542

قولنا: «لا طلاق في الإسلام» بداعي نفي حرمته؛ لأنّ الشيء المحرّم في شريعة لا يوجود في عالم تطبيق تلك الشريعة خارجاً حتّى يفرض بهذه المناسبة له نحو وجود في الشريعة؛ حتّى يصحّ نفي الحرمة بلسان نفيه في الشريعة.

هذا. ومقتضى إطلاق نفي الوجود الاستساغي بهذا النحو نفي تمام مراتب الاستساغة حتّى الإباحة، ولكن يمكن إرادة نفي بعض المراتب، كأن يقال: «لا تَحَمُّلَ للضرر عن الغير في الإسلام» أي: لا يجب ذلك في الإسلام، فإنّ الاستساغة قد تكون بمرتبة الوجوب، وقد تكون بمرتبة الاستحباب، وقد تكون بمرتبة الترخيص مثلاً.

الثالث: أن يُنفى الحكم بنفي الوجود الخارجي للموضوع باعتبار كون الحكم الاستساغي سبباً لوجوده في الخارج، وكونه ينتفي بانتفاء الحكم الاستساغي، فينفى الحكم بنفيه على حدّ نفي السبب بلسان نفي المسبّب.

وهذا فرقه عن سابقه مضموناً: هو أنّ المنفي في السابق هو الوجود الاستساغي، وهنا هو الوجود الخارجي.

وفرقه عنه في الأثر: هو أنّه في القسم السابق يمكن نفي خصوص بعض مراتب الاستساغة بتقييد الإطلاق، وأمّا هذا القسم من النفي فلا يصحّ، إلّا إذا اُريد نفي الترخيص إطلاقاً؛ إذ بانتفاء الوجوب فقط مثلاً لا ينتفي ذلك الشيء خارجاً، وإنّما ينتفي ذلك الشيء بانتفاء استساغته بتمام مراتب الاستساغة.

ثمّ إنّ حديث الرفع لا ينطبق عليه شيء من هذه الأقسام الثلاثة عدا القسم الأوّل، وهو نفي الحكم بلسان نفي وجود الموضوع باعتبار أنّ للموضوع وجوداً من سنخ وجود حكمه، وأمّا في الوجود الاستساغي، أو الوجود الخارجي فلا يناسب مثل عنوان «ما اضطرّوا إليه»، فإنّه ينتج عكس المقصود وقد اُريد من حديث الرفع رفع الحكم بلسان رفع الموضوع باعتبار وجوده في اُفق الحكم بنفس وجود الحكم، وقد قلنا: إنّ هذا القسم من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع غير صحيح، إلّا في مورد اُعمِلت فيه عنايات فائقة، وحديث الرفع من هذا القبيل. وقد مضى شرح الكلام فيه في مبحث البراءة.

هذا تمام الكلام في أقسام نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.

والآن نتكلّم في الفروض المعقولة منها في المقام.

فنقول: أمّا نفي الحكم بلسان نفي الموضوع بنحو الحكومة، أي: بالنكتة التي تختصّ بنفي إطلاق الحكم فهو غير منطبق على جملة (لا ضرر) لا بنحو النفي

543

البسيط ولا بنحو النفي التركيبي.

ونمهّد لتوضيح ذلك بإلفات النظر الى نكتتين:

الاُولى: أنّ نفي الحكم بلسان نفي الموضوع يكون في المقام كنفي الحكم الضرري ابتداءً فيما مضى من احتياجه الى المجاز في الحذف، أو المجاز في الكلمة، أو تطبيق عنوان المسبّب التوليدي على السبب وفق القاعدة الميرزائيّة؛ وذلك لأنّ الضرر بالعنوان الأوّلي ليس هو ذات الموضوع، وهو الوضوء مثلاً، بل هو الحالة الضرريّة كالاستبراد وتشقّق اليد والمرض مثلاً، فتطبيقه على الموضوع وهو الوضوء ـ أيضاً ـ يكون إمّا من باب المجاز في الحذف، أي: (لا وضوء ينشأ منه الضرر)، أو من باب المجاز في الكلمة باستعمال اسم المسبّب وهو الضرر مجازاً في سببه، وهو الوضوء، أو من باب أنّ الضرر مسبّب توليديّ للوضوء، فطبّق عنوانه على سببه وفق القاعدة الميرزائيّة.

والثانية: أنّه إذا دار الأمر بين هذه الاُمور الثلاثة، أعني: المجاز في الحذف، والمجاز في الكملة، وتطبيق عنوان المسبّب التوليدي على السبب حقيقة، فالثالث هو المتعيّن في المقام، فإنّ القاعدة الميرزائيّة صحيحة، وتؤمّن لنا إبقاء الكلام على معناه الحقيقي. فنحن نمشي على هذا المسلك في المقام.

وبعد الالتفات الى ذلك نقول في المقام: إنّ حمل (لا ضرر) على نفي الحكم بلسان نفي الموضوع بنحو الحكومة، أي: بالنكتة التي تختصّ بنفي إطلاق الحكم غير صحيح، لا بنحو النفي البسيط، ولا بنحو النفي التركيبي.

أمّا النفي البسيط فلأنّه إنّما يتلائم مع خصوص موضوع الحكم الضرري كالعقد الغبني مثلاً، ولا يتلائم مع متعلّقه الضرري كالوضوء الضرري؛ لأنّ الحكم لا ينتفي بانتفاء متعلّقه، وإنّما الحكم هو الذي يستدعي تحقّق المتعلّق خارجاً، والحكم ثابت قبل تحقّق متعلّقه ولو فرض عدم تحقّقه الى الأبد، وإنّما الحكم ينتفي بانتفاء موضوعه.

وأمّا النفي التركيبي بأن يقصد بنفي الضرر نفي كون الوضوء الضرري وضوءاً، فلا يرد عليه ما عرفته من الإشكال، فإنّه إذا انتفى اتّصافه بكونه وضوءاً انتفى وجوبه لا محالة، لكن يرد عليه إشكال آخر، وهو أنّ النفي التركيبي المؤدّي الى نفي الحكم بلسان نفي الموضوع يكون معناه هنا عدم كون الوضوء الضرري وضوءاً، وهذا معناه عدم تسلّط النفي أصلاً على المدلول الاستعمالي لكلمة (الضرر)، فإنّ الضرر

544

استعمل حسب الفرض في معناه الحقيقي وإن اُطلق على الوضوء بدعوى كونه مصداقاً له. نعم، لو فرض أنّ الضرر استعمل مجازاً بمعنى الوضوء مثلاً بمثل المجاز في الكلمة، تمّ تسلّط النفي على المدلول الاستعمالي لكلمة (الضرر)، لكنّنا قلنا: إنّنا نمشي على ما هو الفرض الأحسن المتعيّن: من كون المقام من قبيل جعل المسبّب التوليدي عنواناً ثانياً للسبب، فيتسجّل في المقام عدم ارتباط النفي أصلاً بمعنى الضرر الذي استعمل فيه لفظ الضرر، وهذا ليس بياناً عرفيّاً.

وهذا بخلاف مثل (لا ربا بين الوالد وولده)، فإنّ تفسيره بالنفي التركيبي بمعنى: أنّ الربا بين الوالد والولد ليس رباً، لا يرد عليه هذا الإشكال، فإنّه قد تسلّط النفي على المعنى المستعمل فيه لكلمة (الربا).

نعم، حتّى في مثل هذا المثال نقول: إنّ مقتضى الأصل الأوّلي هو حمل الكلام على النفي البسيط لا النفي التركيبي؛ لأنّه أدخَل أداة النفي ابتداءً على الربا، ولم يذكر شيئاً آخر، ولم ينف ِ عنواناً عن شيء حتّى يكون النفي تركيبيّاً، فحملُ الكلام الذي يكون بلسانه الأوّلي نفياً بسيطاً على النفي التركيبي يكون لنكتة، والنكتة العامة في المقام: هي أنّه مهما كان الكلام بلسانه الأوّلي نفياً بسيطاً، لكن كان هناك ارتكاز لنكتة ما في ذلك الكلام تفهم من الكلام لو حمل على النفي التركيبي، ولا تفهم منه لو حمل على النفي البسيط، إلّا بمعونة نفس ذلك الارتكاز، حُمِل الكلام على النفي التركيبي. ففي قوله مثلاً: «لا ربا بين الوالد وولده» الارتكاز يقتضي أنّ نفي الربويّة والزيادة بالرغم من وجودها تكويناً، كأنّه يكون بلحاظ أنّ كيس الوالد والولد واحد، فكأنّه أخرج الزيادة من أحد جيبيه، وأدخلها في جيبه الآخر، فلا زيادة، وهذه النكتة المرتكزة تفهم من نفس الكلام بغض النظر عن الارتكاز لو حمل النفي على النفي التركيبي، أي: فسّر الكلام هكذا: (ليست الزيادة زيادة بين الوالد وولده) والوجه في فهم ذلك من الكلام هو أنّ عنوان الزيادة اُثبتت في الموضوع ونُفيت في المحمول، والعرف يترقّب من ذلك أن يكون نفيه في المحمول بلحاظ غير لحاظ إثباته في الموضوع، بأن يكون الإثبات والنفي بلحاظين مختلفين، لا أن يكون شيء واحد اُثبت حقيقة، ونُفي نفس ذلك الشيء ادّعاءً، وعليه يُفهم ـ لا محالة ـ من الزيادة في الموضوع في هذا الكلام ذات الزيادة الصوريّة، وفي المحمول كونها زيادة واقعيّة باعتبار تعدّد الكيس. وهذا الكلام ينفي كون الزيادة زيادة واقعيّة لوحدة الكيس، ففهمت نكتة وحدة الكيس من نفس الكلام.

545

وأمّا إذا حمل الكلام على النفي البسيط للزيادة فبغضّ النظر عن الارتكاز لا تفهم من نفس الكلام نكتة وحدة الكيس؛ إذ لعلّه ينفي ذات الزيادة ادّعاءً بغضّ النظر عن وحدة الكيس، ومثل ذلك قوله: «لا سرقة في يوم المجاعة»، فإنّ الارتكاز يقضي بأنّ نكتة نفي السرقة هنا عدم كونها سرقة من دون حقّ؛ لأنّ المجاعة تحدث الحق، وهذه النكتة تفهم من نفس الكلام بغض النظر عن الارتكاز لو حمل على النفي التركيبي؛ إذ ـ عندئذ ـ يكون إثبات السرقة في الموضوع بمعنى أخذ مال الغير، وتكون السرقة المنفيّة في المحمول بمعنى أخذ مال الغير بلا حق؛ لما قلنا: من أنّ العرف يترقّب تعدد اللحاظ حينما يثبت شيء في جانب الموضوع، وفي نفس الوقت يُنفى في جانب المحمول. وأمّا إذا حمل على النفي البسيط فلا سبيل إلى فهم هذه النكتة من نفس الكلام بغضّ النظر عن الارتكاز(1).

وهذا بخلاف قولك: «التائب من الذنب لا ذنب له»، فإنّه لا ارتكاز في المقام لنكتة من هذا القبيل، بل الارتكاز هنا يقتضي العكس؛ لأنّه ليس المقصود الاستهانة بالكذب الذي صدر منه مثلاً كي يقال على نحو النفي التركيبي: ليس هذا الكذب ذنباً، وإنّما المقصود أنّ هذا الشخص كأنّه لم يكذب، فيستفاد من هذا الكلام النفي البسيط. هذه هي النكتة العامّة في المقام.

ولعلّ هنا نكتة خاصّة في خصوص (لا ربا) غير مطّردة، وهي كون الحكم المقصود نفيه أثراً لصفة المعاملة الربويّة، لا لنفس المعاملة وتلك الصفة زائدة على نفس المعاملة حتّى في نظر العرف، فالأنسب نفي كون المعاملة الربويّة ربويّة، لا نفي أصل المعاملة الربويّة، وهذا لا يأتي في مثل: «لا سرقة في يوم المجاعة»؛ لأنّ عنوان السرقة عرفاً ليس شيئاً زائداً وراء أصل العمل المخصوص حتّى يقال: إنّ الأثر كان لذلك العنوان، فالأنسب سلبه عن المعنون، لا سلب أصل المعنون. هذا، وفي الذنب وإن كان الأثر لعنوان كونه ذنباً ومخالفةً لا لأصل العمل، لكن في مقابل ذلك كان هنا ما يقتضي كون النفي بسيطاً، وهو أنّه لا يناسب نفي كون ما صدر منه ذنباً، فإنّه يعطي الاستهانة بالذنب العظيم، وإنّما المناسب نفي صدور ذلك الذنب منه.

وأمّا نفي الحكم بلسان نفي الموضوع بالنحو الذي كان يمكن نفي أصل


(1) كأنّ مقصوده(رحمه الله) إرجاع النفي في المقام الى النفي التركيبي بلحاظ المدلول التصديقي. وأمّا بلحاظ المدلول التصوّري فمن الواضح كونه نفياً بسيطاً.

546

الحكم به، فقد عرفت أنّ له أقساماً ثلاثة، فيجب أن نحسب حساب كلّ واحد منها لنرى أنّه هل يمكن انطباقه على المقام أو لا فنقول:

أمّا القسم الأوّل: وهو نفي الوجود الاعتباري للموضوع (باعتبار وجوده في لوح التشريع بنفس وجود الحكم) فبغضّ النظر عمّا عرفت من عدم صحّة ذلك في نفسه نقول: إنّه إن لم نُعمِل العناية التي ذكرناها من فرض الضرر عنواناً ثانوياً للموضوع الضرري، بل فرضنا أنّه اُريد بالضرر نفس الحالة الضرريّة والنقص، لم يصحّ نفي الوجود الاعتباري للموضوع؛ لما مضى من كونه مشروطاً بكون الحكم المقصود نفيه ممّا يترقّب ثبوته؛ لثبوته في بعض الشرائع، أو عند بعض العقلاء مثلاً، وليس للضرر حكم يترقّب ثبوته له عدا الحرمة، ونفي الحرمة ينتج خلاف المقصود.

وأمّا إن أعملنا تلك العناية فلا بأس بذلك، أعني: نفي الوجود الاعتباري للموضوعات الضرريّة كالعقد الغبني، وللمتعلّقات الضرريّة كالوضوء الضرري، وينتفي بذلك الحكم، فإنّ المتعلّق ـ أيضاً ـ كالموضوع له وجود في افق الحكم بنفس وجود الحكم.

وأمّا القسم الثاني: وهو نفي الوجود الاستساغي، فإن لم نُعمِل عناية جعل الضرر عنواناً ثانوياً للموضوع الضرري، بل فرضنا نفي الوجود الاستساغي لنفس الضرر والنقص رجع ذلك الى الوجه الثاني من الوجوه التي تخرّج الاتّجاه الفقهي الثاني، وهنا نقول: إنّ هذا الوجه يخرّج ـ أيضاً ـ الاتّجاه الفقهي الأوّل؛ لأنّ الوجود الاستساغي للضرر ليس منحصراً بجواز الإضرار في الشريعة من قبيل الزنا مثلاً الذي لا معنى لوجوده الاستساغي، إلّا أن يُفرض جوازه، بل يتصوّر الوجود الاستساغي في الضرر بنحو آخر ـ أيضاً ـ وهو تشريع قانون وحكم يتولّد منه الضرر كإيجاب الوضوء الضرري، فإنّ هذا ـ أيضاً ـ وجود استساغي له، فينفى بالحديث، إلّا أنّ هذا ليس نفياً للحكم بلسان نفي الموضوع؛ لأنّ المفروض عدم إعمال عناية جعل الضرر عنواناً ثانوياً للموضوع.

وأمّا إن أعملنا تلك العناية فهنا يتمّ تخريج الاتّجاه الفقهي الأوّل بنفي الحكم بلسان نفي الموضوع، فهو نفي لوجوب الوضوء الضرري مثلاً بلسان نفي نفس الوضوء الضرري.

وأمّا القسم الثالث: وهو نفي الوجود الخارجي، فأيضاً تارة نفرض عدم إعمال تلك العناية، واُخرى نفرض إعمالها:

547

فإن فرضنا عدم إعمالها فالنفي نفي لذات الضرر والنقص الخارجي، فإن كان النفي كناية عن النهي رجع الى الوجه الثالث من الوجوه المخرِّجة للاتّجاه الفقهي الثاني إن قُصد النفي الإخباري، والى الوجه الرابع منها إن قُصد النفي الإنشائي، وإن لم يكن النفي كناية عن ذلك، بل كان المقصود الجدّي ـ أيضاً ـ هو نفي الضرر الخارجي غاية الأمر أنّه يُقيّد من ناحية الأسباب، أو الظروف بخصوص الضرر الناشىء من الحكم على ما مرّ تفصيله، رجع الى الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة لتخريج الاتّجاه الفقهي الأوّل بكلا شقّي ذلك الوجه.

وأمّا إن فرضنا إعمال تلك العناية فهنا يصحّ نفي وجوب الوضوء الضرري بنفي الوجود الخارجي للوضوء الضرري ولو لم ينف تمام مراتب الاستساغة؛ وذلك باعتبار أنّه لا داعي للشخص أن يأتي بالوضوء الضرري ولو فرض جائزاً، فكأنّ زوال وجوبه كاف لتحتّم انتفائه خارجاً، فينفى وجوبه بلسان نفي وجوده الخارجي.

هذا تمام الكلام في وجوه نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، وبقي الكلام في فرض التركيب بين بعض الوجوه وبعض.

والتركيب يتصوّر على نحوين:

الأوّل: التركيب بين ما مضى من الوجودات الثلاثة للضرر، أعني: الوجود الاعتباري من سنخ وجود الحكم، والوجود الاستساغي، والوجود الخارجي. فيفرض أنّ المراد نفي أكثر من وجود واحد، كأن يكون المقصود نفي جميع تلك الوجودات، وهذا وإن كان ممكناً ثبوتاً، لكن لا يساعد عليه شيء في مقام الإثبات، فإنّ الطريق الوحيد لإثباته هو دعوى الإطلاق الشامل لجميع أقسام الوجودات، وهذا الإطلاق غير صحيح، فإنّ هذه الوجودات ليست كلّها حقيقيّة، بل الوجود الأوّل والثاني عنائيان، ففرض كلّ واحد منهما إنّما يكون عند إعمال المتكلّم العناية المختصّة به، ولم يعلم أنّ المتكلّم أعمل العنايتين، وفرض للضرر وجودات ثلاثة كي يقتضي الإطلاق إرادة الجامع بين الوجودات، والإطلاق لا يُثبت إعمال العناية.

هذا. ومقتضى الأصل الأوّلي: هو إرادة الوجود الحقيقي وعدم إعمال العناية، وإن ثبت من الخارج بقرينة إعمال العناية فتلك القرينة تدلّ عرفاً على صرف الكلام ابتداءً عن الوجود الحقيقي لا على إرادة الوجود العنائي الى صفّ الوجود الحقيقي، فإنّ القرينة على الوجود العنائي تصبّ عرفاً الكلام ابتداءً على الوجود العنائي، لا على الجامع بين الوجود العنائي والوجود الحقيقي، وإذا صبّت الكلام ابتداءً على

548

نفس الوجود العنائي فلا محالة انصرف عن الوجود الحقيقي نظير انصراف اللفظ المشترك المستعمل في معنى عن المعنى الآخر.

فظهرأنّ التركيب بمعنى الجمع بين الوجودات علاوة على عدم إمكان إثباته بالإطلاق يكون خلاف الظاهر.

الثاني: أن يجمع بين نكتة الحكومة ونكتة إمكان نفي أصل الحكم بلسان نفي الموضوع، ولو مع الاقتصار على قسم واحد من أقسام وجود الضرر وهو الوجود الخارجي، فإنّه مصبّ لكلتا النكتتين، توضيح ذلك: أنّ النكتة الاُولى ـ أعني نكتة الحكومة ـ كانت عبارة عن فرض الحكم لازماً للموضوع، وكان المنظور فيها الوجود الخارجي لا الاعتباري، أو الاستساغي، والنكتة الثانية كان يتصوّر فيها ثلاثة أنحاء، والنحو الثالث فيها كان ناظراً الى الوجود الخارجي أيضاً، وكان عبارة عن فرض عدم المتعلّق لازماً لعدم الحكم، وهذه كانت مختصّة بالمتعلّقات، كما أنّ النكتة الاُولى كانت مختصّة بالموضوعات، فنجمع بين النكتتين فنطبّق قانون (لا ضرر) على البيع الغبني مثلاً بلحاظ النكتة الاُولى، وعلى الوضوء الضرري مثلاً بلحاظ النكتة الثانية.

وهذا ـ أيضاً ـ وإن لم يكن به بأس ثبوتاً، لكنّه غير تام إثباتاً، فإنّ الإطلاق لا يقتضي الجمع بين عنايتين، وإعمال تنزيلين.

بل نقول: إنّ الجمع بين عنايتين خلاف الظاهر على حدّ استعمال اللفظ في معنيين، أي: كما أنّ فرض استعمال اللفظ بحسب المدلول الاستعمالي في معنيين رغم إمكانه ثبوتاً خلاف الظاهر إثباتاً، كذلك نقول بلحاظ اقتناص المدلول الجدّي: إنّه وإن أمكن فرض إعمال عنايتين لينتج مرادين جدّيين، لكنّه خلاف الظاهر إثباتاً، ويشبه استعمال اللفظ في معنيين.

هذا تمام الكلام في بيان أقسام نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.

وأمّا ما هو مقصود المحقّق الخراساني(رحمه الله) في المقام، فالذي يقصده من عبارته في الكفاية(1) هو إعمال النكتة الاُولى، أعني: فرض الحكم لازماً للموضوع، والذي لا يرفع إلّا الإطلاق، وذلك بقرينة تشبيهه لما نحن فيه بمثل: (يا أشباه الرجال ولا رجال) و (لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد) ممّا يكون نفياً للأثر بلسان نفي ذي


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 268 حسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكيني.

549

الأثر. ولكنّ الذي يقصده في تعليقته على الرسائل(1): هو إعمال النكتة الثانية، أعني: ما يمكن نفي أصل الحكم به؛ لأنّه شبّه المقام في التعليق بمثل: (لا سرقة في الإسلام). وأمّا أنّ مقصوده من ذلك أيّ قسم من الأقسام الثلاثة للنكتة الثانية؟ فهو غير معلوم، ونحن ندّعي أنّ مثل: (لا سرقة في الإسلام) و (لا رهبانيّة في الإسلام) نفي للوجود الاستساغي، ولعلّ المحقّق الخراساني(رحمه الله) ينظر الى نفي الوجود الاستساغي كما يناسب ذلك مثاله، ولعلّه ينظر الى نفي الوجود الاعتباري. والذي قلنا: إنّه يشترط فيه كون الحكم مناسباً لذلك الموضوع ومترقّباً له في الارتكاز؛ وذلك لأنّه ذكر في التعليقة: أنّه ينفي الحكم المناسب للموضوع بلسان نفي ذلك الموضوع.

وأيضاً يوجد فرق آخر بين ما في (الكفاية) وما في (التعليقة)، وهو أنّه في (الكفاية) جعل الضرر عنواناً للموضوع الضرري فرفع بذلك الأحكام الضرريّة، وفي (الحاشية) جعل المقصود بالضرر نفس الحالة الضرريّة، فقال: إنّ (لا ضرر) لا ينفي الحكم الضرري وإنّما يدلّ على حرمة الضرر.

وأمّا الوجوه التي تنتج الاتّجاه الفقهي الثالث وهو نفي الضرر غير المتدارك، فوجهان:

الأوّل: مركّب من أمرين:

أحدهما: كون المقصود بالضرر النتيجة المتحصّلة بعد الكسر والانكسار مع التدارك الواقع في المقام، بحيث لو فُرض حصول التدارك التامّ كمن تضرّر ديناراً ثم اُعطي ديناراً بهدف تدارك الضرر، فكأنّه لا ضرر في المقام بعد الكسر والانكسار.

ثانيهما: لحاظ عناية من العنايات التي تصحّح نفي الشيء مع وجوده خارجاً، كأن يفرض أنّ عدمه لازم لوجوب التدارك باعتبار قصر النظر على العباد المطيعين.

هذا. ولا يصحّ أن تفرض (لا) ناهية، وإلّا لكان نهياً عن الضرر غير المتدارك، بأن يكون الضرر حراماً، لا أمراً بالتدارك كما هو المقصود.

الثاني: وهو ـ أيضاً ـ مركّب من أمرين:

أحدهما: كون (لا) هنا ناهية، أو نافية مع لحاظ عناية من العنايات المصحّحة لنفي الشيء مع وجوده خارجاً.

وثانيهما: أن يفرض للضرر وجودان: وجود أصلي وهو أصل تحقّقه بغض


(1) راجع تعليق الآخوند(رحمه الله) على الرسائل: ص 168 بحسب طبعة مكتبة بصيرتي.

550

النظر عن التدارك وعدمه، ووجود آخر مستقرّ، وهو فيما إذا لم يتدارك الضرر، فيقال: إنّ النهي متوجّه الى الوجود المستقرّ للضرر.

ثمّ إنّه كلما أنتج الاتّجاه الفقهي الأوّل وهو نفي الحكم الضرري فهو يستبطن ضمناً الاتّجاه الفقهي الثاني، أعني: عدم جواز الإضرار بناءً على أنّ الجواز حكم وجودي، لا أنّه عبارة عن عدم الحكم، أو أنّ قاعدة (لا ضرر) تنفي عدم الحكم أيضاً كما تنفي الحكم.

نعم، خصوص الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة المنتجة للاتّجاه الفقهي الأوّل وهو إرادة نفي الحالة الضررية مع تقييد إطلاق الدليل من ناحية الأسباب، أو الظروف يكون أوضح في استبطانه لتحريم الإضرار حتّى بناءً على أنّ الجواز عبارة عن عدم الحكم؛ وذلك لأنّ مقتضى إطلاق (لا ضرر) نفي تمام الأضرار الخارجيّة، والذي ثبت خروجه عن الإطلاق كان غير هذا، والضرر الناشىء من عدم تحريم سبب الإضرار، أو في الظرف المطبّق عليه نظام الشريعة الخالي من تحريم الإضرار باق تحت الإطلاق(1).

هذا تمام الكلام في الوجوه المحتملة في لا ضرر.

وأمّا بيان ما هو المختار منها في المقام فتفصيله: أنّ جملة (لا ضرر) لو خلّيت ونفسها تكون مشتملة على ظهورات سبعة، كلّ واحد منها ينفي بعض الاحتمالات السابقة، ولو بني على التحفّظ على كلّ الظهورات يلزم نفي تمام تلك الاحتمالات.


(1) الظاهر أنّه لا فرق في وضوح استبطان الاتّجاه الفقهي الأوّل للاتّجاه الفقهي الثاني بين الوجه الثاني من وجوه تخريج الاتّجاه الفقهي الأوّل، وهو إرادة نفي الحالة الضرريّة والوجه الثالث من تلك الوجوه، وهو نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، إلّا بناءً على كون المقصود على الثالث نفي الوجود التشريعي للموضوع، فإنّه على هذا الفرض تأتي شبهة أنّ الجواز ليس حكماً شرعيّاً كي يكون لموضوعه وجود تشريعي، بل هو عدم الحكم.

ولكن قد عرفت أن هذا الوجه في ذاته غير عرفي في المقام أصلاً، وإلّا فهلاّ يكون (لا ضرر) نافياً لتحريم الإضرار؛ لأنّ التحريم حكم تشريعي بلا إشكال، فيكون لموضوعه وجود تشريعي؟!، وأمّا لو كان المقصود من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع نفي الوجود الخارجي للموضوع، أو نفي وجوده الاستساغي، فمقتضى الإطلاق هو تحريم الأمر الذي يوجب الإضرار أيضاً ولو فرض الجواز أمراً عدميّاً؛ لأنّه لو لم يحرم لوجد خارجاً، ولكان له وجود استساغي، والمتيقّن خروجه من الإطلاق غير هذا.

551

وتلك الظهورات ما يلي:

1 ـ كون (لا) نافية، بل لعلّه لا يصحّ في لغة العرب استعمال (لا) الداخلة على الاسم في النهي مجازاً.

2 ـ عدم تقدير شيء في مصبّ النفي كتقدير (لا حكم ضرري) مثلاً.

3 ـ عدم المجاز في كلمة (الضرر) بأن يراد به ـ مثلاً ـ الحكم الضرري مجازاً.

4 ـ عدم إعمال مؤونة التنزيل بأن يُنزّل ـ مثلاً ـ الحكم منزلة اللازم للموضوع، أو عدم المتعلّق منزلة اللازم لعدم الحكم.

5 ـ كون المنفي الوجود الحقيقي لا الوجود العنائي، بأن يقصد نفي الوجود التشريعي، أو الاستساغي.

6 ـ كون الضرر مأخوذاً على وجه الموضوعيّة لا الطريقيّة، وهذا ما ينفي احتمال المحقّق النائيني(رحمه الله)، وهو جعل الضرر عنواناً للحكم باعتباره مسبّباً توليديّاً عنه. وتوضيح ذلك: أنّ العرف حينما يعمل العناية في جعل المسبّب التوليدي عنواناً للشيء لا يجعل الشيء مصداقاً لذلك العنوان مع إبقاء ذلك العنوان على مفهومه الأوّلي بان يكثّر أفراده، فمثلاً: حينما يطلق العرف الإحراق على الإلقاء في النار لا يفرض أنّ الإحراق الذي هو عبارة عن جعل الورقة بحالة كذائيّة تحقّق له مصداق آخر، وهو سبب هذا الجعل، وهو الإلقاء في النار حتّى يقال: إنّ هذا العنوان له فردان حقيقيان في نظر العرف، ويكون إطلاقه في السبب من سنخ إطلاق المطلق في أحد أفراده بلا حاجة الى سلخ العنوان عن الموضوعيّة وأخذه طريقاً الى مفهوم آخر، فإنّ العرف عند ملاحظته للفرد الأصلي والتفاته إليه لا يرى الفرد الثاني فرداً ثانياً حقيقيّاً، وليس هذا ـ أيضاً ـ مراد المحقّق النائيني(رحمه الله)، وإنّما الذي يصنعه العرف، ويقصده المحقّق النائيني(رحمه الله): هو سلخ هذا العنوان عن معناه الأصلي، وإراءته للمسبّب، وصرفه الى السبب، وهو الإلقاء في النار، فكأنّه لا إحراق إلّا الإلقاء في النار، وهذا وإن كان يصنعه العرف أحياناً، ولكن قد يستعمل ـ أيضاً ـ العنوان في معناه الأصلي. ومهما استعمل العنوان من دون إقامة قرينة في المقام ينصرف ـ لا محالة ـ الى نفس ذلك المسبّب، لا الى السبب الموجد لذلك، وهذا معنى قولنا: إنّ الظاهر كون الضرر مأخوذاً على وجه الموضوعيّة لا الطريقيّة.

على أنّ احتمال المحقّق النائيني(قدس سره) منفيّ بقرينة قطعيّة في المقام وهي عطف (لا ضرار)، فإنّ الضرار على ما اختاره هو (قدس سره)، واخترناه عبارة عن التعمّد والتفنّن في

552

اقتناص الضرر، وهذا ليس عنواناً للحكم قطعاً، ولا مسبّباً توليديّاً عنه جزماً، وإنّما هو على ما بيّناه استغلال من قبل الفاعل بخبثه للحكم الشرعي.

7 ـ الإطلاق المتقضي لكون المنفيّ الضرر من دون أيّ قيد وتخصيص.

فلو تحفّظنا على كلّ هذه الظهورات، للزم نفي كلّ ضرر تكويني بوجوده الخارجي في العالم، مع أنّ هذا بديهي البطلان.

والظهورات الثلاثة الأخيرة وإن كانت أضعف من الظهورات السابقة فتتعيّن هي في مقام السقوط، لكنّ هذا المقدار لا يكفي في تعيين المقصود؛ إذ يتردّد الأمر في السقوط بين هذه الظهورات الثلاثة.

نعم، لو كانت كلمة (في الإسلام) موجودة في العبارة كان الكلام ظاهراً في رفع اليد عن الظهور الخامس، وإرادة نفي الوجود الاستساغي في الشريعة بقرينة (في الإسلام)، لكن لم ترد هذه الكلمة في النصّ الصحيح سنداً من أحاديث (لا ضرر).

والتحقيق في مقام تعيين المقصود من هذا الحديث: هو أن يقال: إنّه يتعيّن رفع اليد عن الظهور السابع، وهو الإطلاق دون سائر الظهورات؛ وذلك لقيام القرينة على التقييد، وهي وجود الأضرار التكوينيّة في الخارج كثيراً، وكون النبي(صلى الله عليه وآله) مشرّعاً ومقنّنا للقوانين، ومتكلّماً بهذا الكلام بما هو مشرّع ومقنّن، فلا يكون نظره الى وجود الأضرار التكوينيّة خارجاً غير المربوطة بنُظمه وقوانينه.

فإن قلت: إنّ هاتين القرينتين نسبتهما الى تمام هذه الظهورات على حدّ واحد فلا معنى لتعيّن الظهور السابع للسقوط، وذلك نظير ما إذا ورد (أحلّ اللّه كلّ بيع وحرّم الربا) وعُلم إجمالاً بتخصيص العموم، أو تقييد الإطلاق في هذا الكلام، كما لو علمنا أنّه إمّا أنّ البيع المعاطاتي غير صحيح، أو أنّ الربا بين الوالد والولد جائز مثلاً، فهذا نسبته الى كلّ من الظهورين على حدّ واحد، ولا وجه لرفع اليد عن خصوص الإطلاق.

قلت: إنّ ما نحن فيه يفترق عن مثل هذا المثال بوجهين:

الوجه الأوّل: هو أنّ هذا المثال يوجد فيه ظهوران: أحدهما منحاز عن الآخر، وهما العموم في (أحلّ اللّه البيع) والإطلاق في (حرّم الربا)، ونسبة القرينة الى صدر الكلام وذيله على حدّ سواء، وأمّا في قوله: (لا ضرر) فما بيّناه من الظهورات السبعة إنّما هي ظهورات تحليليّة مندكّة بعضها في بعض، ولا يفهم العرف سبعة مداليل منحازة، بل يفهم من هذا الكلام مدلولاً محصّلاً واحداً، وهو أنّه لا يوجد في الخارج

553

شيء من الأضرار التكوينيّة على الإطلاق، وهذا المدلول يبقى أصله ويرتفع إطلاقه إن رفعنا اليد عن الظهور السابع بالقرينة، وأمّا إن رفعنا اليد عن الظهور الأوّل مثلاً، وفرضنا كون (لا) ناهية، فأصل المدلول يتغيّر ويصبح مدلولاً محصّلاً آخر، ويرتفع إطلاق المدلول الأوّل بارتفاع موضوعه.

صحيح أنّه مع التصرّف في الظهور الأوّل مثلاً لا حاجة الى التصرّف في الظهور السابع، وهو الإطلاق، بل يبقى الكلام ـ عندئذ ـ على إطلاقه، لكن لم يكن كلّ من الإطلاق، وكون (لا) للنفي، وكذا سائر الظهورات ظهوراً مستقلاًّ يعطي مدلولاً مستقلاًّ واحداً، بل العرف كان يُعمل بارتكازه كل هذه الظهورات، ويملأ كلّ الفراغات، ويحصّل مدلولاً واحداً، وهو نفي الوجود التكويني للضرر على الإطلاق، فالإطلاق في الكلام يكون إطلاقاً لهذا المدلول، فيدور الأمر لأجل القرينة بين رفع اليد عن أصل المدلول وانتفاء إطلاقه بانتفاء الموضوع، وبين رفع اليد عن إطلاقه، وهذا معناه أنّ القرينة تنظر ابتداءً إلى الإطلاق، وتنصبّ على الظهور السابع، فيتعيّن للسقوط؛ ولذا لا إشكال عند العرف، وعند العلماء في أنّه إذا قال المولى: (أكرم العالم) ودلّ دليل خاصّ على عدم وجوب إكرام زيد العالم لزم رفع اليد بذلك عن إطلاق العالم، لا عن ظهور هيئة الأمر في الوجوب، وحمله على الاستحباب، والسرّ في ذلك إنّما هو ما ذكرناه: من أنّ القرينة تنصبّ أوّلاً وبالذات على الإطلاق لا على ظهور الهيئة، فإنّ للكلام مدلولاً محصّلاً عرفيّاً واحداً، وهو وجوب إكرام العالم على الإطلاق، وهذا الكلام إطلاقه غير مقصود بالقرينة المفروضة حتماً، ولا وجه لرفع اليد عن أصل مدلوله، وتحقيق الكلام في ذلك بنحو أبسط موكول الى مبحث التعادل والتراجيح.

الوجه الثاني: أنّ القرينة فيما نحن فيه تكون بمنزلة القرينة المتّصلة؛ لبداهة وجود الأضرار الكثيرة في الخارج، ووضوح كون النبي(صلى الله عليه وآله)متكلّماً بهذا الكلام بما هو مشرّع ومقنّن للقوانين، ومهما كانت القرينة متّصلة ودار الأمر بين رفع اليد عن ظهور إطلاقي لتلك القرينة، أو ظهور آخر وضعي، أو سياقي لا ينعقد الظهور الإطلاقي تكويناً، ويتعيّن الأخذ بالظهور الآخر من دون لزوم المخالفة لظهور من الظهورات أصلاً؛ وذلك لأنّ قوام الإطلاق بعدم البيان والظهور الآخر يصلح بياناً.

إن قلت: إنّ الظهور الآخر ـ أيضاً ـ متقوّم بعدم بيان الخلاف؛ لأنّ القرينة المتصلة تمنع عن انعقاد الظهور، فكون الظهور الآخر مانعاً عن انعقاد الظهور

554

الإطلاقي دون العكس ترجيح بلا مرّجح.

قلت: إنّ الظهور الآخر يكون بوجوده الاقتضائي ثابتاً، أي: أنّ منشأ الظهور موجود، فيصبح فعلياً ما لم يمنع مانع عن فعليّته، والقرينة إنّما تكون مانعة عن الفعليّة مع انحفاظ أصل المقتضي، وأمّا الظهور الإطلاقي فعدم البيان داخل في صميم المقتضي له، إذن فأصل المقتضي للظهور الإطلاقي وهو تماميّة مقدّمات الحكمة موقوف على عدم تأثير مقتضي الظهور الآخر، فيستحيل أن يمنع عن تأثيره. وهذا تفصيله موكول الى مبحث الإطلاق ومقدّمات الحكمة، حيث يبحث هناك عن فرض تعارض العموم والإطلاق في كلام واحد، ويختار أنّه يقدّم الأوّل؛ لكونه وضعيّاً، ولا ينعقد الثاني تكويناً.

 

555

 

 

 

مشاكل في فقه الحديث

 

المقام الخامس: في فقه الحديث بلحاظ جملة (لا ضرر)، ونستعرض في ذلك المشاكل التي اُثيرت في مقام اقتناص المدلول من هذا الحديث، والعمل به مع حلّها، إذ بعد أن استفيد من الحديث نفي الحكم الضرري اُثيرت في المقام مشاكل:

الاُولى: أنّ الحديث مبتل بتخصيص الأكثر، فإنّ نصف أحكام الفقه أو أكثر ما تكون أحكاماً ضرريّة، كما في الحدود، والقصاص، والديّات، والضمانات، والخمس، والزكاة، والجهاد، والواجب المستتبع لصرف المال كالحجّ، وعليه فإمّا أنّنا أخطأنا في فهم ظاهر الحديث، ويكون الحديث ظاهراً في شيء آخر لم نلتفت إليه، أو أنّه لا يمكن أن يستفاد منه شيء خال عن الإشكال، ومن هنا ذهب بعض الى إجمال الحديث، وعدم إمكان الاستدلال به رأساً، وبعض آخر الى أنّه يُعمل به في كلّ مورد عَمَلَ به المشهور بدعوى: أنّ ذلك يكشف عن انطباق التفسير الصحيح للحديث على ذلك المورد، ولذا عمل به المشهور فيه؛ لأنّهم اكتشفوا ذلك.

واُجيب عن هذا الإشكال ببعض الوجوه: من قبيل أنّ (لا ضرر) حاكم وناظر الى الأحكام، فينظر الى خصوص الأحكام التي ليست من أصلها ضرريّة، وإنّما يتّفق صدفة صيرورتها ضرريّة.

الثانية: أنّه في حديث الشفعة كيف طبّق (لا ضرر) على مسألة الشفعة، مع أنّ بيع الشريك لا يكون ضرريّاً دائماً، وفي المورد الذي يكون ضرريّاً ليس معنى ضرريّته عدا كونه مقدّمة إعداديّة للضرر؛ لتصادف كون المشتري رجلاً خبيثاً مثلاً يضرّ بشريكه. فيلزم من هذا:

أوّلاً: عدم ثبوت الشفعة في مورد عدم ترتّب الضرر.

ثانياً: جريان قاعدة (لا ضرر) في كلّ ما يترتّب عليه الضرر ولو بنحو المقدّمة الإعداديّة، فلو زوّج أحدٌ بنته من شخص، فترتّب على ذلك الضرر؛ لانزعاج ابن عمّها من ذلك، وإثارته ـ عندئذ ـ للإضرار والشرور، لزم تطبيق القاعدة على هذا الزواج، ومن باع داره فترتّبت على ذلك أضرار من قبل ابنه الذي انزعج من هذا

556

البيع، أو من قبل المشتري الذي أخذ يضرّ بالجار مثلاً لزم تطبيق القاعدة على هذا البيع، وهكذا. وهذا تاسيس لفقه جديد.

واُجيب عن ذلك بوجوه:

منها: أنّ ذلك من باب الجمع في الرواية لا المروي، فلا علاقة لحديث لا ضررر بنصّ الشفعة.

ومنها: أنّ الضرر في باب الشفعة حكمة للحكم بالشفعة لا علّة له.

ومنها: أنّ قوله في حديث الشفعة: (لا ضرر) تفريع على حكمه بالشفعة، أي: أنّه حيث ترتّب في الشريعة حقّ الشفعة فلا يترتّب ضرر على بيع الشريك. وعلى هذا فيسقط هذا الحديث عن قابليّة الاستدلال به على قاعدة (لا ضرر) وإنّما يستدلّ عليها بسائر الأحاديث.

الثالثة: أنّ في حديث منع فضل الماء كيف طبّق (لا ضرر) على ذلك ـ إي منع فضل الماء ـ مع أنّ منع شخص لشخص آخر من التصرّف في ماله ـ أي مال الشخص الأوّل ـ ليس ضرراً، وإنّما هو عدم النفع، فهل نطبّق قانون نفي الضرر على موارد عدم النفع؟! بل استشكل هنا في جعل (لا ضرر) حكمة ـ أيضاً ـ للحكم، ببيان: أنّه لا يترتّب على ذلك ضرر ولو في بعض الأوقات كما في الشفعة، وإنّما هو عدم النفع.

وأجاب بعض عن ذلك: بكون ذلك جمعاً في الرواية لا في المروي.

الرابعة: أنّه كيف طبّقت القاعدة في قصّة سمرة على المورد لإثبات جواز القلع مع أنّ الأمر الضرري إنّما هو دخول سمرة الى بيت الأنصاري بلا إذن، فهذا هو الذي يصبح حراماً بـ (لا ضرر)، لا أنّه يجوز بذلك قلع شجرته؟

واُجيب عن ذلك: بأنّ (لا ضرر) في الحديث ليس تعليلاً لهذا الحكم، بل تعليل لعدم جواز دخوله بلا إذن، وأمّا الحكم بالقلع فإنّما صدر عن النبي(صلى الله عليه وآله) بما هو رئيس الدولة تأديباً لسمرة.

تحقيق في حل المشاكل

وتحقيق الكلام في هذا المقام: هو أنّ كلّ ما اُثير في المقام من هذه الإشكالات يرتفع بالالتفات الى اُمور ثلاثة:

الأمر الأوّل: أنّ وجود الشيء قد يكون حقيقياً ثابتاً في نفسه، واُخرى حقيقياً ثابتاً في طول عناية عرفيّة، وثالثة يكون عنائيّاً.

557

فالأوّل كعنوان التعظيم الثابت بالثناء على شخص، والثاني كعنوان التعظيم الثابت بالقيام لشخص مثلاً، فإنّ القيام تعظيم حقيقة، كما أنّ الثناء تعظيم حقيقة، لكنّ القيام إنّما هو تعظيم حقيقة في طول الجعل العرفي، والعناية العرفيّة، وبما أنّه صار في طول ذلك تعظيماً حقيقة فلذا يعترف من يعيش في مجتمع آخر بأنّ القيام تعظيم واقعاً، ولكنّه يقول: إنّه تعظيم بلحاظ المجتمع الفلاني، لا بلحاظ مجتمعنا، والثالث كمطلق العناوين العنائيّة والمجازيّة من قبيل إطلاق أسد على الرجل الشجاع مجازاً.

فإذا ورد لفظ مطلق في كلام الشارع فهو كما يشمل الوجود الحقيقي الأوّلي لذلك الشيء يشمل ـ أيضاً ـ الوجود الحقيقي الذي يكون في طول عناية العرف إذا كانت تلك العناية عند المجتمع الذي يتكلّم الشارع بلغته وعرفه، فإنّ ظاهر حاله هو التكلّم بعد البناء على كلّ ما بنى عليه هذا المجتمع ممّا يؤثّر في أمثال هذه الاُمور، وكلمة (الضرر) من هذا القبيل، فإنّه كما يشمل قطع اليد مثلاً الذي هو ضرر حقيقي أوّلي، كذلك يشمل منع الشريك من حق الشفعة، فإنّ هذا وإن لم يكن ضرريّاً من أصله، لكنّه ضرري في طول عناية العرف القائل بثبوت حقّ الشفعة للشريك، فبعد ثبوت هذا الحقّ له بحسب الارتكاز العقلائي يكون سلبه عنه نقصاً يرد عليه في حقوقه العقلائيّة، وهو ضرر حقيقي، فإنّ الضرر عبارة عن النقص ولو في أمثال هذه الحقوق، لا في خصوص المال، والنفس، والعرض، وحقّ الشفعة ـ على ماتشهد به الشواهد التأريخيّة ـ كان موجوداً في نظر العرف والعقلاء في الجاهليّة، ومعترفاً به في المجتمع الذي ظهر فيه الإسلام، بل كان ثابتاً في نُظُم عديدة كالفقه الروماني.

وأمّا حقّ الانتفاع من فضل الماء وما أشبه ذلك من الملكيّات الواسعة فهذا وإن لم يكن عليه شاهد تأريخي، لكنّه يحتمل كونه ثابتاً في ارتكازهم، فيكون نفس تطبيق (لا ضرر) على المنع عن ذلك في الرواية شاهداً على ذلك.

ومن هنا ظهر الوجه في تطبيق (لا ضرر) على بعض الخيارات، كخيار الغبن، وتبعّض الصفقة ونحو ذلك. ويرتفع به ما قد يورد على التمسّك بالحديث لإثبات هذه الخيارات: من أنّه (لا ضرر) في عدم خيار الغبن مثلاً، وخصوصاً في خيار تبعّض الصفقة حيث يقال مثلاً: أيّ ضرر ونقص يرد على عدم هذا الخيار عند تبعّض الصفقة في حين أنّ تبعّض الثمن لا محالة يتبع تبعّض الصفقة؟! وجواب ذلك كلّه: أنّ هذه الخيارات حقوق عقلائيّة، فنفيها إيراد للنقص في الحقوق العقلائيّة، وهذا ضرر

558

منفي بلا ضرر، فقاعدة (لا ضرر) تفيد الإمضاء في أمثال هذه الموارد ممّا يكون الضرر فيها في طول حقّ عقلائي، كما تفيد التأسيس في موارد الضرر الحقيقي الأصلي.

والمحقّق العراقي(قدس سره) هذا العالم الخبير البصير أدرك بذهنه الوقّاد أنّ حديث (لا ضرر) يوجد له متمّم في المرتبة السابقة عليه، فسلخ حديث (لا ضرر) عن كونه مؤسّساً لقواعد فقهيّة، نظير مؤسّسيّة أصل البراءة والاستصحاب مثلاً، وجعله مشيراً الى قواعد مجعولة من قبل(1)، نظير ما مضى بشأن حديث مسعدة بن صدقة الذي جاء فيه: «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام»، وخالف (قدس سره) بذلك المشهور الذين فرضوا هذا الحديث مؤسّساً لقواعد فقهيّة، والصحيح ما عرفته منّا من الموقف الوسط.

الأمر الثاني: أنّ تخيّل ابتلاء حديث (لا ضرر) بكثرة التخصيصات نشأ من الجمود على الظهور الأوّلي للكلام بغض النظر عن مناسبات الحكم والموضوع، والارتكازات الاجتماعيّة. توضيح ذلك: أنّ من مقوّمات الشريعة بحسب المرتكز العقلائي اشتمالها على قواعد ونظم تحقيق العدالة الاجتماعيّة من قصاص، وضمان، وضرائب ماليّة ونحو ذلك، فحينما ينفى الضرر بالنسبة الى شريعة يجب أن تحفظ شريعيّة الشريعة، ثم يقال: إنّها ليست ضرريّة، فنفي تحقّق الإضرار من قبل الشريعة لا يشمل أمثال هذه الاُمور، وليس من قبيل نفي تحقّق الأضرار من قبل زيد مثلاً، فإنّ ضرريّة كلّ شيء بحسبه، ولو أن أحداً قال: إنّه عندي شريعة لا يرد منها ضرر على أيّ أحد فهي لا تُضمّن المتلِف، ولا تعاقب السارق، ولا تقتصّ من القاتل، ولا تجبي ضريبة ماليّة من أيّ شخص وهكذا، لاستهزىء به، وقيل له: أيّ شريعة أضرّ من هذه الشريعة؟!

هذا بالنسبة للأضرار المحقّقة لسعادة المجتمع والعدالة الاجتماعيّة، وبعد هذا لم يبق حكم ضرري مخصّص لقاعدة (لا ضرر)، أو أنّه بقي بمقدار غير مستهجن، فهي من قبيل سائر العمومات التي قد تخصّص، ومن الواضح أنّه ليس كلّ ما يكون من قبيل الصلاة والصوم ضرراً، إلّا بمعنى النقص في حقّ الحرية والراحة، لكنّه ليس للعبد مثل هذا الحقّ تجاه المولى تبارك وتعالى.


(1) راجع المقالات: ج 2، ص 116 ـ 123.

559

والأصحاب بعد الغفلة عمّا ذكرناه ابتلوا بإشكال كثرة التخصيصات، لوضوح ضرريّة مثل الجهاد، والقصاص، والضرائب الماليّة ونحو ذلك، فأجابوا عنه بعدّة أجوبة، نذكرها هنا بعد طيّ ما أبداه الشيخ الأعظم(قدس سره): من كون التخصيص بعنوان واحد(1)، وعدم قبول هذا الوجه من قبل المتأخّرين عنه، فقال بعض بعدم الفرق بين كون التخصيص بعنوان واحد وعدمه، وقال بعض: إنّ المقام من القضايا الخارجيّة، وهذا الفرق إنّما يتمّ في القضايا الحقيقيّة.

الجواب الأوّل: ما ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله): من أنّ حديث (لا ضرر) ظاهر في كون الضرر مانعاً عن الحكم، فلا يشمل فرض كون الضرر بنفسه مقتضياً للحكم، كما في الموضوعات التي تكون من أصلها ضرريّة، فهو يختصّ بالحكم بما لا يكون ضرريّاً في نفسه، وتتّفق ضرريّته في بعض الأوقات، فيرفع إطلاقه(2).

ويرد عليه: أنّ المتعلّقات الضرريّة كالجهاد، والخمس، والزكاة وغير ذلك ليس المقتضي للحكم فيها الضرر المترتّب عليها، وإنّما المقتضي له المصالح المترتّبة عليها، فليدلّ الحديث على مانعيّة الضرر فيها.

الجواب الثاني: ما ذكره المحقّق النائيني(قدس سره): من أنّ حديث (لا ضرر) حاكم على الأحكام بملاك النظر إليها، والنظر الى الحكم فرع فرض الفراغ عن ثبوت ذلك الحكم، إذن فينحصر الأمر في كون الحديث رافعاً لإطلاق الحكم، لا نافياً لأصل الحكم، فلا يشمل الحكم الذي يكون ضرريّاً من أصله(3).

ويرد عليه: أنّ الحديث ناظر الى الشريعة بما هي مجموعة قوانين وأحكام، لا الى الأحكام بما هي فرداً فرداً فينفي ثبوت الحكم الضرري في هذه الشريعة، فينتفي بذلك ـ لا محالة ـ الحكم الضرري من أصله. كما ينتفي به الإطلاق الضرري للحكم.

الجواب الثالث: ما ذكره المحقّق النائيني(قدس سره) أيضاً(4): من دعوى عدم ضرريّة تلك الأحكام في الغالب، وذلك بإبداء نكات خاصّة في كلّ واحد واحد منها:

فذكر في الخمس والزكاة أنّه ليس ضرراً، بل هو عدم نفع؛ لأنّه ليس إلّا عبارة


(1) راجع الرسائل: ص 316 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة اللّه.

(2) راجع الكفاية: ج 2، ص 269 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكيني.

(3) راجع قاعدة (لا ضرر) للشيخ موسى النجفي، ص 211.

(4) راجع قاعدة (لا ضرر) للشيخ موسى النجفي، ص 212.

560

عن جعل الفقير أو الإمام شريكاً للغني، وعدم دخول المال كلّه في ملك الغني، نظير حكم الشارع على ابن الميّت بكون ابنه الآخر شريكاً له في الإرث، أفهل يكون هذا إضراراً بهذا الوارث؟!

ويرد عليه: أوّلاً: أنّ الخمس إنّما يكون في طول الفائدة والملكيّة، فهو تقليل للملك وإيراد نقص فيه.

وهذا الإشكال إنّما سجّلناه هنا على ما فرضه المحقّق النائيني(رحمه الله): من أنّ الفقير مالك في عرض الغني، بتخيّل أنّه لو كان مالكاً في طول مالكيتّه ثبت الضرر، وإلّا فالصحيح بغضّ النظر عمّا سيأتي من الإشكال الثاني: هو عدم ضرريّة الحكم؛ لأنّ مالكيّة الغني للمال قبل الفقير ليست بنحو يوجب تسلّطه على ماله حتّى في مقابل اللّه تعالى، فتسلّطه ضيّق من أوّل الأمر، فأمره تعالى إيّاه بإخراج الخمس ليس ضرريّاً، وليس من قبيل ما لو أمره اللّه تعالى بقطع يده مثلاً، فإنّ هذا ضرر حقيقي ذاتي، لا في طول أمر اعتباري.

وثانياً: لو فرض كون المستحقّ شريكاً له من أوّل الأمر في عرض صاحب المال، كما قد يقال بذلك في خمس المعدن فأيضاً يكون هذا الحكم ضرريّاً باعتبار عدم كون الخمس مركوزاً في أذهان العقلاء، وإنّما المركوز في أذهانهم كون الشخص مالكاً لتمام ماله، فيكون هذا ضرراً بلحاظ ذلك؛ لأنّه سلب لهذا الحقّ وهذه الملكيّة.

وذكر في ضمان اليد: أنّه ليس الضمان ضرراً؛ لانّ صاحب اليد هو الذي أقدم عليه، فكأنّ الإقدام يجعل الضرر في نظر المحقّق النائيني(رحمه الله)ملحقاً بما ليس ضرراً.

ويرد عليه: أنّه كثيراً ما يكون ضمان اليد موجوداً من دون إقدام، كما لو تخيّل أنّ هذا الخبز ملك له، فأكله ثمّ تبيّن أنّه كان ملكاً لغيره.

وإن كان مقصوده(قدس سره) من ضمان اليد في المقام ما يشمل الاتلاف غير العمدي كان ذلك ـ أيضاً ـ مورداً للنقض على كلامه؛ لعدم الإقدام على الضمان في ذلك.

هذا. وهنا إشكال آخر للمحقّق العراقي(قدس سره) وهو: أنّ هذا يلزم منه الدور، فإنّ الإقدام على الضرر فرع ثبوت الضمان الذي هو فرع عدم جريان قاعدة (لا ضرر) الذي هو فرع الإقدام على الضرر(1). وتحقيق الكلام في هذا الدور يأتي فيما بعد إن


(1) هذا الإشكال نقله الشيخ العراقي(رحمه الله) في المقالات: ج 2، ص 123 عن اُستاذه

561

شاء اللّه.

وذكر في مطلق الضمان وفي القصاص: أنّه(1) قد تعارض ضرران: ضرر الجاني والضامن إن حكم بالقصاص والضمان، وضرر المجني عليه والمتلَف ماله إن حكم بعدمه، فلا يشمل ذلك حديث (لا ضرر).

أقول: إنّه في القصاص يعقل فرض ضررين: أحدهما ضرر حقيقي أصلي، وهو فيما لو اقتصّ من الجاني، فإنّه يتضرّر تكويناً لا محالة، والثاني ضرر حقيقي في طول العناية العرفيّة، وهو الضرر على المجنيّ عليه عند الحكم بعدم جواز القصاص، ففي طول ارتكاز ثبوت حقّ القصاص له عند العقلاء يُرى سلبه عنه سلباً لحقّه، فيكون ضرراً. وأمّا في باب الضمان فكلا الضررين يكون في طول العناية العرفيّة والارتكاز العقلائي، أمّا الضرر على المتلَف ماله في الحكم بعدم الضمان فهو في طول ارتكاز ثبوت حقّ الضمان له في نظر العقلاء كما هو واضح. وأمّا الضرر على الضامن بالحكم بالضمان، فهو في طول ارتكاز عدم حقّ الضمان للمتلَف ماله، وارتكاز سلطنة المتلِف على ذمّته وماله عند العقلاء حتّى في قبال المال الذي أتلفه، وإلّا فأيّ ضرر في اشتغال ذمّته وتسلّط المتلَف منه على ماله لو كان تسلّطه على ذمّته وماله مضيّقاً من أوّل الأمر، ولا يكون ثابتاً في قبال من أتلف هذا ماله؟! وهذان الارتكازان يستحيل اجتماعهما، فيستحيل فرض ثبوت ضررين متعارضين في المقام كما فرضه المحقّق النائيني(قدس سره).

ثمّ إنّه توجد في الدراسات عبارة(2) يحتمل كون المقصود بها هذا الذي


الشيخ الآخوند في مقام إبطال منع التمسّك بـ(لا ضرر) لرفع وجوب الغسل الضرري لدى الإقدام على الجنابة عالماً عامداً، بدعوى: أنّه هو الذي أقدم على الضرر، فذكر الشيخ الآخوند حسب نقل المحقّق العراقي في مقام الجواب عن ذلك: أنّ إقدامه على الضرر لا يكون إلّا بتوسيط ثبوت وجوب الغسل، وهو فرع صدق الإقدام على الضرر، وهو دور، ثمّ ناقش الشيخ العراقي(رحمه الله) هذا الدور في ص 124 فراجع.

وأنا لم أجد في فحصي الناقص في الكفاية وتعليق الآخوند على الرسائل وتعليقه على الكفاية ذكراً لهذا الدور. ولعلّ المحقّق العراقي ينقله عن مجلس درسه . وعلى أيّ حال فسيأتي من اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) الحديث عن حال هذا الدور في التنبيه الثاني من تنبيهات القاعدة.

(1) استخراج هذا المعنى من عبارة الشيخ موسى النجفي لا يخلو من صعوبة.

(2) راجع الدراسات: ج 3، ص 332، والمصباح: ج 2، ص 539.

562

ذكرناه: من دعوى كون التخصيص متّصلاً بعلم المخاطب بالأحكام الضرريّة، ويحتمل كون المقصود بها دعوى كون التخصيصات بعنوان واحد، وهو عنوان الأحكام التي تكون ضرريّة من أصلها.

أمّا على الاحتمال الأوّل فقد عرفت ما فيه. وأمّا على الاحتمال الثاني فيرد عليه: أنّ تلك الاُمور خرجت بعناوينها الخاصّة من الجهاد، والخمس، والزكاة وغير ذلك، لا بهذا العنوان الذي انتزعه العلماء بعد ذلك من تلك الأحكام، وهو الحكم الضرري من أصله كما هو واضح.

الجواب الرابع: ما جاء في كلام الشيخ الأعظم(قدس سره) حيث أشار الى كون جعل تلك الأحكام الضرريّة معلوماً من قبل(1). ولعلّ مقصوده بذلك: أنّ المخصّص لمعلوميّته يصبح كالمتّصل، فلا ينعقد إطلاق، ولا يبقى قبح.

ويرد عليه: أنّه لو كانت هناك قرينة على اعتماد المتكلّم على علم المخاطب في مقام البيان، فهذا يرفع القبح بلا إشكال، أمّا إذا لم تكن قرينة من هذا القبيل كما في المقام، فقبح كثرة التخصيص باق على حاله، فيا تُرى لو قال الشارع: لا حكم ضرري في شريعتي، فقيل له: إنّ الخمس ضرري، فأجاب: كنتم تعلمون بذلك، وقيل له: الزكاة ـ أيضاً ـ ضرريّة، فقال: هذه ـ أيضاً ـ كنتم تعلمون بها، وقيل له: الجهاد ضرري، قال: هذا ـ أيضاً ـ كنتم تعلمون به، وقيل له: القصاص ضرري، قال: هذا أيضاً تعلمون به ... وما الى ذلك، أفلا يكون ذلك قبيحاً ومستهجناً عرفاً؟!

الأمر الثالث: ما يدفع به إشكال انطباق قاعدة (لا ضرر) على مورد حديث سمرة.

وإشكاله: هو ما أشرنا إليه من أنّه إنّما يكون الضرر مسبّباً عن دخول سمرة بلا إذن، فهذا هو الذي يجب أن يمنع عنه، وأمّا قلع عذقه كما في الحديث فغير مربوط بنفي الضرر، فإنّ بقاء عذقه هناك لم يكن هو الموجب للضرر حتّى يُنفى. وقد اُتّخذ تجاه هذا الإشكال مذاهب يهمّنا ذكر اثنين منها:

الأوّل: ما ذكره الشيخ الأعظم(قدس سره)(2): من أنّ الحديث وإن صعب علينا فهم


(1) راجع الرسائل: ص 316 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة الله.

(2) راجع قاعدة (لا ضرر) للشيخ الأنصاري، ص111 بحسب ما هو مطبوع ضمن رسائل فقهيّة اُخرى للشيخ في مطبعة باقري بقم من قبل الأمانة العامّة للمؤتمر المئوي للشيخ(رحمه الله).

563

كيفيّة انطباقه على هذا المورد، لكنّ هذا لا يمنع عن التمسّك بأصل الحديث في إثبات القاعدة، فهنا أمران: أحدهما: نكتة انطباق الحديث على المورد. وهذا هو الأمر المجهول عندنا، ونعرف إجمالاً أنّه توجد هناك نكتة لم تتّضح لنا بالمقدار الواصل إلينا في الحديث، وقد طبّقت القاعدة على المورد بتلك النكتة المجهولة عندنا. وثانيهما: أصل قاعدة (لا ضرر)، وهذه تظهر بقوله: (لا ضرر ولا ضرار) بكلّ وضوح، فنأخذ بها، ولايعنينا فهم كيفيّة انطباقها على المورد.

أقول: إنّ التطبيق على المورد لو كان في رواية اُخرى لم يكن يسري الإجمال منه الى الرواية المبيِّنة للكبرى، فكنّا نأخذ بالكبرى، فلو تمّ سند حديث آخر دالٍّ على القاعدة غير حديث قصّة سمرة لأخذنا به، ولا يضرّنا إجمال حديث قصّة سمرة، لكنّ هذا الحديث بالذات ـ الذي هو الحديث الصحيح الوحيد عندنا ـ يصبح لا محالة مجملاً بإجمال كيفيّة تطبيقه على المورد؛ لأنّ التطبيق المجمل متّصل ببيان الكبرى، فلا ندري نكتة ذلك التطبيق، ولا ندري أنّ إبراز تلك النكتة ماذا كان يُحدِث في ظهور الكلام المبيّن للكبرى من تغيير، وهل كان يُبقيه على حاله من الدلالة على المقصود أو لا؟

الثاني: ما ذكره المحقّق النائيني(قدس سره)(1): من أنّ القاعدة طبّقت بلحاظ الحكم الأوّل، وهو المنع عن الدخول بلا استئذان، لا بلحاظ قلع العذق، وإنّما هذا حكم مستقلّ صدر من النبي(صلى الله عليه وآله) بوصفه رئيس الدولة وقائد الاُمّة تأديباً لسمرة.

ويرد عليه: أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) أمر أوّلاً سمرة بالاستئذان فلم يقبل، ثمّ أراد أن يشتري منه العذق فلم يقبل، ثمّ قال للأنصاري: «اقلعه وارم به وجهه؛ فإنّه لا ضرر ولا ضرار»، وهذا كما ترى صريح في تعليل الحكم بالقلع بهذه القاعدة، وكونه (صلى الله عليه وآله)حين ذكره لهذه القاعدة ناظراً الى الحكم الأوّل غير معلوم، فهو إمّا ناظر الى كليهما، أو ناظر الى خصوص الثاني، فالثاني هو القدر المتيقّن.

والصحيح في الجواب: أنّ هذا الإشكال إنّما يأتي لو كان تطبيق القاعدة على المورد بلحاظ الجملة الاُولى، وهي (لا ضرر) لكنّنا نقول: إنّ تطبيق القاعدة على هذا المورد يكون بلحاظ الجملة الثانية، وهي (لا ضرار)، ويؤيّد ذلك ما في بعض روايات هذه القصّة: من قوله: «ما أراك يا سمرة إلّا مضارّاً» بناءً على أنّ الـ (ضرار) مصدر لضارّ


(1) راجع منية الطالب: ج 2، ص 209.

564

و (الضرر) مصدر لضرّ، وأمّا كيفية تطبيق (لا ضرار) على المورد ففهمها يتوقّف على فهم فقه هذه الجملة. وهذا ما سوف نبيّنه ـ إن شاء اللّه ـ في المقام السادس، ونبيّن هناك تطبيق هذه الجملة على المورد إن شاء اللّه.

ثمّ إنّك عرفت أنّ كون النبي(صلى الله عليه وآله) ناظراً عند ذكره لهذه القاعدة الى الحكم الأوّل في كلامه(صلى الله عليه وآله) غير معلوم، ولكن مع ذلك نتكلّم في أنّه هل يمكن تطبيق (لا ضرر) على الحكم الأوّل أو لا؟ وكيف يطبّق عليه؟ فلو فرض كونه (صلى الله عليه وآله) ناظراً إليه كما عرفته من المحقّق النائيني(رحمه الله) فهل ينطبق الحديث على المورد أو لا؟ فنقول:

المشهور طبّقوا القاعدة على المورد باعتبار أنّ إطلاق حقّ سمرة في الدخول لفرض عدم الاستئذان أصبح ضرريّاً، فنفوا إطلاق حقّه بالقاعدة.

ولكنّ المحقّق العراقي(رحمه الله) ذكر(1): أنّ تطبيق القاعدة في المقام على سلب إطلاق حقّ سمرة غير صحيح؛ وذلك لأنّ هذا وإن كان دفعاً للضرر عن الأنصاري، لكنّه خلاف الامتنان بالنسبة لسمرة، وبما أنّ القاعدة امتنانيّة فلا يصحّ تطبيقها في مورد يوجب بالنسبة لغير من يدفع عنه الضرر مخالفة للامتنان، ولكنّنا نطبّق القاعدة في المقام على إثبات حقّ الأنصاري في الأمن وحفظ العيال، وهذا في حدّ ذاته مطابق للامتنان. نعم، هناك مزاحمة بين هذا الحقّ وحقّ سمرة في الدخول، ويقدّم حقّ الأنصاري على حقّ سمرة بالأهميّة، لا بقاعدة (لا ضرر) حتّى يقال: إنّها أصبحت خلاف الامتنان بالنسبة لسمرة، فتطبيق قاعة (لا ضرر) في المقام إنّما هو بمقدار إثبات حقّ الأمن وحفظ العيال للأنصاري، وهذا المقدار ليس خلاف الامتنان، وتقديم هذا الحقّ على حقّ سمرة الذي يكون خلاف الامتنان بالنسبة لسمرة لم نستفده من (لا ضرر)، بل من قانون تقديم الأهمّ.

أقول: إنّ لزوم عدم كون قاعدة (لا ضرر) خلاف الامتنان بالنسبة لغير من يدفع الضرر عنه سيأتي منّا تفنيده، فالآن نغضّ النظر عن بحث ذلك، ونتكلّم عمّا تطبّق عليه القاعدة في المقام.

فنقول: إنّ فرض استحقاق سمرة للدخول يتصوّر بنحوين:

الأوّل: أن يكون متعلّق حقّه في الحقيقة هو محافظته على عذقه لا دخوله، ويصبح دخوله جائزاً بالجواز التكليفي؛ لكونه مقدّمة لما هو حقّه، فيجوز بالدلالة


(1) راجع المقالات: ج 2، ص 114.

565

الالتزاميّة العرفيّة تبعاً لحقّه.

الثاني: أن يكون متعلّق حقّه ذات الدخول ولو بالشرط في ضمن العقد مثلاً.

وفإن فرض أنّ متعلّق حقّه ذات الدخول كان ما ذكره المحقّق العراقي(قدس سره): من فرض التزاحم بين حقّ الأنصاري وحقّ سمرة في محلّه، فإنّ الأنصاري ـ عند عدم استئذان سمرة ـ يريد أن يمنع سمرة من الدخول الذي هو حقّ له، فيتزاحم الحقّان. وإن فرض أنّ متعلّق حقّه هو حفظ العذق فليس أي تزاحم بين الحقّين، فإنّ الأنصاري لا يمنع سمرة عن مقدّمة حفظ العذق، إلّا في إحدى الحالتين: وهي حالة عدم الاستئذان، مع تمكّن سمرة من إيجاد الحالة الاُخرى أي: حالة الاستئذان، والمنع عن المقدّمة ليس منعاً عن ذيها إلّا إذا كان منعاً عن تمام أحوال المقدّمة الممكنة، وليس المقصود بالاستئذان هو طلب الإذن بأن يرجع سمرة إن لم يأذنه الأنصاري، وإنّما المقصود به الإعلام كما هو ظاهر قوله: «إذا أردت الدخول فاستأذن» وصريح ما في بعض طرق الحديث من قول الأنصاري: «أمرته أن يستأذن حتّى تأخذ أهلي حذرها منه».

فعلى الثاني: إنّما تطبّق قاعدة (لا ضرر) لإثبات حقّ الأنصاري، لا لنفي حقّ سمرة؛ لما عرفت: من أنّه لا يوجد أيّ تزاحم بين الحقّين، فلا موجب لرفع اليد عن إطلاق حقّ سمرة للإضرار كما عن المشهور، أو للتزاحم كما عن المحقّق العراقي(قدس سره)، وليس المستفاد من الحديث ومن كلام المحقّق العراقي(قدس سره) أكثر من هذا الحقّ، أيّ: حقّ المحافظة على العذق، فيكون تطبيق (لا ضرر) على المورد منحصراً بلحاظ إثبات حقّ الأنصاري، وحرمة الدخول بلا إذن على سمرة ووجوب الإذن.

وأمّا على الأوّل: وهو فرض تعلّق حقّ سمرة بذات الدخول، فقد عرفت وقوع التزاحم بين الحقّين، فتطبّق قاعدة (لا ضرر) على ثبوت حقّ الأنصاري بالفعل، أي: حتّى بعد التزاحم، وبكلمة اُخرى: تطبّق القاعدة على تقديم حقّ الأنصاري على حقّ سمرة، ولا يرد على ذلك كونه على خلاف الامتنان؛لما أشرنا إليه، وسوف يأتي مفصّلاً ـ إن شاء اللّه ـ من أنّه لا يشترط عدم كونها على خلاف الامتنان بالنسبة للآخرين.

لا يقال: إنّه كما لا مزاحمة بين الحقّين على تقدير فرض تعلّق حقّ سمرة بالمحافظة على العذق؛ لأنّ هذه المحافظة ليست متوقّفة على الدخول المزاحم لعائلة الأنصاري، بل متوقّفة على جامع الدخول، كذلك لا مزاحمة بين الحقّين على

566

تقدير فرض تعلّق حقّ سمرة بالدخول؛ لوضوح: أنّ حقّه لم يتعلّق بخصوص الدخول المزاحم للعائلة، بل تعلّق بجامع الدخول.

فإنّنا نقول: إنّنا لم نقصد كون المحافظة على العذق متوقّفة على جامع الدخول سواء قصد بالجامع الجامع بين الحصص الأزمانيّة للدخول، أو قصد به الجامع بين الحصّة المشتملة على الإذن، والحصّة غير المشتملة على الإذن.

وتوضيح ذلك: أنّ نكتة الفرق بين ما إذا كان متعلّق الحقّ المحافظة على العذق، وما إذا كان متعلّقه نفس الدخول بحصول التزاحم بين الحقّين في الثاني دون الأوّل ليست عبارة عن دعوى أنّ حفظ العذق يكفي فيه جامع الدخول في هذا الآن وفي ذاك الآن وفي سائر الآنات، فمنعه عن الدخول في بعض الآنات ليس منعاً عن حفظ العذق حتّى يقال: إنّه لو تعلّق الحقّ بذات الدخول ـ أيضاً ـ يمكن أن يفرض كون متعلّقه جامع الدخول في الآنات المتعدّدة، ومن الواضح: أنّ هذا الفرق لو تمّ ليس فارقاً، فإنّ الكلام يقع في الدخول ولو في ذلك الآن الأخير الذي انحصر حفظ العذق بالدخول فيه، فإنّه في نفس الآن ـ أيضاً ـ يمنعه الأنصاري عن الدخول بلا إذن، ولا هي عبارة عن دعوى أنّ حفظ العذق يتوقّف على الجامع بين فردين من الدخول: وهما الدخول مع الاستئذان، والدخول بلا استئذان، فيكفي عدم المنع عن أحد الفردين حتّى يقال: إنّه فليفرض عند تعلّق الحقّ بذات الدخول ـ أيضاً ـ كونه متعلّقاً بالجامع بين فردي الدخول، والصحيح: أنّ الدخول ليس له سوى فرد واحد، والإذن وعدمه من المقارنات، وإنّما نكتة الفرق بينهما ما عرفت: من أنّه إذا كان الحقّ متعلّقاً بذات الدخول ـ والمفروض أنّ ذات الدخول ليس له فردان، بل هو فرد واحد ـ فحيث إنّ سمرة بان على عدم الاستئذان، ويمنعه الأنصاري في هذه الحال عن ذات الدخول الذي هو حقّ له، يقع التزاحم بين الحقّين. وأمّا إذا كان الحقّ متعلّقاً بذي المقدّمة، وهو المحافظة على العِذق، فليس المنع عن المقدّمة في حال يمكن للشخص تغييرها الى حال اُخرى؛ منعاً عن ذي المقدّمة، فلو قال مثلاً: إنّي أمنعك عن الدخول لابساً للثوب الأبيض، فهذا ليس منعاً عن حقّه وهو حفظ العذق؛ إذ يمكنه أن يدخل لابساً للثوب الأسود مثلاً. نعم، ليس له هذا المنع باعتباره تحكّماًعلى الشخص، وإلزاماً له بما لم يلزمه الشارع به من لبس الثوب الأبيض من دون أن يكون ذلك لحقّ للمانع متوقّف على هذا المنع، وهذا بخلاف ما لو منعه عن الدخول بلا استئذان(1).

 


(1) لا يخفى أنّ هذا البحث لم يكن له أساس، فإنّ الحكم الأوّل الوارد في نصّ