مثلاً، ولا ريب في جواز الانتفاع به في علاج صاحب الخليّة، أي: الذي أُخذت منه الخليّة إذا كان صاحبها إنساناً، ولا مجال لتوهّم حرمة هذا الانتفاع به؛ لشبهة اعتبار رضا صاحب العضو في الانتفاع بعضوه، ولو احتملت حرمة العلاج بنفسه يرفع الاحتمال بأصالة البراءة.

ولا ريب أيضاً في جواز الانتفاع به في علاج الأرحام لصاحب تلك الخليّة، وللأجانب برضا المالك أو بالشراء منه.

ولو قلنا: إنّ المالك أو صاحب الاختصاص هو صاحب الخليّة اشترط في الحلّ رضاه بمال أو مجّاناً.

نعم، قد يقال بنجاسة العضو الجديد إذا كان مشتملاً على اللحم والدم مثلاً بسبب أنّه كالأعضاء المقطوعة من الحيّ.

ولكن لا ينبغي الإشكال في عدم شمول روايات نجاسة الأعضاء المبانة من الحيّ لذلك(1)، فإذا شككنا في الطهارة والنجاسة، فإن قلنا بجريان أصالة الطهارة لدى الشكّ في نجاسة شيء من أوّل أمره انتهى الإشكال، وإن لم نقل بذلك بناءً على الإشكال الموروث من أُستاذنا الشهيد الصدر(رحمه الله)(2) الناتج من التشكيك في كيفيّة

 


(1) وسائل الشيعة، ج23، ص376، الباب24 من أبواب الصيد؛ وج24، ص71، الباب30 من أبواب الذبائح.

(2) بحوث في شرح العروة الوثقی، ج1، ص87.

250

قراءة «قذر» في جملة: «حتّى تعلم أنّه قذر»(1)، قلنا: إنّ الشكّ في الطهارة والنجاسة يكفي في إجراء الأُصول المؤمّنة عن أحكام النجاسة، فينتهي الإشكال بذلك أيضاً.

القسم الثاني من الاستنساخ

والقسم الثاني من الاستنساخ هو الاستتئام، ولا شكّ في أنّ ما يتحقّق منه يكون توأمين أو توائم متعدّدة أباً وأُمّاً، وحالها حال باقي الإخوة والأخوات في التوالد الطبيعي العادي، وكذلك النسبة بينهم وبين سائر الأقرباء.

نعم، يبقى الحديث عن النسبة بين الطفل وبين المرأة التي غذّته برحمها، ولم تكن صاحبة البُيَيْضَة، وهي المسمّاة بالأُمّ الحاضن.

فقد يقال: إنّها هي الأُمّ شرعاً دون التي قلنا إنّها هي الأُمّ الحقيقيّة؛ وذلك لقوله تعالى: ﴿إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ﴾(2)، وعلى هذا الأساس يقال في الأُمّ الحاضن _ سواء كان في مورد الاستتئام أو غيره _ : إنّها هي الأُمّ الحقيقيّة شرعاً، كما صرّح بذلك السيّد الخوئي(رحمه الله) على ما ورد في كتاب «مسائل وردود» مجيباً على سؤال موجّه إليه ما نصّه:

«مسألة (284): أ _ رجل زرع نطفته في رحم امرأة أجنبيّة بواسطة الوسائل الطبّيّة متّفقاً معها على حمل الجنين مقابل مبلغ معيّن من المال؛ لأنّ رحم زوجته لا يتحمّل حمل الجنين. والنطفة مكوّنة من مائه هو وماء زوجته الشرعيّة، وإنّما الامرأة الأجنبيّة وعاء حامل فقط، فمع العلم بحرمة ذلك لاختلاط المياه، لكن المشكلة التي حدثت بعدئذٍ هي أنّ المرأة المستأجرة للحمل طالبت بالولد الذي نما وترعرع في أحشائها، فما قولكم؟

 


(1) وسائل الشيعة، ج3، ص467، الباب37 من أبواب النجاسات والأواني والجلود، ح4.

(2) المجادلة: 2.

251

بسمه تعالى

المرأة المذكورة التي زُرِعَ المنيُّ في رحمها أُمٌّ للولد شرعاً؛ فإنّ الأُمّ هي المرأة التي تلد الولد، كما هو مقتضى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ﴾، وصاحب النطفة أب له، وأمّا زوجته فليست أُمّاً له، وعلى هذا فالمرأة المزبورة من حقّها أن تأخذ الولد إلى سنتين من جهة حقّ الحضانة لها. والله العالم.

ب _ وما حكم هذا الولد من حيث التوارث والنسب؟

بسمه تعالى

يترتّب عليه تمام أحكام الولد من السببيّة والنسبيّة بالنسبة إلى أبيه وأُمّه. والله العالم»(1).

انتهى ما في كتاب مسائل وردود.

إلّا أنّ هذا الكلام غير تامّ؛ إذ لا شكّ أنّ الأُمّ الحقيقيّة العرفيّة إنّما هي صاحبة البُيَيْضة، وأنّ الملاك للأُمومة واضح عند العقلاء، وهو كون النطفة حاصلة من بُيَيْضتها على حدّ أنّ والديّة الأب تكون بسبب أنّ خلايا الولد ولدت منه. والآية المشار إليها لا دلالة لها على خلاف ذلك في المقام؛ فإنّها _ على ما يظهر من سياقها _ ليست بصدد بيان أُمّ ولو تعبّديّة، وإنّما هي بصدد بيان الأُمّ الحقيقيّة لمن يظاهر من امرأته، وأنّ أُمّه الحقيقيّة هي التي ولدته، وليست التي ظاهر منها، قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً...﴾(2).

 


(1) مسائل وردود، ص 99 _ 100.

(2) المجادلة: 2.

252

وقد يقال: إنّ الأُمّ الحاضن هي بمنزلة الأُمّ الرضاعيّة؛ وذلك على أساس مقدّمتين:

الأُولى: أصل فكرة الأُمّ الرضاعيّة، فلو أنّها كانت ترضع ولداً من دون حضانة في الرحم ولا ولادة، فلا شكّ في أنّ ذلك كان يخلق قرابة رضاعيّة تحلّ محلّ قرابة النسب.

والثانية: أنّ تأثير الأُمّ الحاضن في اشتداد اللحم والدم والعظم للطفل أشدّ بكثير من اشتدادها بالرضاع، فتدّعى الأولويّة العرفيّة في نفس التأثير.

والجواب: أنّه لم يكن تمامُ الملاك في خلق القرابة الرضاعيّة الحالّة محلّ القرابة النسبيّة مسألة اشتداد لحم الطفل وبدنه بها، بل لذلك شروط تعبّديّة:

فمثلاً: قد دلّ النصّ التامّ السند على أنّه لو درّ اللبن من المرأة من غير ولادة، وأرضعت طفلاً، لم تنشر الحرمة، كما هو صريح صحيحة يونس بن يعقوب، ورواية موسى بن عمر البصري غير التامّة سنداً(1).

وأيضاً أفتى الأصحاب بعدم انتشار الحرمة بالإرضاع من الزنا.

وأيضاً دلّت النصوص التامّة على أنّ مقياس نشر الحرمة هو لبن الفحل، وليس بطن المرأة(2). وأنا أقتصر هنا على ذكر الرواية الأُولى من الباب، وهي:

صحيحة بريد العجلي: «سألت أبا جعفر(علیه السلام)عن قول رسول الله(صلى الله عليه و آله): يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، فسّر لي ذلك، فقال: كلّ امرأة أرضعت من لبن فحلها ولد امرأة أُخرى من جارية أو غلام، فذلك الذي قال رسول الله(علیه السلام). وكلّ امرأة أرضعت من لبن فحلين كانا لها واحداً بعد واحد من جارية أو غلام، فإنّ ذلك رضاع، ليس بالرضاع الذي قال رسول الله(صلى الله عليه و آله): يحرم من الرضاع ما يحرم من

 


(1) راجع وسائل الشيعة، ج20، ص398، الباب9 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(2) المصدر السابق، ص388، الباب6 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

253

النسب، وإنّما هو من نسب ناحية الصهر رضاع، ولا يحرّم شيئاً، وليس هو سبب رضاع من ناحية لبن الفحولة فيحرّم».

نعم وجدنا روايتين تدلّان على أنّ وحدة البطن كوحدة الفحل في نشر الحرمة:

الأُولى: رواية محمّد بن عبيدة الهمداني، _ وهو رجل مجهول _ قال: «قال الرضا(علیه السلام): ما يقول أصحابك في الرضاع؟ قال: قلت: كانوا يقولون: اللبن للفحل حتّى جاءتهم الرواية عنك: إنّك تحرّم من الرضاع ما يحرم من النسب، فرجعوا إلى قولك. قال: فقال: وذلك أنّ أمير المؤمنين (يعني المأمون) سألني عنها البارحة، فقال لي: اشرح لي: اللبن للفحل وأنا أكره الكلام، فقال لي: كما أنت حتّى أسألك عنها، ما قلت في رجل كانت له أُمّهات أولاد شتّى، فأرضعت واحدة منهنّ بلبنها غلاماً غريباً أليس كلّ شيء من ولد ذلك الرجل من أُمّهات الأولاد الشتّى محرّماً على ذلك الغلام؟ قال: قلت: بلى. قال: فقال أبو الحسن(علیه السلام): فما بال الرضاع يحرّم من قبل الفحل، ولا يحرّم من قبل الأُمّهات؟! وإن كان لبن الفحل أيضاً يحرّم»(1).

وهذه الرواية مع سقوطها سنداً يُشمّ منها رائحة التقيّة.

والثانية: موثّقة جميل بن درّاج عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «إذا رضع الرجل من لبن امرأة حرم عليه كلّ شيء من ولدها وإن كان من غير الرجل الذي كانت أرضعته بلبنه، وإذا رضع من لبن رجل حرم عليه كلّ شيء من ولده وإن كان من غير المرأة التي أرضعته»(2).

إلّا أنّ الظاهر أنّ المعمول به لدى معروف الأصحاب هو الأوّل دون الثاني، فوحدة البطن في باب الرضاع لا تنشر الحرمة حتّى يحمل المقام عليه بالأولويّة.

 


(1) المصدر السابق، ص391، الباب6 من أبواب ما يحرم بالرضاع، ح9.

(2) المصدر السابق، ص403، الباب15 من أبواب ما يحرم بالرضاع، ح3.