567

هذا تمام الكلام في دفع إشكالات الحديث بلحاظ التطبيقات الواردة في الروايات.

مشاكل تطبيقيّة اُخرى

بقي الكلام في دفع إشكالاته بلحاظ ما وقع من قبل العلماء الأعلام من تطبيقاته على موارد فقهيّة. وقد ذكر المحقّق العراقي (قدس سره)(1): أنّ هذه القاعدة لا تنطبق على الموارد التي طبّقت عليها فقهيّاً، إذن فهي ليست في نفسها قاعدة يصحّ استنباط الأحكام منها، وإنّما هي إشارة إلى قواعد اُخرى ثابتة في المرتبة السابقة، وأمّا الموارد التي طبّق الأصحاب القاعدة عليها فليس مدركهم بحسب الحقيقة وبالارتكاز إلّا قواعد اُخرى، وأمّا استشهادهم بحديث (لا ضرر) فيها فهو أمر تشريفي، فإنّا نرى أنّ أيّ مورد طبّقت فيه هذه القاعدة كان الحكم فيه إمّا أوسع ممّا يستفاد من القاعدة، أو أضيق منه. وذكر(قدس سره) في مقام شرح ذلك عدّة موارد:

فمن تلك الموارد ما ذكروه من سقوط الوضوء إذا صار ضرريّاً، واستشهدوا له بـ(لا ضرر)، واستشهد(قدس سره) بنكات ثلاث في هذه المسألة على كون المدرك لهم فيها قاعدة اُخرى، وهي قاعدة اجتماع الأمر والنهي وتقديم النهي ـ وهو النهي عن الإضرار بالنفس ـ دون قاعدة (لا ضرر):

النكتة الاُولى: أنّهم قالوا ببطلان الوضوء، ولم يقتصروا على سقوط الوجوب مع أنّ البطلان ليس من آثار (لا ضرر)، وإنّما هو من آثار النهي في العبادة، فإنّ (لا ضرر) إنّما ينفي الوجوب ولا ينفي الملاك، فيبقى الوضوء صحيحاً لأجل الملاك.

ويرد عليه بغضّ النظر عن أنّه لو فرض أنّهم قالوا بالبطلان من باب حرمة الإضرار بالنفس، فهذا لا ينافي كونهم ناظرين الى تطبيق قاعدة (لا ضرر) بلحاظ نفي الوجوب على ما هو ظاهر استشهادهم على نفي الوجوب بـ(لا ضرر)، فليكن


الحديث لم يكن هو منع سمرة عن الدخول على تقدير عدم الاستئذان حتّى نبحث عن أنّ حديث (لا ضرر) كيف جوّز هذا المنع؟ وأنّ حقّ سمرة لو كان فهل يتعلّق بذات الدخول، أو بالمحافظة على العذق، وليس الدخول إلّا مقدّمة لذلك؟ وإنّما كان الحكم الأوّل عبارة عن أمر سمرة بالاستئذان لدى إرادة الدخول، وانطباق (لا ضرر) لتحريم ترك الاستئذان واضح؛ لأنّ ترك الاستئذان ضرريّ.

(1) راجع المقالات: ج 2، ص 116 ـ 123.

568

مدركهم في نفي الوجوب كلا الأمرين من القاعدة وحرمة الإضرار: أنّنا كيف نعرف أنّ الأصحاب كانوا يسلّمون بقاء الملاك في المقام؟ فإنّ إثبات بقاء الملاك إمّا يكون عن طريق ما ذهب إليه المحقّق العراقي(قدس سره) من أنّ الدلالة الالتزاميّة للأمر بالوضوء على ثبوت الملاك لا تسقط عن الحجيّة بسقوط دلالته المطابقيّة عنها، أو عن طريق ما للمحقّق النائيني(قدس سره) من مبنى أدقّ من هذا، وهو مسألة إطلاق المادّة في المرتبة السابقة على عروض الهيئة، وتفصيل ذلك موكول الى محلّه، وكون الأصحاب معترفين بأحد المبنيين غير معلوم.

ثمّ الحقّ صحّة الوضوء في المقام لا لأحد المبنيين، فإنّنا لا نساعد على شيء منهما، بل لكون الوضوء مأموراً بأمرين: أمر وجوبي مقدّمي، وأمر استحبابي نفسي، و (لا ضرر) وإن أسقط الأوّل، لكنّه لا يسقط الأوامر الاستحبابيّة على ما سيأتي ـ إن شاء اللّه ـ . ونقول ـ أيضاً ـ: إنّ عدم ذهاب المشهور الى الصحّة لا يدلّ على كونهم ناظرين الى حرمة الإضرار؛ إذ لعلّهم لا يقولون بالاستحباب النفسي للوضوء، أو بعدم نفي (لا ضرر) للأوامر الاستحبابيّة.

النكتة الثانية: أنّهم مع اعترافهم ببطلان الوضوء إذا كان ضرريّاً قالوا بالصحّة في خصوص ما إذا كان الشخص جاهلاً بالضرر، وهذا إنّما ينسجم مع كون المدرك مسألة اجتماع الأمر والنهي، وتغليب جانب النهي؛ لما ذكروا في الاُصول من أنّ هذا بابه باب التزاحم المؤثّر لدى العلم دون الجهل، فمثلاً: الصلاة في المكان المغصوب جهلاً صحيحة، ولا ينسجم مع كون المدرك قاعدة (لا ضرر)، فإنّ القاعدة لا يختصّ جريانها بصورة العلم، فلو تمّ الاستدلال بها ثبت البطلان حتّى في حال الجهل.

ويرد عليه بغضّ النظر عمّا عرفت من أنّ هذا لو دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ حكمهم بالبطلان يستند الى حرمة الضرر، ولا يدلّ ذلك على عدم استنادهم في نفي الوجوب الى قاعدة (لا ضرر) ولو من باب الاستناد الى مدركين: أنّ قاعدة (لا ضرر) إنّما تجري في صورة العلم دون الجهل، فلعلّهم أدركوا بذهنهم العرفي عدم جريان القاعدة في صورة الجهل، والسرّ في عدم جريانها في صورة الجهل: هو أنّ القاعدة ترفع الحكم ليرتفع الضرر، وهذا إنّما يعقل في صورة العلم، وأمّا في صورة الجهل فرفع الحكم لا يكون قابلاً لرفع الضرر أصلاً حتّى يثبت انتفاؤه بنفي الضرر، فإنّ المكلّف جاهل ـ حسب الفرض ـ بالضرر، فهو يتوضّأ حتّى لو رفع الوجوب الضرريّ، ولا يمكن إلفاته الى عدم وجوب الوضوء عليه، إلّا بأن ينسخ وجوب

569

الوضوء عن الشريعة رأساً، وهذا ما لا يُحتمل، ونسخه في حقّ هذا بالخصوص لا يمكن أن يصل إليه.

النكتة الثالثة: أنّ المكلّف لو كان عالماً بالضرر ولم يكن عالماً بوجوب الوضوء فهنا حكموا ببطلان الوضوء. وهذا إنّما ينسجم مع فرض كون مدركهم حرمة الضرر التي لا يفترق في حسابها كون المكلّف عالماً بالوجوب وعدمه، ولا ينسجم مع فرض كون المدرك قاعدة (لا ضرر)، فإنّ القاعدة لا تجري في صورة عدم تنجّز الحكم، فإنّها إنّما تنفي الحكم عند نشوء الضرر منه، والحكم عند عدم تنجّزه لا ينشأ منه الضرر.

ويرد عليه بغضّ النظر عمّا عرفت: من أنّ ذلك لا ينافي استنادهم في نفي وجوب الوضوء الى (لا ضرر) أيضاً: أنّ ما ذكره مساوق لكون الحكم بنفي الضرر في حقّ هذا الشخص مشروطاً بعدم الوصول والتنجّز، ومثل هذا إمّا غير معقول على ما ذهب إليه بعض كالمحقّق الاصفهاني(رحمه الله)، أو غير عرفي بحيث يرى العرف نفي إطلاق الحكم لصورة تنجّزه دالاً على نفي أصل الحكم.

ومن تلك الموارد خيار الغبن، وخيار تبعّض الصفقة ونحو ذلك. فذكر المحقّق العراقي(قدس سره): أنّ مدرك الأصحاب قدّس سرّهم في هذه الخيارات في الحقيقة شيء آخر غير (لا ضرر) وهو التسالم بين الأصحاب، والاستشهاد بـ(لا ضرر) يكون من قبيل التعليل بعد الوقوع، فإنّ خيار الغبن وإن كان في مورد الضرر المالي على المغبون، لكن في موارد إخوته كخيار تبعّض الصفقة لا يوجد ضرر مالي، وأمّا الضرر الغرضي بمعنى تخلّف الغرض إذ كان غرضه متعلّقاً بمجموع الصفقة، فليس ضرراً موجباً للخيار، وإلّا للزم ثبوت الخيار في كلّ موارد تخلّف الغرض، كما لو اشترى دواءً لغرض مداواة مريضه وحينما وصل الى البيت رأى أنّ المريض قد طاب أو مات مثلاً.

ثمّ في مورد خيار الغبن وإن كان الضرر المالي ثابتاً، ولكنّ قاعدة (لا ضرر) لا تثبت الخيار بالنحو المفتى به عند الأصحاب من كونه حقّاً يقبل الإسقاط والإرث، فإنّ غاية ما يدلّ عليه (لا ضرر) نفي اللزوم الأعمّ من الجواز الحقّي والجواز الحكمي الذي لا يسقط ولا يورث، فكيف أفتوا بصحّة الإسقاط والإرث؟ إذن فليس مدركهم في الخيار هو قاعدة (لا ضرر).

أقول: نذكر هنا بعض ما ينبغي أن يعلّق به على كلامه (قدس سره)، ثمّ نشرع في تفصيل

570

الكلام في أصل إثبات خيار الغبن عن طريق قاعدة (لا ضرر) وتظهر في ضمن ذلك تتمّة الكلام في التعليق على ما أفاده (رحمه الله)فنقول:

أمّا ما ذكره(قدس سره) من عدم وجود ضرر مالي في إخوة خيار الغبن من قبيل خيار تبعّض الصفقة، وعدم الاعتداد بالضرر الغرضي، ففيه: أنّ الضرر غير منحصر في هذين القسمين، بل يوجد هنا ضرر آخر: وهو ما يكون في طول الارتكاز العقلائي الحاكم بثبوت حقّ الخيار في هذه الموارد، فإنّه ـ عندئذ ـ يكون سلب هذا الحقّ ضرراً على ذي الحقّ فيثبت حقّ الخيار بلا ضرر.

وأمّا ما ذكره(قدس سره) من أنّ (لا ضرر) إنّما يثبت الجامع بين الجواز الحقّي والحكمي، فيرد عليه مضافاً الى ما عرفت من إمكان إثبات هذا الحقّ من باب كونه حقّاً عقلائيّاً يعتبر سلبه ضرراً: أنّنا سلّمنا أنّ قاعدة (لا ضرر) ليس جريانها عند الغبن بلحاظ هذا الضرر، أعني: الضرر الحقّي في طول اعتبار العقلاء لهذا الحقّ، وإنّما يكون بلحاظ الضرر المالي، ولكن مع ذلك يمكننا إثبات آثار الحقّ من السقوط والإرث، أمّا السقوط؛ فلأنّ رضا المشتري مثلاً بلزوم المعاملة والتزامه به ليس إلّا كرضاه بالبيع من أوّل الأمر عند فرض علمه بغبنيّة المعاملة، فإنّه في هذه الحالة يكون هو المُقدم على الضرر، والضرر الذي يقدم عليه لا يرتفع بـ(لا ضرر) على ما سوف يأتي إن شاء اللّه.

وأمّا الإرث فالصحيح أنّه لا وجه لثبوت الإرث في الحقوق، إلّا باعتبار أنّ الحقّ يعدّ مالاً حيث يبذل بإزائه المال، وإلّا فلا دليل على أنّه يورّث، فإنّ دليل الإرث إنّما دلّ على أنّ ما تركه الميّت من مال فلورثته، وهذه النكتة موجودة في المقام أيضاً، فإنّه بعد قابليّته للإسقاط يمكن أن يبذل بإزائه المال فيعدّ مالاً فيورث.

وأمّا تفصيل الكلام في أصل إثبات خيار الغبن بقاعدة (لا ضرر) فهو مايلي:

إنّ تطبيق قاعدة (لا ضرر) على خيار الغبن يكون بأحد وجوه:

الوجه الأوّل: تطبيق القاعدة على خيار الغبن بلحاظ الضرر المالي الموجود في المقام، وقد توجد في هذا التطبيق عدّة إيرادات:

الإيراد الأوّل: ما ذكره المحقّق الإصفهاني(قدس سره) في المقام، وهو أنّه ليس اللزوم فقط ضرريّاً، بل أصل الصحّة ـ أيضاً ـ ضرري، فإنّه ينشأ منها نقص مالي على المغبون، فيجب أن يشمل إطلاق (لا ضرر) الحكم بالصحّة وينفيه، وبذلك يرتفع

571

موضوع تطبيق (لا ضرر) على اللزوم؛ لأنّ اللزوم فرع الصحّة(1).

أقول: إنّ هذا الإشكال تارةً يصاغ بالصياغة التي نقلناها الآن عن المحقّق الإصفهاني، وهي أنّ قاعدة (لا ضرر) تعمّ في بادئ النظر الحكم باللزوم والحكم بالصحّة، وإجراؤها بلحاظ الحكم بالصحّة يكون حاكماً على إجرائها بلحاظ الحكم باللزوم ونافياً لموضوع ذلك، واُخرى يصاغ بصياغة: أنّ قاعدة (لا ضرر) لا تشمل الحكم باللزوم، وإنّما تنظر الى الحكم بالصحّة؛ لأنّه الذي يحدث بحدوثه الضرر دون اللزوم.

ومباني هاتين الصياغتين ما يلي:

أنّنا تارةً نفترض أنّ (لا ضرر) ينفي الضرر الناشئ من الحكم وهو الصحيح، واُخرى نفرض أنّه ينفي الحكم الضرري، وعلى الثاني تارةً نفرض أنّ اللزوم والصحّة حكمان كما هو الصحيح، واُخرى نفرض أنّ اللزوم عبارة اُخرى عن بقاء نفس الحكم بالصحّة واستمراره الى ما بعد الفسخ، وعلى أيّ حال، تارةً نفرض أنّ المنفي في (لا ضرر) بحسب الفهم العرفي هو حدوث الشيء، أي: حدوث الضرر، أو حدوث الحكم الضرري، بحيث لو خرج الحدوث في مورد عن إطلاق (لا ضرر) بدليل ما، لا يمكن التمسّك به في جانب البقاء، واُخرى نفرض أنّ المنفي ذات الشيء، ويشمل إطلاقه وجوده الحدوثي ووجوده البقائي.

فإن فرض أنّ (لا ضرر) ينفي ذات الشيء ويشمل بإطلاقه الوجود الحدوثي والوجود البقائي، اتّجهت الصيغة الاُولى من صيغتي الإشكال من أنّ (لا ضرر) مفاده أوسع من جانب اللزوم ويشمل جانب الصحّة، وبذلك ينفى موضوع شموله لجانب اللزوم.

وإن فرض أنّ (لا ضرر) ينفي الحدوث رأساً، فعندئذ إن فرض أنّ المنفي هو الحكم الضرري، وأنّ اللزوم والصحّة حكمان، اتّجهت ـ أيضاً ـ الصيغة الاُولى للإشكال، وأمّا إن فرض أنّ المنفي هو الضرر الناشئ من الحكم، أو فرض أن اللزوم والصحّة حكم واحد مستمرّ فهنا تتبدّل صيغة الإشكال الى الصيغة الثانية، وهي أنّ (لا ضرر) لا يشمل الحكم باللزوم، وإنّما يشمل الحكم بالصحّة؛ لأنّه الذي يحدث بحدوثه الضرر الناشئ من الحكم أو الحكم الضرري.


(1) راجع تعليق الشيخ الإصفهاني على المكاسب: ج 2، ص 53.

572

هذا. وأجاب هو(قدس سره)عن الإشكال بجوابين(1):

الجواب الأوّل: أنّ الضرر بوجوده الحدوثي ثبت بالإجماع، فالقاعدة خصّصت بالإجماع بإخراج الحكم بالصحّة عن إطلاقها، وعندئذ نتمسّك بإطلاقها لنفي الضرر بوجوده البقائي.

وهذا الجواب إنّما يلائم الصيغة الاُولى للإشكال، وهي التي ينظر هو(قدس سره)إليها، ولا يرفع الإشكال بصيغته الثانية كما هو واضح، فإنّه لو قيل: إنّ (لا ضرر) إنّما ينفي الوجود الحدوثي، وإنّ ذلك إنّما يكون بالحكم بالصحّة، فبعد فرض خروج ذلك عن إطلاق القاعدة بالإجماع لا معنى للتمسّك بالقاعدة لنفي الوجود البقائي.

الجواب الثاني: أنّ الحكم بالبطلان يكون على خلاف الامتنان؛ إذ لو حكم بالصحّة مع كون البيع غير لازم كان للمغبون الخيار في أن يفكّر ويختار ما هو الأصلح لنفسه من الفسخ أو الإمضاء، وأمّا إذا حكم ببطلان البيع فلا يبقى له مجال للتفكير واختيار ما هو الأصلح له.

وهذا الجواب ـ أيضاً ـ إنّما يلائم الصيغة الاُولى للإشكال، فبناءً على كون الحديث مقتضياً في نفسه لرفع اللزوم يقال: إنّ رفعه للصحّة خلاف الامتنان؛ لأنّ حال المغبون بعد فرض نفي الصحّة بـ(لا ضرر) يكون أسوء منه قبل ذلك؛ إذ لولا نفي الصحّة فهو بالخيار إن شاء فسخ وإن شاء أمضى، وليس مضطرّاً إلى رفع اليد عن البيع؛ لعدم بطلانه، ولا إلى الالتزام به؛ لأنّ حديث (لا ضرر) يوجد فيه ـ على أيّ حال ـ اقتضاء نفي اللزوم، فاقتضاء الحديث إضافة الى ذلك لنفي الصحة يسيء بحال المغبون، فيخرج هذا الاقتضاء عن إطلاق الحديث؛ لكونه مخالفاً للامتنان. وما مضى منّا وسيأتي ـ إن شاء اللّه ـ مفصّلاً من منع اشتراط امتنانيّة القاعدة إنّما هو بلحاظ غير من يقصد رفع الضرر عنه بالقاعدة، وأمّا بالنسبة له فهي امتنانيّة.

وأمّا إذا أخذنا بالصياغة الثانية للإشكال، وقلنا: إنّ القاعدة ليس فيها من أوّل الأمر عدا اقتضاء نفي الصحّة، فمن الواضح أنّ هذا يكون بحسب غالب الأحوال مطابقاً للامتنان، فإنّ نفي الصحّة أوفق بحال المغبون من عدمه، أي: أنّ حاله بعد تطبيق القاعدة عليه يكون أحسن من حاله قبله؛ إذ قبل ذلك يكون البيع الغبنيّ لازماً عليه، وبالقاعدة أصبح البيع باطلاً فارتفع الغبن.


(1) راجع نفس المصدر السابق.

573

نعم لو حكم له بالخيار كان أحسن له من الحكم ببطلان البيع، ولكن ليست امتنانيّة القاعدة بمعنى أن يُختار للشخص أحسن حكم بالنسبة له، وإنّما امتنانيّتها تكون بمعنى أنّه يجب أن يكون الشخص أحسن حالاً بعد جريان القاعدة في حقّه منه قبل جريانها.

إذن فهذا الجواب ـ أيضاً ـ إنّما يكون جواباً للإشكال بصيغته الاُولى.

هذا. وما ذكر في هذا الجواب من لزوم امتنانيّة القاعدة إن اُريد به الامتنان الحيثي، قلنا: إنّ الامتنان ثابت في المقام، فإنّ الحكم بالبطلان امتنانيّ بالنسبة له من حيث رفع الغبن، وبلحاظ ما لو لم تجرِ القاعدة في حقّه رأساً حتّى لنفي اللزوم.

وأمّا إن اُريد بذلك الامتنان الفعلي وهو الصحيح، وذلك بمعنى كون القاعدة امتناناً على الشخص بالفعل، أي: مع النظر الى جميع الجهات الثابتة فعلاً لهذا الشخص، فقد يقال ـ عندئذ ـ: إنّه لا امتنان في نفي الصحّة؛ لما عرفت: من أنّ صحّة البيع غير اللازم أحسن بحال المغبون، لكنّنا نقول: إنّ الامتنان الفعلي في ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والموارد والخصوصيات، وليس له ضابط كليّ، فإنّه قد يتّفق أن يكون تزلزل البيع أحسن بحاله من البطلان؛ ليبقى له مجال التفكير مثلاً، وقد يكون بطلانه أحسن بحاله من التزلزل، كما لو فرض مثلاً: أنّ الفسخ يحتاج الى مؤونة، ويقع المغبون في الخجل من الغابن عند الفسخ مثلاً، ويكون الأحسن بحاله بطلان البيع رأساً حتّى يستريح.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ العبرة بالامتنان الفعلي النوعي، ويقال: إنّ التزلزل أحسن بحسب النوع والغالب في حقّ المغبون من البطلان.

وعلى أيّ حال، فإن تمّ أحد الجوابين فإنّما هو جواب عن الإشكال بصيغته الاُولى المبنيّة على فرض كون المنفي هو الجامع بين الوجود الحدوثي والوجود البقائي، أو كون المنفي هو الحكم الضرري، مع فرض كون اللزوم والصحّة حكمين لا حكماً واحداً مستمرّاً الى ما بعد الفسخ، وأمّا إذا استظهرنا كون المنفي حدوث الشيء، وبنينا على ما هو الحقّ من كون المنفي الضرر الناشئ من الحكم، لا الحكم الضرري، أو على أنّ اللزوم والصحّة حكم واحد، اتّجهت الصيغة الثانية للإشكال، وبعد فرض ضمّها الى دعوى دليل قطعيّ كالإجماع على صحّة البيع يتحوّل الإشكال الى ما نجعله الآن إيراداً ثانياً، ونجيب عنه بجواب يندفع به الإيراد الأوّل أيضاً، فنقول:

574

الإيراد الثاني: أنّه لا يمكن تطبيق قاعدة (لا ضرر) في المقام، فإنّه إنّما يندفع بها حدوث الضرر، والحدوث قد تحقّق حتماً بصحّة البيع، وإنّما الكلام في البقاء، وقاعدة (لا ضرر) لا تنفي الوجود البقائي بعد فرض حدوث الشيء.

وهذا الإيراد قد عرفت حاله بحسب تفرّعه على المباني، أي: عرفت أنّه إنّما يتّجه بناءً على استظهار كون المنفي حدوث الشيء، واستظهار كون مصبّ النفي الضرر الخارجي، أو كونه هو الحكم، لكن بشرط أن يُرى اللزوم والصحّة حكماً واحداً.

والجواب عن هذا الإيراد: هو أنّ الصحّة بما هي ليست ضرريّة، فإنّ الضرر ليس عبارة عن مجرّد النقص، وإنّما هو النقص الموجب للضيق النفسي، والحرج الباطني الذي يكون في خصوص ما إذا فرض عدم تمكّن الشخص من التخلّص عن النقص المتوجّه إليه.

والخلاصة: أنّ (لا ضرر) ـ على ما سوف يأتي تفصيله إن شاء اللّه ـ لا يشمل النقص الذي يكون تحت اختيار الشخص، ويمكنه رفعه وإزالته. ومبنيّاً عليه نقول في المقام: إنّ الصحّة بما هي ليست ضرريّة، فإنّ الضرر إنّما يتحقّق بعد فرض ترتّب اللزوم على العقد الصحيح؛ إذ لو فرضت الصحّة وحدها كانت إزالة النقص تحت سلطان المغبون، وذلك بأن يفسخ المعاملة، فالضرر إنّما ينشأ من الحكم الأخير، وهو الحكم باللزوم، ومهما ترتّب ضرر على أحكام مترتّبة بحيث لا يتحقّق الضرر إلّا بعد ترتّب كلّ تلك الأحكام الطوليّة، فلا محالة إنّما يرفع به الحكم الأخير دون ما قبله تقديراً للضرورة بقدرها. نعم لو فرض أنّه على تقدير الصحّة لا مناص من الحكم باللزوم، تكون الصحّة ضرريّة لا محالة، وتنطبق عليها قاعدة (لا ضرر)، فتطبيقها على الحكم باللزوم حاكم على تطبيقها على الحكم بالصحّة. وبهذا يرتفع الإشكال سواء فرض بهذه الصياغة، أو بالصياغة التي مضت عن المحقّق الإصفهاني(قدس سره).

الإيراد الثالث: أنّ (لا ضرر) يدلّ على نفي الضرر، لا على تدارك الضرر، فلا بدّ أن يدلّ هنا على بطلان البيع، لا على ثبوت الخيار بعد فرض صحّته، فإنّ هذا تدارك للضرر.

ويرد عليه: أنّ هذا لا يتمّ لا على مبنانا؛ لما عرفت من أنّ الضرر إنّما يحدث باللزوم، والصحّة وحدها ليست ضرريّة، فنفي اللزوم نفي للضرر لا تدارك له. ولا على ما مضى من مبنى المحقّق الإصفهاني (قدس سره) من أنّ الضرر له وجود مستمرّ قبل

575

الفسخ وبعده، وقد ثبت وجوده قبل الفسخ بالإجماع، ويُنفى وجوده بعده بـ(لا ضرر)، فإنّ نفي اللزوم ـ عندئذ ـ نفي لبقاء الضرر، وليس هذا تداركاً للضرر، وإنّما يكون تدارك الضرر بمثل جعل الأرش، وأمّا جعل الخيار فهو نفي للضرر، إمّا حدوثاً كما هو الصحيح، أو بقاءً، كما هو مختار المحقّق الإصفهاني(رحمه الله).

الإيراد الرابع ـ وهو في الحقيقة محاولة لإثبات عدم انطباق القاعدة على كلام الفقهاء في المقام ـ: هو أنّهم حكموا بسقوط هذا الخيار بالإسقاط، وهذا من آثار الجواز الحقّيّ، مع أنّ (لا ضرر) إنّما يدلّ على الجامع بين الجواز الحقّي والحكمي في المقام، فكيف ثبت الجواز الحقّيّ هنا؟

والجواب: أنّه يمكن إثبات نتيجة حقّيّة الجواز في المقام، أي: إثبات سقوط هذا الخيار بالإسقاط بما سوف يأتي ـ إن شاء اللّه ـ من أنّ الضرر الذي يقدم عليه لا ينفى بقاعدة (لا ضرر)، والتزامه بالبيع بعد معرفة الغبن إقدام على هذا الضرر، ولا فرق في ذلك بين كون الإقدام في مرحلة البقاء أو في مرحلة الحدوث، فكما أنّ من علم بالغبن ومع ذلك أقدم على المعاملة لا خيار له، كذلك من لم يعلم بالغبن وعامل ثمّ عرف الغبن والتزم بالمعاملة الصادرة سقط خياره بالإقدام على الضرر. وبذلك تثبت نتيجة الحقّ في المقام(1).

بل يمكن إثبات ذات الحقّ في المقام، وتوضيح ذلك: أنّ الحكم الذي كان يأتي من قبله الضرر، والذي ارتفع بقاعدة (لا ضرر) كان هو لزوم البيع الغبنيّ حسب الفرض، وهذا اللزوم كان لزوماً حقّيّاً، ولم يكن لزوماً حكميّاً، أي: أنّه من حقّ أحد المتبايعين على الآخر عدم فسخ المعاملة، ولذا ترى أنّه من الصحيح أن يفسخ أحد المتبايعين البيع إذا أقاله صاحبه، وهذا بخلاف النكاح الذي لا مورد للإقالة فيه، وهذا يعني أنّ لزوم النكاح لزوم حكمي، في حين أنّ لزوم البيع لزوم حقّيّ.

والتكييف العقلائي لكون لزوم البيع لزوماً حقّيّاً لا حكميّاً هو ما يلي:

إنّ البيع كما يدلّ على الالتزام بتمليك المال للطرف المقابل، كذلك يدلّ بالدلالة الالتزاميّة العرفيّة على تمليكه إيّاه نفس هذا الالتزام، فإنّ هذا الالتزام يكون بغضّ النظر عن هذا التمليك ملكاً للمالك الأوّل، فله أن يتراجع عن التزامه في أيّ


(1) لا نرى فارقاً ماهويّاً بين الحقّ والحكم عدا كون أمر الحقّ بيد ذي الحقّ، فيكون له إسقاطه، فمتى ما ثبت جواز الإسقاط فقد ثبت الحقّ.

576

وقت شاء ما لم يملّكه للطرف الثاني، وهو بالفعل يملّكه هذا الالتزام فيتمّ اللزوم الحقّي، أي: يكون قوله: «بعت» بمنزلة قوله: «التزمت بتمليكك هذا المال التزاماً لا رجعة لي فيه».

وقد يفترض أنّه لا يملّكه هذا الالتزام، كما في مورد شرط الخيار(1). فيبقى الجواز الحقّي ثابتاً، وقد يفترض أنّ الشارع لم يمض ما ظهر بهذه الدلالة الالتزاميّة، كما في مورد خيار الحيوان، فأيضاً يبقى الجواز الحقّيّ ثابتاً.

وفي مقابل هذا الجواز جواز حكمي، وهو تزلزل العقد في نفسه من دون نظر الى مسألة التزام المتعاملين، كما يقال في جواز الهبة. كما أنّ في مقابل هذا اللزوم الحقّي اللزوم الحكمي، وهو حكم الشارع بلزوم العقد في نفسه من دون نظر الى مسألة التزام المتعاملين، كما قلنا في النكاح، ولذا لم تصحّ الإقالة في النكاح وصحّت


(1) لا نفهم من كلمة (بعت) إلّا تمليك المال، وشرط الخيار أمر إيجابيّ، أي: أنّه يضيف الى العقد شرط الخيار الحقّيّ، وليس أمراً سلبيّاً بمعنى سلبه من العقد شرط اللزوم الذي كان كامناً في العقد، ولولا شرط الخيار كان البيع لازماً عقلائيّاً، لا لشرط اللزوم أو تمليك الالتزام، بل لأنّ الفسخ واسترجاع المال تصرّف في مال الغير فيكون مخالفاً لسلطنته عليه.

وأمّا خيار المجلس والحيوان ـ لو سلّمنا كونهما خياراً حقّيّاً لا حكميّاً ـ فإنّما هو لأجل الاستظهار من دليلهما، حيث يفترض أنّ ظاهر الدليل بمناسبات الحكم والموضوع إثبات الخيار كحقّ لذي الخيار، لا فرضه كحكم عليه.

وأمّا جريان الإقالة بشأن البيع فهي كنفس البيع من الاُمور العقلائيّة التي تتمّ برضا الطرفين، وفي النكاح لا تأتي الإقالة إمّا تعبّداً محضاً، أو بموافقة العقلاء أيضاً؛ لما يرونه من ضرورة نوع من ثبوت الاستقرار في النكاح أكثر ممّا هو في البيع.

هذا. ونحن في نفس الوقت لا نتحاشى عن أن يكون هناك عادةً في مثل البيع شرط ضمني ارتكازي وهو شرط اللزوم، فلو أنّ أحدهما علم أنّ الملك ليس مستقرّاً لديه فيما يشتريه، ويحتمل في أيّ لحظة أن يفسخه الطرف الآخر، قد لا يقدم على الشراء، إلّا أنّنا نقول: إنّه ليس هذا الشرط هو الذي فرض الخيار بحيث لولاه لكان الأصل في البيع التزلزل؛ لأنّه لم يملّك التزامه لصاحبه، بل حتّى مع فرض عدم هذا الشرط يكون البيع لازماً؛ لأنّه يفيد التمليك وبالتالي تنتقل قاعدة السلطنة منه الى صاحبه، والفسخ رغماً على المالك الجديد خلاف سلطنته.

نعم، لو لم يشتمل العقد على تمليك المتعلّق، بل كان مجرّد التزام، كما هو الحال في عقد الأجير الذي هو التزام بعمل للمستأجر، فهنا يأتي ما ذكره اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) من أنّ العقد يدلّ ـ لولا شرط الخيار ـ على الالتزام بالعمل، وعلى تمليك هذا الالتزام للمستأجر.

577

في البيع، أي: أنّ كلّ واحد منهما في البيع ملّك التزامه للآخر، فيمكن لكلّ واحد منهما إرجاع التزام صاحبه إليه فيفسخ. هذا كلّه شيء من مختاراتنا في فقه المعاملات، ونأخذه هنا مصادرة فنقول: إنّ المغبون ملّك التزامه للغابن جهلاً منه بالغبن، وبما أنّ ذلك ضرريّ عليه لا يمضيه الشارع، ومعنى ذلك بقاء هذا الالتزام في ملك المغبون، وهذا هو الجواز الحقّي. نعم هذا المقدار من البيان لا يثبت صحّة إسقاط هذا الخيار، وإنّما يثبت حقّيّة هذا الخيار، وأمّا ثبوت هذا الأثر له وهو أثر الإسقاط، فإنّما يكون بأحد أمرين: أحدهما: ما ذكرناه من أنّ الضرر الذي يقدم عليه لا يُنفى بالقاعدة، ثانيهما: ما سوف يأتي بعد هذا إن شاء اللّه.

الإيراد الخامس: أنّ الفقهاء حكموا بإرث هذا الخيار. ويقال أيضاً: إنّ ذلك من آثار الجواز الحقّي، و (لا ضرر) لا يثبت ذلك، وإنّما يثبت الجامع بين الجواز الحقّي والجواز الحكمي، وقد ظهر جواب ذلك ممّا تقدّم من الجواب عن الإيراد الرابع فإنّنا نقول:

أوّلاً: إنّ الحقّ إنّما يورث لكونه مالاً عرفاً لمقابلته بالمال، والخيار في المقام ـ أيضاً ـ يقابل بالمال بعد ما أثبتناه من قابليّته للسقوط.

وثانياً: أنّه لو سلّمنا أنّ حكم الإرث ثابت على عنوان الحقّ بما هو حقّ، قلنا: إنّه قد مضى بيان كون الجواز في المقام حقّيّاً لا حكميّاً؛ لكونه جوازاً في مقابل اللزوم الحقّيّ بالبيان الذي عرفت، فيورث.

الإيراد السادس: أنّه لماذا لا نثبت بـ(لا ضرر) الأرش ونثبت به الخيار، فإنّه كما يرتفع الضرر بالخيار كذلك يرتفع بالأرش؟!

والجواب: أنّ الخيار نفي للضرر حدوثاً أو بقاءً، كما عرفت، وأمّا الأرش فهو تدارك له، كما لا يخفى، و (لا ضرر) يدلّ على نفي الضرر دون تداركه.

الإيراد السابع: أنّ حيثيّة ضرر المغبون في المقام تُعارَض بحيثيّة اُخرى وبالتالي لا يمكن نفيه بـ(لا ضرر)، وذلك بأحد تقريبات ثلاثة:

الأوّل: أنّ الخيار وإن كان فيه دفع للضرر عن المغبون، لكنّه على خلاف المنّة على الغابن، وهو حكم امتناني يشترط فيه عدم كونه خلاف المنّة.

وفيه: ما سيأتي ـ إن شاء اللّه ـ من بيان إنكار الكبرى، وأنّ (لا ضرر) لا يشترط فيه عدم المخالفة للمنّة على غير من يجري في حقّه ما لم يصل الى مرتبة الضرر عليه.

578

الثاني: أنّ ما نحن فيه داخل في تعارض الضررين، فإنّ اللزوم وإن كان ضرريّاً على المغبون، لكن الفسخ ـ أيضاً ـ ضرر على الغابن، فإنّ الغابن قد أصبح مالكاً لهذا الشيء الذي يساوي دينارين واشتراه بدينار مثلاً، فبالفسخ يتضرّر بمقدار دينار واحد.

والجواب: إنكار الصغرى في المقام، بيانه: أنّ هذا المال للغابن كان مثقلاً في نظر العقلاء من أوّل الأمر بحقّ الاسترداد للغابن، فإذا استردّه المغبون لا يصدق الضرر بشأن الغابن، ولذا لا يستشكل العرف في صحّة نفي اللزوم هنا بملاك نفي الضرر، لا من باب تقديم ضرر على ضرر.

الثالث: أنّ الغابن كما يملّك عين ماله في مقابل مال آخر، كذلك يملّك على ما مضى التزامه في مقابل التزام آخر، فإذا ملّك التزام نفسه للمغبون من دون أن يتملّك هو في مقابل ذلك التزام المغبون كان ذلك ضرراً عليه، والمفروض في المقام أنّ الغابن ليس له الخيار، وهذا يعني: أنّ المغبون مَلَكَ التزام الغابن من دون تملّك الغابن بالمقابل التزامه، وهذا هو الضرر.

والجواب: أنّ هذا إنّما يكون ضرراً في طول ثبوت ارتكاز عقلائي لحقّ للغابن، وهو حقّ أن لا يخرج التزامه من ملكه إلّا ويعطى في مقابله التزام الآخر، وأن لا يُتملّك عليه التزامه مجّاناً، ومثل هذا الارتكاز غير موجود، فلم يثبت له مثل هذا الحقّ حتّى يكون سلبه عنه نقصاً وضرراً عليه. نعم، لو أسقط المغبون حقّه والتزم بالبيع بعد علمه بالغبن ثبت مثل هذا الارتكاز، وتمّ هذا الإشكال. وهذا هو الوجه الآخر لسقوط الخيار بالإسقاط الذي كنّا قد وعدنا ذكره(1).


(1) كأنّ مقصود اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): أنّ الوجه الثاني لقابليّة حقّ خيار الغبن للإسقاط هو أنّه بمجرّد أن يرضى بعد العلم بالغبن بهذا البيع الغبني يصبح في ارتكاز العرف الالتزامان متقابلين، أي: كما أنّ المغبون مَلَكَ التزام الغابن فليس للغابن حقّ سحب الالتزام، كذلك الغابن مَلَك التزام المغبون فليس للمغبون حقّ سحب الالتزام، وهذا معناه سقوط الخيار في نظر العرف. وهذا الأمر الارتكازي لم يرد عليه ردع، وحديث (لا ضرر) ليس رادعاً؛ لما عرفت من أنّ ضرر المغبون قد زاحمه ضرر الغابن بتملّك التزامه من قبل المغبون من دون أن يتملّك هو التزام المغبون، إذن فلا تجري في المقام قاعدة (لا ضرر)؛ كي تكون ردعاً عمّا عرفته من الارتكاز.

أقول: وبالإمكان أن يدّعى: أنّ الارتكاز العقلائي يحكم بنحو العموم بأنّ الحقّ قابل للإسقاط، وهذا بعد التنزّل عمّا قلناه من أنّ قوام حقّيّة الحقّ بقابليّته للإسقاط.

579

الوجه الثاني: تطبيق القاعدة على خيار الغبن بلحاظ الضرر الحقّيّ الموجود في المقام، باعتبار أنّ العقلاء يرون للمغبون حقّ الخيار، فسلب هذا الحقّ عنه ضرر عليه، فقاعدة (لا ضرر) تدلّ على إمضاء هذا الحقّ. وهذا الوجه سالم عن أهمّ تلك الإشكالات التي كانت تورد على الوجه الأوّل المشهور، فلو فرضت تماميّتها قلنا: إنّنا في غنىً عن ذلك الوجه ببركة هذا الوجه:

ويمكن تحليل هذا الحقّ العقلائي بوجوه:

1 ـ كون الغبن بما هو منشأ لحقّ الخيار للمغبون في نظر العقلاء.

2 ـ أنّ البيع يشتمل عرفاً على شرط ضمنيّ، وهو شرط انحفاظ مقدار ماليّة المال وعدم الغبن، وأنّ العرف يرى أنّ فوات هذا الشرط يكون موجباً لضمانه، وأنّه يرى أنّ ضمانه يكون بالخيار وحقّ الفسخ0 وقد أشار الى ذلك المحقّق العراقي(قدس سره)(1)، ونحن حذفناه فيما مرّ حينما كنّا ننقل كلامه(قدس سره) في خيار ا لغبن.

3 ـ أنّ البيع يشتمل عرفاً على الشرط الضمني كما قلنا في الوجه الثاني، وأنّ تخلّف الشرط في نفسه يوجب في نظر العقلاء حقّ الخيار دونما حاجة الى توسيط الضمان كما في الوجه الثاني. ومن هنا يكون هذا الوجه أحسن من سابقه؛ إذ قد يقال في مقابل الوجه السابق: إنّه إذا صار البناء على كون الخيار بتوسّط ضمان الشرط الفائت فلا نقبل أنّ العقلاء يرون ضمانه بخصوص حقّ الفسخ دون الأرش.

4 ـ إرجاع خيار الغبن الى خيار تخلّف الشرط كما في الوجه السابق، وإرجاع


(1) كأنّ المقصود بضمان هذا الشرط في نظرالعرف: أنّ مقدار الماليّة المشروط انحفاظه مضمون على الغابن، فإذا فاته لابدّ من تداركه وإرجاعه بالفسخ، فإنّه إذا فسخ ورجع المال الى ملك الغابن فقد حصل على مقدار الماليّة مرّة اُخرى.

ويرد عليه ما سيشير إليه اُستاذنا في ذيل الوجه الثالث من أنّ الأرش ـ أيضاً ـ يفي بهذا الغرض، وبه ينحفظ مقدار الماليّة مرّة اُخرى، فلماذا يعيّن الفسخ؟!

وعلى أيّ حال، فالمفهوم من كلام المحقّق العراقي(رحمه الله) في المقالات: ج 2، ص 118 ليس هو ما نسبه إليه اُستاذنا(قدس سره) من أنّ العرف يرى ضمان هذا الشرط، وأنّ ضمانه بخيار الفسخ، وفي طول ذلك يأتي (لا ضرر) ليثبت هذا الضمان الذي فرضه العرف؛ لأنّ نفيه ضرر، بل المفهوم منه أنّه بعد أن كان تفويت الشرط ضرراً فنفي الضرر يوجب تدارك هذا الضرر بالخيار0 وما نسبه اُستاذنا (رحمه الله)إليه خير ممّا هو المفهوم من عبارته؛ لأنّ ما هو المفهوم من العبارة يتوقّف على تفسير (لا ضرر) بمعنى تدارك الضرر، وهو غير صحيح.

580

خيار تخلّف الشرط الى شرط الخيار، بأن يقال: إنّ البيع فيه شرط ضمنيّ، وهو شرط انحفاظ مقدار الماليّة، ويوجد في الشروط التي تشترط في المعاملات شرط ضمني، وهو شرط ثبوت الخيار على تقدير التخلّف. وهذا مبنى مدرسة المحقّق النائيني(قدس سره)في أمثال هذه الخيارات من خيار الغبن وتبعّض الصفقة ونحوهما.

الوجه الثالث: تطبيق القاعدة على خيار الغبن بلحاظ الضرر الغرضي؛ لأنّه تعلّق غرضه المعاملي بالتحفّظ على مقدار ماليّة ماله ولم يتحقّق ذلك.

وأورد المحقّق العراقي(قدس سره) على ذلك بأنّه لا عبرة في باب (لا ضرر) بتخلّف الأغراض، وإلّا للزم ثبوت الخيار لمن اشترى الدواء لمريضه فبرئ المريض قبل استعمال الدواء، الى غير ذلك من موارد تخلّف الغرض، مع أنّه لا شكّ في عدم الخيار في أمثال هذه الموارد.

أقول: الصحيح أنّ هذه النقوض غير واردة في المقام، وأنّه يمكن التفكيك بين مثل هذا الغرض، يعني غرض التحفّظ على مقدار ماليّة المال وسائر الأغراض؛ وذلك لما مضى منّا من أنّ الضرر على قسمين: ضرر مطلق، وهو ما يضاف الى الشخص بما هو، كما يقال: تضرّر زيد بتلف ماله وقطع يده ونحو ذلك، وضرر مقيّد، وهو ما يضاف الى الشخص بما هو ذو غرض خاصّ. ولذا يصحّ أن يقال بالنسبة للتاجر الذي لم ينتفع في السنة: إنّه تضرّر في هذه السنة، ولا يصدق الضرر بذلك في حقّ هذا الشخص بما هو، فإنّ عدم النفع غير الضرر، فصدق المتضرّر عليه إنّما يكون بما هو تاجر ذو غرض معاملي لا مطلقاً، وقد قلنا: إنّ حديث (لا ضرر) لا يشمل الضرر المقيّد لما فيه من المؤونة، إلّا إذا فرض ضرر مقيّد مرتكز في أذهان العقلاء باعتبار شدّة تركّز اتّصال ذلك الغرض بالإنسان في أذهانهم الى حدّ صحّ في نظر العرف إطلاق الضرر عليه بقول مطلق من دون أن يحسّ بمؤونة، وعليه يمكن أن يقال: إنّ غرض التحفّظ على مقدار ماليّة المال في المعاملة من هذا القبيل، فيصحّ في نظر العرف إطلاق الضرر بقول مطلق لدى تخلّف هذا الغرض من دون الإحساس بمؤونة. ولا يرد على هذا الإشكال النقض بسائر الأغراض التي من الواضح عدم كونها من هذا القبيل.

نعم ما ذكرناه من فرض كون غرض انحفاظ مقدار الماليّة في المبادلة بالغاً في نظر العرف هذا المستوى من تركّز الاتّصال بالإنسان المؤدّي الى صدق الضرر بقول مطلق عرفاً وإن كان قريباً من النفس، إلّا أنّه لا يمكننا الجزم بذلك.

581

الأضرار الارتكازيّة

وفي ختام الكلام عن فقه الحديث بلحاظ جملة (لا ضرر) لا بأس بشيء من بسط الكلام حول شمول (لا ضرر) للأضرار التي تكون في طول الارتكاز العرفي.

فقد مضى أنّ (الضرر) في الحديث يشمل الضرر الحقيقي الأصلي كقطع اليد، والضرر الذي يكون في طول الارتكاز العرفي، كما في حرمان الشخص من حقوقه العرفيّة، وشمول الضرر للأفراد الارتكازيّة يكون بأحد تقريبين:

أحدهما: دعوى الإطلاق اللفظي بأن يقال: إنّ الشارع بما هو فرد من أفراد العرف، ويخاطب العرف فهو يقصد بالضرر الضرر العرفي، وهو مطلق يشمل الضرر الحقيقي الأصلي والضرر الارتكازي.

وثانيهما: دعوى الإطلاق المقامي، وتوضيحه: أنّه لو سلّمنا أنّ الضرر في هذا الكلام يعطي معنى ما هو ضرر في نظر الشارع، ولم يستعمل في الضرر العرفي، فعندئذ يبقى الكلام في أنّه ما هو الضرر في نظر الشارع علاوة على الضرر الحقيقي الأصلي؟

فإن استُظهِر ـ بالرغم من إجمال اللفظ في ذاته ـ أنّ المولى يكون في مقام البيان، وليس في مقام الإجمال، تمّ الإطلاق المقامي، بأن يقال: بما أنّ المولى في مقام البيان، ولم يبيّن شيئاً زائداً على نفي ما هو الضرر عنده ظهر بذلك: أنّه اعتمد في تعيين ما هو الضرر عنده على الارتكاز والنظر العرفي، واعتبر الارتكاز العرفي قرينة على مراده.

ثمّ هل العبرة في الأفراد الارتكازيّة للضرر بخصوص الأفراد المرتكزة في ذلك الزمان، أو أنّه في كلّ زمان يطبّق القانون بحسب ذاك الزمان، فتدخل فيه الأفراد المستجدّة بتجدّد القوانين العقلائيّة والحقوق العرفيّة؟ وأساساً ما هو الضابط لشمول العنوان في كلام الشارع للأفراد الارتكازيّة وعدم شموله؟

تحقيق الكلام في هذا المقام بنحو يفيد في غير باب الضرر أيضاً: هو أنّ الشيء الذي يكون له فرد بحسب الارتكاز غير فرده الحقيقي الأصلي يكون فرده هذا على أحد أنحاء:

الأوّل: أن يكون هذا الفرد فرداً ارتكز في ذهن الناس اشتباهاً بعد وضوح أصل مفهوم اللفظ وتبيّنه بحدوده بحيث لو نبّهوا على عدم انطباق ذلك المفهوم على هذا الفرد لرجعوا عن إدخاله في أفراد ذلك العنوان، كما لو قال المولى: أكرم العلماء،

582

وتخيّل الناس أنّ زيداً عالم مع أنّه كان جاهلاً، ففي مثل ذلك لا إشكال في أنّ العنوان المأخوذ في كلام الشارع لا يشمله، فإن عدّ الناس ذلك من أفراد هذا العنوان إنّما هو من باب الإخبار، والمفروض أن إخبارهم كاذب في المقام.

الثاني: أن يكون ارتكاز فرديّته للعنوان من باب الإنشاء لا من باب الإخبار، أي: أنّ العرف يوجد فرداً لذلك العنوان، وهذا الإيجاد وإن كان قد يفرض اختصاصه بعرف خاصّ، لكن النتيجة وهي فرديّة ذلك الشيء للعنوان تثبت ثبوتاً حقيقيّاً مطلقاً لا ثبوتاً نسبيّاً، وذلك كما في مفهوم التعظيم، فإنّ له فرداً حقيقيّاً كأمتثال الأمر، وفرداً عرفيّاً يثبت بالارتكاز كالقيام في عرفنا، وبعد أن جَعَلَ عرفٌ مّا القيام تعظيماً يصبح ذلك تعظيماً حقيقة، وحتّى من لم يوافق هذا العرف يعترف ـ أيضاً ـ حينما يرى شخصاً من أهل هذا العرف قام لشخص آخر بأنّه عظّمه، فإنّ التعظيم ليس إلّا إظهار ما يدلّ على عظمة هذا الشخص في نفس المعظِّم، وقد جعل القيام دالّا على ذلك من قبيل جعل لفظ دالّا على معنىً. وفي مثل هذا لا إشكال في أنّ العنوان المأخوذ في لسان الشارع يشمل هذا الفرد، ولو فرض تجدّده في زمان متأخّر عن زمانه، فإنّه فرد حقيقي مطلق، وهو تماماً من قبيل ما اذا حكم المولى بالمطهّريّة مثلاً على الماء ثمّ وُجِد فرد من الماء بعد زمان الشارع بأسباب طبيعية أو بالعلاج.

الثالث: أن تكون فرديّته للعنوان بالإنشاء، وتكون النتيجة ـ أيضاً ـ ضيّقة ونسبيّة، كما يكون أصل الإنشاء مختصّاً بعرف دون عرف، ومعنى ذلك: أنّ الفرد الذي اُوجد بهذا الإنشاء فرد في منظار هذا الإنشاء لا مطلقاً، ومثال ذلك هو النقص والضرر، فله مصاديق حقيقيّة كقطع اليد، وله مصاديق ارتكازيّة، كما في مثل نقص المال المملوك لزيد، فإذا فرض في عرف من الأعراف أنّ هذا المال ملك لزيد ثمّ اُخذ منه، فالخارج عن هذا العرف ـ أيضاً ـ يحكم بتضرّر زيد في هذا العرف، لكن ليس هذا حكماً مطلقاً بالضرر، بل يقال من قبل أهل هذا العرف، ومن قبل غيرهم: إنّ زيداً طرأ في حقّه الضرر والنقص بمنظار كون هذا المال ملكاً له، ولم يطرأ عليه أيّ نقص وضرر بمنظار آخر لا يرى هذا المال ملكاً له.

والصحيح: أنّ العنوان المأخوذ في كلام الشارع في مثل هذا المورد يشمل الأفراد العرفيّة في عصره، ولا يشمل الأفراد المستجدّة في الأعصر المتأخّرة.

أمّا شموله للأفراد العرفيّة في عصره؛ فلأنّ الشارع رجل عرفي يخاطب العرف، فيكون كلامه ظاهراً في المعنى العرفي وبالمنظار العرفي، فيتمّ الإطلاق

583

اللفظي في المقام.

وأمّا عدم شموله للأفراد المستجدّة؛ فلأنّ الإطلاق اللفظي إنّما هو على أساس كون عرفيّة الشارع، والفهم العرفي قرينة متّصلة على صرف الكلام الى المعنى العرفي، ومن الواضح أنّ الفهم العرفي المعاصر هو القرينة المتّصلة دون فهم عرفي آخر، وكذلك لو قلنا بالإطلاق المقامي لا اللفظي، فإنّه ـ أيضاً ـ يكون على أساس قرينيّة العرف الحاضر؛ لكون نظر الشارع موافقاً لنظره.

ثمّ لو فرض شمول الإطلاق اللفظي لو خلِّي وطبعه للأفراد العرفيّة المستجدّة فلابدّ من صرف مثل حديث (لا ضرر) الذي يستبطن إمضاء الأحكام العقلائيّة عن ذلك، والقول باختصاصه بالعرف الحاضر في زمان الشارع؛ وذلك لأنّ من المقطوعات الفقهيّة أنّ حكم الشارع ليس تابعاً للأحكام العقلائيّة بما هي، بأن تكون الأحكام العقلائيّة بما هي موضوعاً لتبعيّة الشارع منها. نعم قد يوافق نظر الشارع نظر العقلاء فيمضي حكمهم.

وعليه فلو فرض أنّ حكم الشارع في (لا ضرر) دار بنحو القضية الحقيقيّة مدار أحكام العقلاء وجوداً وعدماً جيلاً بعد جيل، فإمّا أن يكون هذا من باب التبعيّة لأحكام العقلاء، وكون أحكامهم موضوعاً لحكم الشارع على طبقها، وهذا ما قلنا: إنّه غير محتمل فقهيّاً (1).

وإمّا أن يكون هذا من باب أنّ الشارع أعمل الغيب فرأى أنّ نظره صدفة في كلّ زمان موافق لنظر العقلاء في ذلك الزمان، ولكن إعمال علم الغيب من قبل الشارع في مثل هذا الكلام الملقى الى العرف لبيان الحكم الشرعي خلاف الظاهر.

فالمتحصّل: أنّه لا عبرة بالأفراد المستجدّة للضرر، فإذا فرض مثلاً في عصر ثبوت حقّ الاشتراك في الأموال بلحاظ قانون الاشتراكيّة لم يكن حديث (لا ضرر) دليلاً على إمضائه.

نعم هنا نكتتان لابدّ من الإشارة إليهما:


(1) قد يكون حكم الشارع بتثبيت حقّ من الحقوق في كلّ زمان بسبب ثبوته لدى العرف والعقلاء في ذلك الزمان؛ وذلك باعتبار ما يوجب سلبه من الفرد في ذلك الزمان من حراجة نفسيّة بلحاظ سلب ما هو ثابت له في عرفه، ولا أدري ما هو السبب في دعوى القطع ببطلان ذلك فقهيّاً؟!

584

النكتة الاُولى: أنّه إذا فرض أنّ فرداً من أفراد الضرر اليوم لم يكن موجوداً في عصر الشارع، لكنّه كان واجداً لنكتة أحد الحقوق العقلائيّة آنئذ، أي: أنّ العرف والعقلاء في ذلك الوقت وإن لم يلتفتوا الى هذا الفرد لعدم وجوده، لكنّهم كانوا يرون المفهوم بنحو يشمل هذا الفرد، فلو عرض عليهم هذا الفرد واُلفِتوا إليه لحكموا بثبوت الحقّ العقلائي فيه، وكون مخالفته ضرراً، فدليل (لا ضرر) شامل لمثل ذلك، فإذا سلّم أنّ حقّ الطبع الثابت في زماننا هذا للمؤلّف مثلاً مشمول لنكتة المالكيّة بالحيازة الثابتة ـ وقتئذ ـ ثبت هذا الحقّ بقاعدة (لا ضرر)، فالعبرة إنّما هي بسعة دائرة النكتة العقلائيّة للحقّ، والضرر في ذلك الزمان وضيقها، لا بما هو المصداق الفعلي لذلك وقتئذ.

النكتة الثانية: أنّه عند الشكّ في ذلك، وأنّ الحقّ الكذائي كان ثابتاً في عصر الشارع أو لا لا نحتاج الى إثبات شواهد تأريخيّة مثلاً على الثبوت في ذلك العصرـ وهذا ما يتعذّر ويتعسّر غالباً ـ بل يكفي إجراء أصالة الثبات في اللغة؛ لما عرفت من أنّ الارتكاز العرفي المعاصر يعطي ظهوراً للفظ على أساس الإطلاق اللفظي أو المقامي.

وبما ذكرناه تنحلّ عقدة نفسيّة في الفقه الشيعي ابتلى بها الفقه السنّي قبل الفقه الشيعي فحلّها بالمصالح المرسلة ونحو ذلك، ثمّ ابتلى بها الفقه الشيعي، توضيح ذلك: أنّ العامّة حيث انتهى عصر النصوص عندهم بموت النبي(صلى الله عليه وآله) وقعوا في حيرة من ناحية المسائل المستجدّة وتطوّر الزمن، وأراحوا أنفسهم بفتح باب مثل المصالح المرسلة. والشيعة كانت تؤمن بأنّ النصّ الوارد عن الإمام(عليه السلام) كالنصّ الوارد عن النبي(صلى الله عليه وآله) فلم يبتلوا بذلك في زمان الأئمّة(عليهم السلام)، ولكنّهم ابتلوا في عصر ما بعد الأئمّة (عليهم السلام)، وأخيراً توصّلوا الى ما هو في الحقيقة إشباع لهذا النقص الفعلي، وهو التمسّك بالسيرة العقلائيّة، وتعارف الاستدلال بها أخيراً في زماننا حتّى أنّه قيل: إنّها دليل خامس من أدلّة الأحكام الشرعيّة. وقد مضى منّا بحث مفصّل عن السيرة العقلائيّة، وبيّنا أنّها إنّما تفيد لو ثبتت معاصرتها لزمان المعصوم (عليه السلام)، وذكرنا ضوابط لإثبات المعاصرة، لكنّها لا تشمل عدا مقدار قليل من السير العقلائيّة. ونقول هنا: إنّ هذه التطوّرات الزمنيّة إنّما تؤثّر غالباً في الاُمور المعامليّة والقوانين الاجتماعيّة، فإنّها هي التي تتطوّر بمرور الزمن، ويمكن حلّ المشكلة فيها بإبداء احتمال أنّها وإن لم تكن موجودة في زمن الشارع بمصداقها، لكنّها لعلّها كانت موجودة بنكتتها، وأنّ هذه

585

الحقوق العرفيّة تؤثّر في تكوين الظهور لقوله: «لا ضرر ولا ضرار»، وعليه فتجري أصالة الثبات في اللغة وتنحلّ المشكلة بذلك(1).

 

 


(1) ونفس البيان يأتي بلحاظ غير جملة (لا ضرر)، فكلّما كانت لدينا سيرة عقلائيّة مؤثّرة على ظهور نصّ من النصوص واحتملنا وجود تلك السيرة، أو نكتتها في زمن الشريعة، جرت أصالة الثبات بلحاظ ذاك الظهور. ولعلّ اُستاذنا الشهيد (رحمه الله)إنّما ذكر هنا جملة (لا ضرر ولا ضرار) بعنوان المثال.

586

 

 

 

فقه جملة (لا ضرار)

 

المقام السادس: في فقه الحديث بلحاظ جملة (لا ضرار).

إنّ المفهوم عرفاً من الضرار هو تعمّد الإضرار بلا حقّ، وهذا ما ينبغي أن يقصد بما مضى من أنّ الضرار هو تعمّد الإضرار والتفنّن فيه.

والحديث إن كان مقتصراً على جملة (لا ضرار) لكان نافياً للحكم الذي يأتي منه الضرر سواء كان الحكم بذاته ضرريّاً كما في الحكم بلزوم البيع الغبني، أو كان ضرريّاً بتوسّط إرادة مقهورة تحت الحكم الشرعي، أو قل: كان ضرريّاً باعتبار امتثاله كما في وجوب الوضوء الضرري، أو كان ضرريّاً بتوسّط إرادة غير مقهورة للحكم الشرعي، أي: باعتبار أنّ المكلّف بسوء اختياره يستغلّ الحكم الشرعي فيضرّر به، كما في جواز الدخول لسمرة حتّى بنحو ضرري، فإنّه لو جاز له ذلك كان ضرريّا على الأنصاري، باعتبار أنّ سمرة قد يختار النحو الضرري. و(لا ضرر) ينفي الضرر الناشىء من الحكم الشرعي في كلّ هذه الأقسام الثلاثة. ونتيجته هي رفع هذه الأحكام، فيرتفع لزوم البيع، وينتفي وجوب الوضوء، ويحرم على سمرة الدخول بلا استئذان، ولكنْ إن كان سمرة عاصياً لهذا الحكم وكان يدخل بلا استئذان، فعلاج أمره وهو قطع الشجرة لا يظهر من (لا ضرر)، فإّن حقّه الشرعي في إبقاء الشجرة إنّما ترتّب عليه الضرر باعتبار أنّ سمرة خالف حكماً شرعيّاً، وعمل عملاً حراماً فضرّر الأنصاري، فلا يرتبط ذلك بـ(لا ضرر) وهنا يصل دور (لا ضرار)، فإنّ نفي الضرار ليس مفاده كمفاد نفي الضرر الذي كان يفيد في المقام حرمة الفعل الضرري على سمرة؛ لأنّ الضرار قد اُخذ في حاقّ مفاده معنى الحرمة ـ على ما مضى ـ فلا ضرار نفي للضرر الحرام بلحاظ ما في الشريعة، لا نفي للضرر بلحاظ ما في الشريعة، ومعنى

 

ذلك: نفي سبب وقوع الضرر الحرام، وسببه هو حقّ إبقاء الشجرة، فيرتفع هذا السبب، فيقطع الأنصاري شجرته ويلقيها في وجهه ويستريح منها(1). وطبعاً اتّخاذ


(1) لا يخفى أنّ كلام اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في هذا المقام يوحي بأنّ استفادة مطلب جديد

587


من كلمة (لا ضرار) غير ما يستفاد من كلمة (لا ضرر) تتوقّف على الاعتراف بأنّه أخذ في حاقّ مفاد (الضرار) معنى الحرمة؛ وذلك لأنّه لو لم يكن قد أخذ في حاقّ مفاده الحرمة فالضرار على أيّ حال نوع من الضرر، فنفي الضرر في قوله (لا ضرر) نفي له، ولا يبقى للإضرار مفاد جديد. وهذا بخلاف ما إذا كانت الحرمة مأخوذة في مفاده، فعندئذ يقال: إنّ (لا ضرر) نفي لذات الضرر، وهو نفي للحكم المنتهي الى ذات الضرر، وإذا كان ذاك الحكم هو الجواز فلا ضرر يدلّ على حرمة الضرر.

أمّا (لا ضرار) فبما أنّه قد اُخذ في مفاد كلمة (الضرار) الحرمة فليس نفيه نفياً للحكم المؤدّي الى الضرار وهو الجواز مثلاً؛ لأنّ المفروض مسبقاً أنّ مرتكبه مقدم على الحرام، فنفي الجواز لا ينتهي الى نفي الضرار، إذن فالكلام محمول على قلع السبب الذي به يتذرّع المضارّ في ضراره، وإن كان ذاك السبب لم يسوّغ له الضرر، وهو في قصّة سمرة عبارة عن وجود الشجرة في بيت الأنصاري أو حقّه في وجودها هناك.

وهذا البيان كما ترى يباين البيان الذي سبق منه (رحمه الله) لدى البحث عن مفردات الحديث حيث ذكر: أنّ الضرار عبارة عن الضرر مع أخذ شيء من التأكّد والتعمّق فيه، وهذا التأكّد والتعمّق قد يكون بلحاظ الجانب الخارجي للضرر وهو عبارة عن شدّة الضرر أو طوله ونحو ذلك، وقد يكون بلحاظ الجانب النفسي من الضرر، وهو عبارة عن تعمّده وتصيّده والتفنّن فيه ونحو ذلك من التعابير، وبما أنّ إرادة الأوّل تؤدّي في المقام الى كون (لا ضرار) تكراراً لما يستفاد من (لا ضرر) فيتعيّن كون المقصود هو الثاني، أعني تصيّد الضرر والتفنّن فيه.

أقول: إذا اُخذ التصيّد والتفنّن في مفاد الضرار فقد يقال: إنّه حتّى لو لم تؤخذ الحرمة في مفاده يكون (لا ضرار) معطياً لمعنى جديد غير مستبطن في (لا ضرر)؛ لأنّ (لا ضرر) إنّما ينفي الحكم الذي ينتهي الى الضرر، وأمّا (لا ضرار) فبنكتة أخذ التصيّد، والتفنّن في مفاد كلمة (الضرار) ينصرف الى نفي الحكم الذي تصيّد المضارّ منه الضرر وتفنّن فيه للوصول الى ذلك، وهذا الحكم تارة يكون عبارة عن نفس الجواز، كجواز الدخول على الأنصاري بلا استئذان، فهو منفي بـ(لا ضرار) كما هو منفي بـ(لا ضرر)، واُخرى يكون عبارة عن حقّ سمرة لبقاء الشجرة هناك بـ(ضرر)، وهذا إنّما يكون سبباً لتصيّد الضرر منه بعد قراره لمخالفة الحكم الأوّل، وهو نفي الجواز الذي استفيد من (لا ضرر) و (لا ضرار)، وهذا ـ أيضاً ـ يصبح منفياً بـ(لا ضرر)؛ لأنّه وإن لم يكن حكماً ضرريّاً في نفسه، لكنّه حكم يتصيّد منه الضرر.

وعلى أيّ حال، فالظاهر أنّ الضرار معناه تعمّد الإضرار، بمعنى أن يكون هدف الشخص ممّا يفعله هو الإضرار، كما يستفاد ذلك من بعض الروايات من قبيل:

1 ـ ما ورد بسند تامّ عن الحلبيّ، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنّه سئل عن رجلين كان بينهما

588


عبد فأعتق أحدهما نصيبه فقال: «إن كان مضارّاً كلّف أن يعتقه كلّه، وإلّا استسعى العبد في النصف الآخر»(1).

2 ـ ما ورد بسند تامّ عن محمّد بن مسلم، قال: قلت لأبي عبداللّة (عليه السلام): «رجل ورث غلاماً وله فيه شركاء فأعتق لوجه اللّه نصيبه»، فقال: «إذا أعتق نصيبه مضارّة وهو موسر ضمن للورثة، وإذا أعتق نصيبه لوجه اللّه كان الغلام قد اُعتق من حصّة من أعتق، ويستعملونه على قدر ما اُعتق منه له ولهم، فإن كان نصفه عمل لهم يوماً، وله يوماً وإن أعتق الشريك مضارّاً وهو معسر فلا عتق له؛ لأنّه أراد أن يفسد على القوم ويرجع القوم على حصصهم»(2).

والنسبة بين (لا ضرر) و (لا ضرار) عموم من وجه، فإن كان الحكم ضرريّاً على الغير، وقصد الشخص الإضرار به كان الحكم منفيّاً بكلا العنوانين.

وإن كان الحكم ضرريّاً، ولم يهدف الشخص الإضرار بالغير بل له هدف آخر، صدق الأوّل دون الثاني.

وإن لم يكن الحكم ضرريّاً، لكن تذرّع به الشخص للإضرار، كما في حقّ بقاء الشجرة في مكانها في قصّة سمرة، فهو لا ينتفي بـ(لا ضرر)، ولكنّه ينتفي بـ( ضرار)، إمّا بنكتة أخذ الحرمة في مفاد الضرار كما قاله اُستاذنا، فلا يكفي في نفيه نفي الجواز؛ لأنّ المفروض أنّ الشخص لا يأبى عن ارتكاب الحرام، أو بنكتة نفس أخذ عنوان التعمّد في مفاد الضرار؛ لأنّ هذا العنوان يوحي على الأقلّ الى عدم المبالاة بالحرمة، وهذا كاف في ظهور النصّ في نفي الحكم الذي يتذرّع به الشخص للإضرار، وإن كان ذاك الحكم بنفسه غير مضرّ.

ثمّ إنّه لا يبعد أن يكون نفي الضرار في كثير من الموارد حكماً ولائيّاً وسلطانيّاً، ولا أقصد بذلك ما ذكره السيّد الإمام(رحمه الله): من أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان في نفيه للضرر والضرار متقمّصاً قميص الولاية وحاكماً بحكم ولائيّ، بل أقصد بذلك أنّ نفي الضرار وإن فرض حكماً إلهيّاً فهو حكم إلهي ملقى في غالب الموارد الى أولياء الاُمور كي يطبّقوه في مورد الحاجة، لا الى الناس الاعتياديين مباشرة؛ وذلك لأنّ قلع مادّة الفساد بنفي أمر أو حقّ يتذرّع به المضارّ لو اُعطي بيد الناس لزم في بعض مستوياته الهرج والفوضى، كما هو الحال ـ أيضاً ـ في بعض موارد أو درجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما يفوق على مجرّد الأمر والنهي باللسان.


(1) الوسائل: ج 16، ب 18، من العتق، ح 2، ص 21.

(2) الوسائل: ج 16، ب 18، من العتق، ح 12، ص 23.

589


وأمّا ما ذكره السيّد الإمام (رحمه الله) في المقام فخلاصته(1): أنّ (لا ضرر) و (لا ضرار) الصادر من النبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن حكماً إلهيّاً ذكره بما هو رسول، بل هو حكم ولائي ذكره (صلى الله عليه وآله) بما هو سلطان أمر به اُمّته.

وقد استظهر ـ رضوان اللّه عليه ـ من الحديث قبل بيان حمله على الحكم الولائي كونه نفياً قصد به النهي كما اختاره شيخ الشريعة، واستدلّ على ذلك بالإشكالات التي يرى أنّها ترد على سائر الاحتمالات، من قبيل تخصيص الأكثر، ثمّ ذكر(رحمه الله): أنّ هذا النهي ليس نهياً إلهيّاً بلغة الرسول(صلى الله عليه وآله)بوصفه رسولاً، بل هو نهي ولائيّ وسلطانيّ، فإنّه الذي يظهر من ظاهر النصّ سواء لاحظنا النصّ السنّي، أو لاحظنا النصّ الشيعي.

أمّا النصّ السنّي فلأنّه صُدّر بكلمة (قضى) وهي ظاهرة أوّلاً في قضاء فصل الخصومة، ومحمولة ثانياً بعد وضوح عدم إرادة ذلك على الحكم السلطانيّ والولائيّ، وأمّا حملها على الحكم الإلهي فهو خلاف الظاهر.

وأمّا النصّ الشيعي فالصحيح منه ما ورد في قصّة سمرة، وهو وإن لم يكن مصدّراً بكلمة (قضى)، ولكن موردها مورد القضاء وقد قضى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بقلع شجرته وعلّل ذلك بأنّه «لا ضرر ولا ضرار» والمناسبة تقتضي أن يكون ذلك تعليلاً بحكم ولائيّ وسلطانيّ لا بحكم إلهي.

ولا يقال: إنّ العلّة تكون أوسع من الحكم المعلّل فلابدّ أن يحمل (لا ضرر) و (لا ضرار) على حكم إلهي، لا على قضاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وإلّا لاتّحد مع المعلّل.

فإنّه يقال: إنّ المعلّل هو قضاء من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في مرافعة وقعت بين الأنصاري وسمرة، وقد علّل ذلك بحكم ولائيّ من قبل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، فأوسعيّة العلّة محفوظة في المقام.

ثمّ ذكر (رحمه الله): أنّ الشيخ الأعظم أشار الى إشكال في الاستدلال بحديث سمرة، وهو عدم إمكانيّة انطباق (لا ضرر) على مورد الحديث وهو قصّة سمرة؛ لأنّ الضرر لم يكن في بقاء الشجرة في بيت الأنصاري كي يعلّل الحكم بقلعها بـ(لا ضرر) وإنّما الضرر كان في عدم الاستئذان والدخول بلا إعلام. وعالج الشيخ الأعظم هذا الإشكال بأنّه لا يخلّ بتمسّكنا بالحديث، فإنّ الذي يهمّنا هو الكبرى المعطاة في الحديث دون فهم انطباقها على المورد.

وقال السيّد الإمام (رحمه الله): إنّ من الطبيعي كون الإشكال في انطباق الكبرى في الحديث على المورد مخلاًّ بالاستدلال، ولكنّ هذا الإشكال إنّما يرد على ما فهمه الأصحاب من الحديث، أمّا بناءً على ما فهمناه من حمل الحديث على الحكم الولائيّ فلا يوجد مجال لهذا الإشكال، فإنّ أمر رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)بقلع الشجرة كان حكماً ولائيّاً وأمراً سلطانيّاً ولا إشكال في


(1) راجع تهذيب الاُصول ج 3، ص 112 ـ 122، والرسائل للسيّد الإمام رحمه الله ص 50 ـ 59.

590


ذلك.

أقول: إنّ مجموع هذا الكلام يستفاد منه في الحقيقة وجهان لحمل الحديث على الحكم الولائي:

أحدهما: أنّه لو حملناه على الحكم الإلهي لكان إشكال الشيخ الأنصاري مثبّتاً في المقام؛ لأنّ الكبرى لا تنطبق على المورد، وهذا بخلاف ما لو حملناه على الحكم الولائي.

أقول: لولا الحلّ الذي مضى من اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) من تفسير خاصّ لكلمة (لا ضرار)، وبيان أنّ مستند الحكم في المقام هي كبرى (لا ضرار) دون كبرى (لا ضرر) فمجرّد حمل الكبرى على كونها حكماً ولائيّاً لا حكماً إلهيّاً لا يحلّ إشكال الشيخ الأنصاري، فإنّ الإشكال عبارة عن أنّ الضرر لم يكن آتياً من قبل بقاء الشجرة في بيت الأنصاري، وإنّما كان آتياً من قبل الدخول بلا استئذان، فـ(لا ضرر) لا ينفي حقّ بقاء الشجرة هناك، وهذا كما ترى لا يفرّق فيه بين فرض كون النهي عن الضرر نهياً إلهيّا أو نهياً ولائيّاً، فإنّ كان منطبقاً على المورد كان منطبقاً عليه في كلا الفرضين، وإن لم يكن منطبقاً عليه فهو غير منطبق في كلا الفرضين. واختلاف مصدر النهي بأن يكون هو اللّه، أو الرسول كيف يعقل تأثيره على انطباق النهي على المورد وعدمه؟!

فإن قلت: إنّه لو حملت الكبرى على الحكم الولائي كان تطبيقها على قلع الشجرة بمعنى أنّ سمرة بعد أن خالف الحكم الولائي بعدم الالتزام بالاستئذان جازاه الرسول (صلى الله عليه وآله) بولايته بقلع الشجرة.

قلت: هذا يعني أنّ ارتباط قلع الشجرة بالحكم الولائي المفهوم من (لا ضرر) هو ارتباط التعزير بمعصية الحكم الولائي، وهذا لو تمّ ولم يكن مخالفاً لظاهر تطبيق الحكم على قلع الشجرة لم يختلف الحال ـ أيضاً ـ بالنسبة له بين فرض النهي في (لا ضرر) ولائيّاً أو إلهيّاً، فإنّ التعزير لا يختصّ بمخالفة الحكم الولائي، بل يثبت في مخالفة الحكم الإلهي أيضاً.

إذن فإشكال الشيخ الأنصاري لا يكون قرينة بوجه من الوجوه على حمل الرواية على الحكم الولائي.

والوجه الآخر: هو أنّ تطبيق الكبرى على قضاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بقلع الشجرة يناسب كون الكبرى ـ أيضاً ـ من قضاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بعنوان الحكم الولائيّ لا نهياً إلهيّاً.

أقول: أوّلاً: لم نفهم نكتة هذه المناسبة، فإنّ القضاء في باب المرافعات غالباً يكون مستنداً إلى أحكام إلهيّة، فتعليله بحكم ليس قرينة على كون ذاك الحكم حكماً ولائيّاً لا إلهيّاً.

وثانياً: بعد تسليم أنّ المناسبة تقتضي تعليل الحكم القضائي بالحكم الولائيّ لا بالحكم الإلهيّ نقول: إنّ هذه المناسبة لا تعيّن كون الحكم الولائيّ بالمعنى الذي قاله السيّد الإمام (رحمه الله)، وهو أن تكون نفس القاعدة حكماً أصدره الرسول (صلى الله عليه وآله) بما هو سلطان، لا حكماً بلّغه بما هو

591


رسول، بل من المناسب ـ أيضاً ـ أن تكون القاعدة حكماً إلهيّاً يبيّن لولاة الأمر ما يقضون به كما قلناه بالنسبة للإضرار حيث قلنا: إنّ نفي الضرار بالمعنى الذي شرحه اُستاذنا الشهيد لا يمكن أن يكون في غالب الموارد أمره بيد الناس، بل يكون بيد الولاة، فإذا أدخلنا مورد الحديث في (لا ضرار) كما فعله اُستاذنا الشهيد، وكان (لا ضرار) حكماً ولائيّاً بالمعنى الذي شرحناه، كفى ذلك إشباعاً للمناسبة التي يقولها السيّد الإمام(رحمه الله).

وعليه فيحمل الحديث على ما هو ظاهره الابتدائي من كون (لا ضرر ولا ضرار) حكمين إلهيين مع فارق بينهما، وهو أنّ (لا ضرر) يكون تطبيقه بيد كلّ أحد و (ولا ضرار) يكون تطبيقه في غالب الحالات بيد وليّ الأمر، وبإعمال الولاية في تعيين كيفيّة علاج الضرار، وفي المورد كان الرسول(صلى الله عليه وآله) قد طبّقه بما هو وليّ على قلع الشجرة.

هذا كلّه بلحاظ حديث سمرة.

وأمّا بلحاظ حديث الشفعة وحديث (لا يمنع فضل ماء) فبما أنّ السيّد الإمام ـ رضوان اللّه عليه ـ يعتقد أنّ رواية (لا ضرر) فيهما لم تذكر كتطبيق على الموردين، بل ذلك جمع في الرواية لا في المرويّ، ولهذا لم يحاول إسراء نفس الفكرة التي ذكرها بلحاظ حديث سمرة الى هذين الحديثين، واكتفى بالقول بأنّ الحديث الصحيح سنداً الوحيد في المقام هو حديث سمرة، وهو ظاهر في الحكم الولائيّ؛ لما فيه من تطبيق (لا ضرر) على مورد قضاء الرسول(صلى الله عليه وآله)، ولكن بما أنّنا بنينا على أنّ الجمع في حديثي الشفعة و (لا يمنع) جمع في المرويّ لا في الرواية، فلذا يمكننا أن نقول بعد تسليم استظهار السيد الإمام(رحمه الله) في حديث سمرة: إنّ نفس الفكرة يمكن أن تطبّق على هذين الحديثين، فيقال: إنّ تطبيق «لا ضرر ولا ضرار» على موردي الشفعة ومنع فضل الماء دليل على أنّ ذلك حكم ولائي؛ لانّ حكم الرسول(صلى الله عليه وآله) في الموردين كان حكماً ولائيّاً بدليل التعبير عنه بالقضاء.

ونقطة الضعف التي أشرنا إليها في هذا البيان في رواية سمرة من أنّ القضاء في باب المرافعات يناسب تعليله بالحكم الإلهيّ، كما يناسب تعليله بالحكم ا لولائيّ لا تأتي هنا؛ لأنّ حكم الرسول(صلى الله عليه وآله) بالشفعة وبعدم منع فضل الماء لم يكن حكماً قضائيّاً في المرافعات، بل كان حكماً ولائيّاً، ولا يمكن تعليل الحكم الولائيّ بكبرى إلهيّة؛ لانّ تطبيق الحكم الإلهي عليه يعني كون المطبّق عليه حكماً إلهيّاً ولائيّاً.

ولكن توجد هنا نقطة ضعف اُخرى وهي أنّ التعبير بالقضاء كما يناسب كون حكمه (صلى الله عليه وآله)بالشفع وعدم منع فضل الماء حكماً ولائيّاً، كذلك يناسب كون حكمه (صلى الله عليه وآله) بذلك تطبيقاً لحكم إلهي، فإنّ الحكم وإن فرض إلهيّاً، ولكن حينما لا يكون انطباقه على المورد واضحاً، ويحكم الوليّ بانطباقه على المورد يصدق أنّ الوليّ قضى بانطباق الكبرى على المورد، والحديثان من