556

 

4 ـ العادة:

والواقع: أنّ العادة ليست من أسباب المنع عن التربية الأخلاقيّة والوقوع في الأخلاق السيّئة فحسب، بل هي بذاتها أداة فارغة يمكن ملؤها بما يضرّ؛ كما يمكن ملؤها بما ينفع، فإذا ملئت بما يضرّ أصبحت من المشاكل الواقعة في طريق التربية. وإذا ملئت بما يورث الملكات الفاضلة أصبحت من المحفّزات نحو الخير والصلاح. وعليه فيمكن البحث عنها هنا، كما يمكن البحث عنها في المبحث الآتي، وهو: (بحث المحفّزات نحو الصلاح). ونحن اخترنا البحث عنها هنا (أعني: بحث المثبّطات) ولا نحتاج في البحث الآتي إلى تكرار البحث عنها.

والعادة هي من أشدّ العوامل المؤثّرة في سلوك الإنسان، قال أحمد أمين في كتاب الأخلاق: كثيراً ما يعبّرون عن قوّة العادة بقولهم: (العادة طبيعة ثانية) يعنون بذلك: أنّ لها من القوّة ما يقرب من (الطبيعة الاُولى). والطبيعة الاُولى هي: ما ولد عليه الإنسان وفطر عليه. فكلُّ إنسان خرج في هذا العالم كآلة مجهزة بكثير من العُدد: عين تبصر، وأُذن تسمع، ومعدة تهضم، وغرائز فطريّة وهكذا، فهذا الذي ولدنا عليه وورثناه من آبائنا وأجدادنا، هو طبيعتنا الاُولى. ولها سلطان كبير على الإنسان، فلو حاول أن يبصر بأُذنه ويسمع بعينه ما استطاع، فهو لابدّ أن يكون خاضعاً لسلطانها. وما يُدخله الإنسان على الطبيعة الاُولى من التحسين والتقبيح هو ما يسمّى (الطبيعة الثانية) أو العادة. ولها كذلك سلطان كبير، فالطريق الذي نختطّه لأنفسنا في الحياة ونعتاد السير فيه، له من السلطان علينا ما يقرب من سلطان الطبيعة، فنحن أحرار في السنين الاُولى من حياتنا، لا سلطان للعادة علينا حتّى إذا نمونا كان نحو التسعين في المئة من أعمالنا ـ من لبس وخلع وطريقة وأكل وشرب ونمط في الكلام والسلام والمشي والمعاملة ـ معتاداً نعمله بقليل من الفكر والانتباه، ويصعب علينا العدول عنه، وتصبح حياتنا مجرّد تكرير لأفكار

557

وأعمال كسبناها في أوّل عهدنا بالحياة... وقوّة العادة هي التي تجعل المسنّين يرفضون الآراء الجديدة والمستكشفات الحديثة، على حين نرى الأحداث يسرعون في اعتناقها والعمل بها؛ ذلك لأنّ المسنّين ألفوا نوعاً خاصّاً من الآراء، واعتادوا السير عليه حتّى صاروا يكرهون ما يخالفه، أمّا الشُبّان والأحداث فلم يألفوا نوعاً خاصاً من الآراء؛ لذلك كانوا على استعداد لقبول ما تقوم البراهين على صحّته. ومن الأمثلة على ذلك ما حدث للطبيب الشهير هارفي ( 1578 ـ 1657 ) الذي استكشف الدورة الدمويّة في الإنسان، فقد أعلن استكشافه، وأيّده بالبراهين، ولكن ظلّ الأطبّاء يرفضون القول به نحواً من أربعين سنة؛ لأنّهم اعتادوا أن يفكّروا أن لا دورة. ورحّب بالاستكشاف الأحداث؛ لمرونتهم وعدم إلفهم القديم. وهذا ما يعلل ما نراه من تمسك العجائز بالقديم والخرافات مع وضوح البراهين على بطلانها(1).

ومن الأمثلة على تأثير العادة الغريب في حياتنا، مسألة المشي، ومسألة الكلام. وقد ذكرهما أحمد أمين في كتابه تحت عنوان (سهولة العمل المعتاد) التي جعلها من خصائص العادة، قال: «ومن الأمثلة على ذلك المشي، وهو من التمرينات الشاقّة، يستغرق تعلمه شهوراً: فأوّلا نتعلّم كيف نقف، ووقوف الإنسان صعب؛ لأنّه يرتكز على قاعدة ليست بالعريضة، وعلى نهاية واحدة؛ لذلك كان وقوفه أصعب من ذوات الأربع، وكان انكفاؤه أسهل من انكفائها. وبعد أن نتعلّم الوقوف نتعلّم الارتكاز على رجل واحدة عند اتجاه الاُخرى إلى الأمام، ثُمّ تغيير الارتكاز من رجل إلى رجل عند تقدّم الاُولى. ومع هذه الصعوبات نجد أنّ العمل بتكراره واعتياده يصير في غاية السهولة. ويكفي توجيه فكرنا إلى المكان الذي نريده لتتحرك أرجلنا وتسير من غير صعوبة، ومن غير تفكير في كيف نمشي.


(1) مقتطف من كتاب الأخلاق لأحمد أمين: 34 و 35.

558

وأعجب من هذا وأصعب الكلام؛ فإنّا نقضي سنين في تعلّمه، ونحتاج إلى استعمال عضلات الحلق والشفة والحنك واللسان، وقد نحتاج في النطق بكلمة واحدة إلى استعمال كلّ هذه العضلات. ويتدرج الطفل من النطق ببعض الحروف السهلة إلى الصعبة حتّى تتكوّن العادة، فيصبح قادراً على التكلّم من غير إحساس بصعوبة ما»(1).

أقول: وثالث المشي والكلام هو الكتابة، فما أصعب الكتابة أوّل الأمر، وتبديل حركة اليد، وتحريك القلم بأسرع ما يمكن من حرف إلى حرف إلى أن تصبح عادة، وتجري في سهولة بالغة.

وذكر أحمد أمين في بيان تأثير تكرّر ورود فكرة ما لعمل على الذهن إلى أن تنتج عملا، ثمّ يصير ذلك عادة بالتكرار: «هب أنّ شاباً مستقيماً دعاه مرّة رفقة السوء ليشرب معهم، فنرى أنّ ذلك الشابّ عند سماع هذا الرأي يرفض الفكرة بتاتاً، ويقول: (لا) بملء فيه، ولكن قد يدعوه رفقاؤه لأن يصحبهم من غير أن يشرب، ويزيّنون له هذا الرأي بما أُوتوا من حيل ومهارة، فيرى بعد طول القول وكثرة الإغراء أنّ هذا الرأي لا يضره ما دام في عزمه أن يذهب ولا يشرب، وقد يتم ذلك حقيقةً، فيذهب معهم ولا يشرب، وقد يكرر ذلك، ولكنه في كلّ ذهاب معهم تقلّ قوّة الممانعة، وتأتي فكرة الشرب في كلّ مرّة، فتعمّق مجراها في المخّ، ولا تزال تضعف قوّة المقاومة عنده حتّى لا يرى له قدرة على الامتناع، فيشرب الكأس الاُولى معتقداً أنّه يستطيع أن يضرب عن الشرب في أيّ وقت شاء، وهو في كلّ مرّة يشرب يثبّت عادة الشرب، وإذا به سكّير»(2).

أقول: ولهذا ورد في الحديث: «ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة ...»(3).


(1) كتاب الأخلاق لأحمد أمين: 33.

(2) الأخلاق لأحمد أمين: 39.

(3) أُصول الكافي 2/451.

559

وقال ـ أيضاً ـ أحمد أمين: «حكى (ألفونس سكيروس) في كتابه (التربية الاستقلاليّة): أنّ امرأة عليها سمة الاحتشام والحياء دخلت أحد الحوانيت، وانتقت ما أرادت، وأخرجت من جيبها ورقة (بنك) قيمتها خمسة جنيهات، ولكنّ صرّاف الحانوت وجد أنّها مزوّرة، فبهتت المرأة، وأخرجت له أُخرى، ولكنّها لم تكن خيراً من الاُولى، فارتاب الرجل في أمرها وسلّمها إلى الشرطَة، وبعد التحقيق تبيّن أنّ هذه المرأة خادمة أمينة، كانت عند مخدومها ورقتان مزيّفتان وقعتا في يده اتّفاقاً، فتركهما في بيته من غير أن يمزّقهما، وكانت الخادمة تدخل الحجرة التي فيها الورقتان كلّ يوم؛ لتنظّفها، فتقع عينها عليهما ولا تعبأ بهما، ولكنّ تكرّر حضورهما في ذهنها من يوم إلى يوم ومن شهر إلى شهر حسّن لها أخذهما، فرفضت ذلك في أوّل الأمر بتاتاً، وبعد مدّة لمستهما بيدها وقلّبتهما، ثُمّ ردّتهما فوراً وكأنّ فيهما ناراً تحرق أصابعها، وما زال بها هذا الإغراء حتّى غلبها وأوقعها في السرقة»(1).

وقال ـ أيضاً ـ في كتابه: « ممّا يستوجب الأسف أ نّا في السنين الاُولى ـ سني تكوّن العادات ـ لا نكون قد بلغنا حدّ التفكير الصحيح، ولا تكون لنا قوّة على التمييز بين الأشياء تمييزاً صحيحاً واختيار خيارها لنعتاده؛ فإذا بلغنا هذه السنّ، وأدركنا عيوبنا، وشاهدنا ما نعتاده من عادات سيّئة، صعُب علينا العدول عنها؛ لتصلّبها ورسوخها وإن كان ذلك ممكناً...»(2).

أقول: نعم.

إذا عاش الفتى ستّين عاماً
فنصف العمر تمحقه الليالي
ونصف النصف يذهب ليس يدري
بغفلته يميناً عن شمال


(1) الأخلاق لأحمد أمين: 40.

(2) المصدر السابق: ص 41.

560

وربع النصف آمال وحرص
وشغل بالمكاسب والعيال
وباقي العمر أسقامٌ وشيبٌ
وهمٌّ بانتقال وارتحال
فحبّ المرء طول العمر جهلٌ
وقسمته على هذا المثال

ولا يخفى أنّ العادة كما تؤثّر في نفس الإنسان بتوجيهه نحو الخير أو الشرّ، كذلك قد تؤثّر في تقوية وتنمية مؤثّر آخر، بحيث يصبح على الإنسان مؤثّران في توجيهه نحو الخير أو الشرّ، وذلك في الخيرات أو الشرور التي يكون لها في نفس البشر ـ عادة ـ دافع خلقي نفسي من الفضائل النفسيّة أو الرذائل النفسيّة، فمثلا صفة الوفاء تتأصّل وتنمو في الإنسان بالتكرر في الالتزام بالوفاء، وصفة الجفاء ـ أيضاً ـ كذلك، وكذلك صفة البخل أو الكرم أو ما إلى ذلك، فمن عوّد نفسه على حالة الانتقام أو التشفّي، تغلو في نفسه هذه الحالة، ولايكون الدافع الجديد له بعد ذلك إلى الانتقام والتشفي، العادة مباشرة فحسب، بل قوّة الغضب وضراوته للانتقام أيضاً، وكذلك من عوّد في نفسه حالة الوفاء ذكى في نفسه نور الوفاء، فحينما يلتزم بالوفاء بعد ذلك ليس دافعه الجديد العادة وحسب، بل وكذلك قوّة نور الوفاء في قلبه. وكذا الحال في باقي الفضائل والرذائل، بل لعلّ التعود على المصاديق الفعلية لهذه الصفات النفسية، تخلق أحياناً تلك الصفة فيمن لم تكن لديه، أو كانت عكسها لديه.

 

وبالالتفات إلى مدى تأثير العادة في نفوسنا الذي كاد أن يكون كتأثير الغرائز الأصليّة، ومدى تأثير مبادئ العادة، تتّضح لدينا أُمور هامّة لها قيمتها في مجال التربية:

الأوّل: ضرورة إسراعنا إلى تربية نفوسنا مبكرين في ذلك بقدر الإمكان؛ فإنّ كلّ تأخير لذلك يعني استحكام العادات وتحددها وصعوبة التربية بعد ذلك، وضرورة تحصيل العادات الحسنة في الصغر، ثُمّ في عنفوان الشباب، ثمّ قبل سن الكهولة ... وهكذا.

561

ولعلّ هذا هو أحد الأسباب لما روي ـ على ما قاله المرحوم الشيخ عباس القمّي(رحمه الله) في سفينة البحار(1) ـ: «إذا بلغ الرجل أربعين سنة ولم يتب، مسح إبليس وجهه وقال: بأبي وجه لا يفلح».

فإنّ هذا الشخص قد استحكمت عاداته، ومن الصعب بعد هذا أن يغيّر عادةً أو يحسن صفة من الصفات.

وأيضاً لعلّ السبب الآخر لذلك هو: أنّ الإنسان يتحدد ـ عادة ـ طريقه في الحياة كاملا خلال أربعين سنة، ومن الواضح أنّ طريقة الحياة وظروفها ومكتنفاتها لها الأثر الكبير في سنخ التربية.

هذا، إضافة إلى سبب آخر محتمل لذلك، وهو: أنّ الإنسان يبلغ ذروة كماله المزاجي والفكري من خلال أربعين سنة، ثُمّ يتجه نحو التوقف، ثُمّ النقصان عادةً، فلو لم يفلح في زمان ذروة القدرة وقوّة الإرادة، ضعف احتمال الفلاح بعد ذلك، وفي الحديث عن أبي بصير قال: قال أبو عبدالله(عليه السلام): «إذا بلغ العبد ثلاثاً وثلاثين سنة فقد بلغ أشدّه، وإذا بلغ أربعين سنة فقد بلغ منتهاه، فإذا طعن في إحدى وأربعين فهو في النقصان. وينبغي لصاحب الخمسين أن يكون كمن كان في النزع»(2).

وعليه فالاهتمام بتربية النفس قبل بلوغ الأربعين من أشدّ الضرورات، خاصةً وأنّ سني الأربعين فما فوق هي سنوات اشتداد الحساب والكتاب عليه من قبل الله تعالى على ما في بعض الروايات، فعن أبي بصير قال: قال أبو عبدالله(عليه السلام):

«إنّ العبد لفي فسحة من أمره ما بينه وبين أربعين سنة، فإذا بلغ أربعين سنة أوحى الله ـ عزّ وجلّ ـ إلى ملائكته أ نّي قد عمّرت عبدي عمراً (وقد طال)، فغلّظا وشدّدا وتحفظا واكتبا عليه قليل عمله وكثيره وصغيره وكبيره. قال: وقال


(1) سفينة البحار 3/284.

(2) الخصال 23/545، أبواب الأربعين.

562

أبو جعفر(عليه السلام): إذا أتت على العبد أربعون سنة قيل له: خذ حذرك فإنّك غير معذور،وليس ابن أربعين سنة أحقّ بالعذر من ابن عشرين سنة، فإنّ الذي يطلبهما واحد، وليس عنهما براقد، فاعمل لما أمامك من الهول، ودع عنك فضول القول»(1).

وليس معنى ما قلناه: من ضرورة تزكية النفس قبل الأربعين عدم ضرورة ذلك في أوّل الشباب، وكفاية الابتداء بذلك في سنّ الثلاثين مثلا، وإنّما المقصود: أنّه ببلوغ الأربعين يكاد أن تفوت الفرص نتيجة تصلّب العادة، وتنزل القوى بالضعف والانهيار والنخور، ولا بدّ من تزكية النفس من أوّل البلوغ لو فاتته التزكية قبل البلوغ. وفي الحديث: «سئل الصادق(عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿... أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ...﴾(2) فقال(عليه السلام): توبيخ لابن ثمانية عشر سنة»(3).

وتمام الآية ما يلي: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِير﴾.

ويعجبني هنا ذكر أبيات وردت بالفارسيّة في توصيف خصائص سني العمر:

چو عمراز سى گذشت وياخود از بيست
نميشايد دگر چون غافلان زيست
نشاط عمر باشد تا چهل سال
چهل رفته فرو ريزد پر وبال
پس از پنجه نباشد تن درستى
بصر كندى پذيرد پاى سستى
چو شصت آمد نشست آمد پديدار
چو هفتاد آمد افتاد آلت از كار
به هشتاد ونود چون در رسيدى
بسا سختى كه از گيتى كشيدى
از آنجا گر بصد منزل رسانى
بود مرگى بصورت زندگانى
چو در موى سياه آمد سفيدى
پديد آمد نشان نا اميدى(٤)


(1) المصدر السابق 24/545 ـ 546، أبواب الأربعين.

(2) السورة 35، فاطر، الآية: 37.

(3) وسائل الشيعة 16/101، الباب 97 من جهاد النفس، الحديث 5.

(4) سفينة البحار 6 / 454 ـ 455.

563

الثاني: ضرورة تربيتنا لأطفالنا، ومدى المسؤوليّة الكبيرة الملقاة على عواتقنا بهذا الصدد؛ لأنّ السنين الاُولى من العمر لها الحظّ الوافر من تكوّن العادات، والإنسان غافل فيها غير شاعر بحقائق الاُمور، وغير قادر على تقييم القضايا بالشكل الكامل، فعلى الأولياء أن يراقبوا الصغار، ويربّوهم إلى أن يبلغوا مرتبة الكمال والالتفات. والأخبار في باب تربية الأولاد كثيرة منها:

ما في وصية النبيّ(صلى الله عليه وآله) لعليّ(عليه السلام) قال: «يا عليّ، حقُ الولد على والده أن يحسن اسمه وأدبه، ويضعه موضعاً صالحاً، وحقّ الوالد على ولده أن لا يسمّيه باسمه، ولا يمشي بين يديه، ولا يجلس أمامه، ولا يدخل معه الحمام. يا عليّ، لعن الله والدين حملا ولدهما على عقوقهما. يا عليّ، يلزم الوالدين من عقوق ولدهما ما يلزم الولد لهما من عقوقهما. يا عليّ، رحم الله والدين حملا ولدهما على برّهما. ياعليّ من أحزن والديه فقد عقهما»(1).

وفي رواية أُخرى: «جاء رجل إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله، ما حقُّ ابني هذا؟ قال: تحسن اسمه وأدبه، وضعه موضعاً حسناً»(2).

وفي رواية ثالثة عن إمامنا زين العابدين(عليه السلام): «وأمّا حقّ ولدك فأن تعلم أنّه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشرّه، وأنّك مسؤول عمّا وليته من حسن الأدب، والدلالة على ربّه عزّوجلّ، والمعونة على طاعته. فاعمل في أمره عمل من يعلم أنّه مثاب على الإحسان إليه، معاقب على الإساءة إليه...»(3).

الثالث: ضرورة علاج العادات السيّئة بالدفع قبل الرفع؛ فإنّ من لم يقدر على معالجة العادة قبل تكوّنها، فهو أعجز عن علاجها بعد تكوّنها.


(1) وسائل الشيعة 21 / 389 ـ 390، الباب 22 أحكام الأولاد، الحديث 4.

(2) المصدر السابق: ص 479، الباب 86 من تلك الأبواب، الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة 15/175، الباب 3 من جهاد النفس، الحديث 1.

564

الرابع: ضرورة علاج العادة السيّئة لو تكوّنت فوراً ففوراً؛ إذ كُلّما مضى عليها الزمان استحكمت أكثر فأكثر.

ومن الخطأ الفاحش تأجيل التوبة الموجب لرسوخ أثر الذنب في النفس واستحكامه، وتحوّله إلى العادة لو لم تتكوّن بعد، وتأثيره في اشتداد العادة لو كانت قد تكوّنت، على أنّ المذنب لا يضمن لنفسه إمهال الموت إيّاه للتوبة، وكذلك عدم تعرضه لموانع أُخرى. ولو تاب وأصلح فقد خسر على أيّ حال ذاك المقطع من عمره. وقد مضى منّا بحث التوبة مفصلا في أوّل الحلقة الثالثة من كتابنا هذا، فلا نفصّل الكلام مرّة أُخرى، إلاّ أنّنا نزيّن المقام هنا برواية واحدة من روايات التوبة عن الإمام الباقر سلام الله عليه قال: « سئل رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن خيار العباد فقال: الذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساؤوا استغفروا، وإذا أُعطوا شكروا، وإذا ابتلوا صبروا، وإذا غضبوا غفروا»(1).

وعلاج العادة صعب مستصعب بالأخص إذا استفحلت، فلو أنّ أحداً فاتته العلاجات الوقائية كتربية الأبوين، أو انتهاجه هو منهج الرفع قبل الدفع، وخانته ارادته إلى أن وقع في الفخّ، فهناك نصائح تقدّم لمن يريد العلاج لعادة سيّئة موجودة فيه، ونحن نذكرها مع تنقيحات من ناحية، وإضافات من ناحية أُخرى. وهذه النصائح على قسمين:

القسم الأوّل: ما يقدّم لمن يرى في نفسه القدرة على محاربة العادة بشكل مباشر ومعاكستها. وهذا القسم من النصائح كما يلي:

1 ـ إنّ الإنسان تختلف حالاته النفسيّة من ساعة إلى ساعة ومن زمان إلى زمان، فقد تحصل له حالة الصحوة والانتباه والتوجّه إلى الحقّ وحالة الصفاء الروحي، وأُخرى تزول عنه هذه الحالة، وإنّ للقلوب إقبالا وإدباراً. فهذا المبتلى


(1) وسائل الشيعة 16 / 67، الباب 85 من جهاد النفس، الحديث 8 .

565

بالعادة السيّئة ينبغي له أن يختار ساعة الصحوة والانتباه، ويستغلّها في سبيل العزم القويّ على ترك تلك العادة السيّئة والنيّة الصارمة لمخالفتها، فإنّ نفس النيّة الصارمة والعزم القويّ الذي لا يشوبه ريب وتردّد يقوّي قدرة النفس على محاربة العادة وتركها.

وقد مضت في أوائل الحلقة الثانية من حلقات هذا الكتاب قصّة أحد قطّاع الطريق اسمه فضيل بن عياض: عشق جارية، فبينما يرتقي الجدران إليها سمع تالياً يتلو ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ...﴾ فأخذته الصحوة وقال: يا ربّ، قد آن فرجع وتاب(1).

وقد مضى في أوائل الحلقة الثالثة من هذا الكتاب تفسير التوبة النصوح بالتوبة التي تخلق في النفس تغيراً وانقلاباً وتطهيراً، بشكل لن يرجع صاحبها إلى ذلك الذنب أبداً.

وخير تعبير عن التوبة النصوح تعبير ورد عن إمامنا زين العابدين سلام الله عليه في دعاء التوبة: « اللهمّ إنّي أتوب إليك في مقامي هذا من كبائر ذنوبي وصغائرها، وبواطن سيّئاتي وظواهرها، وسوالف زلاّتي وحوادثها، توبة من لا يحدّث نفسه بمعصية، ولا يضمر أن يعود في خطيئة. وقد قلت يا إلهي في محكم كتابك: إنّك تقبل التوبة عن عبادك، وتعفو عن السيّئات، وتحبّ التوابين، فاقبل توبتي كما وعدت، واعف عن سيّئاتي كما ضمنت، وأوجب لي محبّتك كما شرطت، ولك يا ربّ شرطي إلاّ أعود في مكروهك، وضماني أن لا أرجع في مذمومك، وعهدي أن أهجر جميع معاصيك...»(2).

2 ـ ينبغي أن يلتفت هذا المعتاد الذي أصبح بصدد معاكسة العادة ومحاربتها،


(1) سفينة البحار، مادّة (الفضيل)، والآية: 16 في السورة 57، الحديد.

(2) الدعاء: الواحد والثلاثون من الصحيفة السجاديّة.

566

إلى أنّه لو خالف تركه للعادة مرّةً واحدةً في الأثناء، ورجع إلى عادته قبل استئصالها من نفسه، فهذه المرّة الواحدة ضررها عليه أكثر بكثير من نفع الرياضة التي يتحمّلها طوال مدّة مديدة في سبيل مخالفة العادة؛ ذلك لأنّ العمل على طبق ما اعتاد عليه باعتباره عملا موافقاً لميله ورغبته النفسيّة، وجرياً على وفق التيار المترسّخ في نفسه، يكون تأثيره على النفس، وعلى ترسيخ العادة، وإبطال أثر ما صنعه مدّة من الزمن من معارضة العادة، أشدّ بكثير من تأثير الترك في النفس.

3 ـ إذا كان يرى في نفسه العجز عن مواصلة الترك الدفعي، فليلتزم بالترك التدريجي. وإذا كان هكذا حاله فقد يكون الأفضل له ـ إن لم يكن المعتاد عليه من المحرّمات الإلهيّة ـ أن يحدّث نفسه من أوّل الأمر بالترك التدريجي، ولا يُنشئ بناءً نفسيّاً على الترك الدفعي والدائمي؛ لأنّه حينما تخونه إرادته بعد ذلك، قد يصاب بخيبة أمل، وباليأس عن العلاج، وبردّ الفعل العنيف، المانع عن القدرة على العلاج بعد ذلك.

والقسم الثاني: ما تقدّم من النصائح المشتملة على كيفيّة محاربة العادة بطريقة غير مباشرة. فلو صعبت على الإنسان محاربة العادة؛ لتمكّنها من النفس وترسّخها فيها، فبإمكانه ـ غالباً ـ أن يجهد في جوانب أُخرى خارج نطاق تلك العادة المترسّخة، ممّا يكون جهده فيها أسهل عليه من جهده في مخالفة العادة ابتداءً. وبذلك يسهل عليه كسر العادة والاشتغال بالمحاربة المباشرة. وهذه النصائح ـ أيضاً ـ تتلخّص في ثلاث:

1 ـ أن يحارب الاُمور النفسيّة أو الخارجيّة التي تبعث بتلك العادة وتنبّه إليها وتؤكّدها. فإذا لم تصبح تلك الاُمور بنفسها له عادة، أو كان تعوّده عليها أخفّ من تعوّده على العادة المقصود علاجها فمحاربته لتلك العادة الاُخرى أو للتي لم يعتد بعد عليها أصلا، تكون أسهل عليه من محاربته لعادته. وبإقصائه

567

لتلك البواعث وأسباب العادة يهون عليه كسر العادة، فمثلا لا يسمح لنفسه ـ وبقدر الإمكان ـ بالتفكير فيما اعتاده وفي فوائده الظاهريّة، ولا يسمح لنفسه بقدر الإمكان بالدخول في المجالس التي تمارس فيها تلك العادة، ولا يصاحب من يتذوّق أو يمارس تلك العادة؛ فإنّ قرين السوء يزري ويؤثّر في الإنسان.

ولا أقصد طبعاً بهذا الكلام القول بحسن الابتعاد عن الفسقة، وقبح الاقتراب منهم لكلّ أحد، وفي كلّ حال حتّى فيما لو ترتّبت على ذلك هداية ذاك الفاسق، وإنّما أقصد الكلام من زاوية علاج العادة فحسب، وإصابة العدوى من صديق السوء. وعن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «المرء على دين خليله وقرينه»(1).

وقال الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلاِْنسَانِ خَذُولاً﴾(2).

2 ـ أن يخلق الأجواء النفسيّة والخارجيّة المضادّة لتمركز العادة ولمبادئها، كأن يشغل نفسه بتفكير آخر حتّى لا ينشغل بالتفكير الذي يؤكّد العادة، أو يفكّر ويطالع في مضارّ تلك العادة ومفاسدها، وفي عظمة عقاب الله لو كان المعتاد عليه معصية لله تعالى، أو يعاشر الصديق الصالح، ويتردّد على مجالس الصلحاء والمتّقين ويخالطهم حتّى تصيبه العدوى الصالحة من الصديق. وما أسعد حظّ من يرافق أُناساً تذكّره مخالطتهم بالله تعالى، وتوحي إليه بحسن الأخلاق والصفاء والوفاء واتّباع رضوان الله.


(1) اُصول الكافي 2/375، و 642. والسند صحيح.

(2) السورة 25، الفرقان، الآيات: 27 ـ 29.

568

وعن مصباح الشريعة عن الصادق(عليه السلام) قال: «احذر أن تواخي من أرادك لطمع أو خوف أو فشل أو أكل أو شرب. واطلب مواخاة الأتقياء ولو في ظلمات الأرض، وإن أفنيت عمرك في طلبهم؛ فإنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ لم يخلق على وجه الأرض أفضل منهم بعد النبيّين. وما أنعم الله على العبد بمثل ما أنعم به من التوفيق لصحبتهم. قال الله عزّ وجلّ: ﴿الاَْخِلاَّءُ يَوْمَئِذ بَعْضُهُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ...﴾»(1).

3 ـ القاعدة الرابعة من القواعد الأربع المذكورة في كتاب الأخلاق لأحمد أمين(2)حيث قال: حافظ على قوّة المقاومة، واحفظها حيّة في نفسك؛ وذلك بأن تتبرّع بعمل صغير كلّ يوم، لا لسبب إلاّ لمخالفة نفسك وهواك؛ لأنّ هذا يعينك على مقاومة المصائب إذا حان حينها، ويكون مثلك مثل رجل يدفع في كلّ سنة مبلغاً صغيراً تأميناً على بيته ومتاعه.

أقول: أصل تعويد النفس على مخالفة الميول تقوية للإرادة أمر صحيح، ولكن ينبغي أن يصرف هذا ضمناً في مصرف تربية النفس بالعنوان الأوّلي. وأقصد بذلك: أنّه تارة يترك الإنسان بعض ميوله ومشتهياته التي لا توجد منقبة في تركها في حدّ ذاتها، ويتدرّج في تصعيد هذا الترك ومخالفة النفس؛ لما تترتّب على ذلك من قوّة الإرادة التي يستفيد منها بعد هذا في تربية النفس من كسر عادة سيّئة أو غير ذلك، وأُخرى يختار الإنسان في نفس تركه هذا ومخالفته للنفس التدرّج في الالتزام بترك المكروهات وفعل المستحبّات. وهذا أفضل؛ لأنّه ـ إضافة إلى ما فيه من تقوية الإرادة المفيدة فيما بعد لتربية النفس ـ يكون هذا بعنوانه الأوّلي والذاتي


(1) مصباح الشريعة، الباب الواحد والسبعون في المؤاخاة، والآية 67 في السورة 43، الزخرف.

(2) كتاب الأخلاق: ص38.

569

ـ أيضاً ـ تربيةً للنفس وتهذيباً لها، فهو بالفعل يكون في نموٍّ وتسام روحي وأخلاقي ومعنوي. وقد ورد عن الصادق(عليه السلام): «مَن استوى يوماه فهو مغبون. ومن كان آخر يومه شرّهما فهو ملعون. ومَن لم يعرف الزيادة في نفسه كان إلى النقصان أقرب. ومَنْ كان إلى النقصان أقرب فالموت خير له من الحياة»(1).

وهذه الرواية من الروايات التي أحسُّ عليها بآثار الصدق ونور الإمامة، وكلُّ بنودها واضحة بالمنطق القطعي. فمن استوى يوماه فهو مغبون؛ لأنّ العمر هو رأس مال الإنسان، فمن استوى فقد خسر رأس ماله، فيكون لا محالة مغبوناً. ومن كان آخر يوميه شرّهما فهو مبعد عن رحمة الله؛ لأنّ المفروض بالإنسان أن يكون في تقدّم، فإن لم يكن في تقدّم فالمفروض عدم التقهقر في أقلّ تقدير؛ إذ هذا يعني خسارة رأس المال زائداً خسارة ما كسبه سابقاً. ومن لم يعرف الزيادة كان إلى النقصان أقرب؛ لأنّ الإنسان بطبيعته متحرّك، ونادرٌ وقوفه، فلو لم يتحرّك إلى الأمام ففي الأكثر يتحرّك إلى القهقرى. ومن كان إلى النقصان أقرب فالموت خير له؛ لأنّه بالحياة يخسر ولا يربح. وقد مضى في أواخر الحلقة الثالثة من هذا الكتاب دعاء إمامنا زين العابدين(عليه السلام): «... عمّرني ما كان عمري بذلة في طاعتك، فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتك إليّ، أو يستحكم غضبك عليّ...»(2).

وختاماً أقول: إنّ العادة الحسنة حينما تتكوّن فهي على رغم ما تترتّب عليها من فوائد هامّة جداً: كسهولة العمل المعتاد، وتوفير الزمن، والانتباه، وخلق ميل نفسي نحو ذاك الشيء الحسن، وهذا الميل يجرّ الإنسان نحو الخير، على رغم كلّ هذا يوجد لها ضرر جانبي،وهو: أنّه حينما صارت العبادة أو أيّ عمل خيري عادةً


(1) بحار الأنوار 71/173.

(2) الدعاء العشرون من الصحيفة السجاديّة.

570

للإنسان، يقلّ في كثير من الأحيان الالتفات التفصيلي وحضور القلب حين العمل. ولا يصحُّ تدارك ذلك بكسر العادة؛ فإنّ كسر العادة الحسنة خسارة عظيمة،بل ينبغي أن يكون تداركه بأمرين:

الأوّل: التعمّد إلى إلفات النفس وتذكيرها حين الانشغال بالعمل إلى العمل وإلى الله تعالى، وتركيز الذهن على ذلك وإحضار القلب؛ فإنّ العمل القليل بالحضور خير من العمل الكثير مع تلهّي القلب. وعن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «يا أبا ذر ركعتان مقتصدتان في تفكّر خير من قيام ليلة والقلب ساه»(1).

وعن الصادق(عليه السلام): «إذا صلّيت صلاة فريضة فصلّ لوقتها صلاة مودِّع تخاف أن لا تعود إليها»(2).

وعن طريق العامة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «إنّما الصلاة تمسكن وتواضع وتضرّع وتبأس وتندّم وتقنع بمدّ يديك فتقول: اللهم اللهم، فمن لم يفعل فهي خداج»(3).

والثاني: أنّ شيئاً من الأعمال الخيّرة أو مرتبة من الصلاح إذا أصبح عادة، فليطمح الإنسان إلى المرتبة الأعلى وعمل خيريّ آخر لا يوجد فيه هذا النقص من دون أن يترك الشيء الأوّل. وبهذا يزداد الإنسان خيراً طيلة عمره.

 

5 ـ غفلة النفس عن دوافعها الحقيقيّة:

ومن غرائب النفس البشريّة أنّه يعرض عليها ـ أحياناً ـ ما يشبه الغفلة عن دوافعها الحقيقية، على رغم أنّها ـ في الحقيقة ـ من المعلومات الحضوريّة لها، فتبرّر النفس ـ أحياناً ـ ما يصدر عنها بتبرير لا واقع له، وتتخيّل أنّها مخلصة في


(1) وسائل الشيعة 4/74 ـ 75، الباب 17 من أعداد الفرائض، الحديث 13.

(2) المحجة البيضاء 1/350.

(3) المصدر السابق: ص349، وفُسّر الخداج بمعنى الناقص.

571

العمل الفلاني لله، وأنّ هدفها الله جلّ وعلا فحسب، فتراه يغتاب أو يكذب أو يفتري انتقاماً أو سخطاً أو تماهلا في الدين، ولكنّه يبرّر ذلك بينه وبين نفسه ـ لتخفيف تأنيب الضمير أو رفعه ـ بأنّ ذلك كان لأجل دفع الشرّ، أو الحيلولة دون طغيان ذاك الشخص، أو ما إلى ذلك. فلو دقّق حقّاً في عمله ودوافعه النفسيّة لاتّضح له تدخّل غير الله في تحريكه.

وقد يتخيّل الإنسان أنّه وصل إلى درجة معتد بها من الكمال، في حين أنّه ليس الأمر كذلك، فمثلا ربما لا يستطيع أن يصدّق الإنسان بأنّه لم يترقّ في نفسيّاته وتطلّعاته إلى المراتب المعنويّة، وكماله الروحي منه حينما كان طفلا رضيعاً، وإذا به يتأثّر من أنّ فلاناً تقدّم عليه في المجلس مثلا، في حين أنّ هذا هو عين حالة طفولته في الوقت الذي كان يتأثّر لو قدّمت أُمّه عليه طفلا آخر، أو أرضعت طفلا آخر غيره، أو أجلسته في حجرها. فبامتحان من هذا القبيل يستطيع أن يعرف أنّه في أمثال هذه الاُمور لا يزال يعيش نفسيّات أيّام طفولته، وإنّما الفرق في المصداق المبرز لهذه النفسيّات لا أكثر من ذلك.

وربّما لا يستطيع الغنيّ المتموّل أن يصدّق أنّه في خسّة نفسه كذاك الفقير السائل، الذي يمتلئ غيظاً وحسداً لو رأى أنّه أُعطي للفقير الآخر، فلس واحد دونه، في حين أنّه هو ـ أيضاً ـ يمتلئ غيظاً وحسداً لو رأى أنّ ربحاً هائلا قد حصل عليه صديق له دونه، وكانت نسبة الربح إلى ماله وحاله كنسبة الفلس الواحد إلى حال ذاك الفقير السائل. فالنفسيّة هي عين تلك النفسيّة، وإنّما الفرق في المصداق.

والخلاصة: أنّ الغفلة عن الدوافع الحقيقيّة، وعن معرفة حقيقة نفسه، والدرجة التي وصل إليها من رفعة ومقام، أو خسّة وانحطاط، هي أحد الموانع عن تربية النفس. ولا بدّ من رفعها بالدقّة والالتفات، والتجربة ومحاسبة النفس.

572

 

6 ـ التقليد أو إصابة العدوى:

ومن المشاكل التي تعترض الطريق حالة التقليد، أو التأثّر بمن يتفاعلمعه، فإنّ هذه الحالة موجودة عادة لدى النفس البشريّة، وهي تشبه العادة في أنّها قد تولّد الخير والكمال حينما يتّفق تقليده صدفة لإنسان خيّر فاضل،أو تأثّره به ممّن يكون أعلى مرتبة منه في الكمالات، فتساعده هذه الحالةعلى النموّ. وقد تولّد الشرّ حينما يقلّد إنساناً رذلا خسيساً دنيئاً في روحيّاته ومعنويّاته.

وعلى هذا الأساس يؤكّد ـ عادة ـ على اختيار الجليس الصالح، واجتناب جليس السوء كما ورد عن أبي الحسن(عليه السلام) قال: «قال عيسى(عليه السلام): إنّ صاحب الشرّ يعدي، وقرين السوء يردي، فانظر من تقارن»(1).

وما عن ابن عباس قال: «قيل: يارسول الله(صلى الله عليه وآله)، أيّ الجلساء خير؟ قال: من تذكّركم الله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، ويرغّبكم في الآخرة عمله»(2).

وروي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): انظروا من تحادثون، فإنّه ليس من أحد ينزل به الموت إلاّ مثّل له أصحابه إلى الله، فإن كانوا خياراً فخياراً، وإن كانوا شراراً فشراراً. وليس أحد يموت إلاّ تمثّلت له عند موته»(3).

 

7 ـ الانبهار والإحساس بالحقارة أمام أُ بّهة الباطل:

وهذه الحالة غالباً ما تتواجد لدى المسلمين الذين فقدوا المجتمع الإسلامي ذا سيادة إسلاميّة صحيحة، وأصبحوا تحت وطأة الغرب الكافر


(1) وسائل الشيعة 12/23، الباب 11 من العشرة، الحديث 2.

(2) المصدر السابق، الحديث 4.

(3) المصدر السابق، الحديث 1.

573

المستكبر، فأصبح الغرب له أُبّهة في نظر المسلمين السُذّج الغافلين عمّا يعيشه الغرب ـ على رغم تقدّمه الظاهري ـ من التفسّخ المعنوي من ناحية، والتمزّق الروحي والعائلي فيما بينهم من ناحية أُخرى، وسوء العاقبة في الآخرة من ناحية ثالثة، والغافلين ـ أيضاً ـ عن أنّ ذاك التقدّم المادّي عندهم، وهذا التأخّر المادّي عند المسلمين المقهورين، ليس على أساس الحضارتين، بل حضارة الإسلام لو طبّقت لأحرزت التقدّم عليهم مادّياً أيضاً ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَات مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ ...﴾(1). وإنّما تسيطر العدوّ عليهم على أساس تركهم لمبدئهم ودستورهم، فأصبح المسلم الغافل عن هذه النكات ينظر بعين الإكبار إلى الغرب، ويحسّ بالحقارة أمام عظمته الظاهرية وهذا ممّا يميت الهمم من ناحية، ويورث حالة التقليد من ناحية أُخرى، ومن ثمّ يصدّ عن الترقي والتعالي في الأخلاق والكمالات والقيم والمثل والمعنويات.

وكذلك قد تحدث هذه الحالة لدى بعض على رغم عيشه في ظلّ الحكومة الإسلاميّة المباركة وذلك إمّا قبال الغربيين الذين لا زالوا يمتلكون قوّة ظاهريّة مادّيّة وإمّا لبعض من نفس المسلمين المستضعفين نسبياً قبال مسلم آخر أقوى منه مادّياً واقتصادياً، وأضعف منه ديناً وتقوى، فينجرّ نحو أخطائه وفسوقه نتيجة انبهاره بقدرته الماليّة والاقتصادية مثلا.

وحالة الانهيار هذه أمام الزبرجة والعظمة الماديّة هي التي جعلت المعترضين اعترضوا على رسالة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ﴿وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُل مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم﴾(2).


(1) السورة 7، الأعراف، الآية: 96.

(2) السورة 43، الزخرف، الآية: 31.

574

 

8 ـ الضياع:

وهذه الحالة ـ أيضاً ـ توجد غالباً في المسلمين المحرومين عن السيادة الإسلاميّة وحكومة الإسلام الحقيقيّة، والمنكوبين تحت وطأة الاستكبار الكافر، فهم يحسّون بالضياع على أساس أنّهم غرقوا في بحر الخسارات الناجمة من تسيطر الكفار والكفر عليهم، وعدم وضوح طريق النجاة عندهم، وعدم تحدّد المسؤوليّات بشكل واضح، وعدم وجود هدف محدّد وواضح لديهم. وهذا ـ أيضاً ـ ممّا يميت الهمم من ناحية، ويورث اليأس من ناحية أُخرى، ويوجب الخمول والركود، ويجعل الإنسان المسلم لا يفكّر في علاج مجتمعه، ولا في علاج نفسه، ومن ثَمَّ يمنع عن التربية الخلقيّة والنموّ الروحي.

 

9 ـ حالة الاستسلام للأمر الواقع:

وهذه الحالة تنشأ من رؤية الشخص نفسه أمام أمر واقع، ومن الكسل، ومن العوامل السابقة. وحالة الاستسلام للواقع من أشدّ المثبّطات، وأهمّ الموانع عن النموّ والترقّي المعنوي الفردي، والعمل في سبيل ترقية المجتمع.

ومن نعم الله ـ تعالى ـ على المسلمين كافّة في زماننا هذا، وجود حكومة إسلاميّة صالحة في بقعة من بقاع الأرض، وهي: إيران، لها سيادتها وأُبّهتها وعظمتها، فإنّ لها الفضل الكبير على المسلمين في أطراف العالم في كسر هذه المثبّطات الثلاث الأخيرة، فإنّه إلى حد كبير كسرت أُبّهة الغرب في نظر المسلمين، ووضعتهم على طريق العمل من دون ضياع، وسلبت منهم حالة الاستسلام، وخلقت في نفوسهم حالة الإقدام. والحمد لله على ما هدانا، والشكر له على ما أولانا.

هذا تمام كلامنا في عدّ بعض المثبّطات ـ لا على سبيل الحصر ـ عن التعالي الروحي، والنموّ المعنوي، بعد الأخذ بعين الاعتبار الصراع الموجود في نفس الإنسان بين شهواته الحيوانيّة من ناحية، وجذور الأخلاق الإنسانيّة من ناحية أُخرى.

575

 

 

 

 

المحفّزات

 

والآن حان لنا أن نبحث بعض المحفّزات إلى الخير والتعالي في مقابل ما شرحناه من المثبّطات، وذلك كالتالي:

 

1 ـ المثل الأعلى مفهوماً: ( ارم ببصرك أقصى القوم )

ينبغي للإنسان أن يصوّر أمامه حدّاً أعلى من الكمال في شعبة من شعب الأخلاق أو في جميع الشعب، ويجعله مثلا أعلى ماثلا إزاء عينيه، محدداً لحدوده، مشخّصاً لتفاصيله بقدر معتدّ به، ثمّ يشرع في الاقتراب نحوه خطوة خطوة. فهذا المثل الأعلى يكون محفّزاً له نحو الخير؛ إذ من ناحية يكون نفس تصوّره للمثل الأعلى ومحاسنه مرغّباً له ومشجّعاً، ومن ناحية أُخرى يلتفت ـ دائماً ـ إلى مدى بُعد المرحلة التي وصل إليها عن مرحلة المثل الأعلى، فهذا يحركه نحو الاهتمام بالاقتراب. وإذا وصل إلى مرحلة ذاك المثل أو اقترب منه، قويت همّته، واشتدّت عزيمته، فكان بإمكانه فرض مثل آخر أعلى وأبعد مدىً عن المثل السابق، ومن ناحية ثالثة يكون هذا المثل الأعلى مصداقاً لمحفز آخر سوف يأتي الكلام عنه إن شاء الله من حمل همٍّ كبير، ومن ناحية رابعة قد يكون نفس ذاك المثل الأعلى منيراً لدرب السلوك وسبيل الوصول، ويوجب تخطيط الشخص لذاك المثل ولسبل الوصول إليه. فنسبة من يعمل من دون مثل مع من يعمل بعد تجسيد المثل نسبة من

576

يبني بيتاً من دون تصوير مسبق له مع من يبني بيتاً بعد هندسة البيت في صورة يجعلها ماثلة بإزائه.

والخلاصة: أنّ نصح أمير المؤمنين(عليه السلام) في باب الحرب يمكن تسريته إلى جميع مقامات الهمم العالية حيث قال: «تزول الجبال ولا تزل! عضّ على ناجذك. أعرِ الله جمجمتك. تدفي الأرض قدمك. ارم ببصرك أقصى القوم، وغضّ بصرك، واعلم أنّ النصر من عند الله سبحانه»(1).

وشاهدنا فعلا جملة: «ارم ببصرك أقصى القوم» أي: إنّه يجب التركيز على أقصى القوم المحارب، والاهتمام بإفنائهم عن آخرهم، والاقتراب إلى هذا الهدف شيئاً فشيئاً.

وقد تتفق الحاجة إلى جعل مثلين؛ مثل أعلى، ومثل أدنى واقع في طريقه إلى الأعلى، فإن وصل إلى الأدنى مثّل أمامه ما هو أعلى منه، إلى أن يصل إلى ذاك المثل الأعلى.

ولنلخّص نحن مثلنا الأعلى في كلمة مختصرة، وهي: تحصيل رضا الله تعالى.

وبالإمكان أن يختار أحد لنفسه بعض المُثل العليا من الكلمات القصار الواردة عن الأئمّة(عليهم السلام)، كقوله(عليه السلام): «... كفى بي عزّاً أن أكون لك عبداً ...»(2) فلتكن المثل الأعلى العبوديّة لله تعالى، وكقوله(عليه السلام): «المؤمن بشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع شيء صدراً، وأذلّ شيء نفساً. يكره الرفعة، ويشنأ السمعة. طويل غمّه، بعيد همّه، كثير صمته، مشغول وقته. مشكور صبور، مغمور بفكرته، ضنين بخلته، سهل الخليقة، ليّن العريكة، نفسه أصلب من الصلد، وهو أذلُّ من العبد»(3).


(1) نهج البلاغة: 37، رقم الخطبة: 11.

(2) بحار الأنوار 77/400، و 94/92 و 94.

(3) نهج البلاغة: 724، رقم الحكمة: 333.

577

ويمكن انتخاب المثل الأعلى من بعض الخطب الطوال أيضاً، كأن ينتخب من خطبة المتقين بعض الجمل.

ولا يبعد أن يكون أحد الأهداف من كثير من الآيات والروايات الواردة في توصيف مراحل راقية من الكمال، أو تعريف المتقين، بل وحتّى ما ورد في توصيف الجنّة، هو: تجسيد أمثال عليا، فحتّى جعل المثل الأعلى هو الوصول إلى الجنّة بما يوصف من نعيمها وعيشها وصفائها يحفّز الإنسان نحو الخير والسعادة، وكذلك روايات صفات الشيعة ونحوها قد تكون بهذا الصدد، وذلك من قبيل ما جاء عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «شيعتنا المتباذلون في ولايتنا، المتحابّون في مودّتنا، المتزاورون في إحياء أمرنا. الذين إن غضبوا لم يظلموا، وإن رضوا لم يسرفوا. بركة على من جاوروا، سلم لمن خالطوا»(1).

وكذلك ما عن الصادق(عليه السلام): « إيّاك والسفلة، فإنّما شيعة عليّ(عليه السلام) من عفّ بطنه وفرجه، واشتدّ جهاده وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، وخاف عقابه، فإذا رأيت أُولئك فأُولئك شيعة جعفر »(2).

وكثير من الروايات الواردة في أبواب مختلفة كباب السفر، أو كتاب الصلاة، أو غير ذلك، قد يكون أحد أهدافها إعطاء مُثل عليا خاصّة بذاك الباب. فبإمكان الشخص أن يصبح مالكاً لمُثل عُليا عديدة كلّ واحد منها لباب من الأبواب.

وهناك نكتة في مسألة تشخيص المثل الأعلى لا ينبغي إغفالها، وهي: أنّ تشخيص المثل الأعلى على رغم كونه نافعاً في التربية، وشأن الإنسان في ذلك شأن معمار يضع نصب عينيه هندسة البيت ومثلا نهائياً عمّا يريده من شكل البيت؛ كي يهتدي في وقت البناء بهدي هذا المثل، إلاّ أنّ هذا التصوير قد يكون في نفس


(1) المحجة البيضاء 4/352.

(2) المصدر السابق: ص 353.

578

الوقت ذا مشكلة جانبية؛ وذلك لأنّه قد يصبح هذا المثل قيداً على يده، مانعاً عن نموّه أكثر من ذلك فيما لو كان المثل في حدّ ذاته مثالا دانياً وله نهاية. فالمفروض بالإنسان أحد أمرين: إمّا أن يبدل مثله الأعلى بين حين وحين كلّما اقترب منه في العمل أو وصل إليه، وإمّا أن يجعل مثله ممّا لا نهاية له، كأن يكون مثله الأعلى تحصيل رضوان الله تعالى.

 

2 ـ القدوة: ( المثل الأعلى المتجسّد في إنسان )

﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَّسُولاً * قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكاً رَّسُولاً﴾(1). ﴿وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ﴾(2). ﴿وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الاَْسْوَاقِ ...﴾(3).

«... ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً، يقتدي به، ويستضيء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد...»(4).

خُلِقَ الإنسانُ حسّيّاً أكثر منه عقليّاً، فقد لا يحرّكه نحو الصلاح مجرّد اتخاذ مثل أعلى مفهومي بقدر ما يحرّكه اتّخاذ ذلك المثل الأعلى متجسّداً في إنسان، يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق، وهذا المثل الأعلى المتجسّد يكون على


(1) السورة 17، الإسراء، الآيتان: 94 ـ 95.

(2) السورة 6، الأنعام، الآيتان: 8 ـ 9.

(3) السورة 25، الفرقان، الآية: 20.

(4) نهج البلاغة: 573، رقم الكتاب: 45.

579

قسمين: فقد يكون متجسّداً في شخصيّة معصوم من المعصومين(عليهم السلام)، وأُخرى يكون متجسّداً في غير معصوم. ولكلّ من المثلين بعض الامتيازات على الآخر.

فالمثل المعصوم امتيازه على غير المعصوم يكون:

أوّلا: باعتبار كمال المعصوم ونقص غير المعصوم في درجة الكمال، فجعل غير المعصوم مثلا أعلى قد يجمّد الإنسان إلى حدّ محدود، أو يحرّك الإنسان بتحريك ناقص، وإن أمكن علاج ذلك في الجملة بجعله مثلا أعلى مرحليّاً، واجتيازه إلى مثل أعلى آخر بعد الوصول إليه. أمّا المثل المعصوم فهو عار عن هذا النقص.

وثانياً: بتنزّه المعصوم عن الأخطاء والزلاّت، وتورّط غير المعصوم في بعض المعائب والاشتباهات. فإذا جعلنا غير المعصوم مثلا أعلى لنا، قد تصيبنا من نقائصه ومعائبه العدوى ـ أيضاً ـ لا شعوريّاً، بالأخصّ إذا كان المثل حيّاً نعيش معه ونعاشره، وإن أمكن ـ أيضاً ـ علاج ذلك في الجملة: تارة باختيار مثل أعلى يكون الفارق بيننا وبينه كبيراً جدّاً، بحيث يكون أكمل منّا حتّى في أكثر نقائصه ومعائبه، أي: إنّه في نفس المعائب الموجودة عنده يكون أقلّ عيباً منّا، فيكملنا حتّى في معائبه، وأُخرى باختياره مثلا أعلى في شُعب كماله مع الالتفات إلى نقائصه والتحرّز بقدر الإمكان من إصابة العدوى لنا في نقائصه. أمّا المثل الأعلى المعصوم فهو عار عن هذه النقائص.

والمثل غير المعصوم امتيازه على المعصوم يكون من وجهين أيضاً:

فأوّلا: إنّنا قد نفكّر في المثل المعصوم أنّنا لا نستطيع أن نكون مثله؛ لأنّه معصوم ونحن لسنا بمعصومين. وهذا التفكير قد يفتّ في عضدنا ويضعف عزيمتنا، في حين أنّ المثل الأعلى إن كان غير معصوم لم يراودنا فيه تفكير من هذا القبيل.

وليعلم أنّ هذا التفكير في الحقيقة باطل؛ فإنّ المعصومين(عليهم السلام) إنّما جُعلوا لنا أُسوة ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ

580

اللَّهَ كَثِيراً﴾(1)، ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ... * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ ...﴾(2).

أمّا العصمة المخصوصة بهم(عليهم السلام)، والتي لا يمكننا أن ننالها فإنّما هي: العصمة الإلهيّة المرافقة لشخصيّة المعصوم منذ أوّل وجوده. أمّا الاعتصام الكامل بالله من كلّ ذنب على أثر العمل والتعب والتربية والرياضة النفسانية بطرقها الشرعيّة فكلّ إنسان مؤهّل للوصول إليه.

وثانياً: إنّنا قد نعظّم الفاصل الموجود بيننا وبين المعصوم في الدرجة، فتأخذنا حالة اليأس ونقول: متى نستطيع أن نطوي هذه المسافات الطويلة البعيدة المدى؟! وهذا بخلاف المثل أو القدوة غير المعصوم الذي لا نحسُّ بيننا وبينه بهذا المستوى من الفاصل الطويل، وإن أمكن علاج ذلك في الجملة: بأن يجعل المعصوم مثلا أعلى وقدوة لا بمعنى كون الهدف الوصول إليه كاملا، بل بمعنى السير والاتّجاه نحوه «... ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني...» على أنّ من قويت همّته ورسخت عزيمته وشدّ الرحال للوصول أعانه الله على ذلك ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾(3). ولو أنّ أحداً جمع لنفسه بين القدوتين: المعصومة وغير المعصومة فحسناً فعل.

والمقصود بجعل الشخص قدوة هو: الالتفات والتأمّل في صفاته وأفعاله وأهدافه وآماله وآلامه، كي نكون مثله. فلنقتد ـ مثلا ـ برسول الله(صلى الله عليه وآله) في صلابته في الهدف العقائدي؛ إذ عرضوا عليه كلّ المغريات من المال والملك فقال:

«... لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، ما أردته، ولكن يعطوني


(1) السورة 33، الاحزاب، الآية: 21.

(2) السورة 60، الممتحنة، الآيتان: 4 و 6.

(3) السورة 29، العنكبوت، الآية: 69.