130

وحاصل الكلام أنّ في البلايا والمحن مصالح وملاكات لا نعلمها ويعلمها الله تعالى، وقد ذكر بعض تلك المصالح في الآيات والروايات منها:

 

1 ـ الامتحان:

قال الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين﴾(1).

وقد ورد عن محمّد بن قيس بسند صحيح قال: «سمعت أبا جعفر(عليه السلام) يقول: إنّ ملكين هبطا من السماء فالتقيا في الهواء، فقال أحدهما لصاحبه: في ما هبطت؟ قال: بعثني الله عزّ وجلّ إلى بحر إيل أحشر سمكة إلى جبّار من الجبابرة اشتهى عليه سمكة في ذلك البحر، فأمرني أن أحشر إلى الصيّاد سمك البحر حتّى يأخذها له ليبلغ الله عزّ وجلّ غاية مناه في كفره(2)، ففي ما بعثت أنت؟ قال: بعثني الله عزّ وجلّ في أعجب من الذي بعثك فيه، بعثني إلى عبده المؤمن الصائم القائم المعروف دعاؤه وصوته في السماء لاُكفئ قدره التي طبخها لإفطاره ليبلغ الله في المؤمن الغاية في اختبار إيمانه»(3).

وهذا محتمل روايات شدّة البلاء بشدّة الإيمان، فكلّما قوي إيمان الشخص وخرج من الامتحان الأدنى استحقّ الامتحان الأعلى؛ لتصعد درجات إيمانه، من قبيل ما ورد بسند صحيح عن هشام بن سالم عن الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «إنّ أشدّ الناس بلاءً الأنبياء ثُمّ الذين يلونهم ثُمّ الأمثل فالأمثل»(4)، فحال الإنسان


(1) س 29 العنكبوت، الآية: 2 ـ 3.

(2) كأنّه إشارة إلى الاستدراج.

(3) البحار 67: 229، باب شدّة ابتلاء المؤمن وعلّته، الحديث 40.

(4) الكافي 2: 252، باب شدّة ابتلاء المؤمن، الحديث 1.

131

في صعوده مدارج الإيمان حال الطالب في المدرسة، كلّما يصعد من مستوى من دروسه العلميّة والفكريّة إلى مستوى أرقى يصل في امتحاناته أيضاً إلى ما هو أشدّ وأصعب.

 

2 ـ التنبيه والتأديب:

قال الله تعالى: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الاَْدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاَْكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون﴾(1)، وقال عزّ من قائِل: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون﴾(2)، وليس ذلك خاصّاً بالمجرمين أو الفسقة بل يتصوّر حتّى بشأن الأولياء والأنبياء في مستوى حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين كما اتّفق في القصّة المعروفة ليونس(عليه السلام)، وكما ورد في قصّة يعقوب(عليه السلام): من أنّ ما أصابه من البلاء كان نتيجة غفلة له عن التصدّق على فقير مؤمن صائم هتف على بابه مراراً وهم يسمعونه وجهلوا بحاله ولم يصدّقوه، فلمّا يئس أن يطعموه وغشيه الليل استرجع واستعبر وشكا جوعه إلى الله عزّ وجلّ، وبات طاوياً وأصبح صائماً جائعاً صابراً حامداً لله تعالى، وبات يعقوب(عليه السلام) وآل يعقوب شباعاً بطاناً، وأصبحوا وعندهم فضلة من الطعام، فكانت نتيجة ذلك أنّه نزل عليهم البلاء المعروف، وأوحى فيما أوحى الله إليه في صبيحة تلك الليلة: «لقد أذللت يا يعقوب عبدي ذلّة استجررت بها غضبي واستوجبت بها أدبي ونزول عقوبتي وبلواي عليك وعلى ولدك ... أوَ ما علمت يا يعقوب أنّ العقوبة والبلوى إلى أوليائي أسرع منها إلى أعدائي؟ وذلك حسن


(1) س 32 السجدة، الآية: 21.

(2) س 30 الروم، الآية: 41.

132

النظر منّي لأوليائي واستدراج منّي لأعدائي»(1).

 

3 ـ كفّارة الذنوب:

ورد عن إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام): «ما من الشيعة عبد يقارف أمراً نهيناه عنه فيموت حتّى يبتلى ببليّة تمحّص بها ذنوبه، إمّا في مال وإمّا في ولد وإمّا في نفسه حتّى يلقى الله عزّ وجلّ وما له ذنب، وإنّه ليبقى عليه الشيء من ذنوبه فيشدّد به عليه عند موته»(2).

وقصّة السمكة التي مضى ذكرها آنفاً وردت بشكل آخر مشتمل على مسألة كفّارة الذنب ولعلّهما قصّتان، فعن مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «ولقد سمعت محمّداً رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: إنّه كان فيما مضى قبلكم رجلان، أحدهما مطيع لله مؤمن والآخر كافر به مجاهر بعداوة أوليائه وموالاة أعدائه، وكلّ واحد منهما مَلِك عظيم في قطر من الأرض، فمرض الكافر، فاشتهى سمكة في غير أوانها؛ لأنّ ذلك الصنف من السمك كان في ذلك الوقت في اللجج بحيث لا يقدر عليه، فآيسته الأطبّاء من نفسه، وقالوا: استخلف في ملكك من يقوم به، فلست بأخلد من أصحاب القبور، فإنّ شفاءك في هذه السمكة التي اشتهيتها ولا سبيل إليها. فبعث الله مَلَكاً وأمره أن يزعج تلك السمكة إلى حيث يسهل أخذها، فاُخذت له تلك السمكة فأكلها وبرئ من مرضه وبقي في ملكه سنين بعدها.

ثُمّ إنّ ذلك الملِك المؤمن مرض في وقت كان جنس ذلك السمك بعينه لا يفارق الشطوط التي يسهل أخذه منها مثل علّة الكافر، فاشتهى تلك السمكة


(1) البحار 12: 271 ـ 272.

(2) البحار 67: 230، باب شدّة ابتلاء المؤمن وعلّته، الحديث 43.

133

ووصفها له الأطبّاء، وقالوا: طب نفساً فهذا أوانه تؤخذ لك فتأكل منها وتبرأ. فبعث الله ذلك المَلَك فأمره أن يزعج جنس تلك السمكة عن الشطوط إلى اللجج لئلاّ يقدر عليه، فلم توجد حتّى مات المؤمن من شهوته وبعدم دوائه.

فعجب من ذلك ملائكة السماء وأهل ذلك البلد في الأرض حتّى كادوا يفتنون؛ لأنّ الله تعالى سهّل على الكافر ما لا سبيل له إليه وعسّر على المؤمن ما كان السبيل إليه سهلاً، فأوحى الله إلى ملائكة السماء وإلى نبيّ ذلك الزمان في الأرض: أ نّي أنا الله الكريم المتفضّل القادر، لا يضرّني ما اُعطي ولا ينقصني ما أمنع ولا أظلم أحداً مثقال ذرّة، فأمّا الكافر فإنّما سهّلت له أخذ السمكة في غير أوانها ليكون جزاءً على حسنة كان عملها، إذ كان حقّاً ألاّ اُبطل لأحد حسنة حتّى يرد القيامة ولا حسنة في صحيفته ويدخل النار بكفره، ومنعت العابد تلك السمكة بعينها لخطيئة كانت منه، فأردت تمحيصها عنه بمنع تلك الشهوة وإعدام ذلك الدواء، وليأتيني ولا ذنب عليه فيدخل الجنّة»(1).

 

4 ـ رفع الدرجات:

ورد عن أبي يحيى الحنّاط عن عبدالله بن أبي يعفور «قال: شكوت إلى أبي عبدالله(عليه السلام) ما ألقى من الأوجاع ـ وكان مسقاماً (2)ـ فقال لي: يا عبدالله، لو يعلم المؤمن ما له من الأجر في المصائب لتمنّى أنّه قُرّض بالمقاريض»(3)، وعن فضيل بن يسار عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «إنّ في الجنّة منزلة لا يبلغها عبد إلّا


(1) اُنظر البحار 67: 233 ـ 234، باب شدّة ابتلاء المؤمن وعلّته، الحديث 48.

(2) كأنّ هذا كلام أبي يحيى الحنّاط يعني أنّ عبدالله بن أبي يعفور كان مسقاماً.

(3) الكافي 2: 255، باب شدّة ابتلاء المؤمن من كتاب الإيمان والكفر، الحديث 15.

134

بالابتلاء في جسده»(1).

وثلاثة من هذه الملاكات الأربعة: الامتحان، وكفّارة الذنب، ورفع الدرجات تناسب المؤمن أكثر ممّا تناسب الفاسق، وواحد منها وهو التنبيه، إن كان بمعنى التذكير فحسب ناسب المؤمن أيضاً، كما ورد في صحيحة محمّد بن مسلم قال: «سمعت أبا عبدالله(عليه السلام)يقول: المؤمن لا يمضي عليه أربعون ليلة إلّا عرض له أمر يحزنه يذكَّر به»(2).

وإن كان بمعنى العذاب ناسب الفاسق والفاجر، وعليه فأكثر الوجوه الماضية حتّى الآن تناسب المؤمن؛ ولهذا ترى بعض الروايات تؤكّد على ضرورة ابتلاء المؤمن ببعض البلاء والمحن، من قبيل: ما عن ذريح المحاربي عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال: «كان عليّ بن الحسين(عليه السلام) يقول: إنّي لأكره للرجل أن يعافى في الدنيا فلا يصيبه شيء من المصائب»(3)، وما عن أبي داود المسترق قال: «قال أبو عبدالله(عليه السلام): دُعي النبي(صلى الله عليه وآله) إلى طعام، فلمّا دخل منزل الرجل نظر إلى دجاجة فوق حائط قد باضت فتقع البيضة على وتد في حائط فثبتت عليه ولم تسقط ولم تنكسر، فتعجّب النبيّ(صلى الله عليه وآله) منها، فقال له الرجل: أعجبت من هذه البيضة فوالذي بعثك بالحقّ ما رزئت شيئاً قطّ. قال: فنهض رسول الله(صلى الله عليه وآله) ولم يأكل من طعامه شيئاً وقال: من لم يُرزأ فما لله فيه من حاجة»(4)، وماعن عبدالرحمن وأبي بصير عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): لا حاجة لله في من ليس له في ماله وبدنه نصيب»(5).

 


(1) المصدر السابق، الحديث 14.

(2) المصدر السابق: 254، الحديث 11.

(3) المصدر السابق: 256، الحديث 19.

(4) المصدر السابق: 256، الحديث 20.

(5) المصدر السابق، الحديث 21.

135

5 ـ المجازاة وإنزال العذاب:

وهذا ما يناسب الفسقة والفجرة، قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوح وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً﴾(1)، وقال عزّ وجلّ: ﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَان فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون﴾(2)، وقال عزّ من قائِل: ﴿فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الاَْرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون﴾(3).

وفي الحديث عن إبراهيم بن أبي زياد عن الصادق(عليه السلام) قال: «إنّ الله تعالى إذا غضب على اُمّة ثُمّ لم ينزل بها العذاب أغلى أسعارها وقصّر أعمارها، ولم تربح تجارها ولم تغزر أنهارها ولم تزك ثمارها، وسلّط عليها شرارها وحبس عليها أمطارها»(4).

وعن العبّاس بن عليّ الشامي قال: «سمعت الرضا(عليه السلام) يقول: كلّما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون اُحدث لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون»(5).

وعن محمّد بن القاسم بن الفضيل بن يسار عن أبيه عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنّه


(1) س 17 الإسراء، الآية: 16 ـ 17.

(2) س 16 النحل، الآية: 112.

(3) س 29 العنكبوت، الآية: 40.

(4) البحار 73: 353، باب الذنوب وآثارها، الحديث 57.

(5) المصدر السابق: 354، الحديث 58.

136

قال: «من يموت بالذنوب أكثرممّن يموت بالآجال، ومن يعيش بالإحسان أكثر ممّن يعيش بالأعمار»(1).

وعن أبي حمزة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «وجدنا في كتاب رسول الله(صلى الله عليه وآله): إذا ظهر الزنا من بعدي كثر موت الفجأة، وإذا طُفّف المكيال والميزان أخذهم الله بالسنين والنقص، وإذا منعوا الزكاة منعت الأرض بركاتها من الزرع والثمار والمعادن كلّها، وإذا جاروا في الأحكام تعاونوا على الظلم والعدوان، وإذا نقضوا العهد سلّط الله عليهم عدوّهم، وإذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار، وإذا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر ولم يتّبعوا الأخيار من أهل بيتي سلّط الله عليهم شرارهم، فيدعو خيارهم فلا يستجاب لهم»(2).

 

تنبيهات:

التنبيه الأوّل: إنّ في المصائب التي تعتبر جزاءً للأعمال وعقوبة عليها يحتمل الارتباط التكويني بينها وبين الأعمال، بأن يكون مثلاً موت الفجأة أثراً وضعيّاً لظهور الزنا، والقحط أثراً وضعيّاً لتطفيف المكيال والميزان وهكذا، وكذلك الخيرات والبركات التي ربطت بأعمال الخير يحتمل ارتباطها بها تكويناً، بأن تكون أثراً وضعيّاً لها، قال الله تعالى:﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَات مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا


(1) المصدر السابق، الحديث 59.

(2) الكافي 2: 374، باب في عقوبات المعاصي العاجلة من كتاب الإيمان والكفر، الحديث 2.

137

يَكْسِبُون﴾(1)، وقال عزّ وجلّ: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُون﴾(2)، وقال عزّ من قائِل: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾(3).

وكذلك ما تورث الذنوب من سلب التوفيقات الخيريّة لا يبعد أن تكون باقتضاءات تكوينيّة وآثار وضعيّة، وقد ورد عن الصادق(عليه السلام): «إنّ الرجل ليذنب الذنب فيحرم صلاة الليل، وإنّ عمل الشرّ أسرع في صاحبه من السكّين في اللحم»(4)، وعن ابن نباتة قال: «قال أمير المؤمنين(عليه السلام): ما جفّت الدموع إلّا لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلّا لكثرة الذنوب»(5).

التنبيه الثاني: إنّ روايات كون صلاح المؤمن أحياناً في البلاء والمصيبة ـ لكفّارة ذنب أو لإعلاء درجة أو لتنبيه أو لتذكير أو نحو ذلك ـ لا يعني نفي الدعاء باعتبار أنّ الله حينما بلى المؤمن بهذا البلاء كان له فيه الخير فلا معنى لدعاء المؤمن لكشف ذلك الكرب، فإنّ الجواب: أنّ الدعاء بنفسه يساعد على نفس فائدة البلاء من غفران الذنب أو رفع الدرجات أو القرب إلى الله، فإنّ الدعاء نوع من العبادة ونحن مأمورون به.

وكذلك لا يعني نفي العلاج بالأسباب الطبيعيّة، فإنّنا مأمورون بمتابعة الأسباب الطبيعيّة مع حفظ حالة التوكّل على الله سبحانه وتعالى والثقة به.

 


(1) س 7 الأعراف، الآية: 96.

(2) س 5 المائدة، الآية: 66.

(3) س 13 الرعد، الآية: 11.

(4) البحار 73: 358، باب الذنوب وآثارها، الحديث 74.

(5) المصدر السابق: 354، الحديث 60.

138

التنبيه الثالث: إنّ تعدد أسباب البلاء قد أوجب الستر، فلو كان سبب البلاء منحصراً في مثل المجازاة أو التأديب أو الكفّارة لكان ابتلاء المؤمن به كاشفاً عن خطئه أو معصيته، ولكن بما أنّه توجد إلى جنب هذه الأسباب أسباب اُخرى، من قبيل الامتحان أو رفع الدرجات أو نحو ذلك، فقد أوجب هذا ستراً على العبد المؤمن، وهذا من الألطاف الخفيّة للربّ عزّ وجلّ بعباده.

التنبيه الرابع: قد يكون سبب نزول البلاء هم الأشرار ولكن البلاء النازل يشمل الأخيار؛ إمّا لمداهنتهم مع الأشرار وترك النهي عن المنكر ونحو ذلك؛ وإمّا لأنّ البليّة بطبيعتها التكوينيّة حينما تنزل تعمّ، ولكن الله تعالى يعوّض المؤمن غير المداهن، وقد ورد عن جابر عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) قال: «أوحى الله إلى شعيب النبيّ: أ نّي معذّب من قومك مئة ألف: أربعين ألفاً من شرارهم وستّين ألفاً من خيارهم، فقال(عليه السلام): يا ربّ، هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي»(1).

وورد عن الجعفري قال: «سمعت أبا الحسن(عليه السلام) يقول: ما لي رأيتك عند عبدالرحمن بن يعقوب؟! فقال: إنّه خالي. فقال: إنّه يقول في الله قولاً عظيماً يصف الله ولا يوصف، فإمّا جلست معه وتركتنا وإمّا جلست معنا وتركته. فقلت: هو يقول ما شاء، أيّ شيء عليّ منه إذا لم أقل ما يقول؟ فقال أبو الحسن(عليه السلام): أما تخاف أن تنزل به نقمة فتصيبكم جميعاً؟ أما علمت بالذي كان من أصحاب موسى(عليه السلام)وكان أبوه من أصحاب فرعون، فلمّا لحقت خيل فرعون موسى تخلّف عنه ليعظ أباه فيلحقه بموسى، فمضى أبوه وهو يراغمه حتّى بلغا طرفاً من البحر فغرقا جميعاً، فأتى موسى(عليه السلام)الخبر فقال: هو في رحمة الله، ولكن النقمة


(1) البحار 12: 386، باب قصص شعيب، الحديث 12.

139

إذا نزلت لم يكن لها عمّن قارب المُذنب دفاع»(1).

التنيبه الخامس: كان كلامنا إلى هنا في البلايا والمحن الإلهيّة، أمّا ظلم البشر للبشر الموجب لإيذائه فهو خارج عن هذا البحث، لا بمعنى عدم تطرّق تلك الوجوه إليه ـ فقد يكون تسلّط الظالم أيضاً امتحاناً أو كفّارة أو مجازاة أو ما إلى ذلك ـ بل بمعنى عدم الحاجة إلى تلك الأجوبة فيها، فإنّ الحكمة الربّانيّة شاءت أن يكون البشر متمتّعاً بالإرادة والقدرة والشهوات؛ إذ لا يتمّ بدونها إمكان صعود مدارج الكمال ولا نزول سلّم الدركات، ولازم ذلك أنّه قد يظلم بعض بعضاً، ويكفي في رفع إشكال ظلم الله تعويضه عزّ وجلّ المظلوم غير المقصّر.

وبالنسبة لخصوص الظلم الاقتصادي فقد يشير بعض الآيات إلى أنّ الله تعالى أكمل النعم الاقتصاديّة الكامنة في الطبيعة للناس وكنزها فيها، فيرجع حرمان البعض إلى ظلم البشر نفسه سواء كان بمعنى ظلم فئة لفئة، أو بمعنى ظلم نفس المُعدمين لأنفسهم بعدم القيام بوظيفة الاستخراج، قال الله تعالى:

1 ـ ﴿اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الليْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار﴾(2).

2 ـ ﴿قُلْ ءَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الاَْرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ


(1) الكافي 2: 374 ـ 375، باب مجالسة أهل المعاصي، الحديث 2.

(2) س 14 إبراهيم، الآية: 32 ـ 34.

140

رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّام سَوَاء لِّلسَّائِلِين﴾(1).

وبهذا المقدار المختصر نكتفي في البحث عن بعض صفات الله عزّ وجلّ للذات أو للفعل، ونحوّل من أراد الاستيفاء إلى المطوّلات.

 

 

 

 


(1) س 41 فصّلت، الآية: 9 ـ 10.

141

الفصل الثاني

 

 

 

النبوّة

 

 

○ النبوّة العامّة.

○ النبوّة الخاصّة.

 

 

 

 

143

النبوّة

1

 

 

 

النبوّة العامّة

 

 

○ البحث الأوّل: ضرورة بعث الأنبياء.

○ البحث الثاني: أدلّة النبوّة.

○ البحث الثالث: الوحي.

○ البحث الرابع: عصمة الأنبياء.

 

 

145

 

 

 

 

 

نذكر تحت عنوان النبوّة العامّة عدّة أبحاث:

 

البحث الأوّل: ضرورة بعث الأنبياء

 

قال اللّه تعالى: ﴿رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾(1).

﴿وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُون﴾(2).

﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَة مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءنَا مِن بَشِير وَلاَ نَذِير فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِير﴾(3).

﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَاب مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى﴾(4).


(1) س 4 النساء، الآية: 165.

(2) س 6 الأنعام، الآية: 155 ـ 157.

(3) س 5 المائدة، الآية: 19.

(4) س 20 طه، الآية، 134.

146

﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾(1).

إنّ الله سبحانه وتعالى قد دبّر اُمور الجمادات والنباتات بأحسن تدبير من: سير الشمس وحركة القمر وجري الأنهار وإرسآء الجبال وغير ذلك ممّا مضى جزء يسير منه في أحد أدلّتنا على وجود الله سبحانه وتعالى. وهذه اُمور لا إرادة لها ولا شعور ولا إدراك بحسب ما نفهمه نحن في نشأتنا من الإرادة والإدراك، وإن كان الأمر بحسب عالم العرفان بشكل آخر فإنّه: ﴿وَإِن مِّن شَيْء إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَه﴾(2)، ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِه﴾(3)، ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَل لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّه﴾(4)، ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّه﴾(5)، فبغضّ النظر عن هذا الفهم العرفاني وبالنظر إلى ما هو المعروف لنا في نشأة الإنسانيّة من فهم وإرادة نقول: إنّ الجماد والنبات مدَبّرٌ أمرهما بأحسن وجه جبراً وقهراً عليهما، ويلحق بذلك أبداننا وأعضاؤنا، فهي كالنباتات لا إرادة لها ولا شعور فيما نفهم ما لم يظهر الله لنا نشأتها التي يصدق بشأنها قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْء﴾(6)، فقد دُبّرت اُمورها من دون إرادتها بأحسن تدبير وحتّى بلحاظ الكماليات، من قبيل: أنّه جعل فوق العين حاجباً يمنع من نزول العرق إليها، وأوجد في ناصية الإنسان خطوطاً ليسهل انحراف العرق يميناً ويساراً، وجعل الشعر على أشفار العين صيانة لها من الدخان والغبار، وقعّر الأخمص من القدمين لتسهيل الوقوف والمشي، وقد قال اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): «كلّ شيء في هذا الكون الواسع (يعني


(1) س 17 الإسراء، الآية: 15.

(2) س 17 الإسراء، الآية: 44.

(3) س 13 الرعد، الآية: 13.

(4) س 59 الحشر، الآية: 21.

(5) س 2 البقرة، الآية: 74.

(6) س 41 فصّلت، الآية: 21.

147

الجماد والنبات والجسد الإنساني والحيواني) يحمل معه قانونه الربّاني الصارم الذي يوجّهه ويرتفع به مدى ما يتاح له من ارتفاع وتطوّر، فالبذرة يتحكّم فيها قانونها الذي يحوّلها ضمن شروط معيّنة إلى شجرة، والنطفة يتحكّم فيها قانونها الذي يطوّرها إلى إنسان، وكلّ شيء: من الشمس إلى البروتون، ومن الكواكب السيّارة في مدار الشمس إلى الالكترونات السيّارة في مدار البروتون، يسير وفق خطّة، ويتطوّر وفق إمكاناته الخاصّة»(1).

وهناك ما يكون أعلى درجة في سلّم الوجود من الجمادات والنباتات وهي الحيوانات؛ فإنّها تملك شيئاً من الإرادة ونحواً من الشعور، ولا تتدبّر كلّ اُمورها بالجبر كما في الجمادات والنباتات، فسلّط الله عليها لتمشية اُمورها الغرائز، فهي في الحيوانات بمنزلة الجبر في الجمادات والنباتات، فالحيوان بغريزته يحسّ بالجوع فيأكل أو بالعطش فيشرب الماء، أو بالحاجة الجنسيّة فيديم عن هذا الطريق بقاء جنسه وما إلى ذلك، وهذا المقدار من تدبير اُمور الحيوانات يكفي لبلوغها الكمال المترقّب لها.

وهناك ما يكون أعلى درجة في سلّم الوجود من الحيوانات، فيمتلك الإرادة الكاملة والإدراك الكامل، وهو الإنسان والجنّ والملك، وهذا الثالث لا يمتلك الشهوات وإنّما يمتلك العقل، فلا يبلغ في الكمال ما يمكن للإنسان أن يبلغه؛ لأنّ بلوغه إيّاه يتوقّف على ضغطه بإرادته على شهواته وتضحيته لرغباته وميولاته النفسيّة، في حين أنّ الملك يفقد ذلك. والإثنان الأوّلان ـ وهما الإنسُ والجنّ ـ لا شكّ في أنّ أشرفهما هو الإنس، وبامتلاكه للإرادة من ناحية، وللعقل من ناحية اُخرى، وللشهوات من ناحية ثالثة، وللقدرة والسلطنة والاختيار أصبح قادراً على رقيّ مدارج الكمال التي لا يرقى إليها الجماد والنبات، بل ولا


(1) الفتاوى الواضحة: 63.

148

الملك عن طريق التضحيات وتحصيل الملكات الفاضلة من الإيثار والوفاء والصدق، وما إلى ذلك وعلى رأسها طاعة المولى سبحانه وتعالى.

إلّا أنّ بلوغه مرتبة الكمال في الدنيا من ناحية، والجزاء الأوفى في الآخرة من ناحية اُخرى لا يكون عن طريق الجبر؛ لأنّه خلف مقام الإرادة التي بها يتمّ الكمال، فمن التزم بالصدق والأمانة وإطاعة مولاه أو ما إلى ذلك من صفات الكمال بالجبر والاضطرار لم يكن محموداً ولم يكن بالغاً مرتبة الكمال، وإنّما يبلغ الكمال بفعل الحسن باختياره، وبالإيثار والوفاء والصدق وما إلى ذلك بمحض إرادته، وكذلك لا يكون عن طريق الغريزة؛ لأنّها بمنزلة الجبر وقريبة منه فتمنع عن الوصول إلى الكمال أو بلوغ الجزاء الأوفى.

وعليه فيدور الأمر بالنسبة للإنسان ـ ويلحق به الجنّ ـ بين: أن يهمله الله تعالى ولا يهتم بتكميله، وحاشاه سبحانه وتعالى عن إهماله لأشرف مخلوقيه، أو يدبّر أمره عن طريق الجبر أو الغريزة، وهما ينافيان الهدف الذي لأجله ركّبت الإرادة والشهوات والعقل في الإنسان، وهو فتح باب رقيّه لمدارج الكمال ونيله لاستحقاق الجزاء الأوفى، أو يرسل الرسل إليه؛ لأنّ عقل البشر وحده عاجز عن ارتقاء تلك الدرجات؛ لعدم دركه لكثير من الاُمور من ناحية، ولمغلوبيّة العقل للشهوات في ما يدرك إلّا بمعونة الشرع وبالوعد والوعيد والإرشاد من ناحية اُخرى، ولو أنّ الله تعالى أهمل الناس بعدم إرسال الرسل إليهم فسيضلّون عن سلوك طريق الكمال، وفي الوقت نفسه لا يكون لله عليهم الحجّة، ولم يكن من الصحيح أن يفرّق الله بين سعيدهم وشقيّهم في يوم القيامة بالثواب والعقاب؛ لعدم إتمام الحجّة عليهم، بل كانت لهم الحجّة على الله كما أشارت إلى هذا الأمر الآيات التي استهللنا البحث بها كقوله تعالى: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل﴾.

ومع هذا الهدف الأصلي لإرسال الرسل يوجد هدفان آخران:

 

149

أحدهما: إقامة العدل في العالم، وهذا هدف في ذاته من ناحية، ومقدمة لرقيّ مدارج الكمال من ناحية اُخرى، قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْط﴾(1)، ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾(2)، ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّه﴾(3).

وإقامة العدل في العالم لا يمكن إلّا بالتوفيق بين المصالح الفرديّة والمصالح الاجتماعيّة، فإنّ الإنسان بطبيعته ميّال عادة إلى مصالحه الفرديّة وهي ـ في إطار المادّيات الدنيويّة وبقدر فهم الإنسان الاعتيادي ـ في تعارض شديد مع المصالح الاجتماعيّة، وهذا التوفيق هو الذي يحقّقه الأنبياء عن طريق فتح باب الالتذاذ بالقيم الخلقيّة من ناحية، وتوضيح مصالح عالم الآخرة للناس من ناحية اُخرى.

ثانيهما: إسعاد الحياة الدنيا المادّية ورفاهيّتها؛ إذ ليس الدين ينشد إسعاد الحياة الآخرة فحسب، ولا ترقية الإنسان مراقي الكمال فحسب، بل يهدف إلى تحقيق الرفاهيّة المادّية في الحياة الدنيا أيضاً، قال الله تعالى:

1 ـ ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَات مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون﴾(4).

2 ـ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُون﴾(5).

3 ـ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً﴾(6).


(1) س 57 الحديد، الآية: 25.

(2) س 38 ص، الآية: 26.

(3) س 4 النساء، الآية: 105.

(4) س 7 الأعراف، الآية: 96.

(5) س 5 المائدة، الآية: 66.

(6) س 11 هود، الآية: 52.

150

4 ـ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَال وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّات وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً﴾(1).

والخلاصة: أنّ الناس لو اتّبعوا الرسول لأصبحوا سادة الدنيا والآخرة، وإلّا فلا يكون الأمر أفضل ممّا ترى اليوم من نشوب الحروب وألوان الظلم والجور والاستهتار بالقيم الإنسانيّة والخلقيّة، وتفشّي ألوان البؤس والشقاء والحرمان، والسبب كلّه يعود إلى ما أشرنا إليه من ضعف عقل البشريّة من ناحية، وغلبة الشهوات والأهواء عليه من ناحية اُخرى، فالسيادة والملوكيّة الحقيقيتان في الدنيا والآخرة مرتبطتان باتّباع رسالة السماء.

ويعجبني هنا ذكر هذه الرواية الطريفة: «لمّا أظهر رسول الله(صلى الله عليه وآله) الدعوة بمكّة اجتمعت قريش إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، إنّ ابن أخيك قد سفّه أحلامنا وسبّ آلهتنا وأفسد شبابنا وفرّق جماعتنا، فإن كان الذي يحمله على ذلك العدم جمعنا له مالاً حتّى يكون أغنى رجل في قريش ونملّكه علينا. فأخبر أبوطالب رسول الله(صلى الله عليه وآله) بذلك، فقال: لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما أردته، ولكن يعطوني كلمة يملكون بها العرب وتدين لهم بها العجم ويكونون ملوكاً في الجنّة. فقال لهم أبوطالب ذلك فقالوا: نعم وعشر كلمات. فقال لهم رسول الله(صلى الله عليه وآله): تشهدون أن لا إله إلّا الله وأ نّي رسول الله. فقالوا: ندع ثلاث مئة وستّين إلهاً ونعبد إلهاً واحداً؟! فأنزل الله تعالى: ﴿وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الاْلِهَةَ إِلهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَاب﴾»(2).

* * *


(1) س 71 نوح، الآية: 10 ـ 12.

(2) راجع تفسير علي بن إبراهيم 2: 228 ـ 229، والآيات في سورة 38 ص، الآية: 4 ـ 5.

151

 

البحث الثاني: أدلّة النبوّة

 

قد ذكرت تحت هذا العنوان عدّة أدلّة:

 

الدليل الأوّل: إخبار نبيّ سابق

 

كماوردفيالقرآنالكريمبشأنرسول الله(صلى الله عليه وآله):

1 ـ ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُول يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد﴾(1).

2 ـ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُون﴾(2).

3 ـ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَر﴾(3).

وهذا الوجه صحيح، ولكنّه ليس هو الوجه الأصلي؛ لاحتياجه إلى دليل سابق على نبوّة النبيّ السابق.

 

الدليل الثاني: مضمون الدعوة

 

لا إشكال في أنّ مضمون الدعوة يلقي ضوءاً واضحاً على صدق الرسالة


(1) س 61 الصفّ، الآية: 6.

(2) س 2 البقرة، الآية: 146.

(3) س 7 الأعراف، الآية: 157.

152

وكذبها، فبقدر ما يكون المضمون مشتملاً على مفاهيم ونُظُم وأخلاقيّات رفيعة وعالية ونظيفة، يكون ذلك شاهداً على كونها سماويّة وإلهية، ولو كانت مشتملة على الخرافات أو الأخلاقيّات الخسيسة أو النُظُم الساقطة عقلاً تبرهن بذلك على كذب مدّعي الرسالة.

ولا استغراب من بلوغ رقيّ المضمون حدّاً لا يحتمل صدوره من سلطان من سلاطين الأرض، بل الواقع هو ذلك. فما ظنّك بدين مشتمل على نماذج كثيرة من مفاهيم وأحكام وأخلاقيّات لا يمكن أن يتصوّر أرقى منها، من قبيل: الاهتمام الجدّي بالالتزام بأرقى مستويات الخلق الرفيع حتّى مع أعدى عدوّه، فهل هناك عدوّ لله وللإسلام أكبر وأشدّ عداءً من المشرك؟ في حين أنّ الإسلام يؤكّد على ضرورة إيجار المشرك الذي استجارك ثمّ إبلاغه مأمنه عملاً بعهد الإيجار معه، في حين أنّه بمجرّد وصوله إلى مأمنه قد يحارب الإسلام بالسيف، وأيّ سلطان من سلاطين الأرض يحتمل ـ بحسب نُظُم الطبيعة ـ وصوله إلى هذا المستوى من رحابة الصدر في التمسّك بالأخلاق الرفيعة؟! قال الله تعالى:﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾(1)، ويؤكّد على ضرورة الوفاء بالعهد مع أعدى عدوّه، بالرغم من أنّ الإسلام كان وقتئذ يعيش ذروة قدرته ولم يكن يحتاج إلى مداهنة العدوّ، قال الله تعالى: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين﴾(2)، وقال أيضاً: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللّهَ


(1) س 9 التوبة، الآية: 6.

(2) س 9 التوبة، الآية: 4.

153

يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾(1).

ومن قبيل أمر الأولاد بخفض جناح الذلّ للوالدين، ولو كانا من أعدى أعداء الله، أي كانا من المشركين، قال الله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾(2)، ﴿وَوَصَّيْنَا الاِْنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْن وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون﴾(3)، ﴿وَوَصَّيْنَا الاِْنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون﴾(4)، ﴿وَوَصَّيْنَا الاِْنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً﴾(5).

والدليل على أنّ هذه الآيات تشمل الوالدين المشركين هو ما ورد في بعضها من النهي عن قبول قولهما في الأمر بالشرك، فهذا يعني أنّ الله يعلّم الأولاد على التذلّل والتخشّع للوالدين ولو كانا من أشدّ أعداء الله وهم المشركون، لا لشيء إلّا للحقّ الأخلاقيّ الثابت لهما على الولد؛ لكونهما من المقدّمات الإعداديّة لوجوده؛ ولتحمّل الاُمّ عناء الحمل والوضع والرضاع، على الرغم من أنّهما قد يكونان قد فعلا ما فعلا، وتحمّلت الاُمّ ما تحمّلت لإرضاء رغبات نفسيّة لا أكثر


(1) س 9 التوبة، الآية: 7.

(2) س 17 الإسراء، الآية: 23 ـ 24.

(3) س 31 لقمان، الآية: 14 ـ 15.

(4) س 29 العنكبوت، الآية: 8.

(5) س 46 الأحقاف، الآية: 15.

154

من ذلك، وأيّ سلطان أرضيّ يمكنك أن تتصوّره آمراً لرعيته بخفض جناح الذلّ لأعدى أعدائه وألدّهم؟

وأيّ دين غير سماوي يستطيع أن يربّي أحداً بمستوى المواساة بترك شرب الماء عن عطش، حال بينهم وبين السماء كالدخان، بالرغم من أنّ شربه لم يكن يكلّفه تأخير الماء عن إمام زمانه كي يعدّ ذلك إيثاراً، بل كان مجرّد المواساة البحت وكأنّه افترضه واجباً على نفسه إلى حدّ قال:

والله ما هذا فعال دين
ولا فعال صادق اليقين
 

أفليس هذا المستوى من الخلق الإسلامي الرفيع فوق ما يتصوّر في التربية الطبيعيّة الأرضيّة؟

فإذا كانت الرسالة مليئة بنماذج من هذه الخلقيّات الرفيعة، وكذلك بنُظم وقوانين حكيمة متقنة، أفلا يورث ذلك القطع بسماويّة الدين وصحّة الرسالة وصدق الرسول؟

 

الدليل الثالث: تجميع قرائن مختلفة

 

إنّ القرائن المختلفة من ظروف الرسول وبيئته وحالاته، وما إلى ذلك قد يورث بعضها أو مجموعها القطع بصحّة الرسالة وصدق الرسول، فمثلاً كون الرسول صادقاً وأميناً لدى الناس مدّة حياته الطويلة قبل البعثة، وكذلك خروجه من بيئة جاهلة ضالّة منهمكة في الخرافات والحروب والرذائل، وعدم تتلمذه لدى أيّ عالم من العلماء وعدم قراءته وكتابته وإتيانه على الرغم من كلّ ذلك بأرقى برنامج كامل شامل للحياة السعيدة، وكذلك كون القريبين منه والمؤمنين