191


وإمكان التعريف في الورق لو لم يكن متعلّقاً بخربة جلا عنها أهلها ليس أمراً غريباً، فإنّ الدينار والدرهم وقتئذ لم يكن من قبيل الدينار والدرهم في زماننا غير قابل للتعريف، ولهذا ورد الأمر بتعريف الدينار فيما مضى من رواية عليّ بن أبي حمزة، وهي الرواية الرابعة ممّا مضى من روايات التصدّق، وورد الأمر بتعريف الدرهم في صحيحة عليّ بن جعفر بناءً على النسخة التامّة سنداً وهي التي رواها في (الوسائل ب 20 من اللقطة ح 2). أمّا على نسخة قرب الإسناد والمشتمل سندها على عبدالله بن الحسن، فقد ورد التعبير بدراهم(1).

4 ـ ما رواه فضيل بن غزوان بسند تامّ(2): الكليني عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن ابن أبي عمير، عن فضيل بن غزوان قال: «كنت عند أبي عبدالله(عليه السلام) فقال له الطيّار: إنّي وجدت ديناراً في الطواف قد انسحق كتابته. قال: هو له». والسند إلى ابن أبي عمير تامّ، ونقل ابن أبي عمير عن فضيل بن غزوان يدلّ على وثاقة فضيل بن غزوان.

وأخرجه الشيخ عن الفضيل بن غزوان، وليس الراوي عنه في هذا السند ابن أبي عمير، قال: «كنت عند أبي عبدالله(عليه السلام) فقال له الطيّار: إنّ ابني حمزة وجد ديناراً في الطواف قد انسحقت كتابته قال: هو له»(3).

وكلمة: «هو له» يؤيّد نسخة الشيخ; إذ المفروض على نسخة الكافي أن يقول: هو لك.

وليس منشأ الاستدلال أنّ الدينار لم يكن يمكن تعريفه; لأنّ كتابته كانت منسحقة،


(1) راجع الوسائل، ب 2 من اللقطة، ح 13.

(2) الوسائل، ب 28 من مقدّمات الطواف، ح 6.

(3) الوسائل، ب 17 من اللقطة، ح 1، وب 5 منها، ح 4.

192


بل نفس انسحاق الكتابة يكون علامة له توجب إمكان تعريفه، وإنّما منشأ الاستدلال وجدانه في الطواف الذي يوجب سعة دائرة جهالة المالك; لأنّ الناس من شتّى أطراف العالم يأتون إلى الطواف، خاصّة في طواف الحجّ.

5 ـ ما ورد عن هشام بن سالم بسند تامّ قال: «سأل حفص الأعور أبا عبدالله(عليه السلام)ـ وأنا عنده جالس ـ قال: إنّه كان لأبي أجير كان يقوم في رحاه، وله عندنا دراهم، وليس له وراث؟ فقال أبو عبدالله(عليه السلام): تدفع إلى المساكين. ثُمّ قال: رأيك فيها. ثُمّ أعاد عليه المسألة، فقال له مثل ذلك، فأعاد عليه المسألة ثالثة، فقال أبو عبدالله(عليه السلام): تطلب له وارثاً، فإن وجدت له وارثاً وإلّا فهو كسبيل مالك. ثُمّ قال: ما عسى أن تصنع بها، ثُمّ قال: توصي بها فإن جاء لها طالب وإلّا فهي كسبيل مالك»(1).

ونظيره ما ورد عنه بسند تامّ في باب 6 من ميراث الخنثى وما أشبهه، ح 10، ويحدس كونها رواية واحدة.

6 ـ ما ورد عن هشام بن سالم قال: «سأل خطّاب الأعور أبا إبراهيم(عليه السلام)ـ وأنا جالس ـ فقال: إنّه كان عند أبي أجير يعمل عنده بالاُجرة، ففقدناه وبقي من أجره شيء، ولا يعرف له وارث؟ قال: فاطلبوه. قال: قد طلبناه فلم نجده. قال: فقال: مساكين، وحرّك يده قال: فأعاد عليه قال: اُطلب واجهد، فإن قدرت عليه فهو كسبيل مالك حتّى يجيء له طالب، فإن حدث بك حدث فأوصِ به إن جاء له طالب أن يدفع إليه»(2).

واحتمال وحدة هذه الرواية مع الرواية السابقة وارد، ولكنّ الذي لا يشجّعنا على الوثوق بالوحدة اختلاف الإمام، واختلاف السائل، وشيء ما من الاختلاف في المضمون.


(1) الوسائل، ب4 من ولاء ضمان الجريرة والإمامة، ح7، وب22 من الدين والقرض، ح2.

(2) الوسائل، ب 6 من ميراث الخنثى، ح 1.

193


والروايات الماضية سواء ما دلّت منها على التصدّق أو ما دلّت على التملّك أكثرها واضحة في ورودها في اللقطة، وقد يستثنى منها عدد من الروايات:

1 ـ الرواية الثانية ممّا ذكرناها بعنوان روايات التصدّق، وهي ما عن يونس بن عبدالرحمن في قصّة رجل رحل من مكّة فوجد بضاعة رفيق له في رحله، فقد يقال: إنّ هذه البضاعة ليست لقطة ولا من مجهولة المالك; لأنّهم يعرفون ـ بالطبع ـ رفيقهم في شكله وصورته، وإنّما المشكلة أنّهم لا يعرفون بلده ولا يستطيعون الفحص عنه.

2 ـ الرواية الخامسة ممّا ذكرناها بعنوان روايات التصدّق، وهي رواية خلاّد السندي والتي أمرت بإعطاء المال لهمشاريجه، فقد يقال: ليس هذا المال لقطة وإن كان مجهول المالك; لأنّه إمّا أن كان قد أودع المال عند أحد ثُمّ مات فليس هذا المال لقطة أو كان قد وضعه في مكان ثُمّ مات، فاحتار الأحياء فيما يفعلون بهذا. والتقاطهم له إنّما كان بعد أن صارت الوظيفة التصدّق به على همشاريجه.

3 ـ الرواية السادسة ممّا ذكرناها بعنوان روايات التصدّق، وهي صحيحة داود بن أبي يزيد، والتي دلّت على أنّ الإمام(عليه السلام) هو المالك لهذا المال، فأمره(عليه السلام) بالتصدّق به على إخوانه، فقد يقال: إنّ هذه الرواية تدلّ على أنّ مطلق مجهول المالك الذي لم يمكن معرفة صاحبه للإمام، سواء كان لقطة أم لا.

4 و 5 ـ الرواية الخامسة والسادسة من الروايات التي ذكرناها بعنوان روايات التملّك وهي معتبرتا هشام بن سالم، فقد يقال: إنّ ما كان للأجير لدى صاحب العمل لا يعتبر لقطة.

وقبل أن نبحث ماذا ينبغي أن نستنبطه من مجموع هذه الروايات نشير إلى أنّ اللقطة لها معنى عريض تشمل حتّى ما يتركه روّاد بيت في ذاك البيت، فيستولي عليه صاحب البيت وهو لا يعلم لمن هو، وتشمل حكماً مثل وديعة اللصّ الذي يودع لدى أحد مالاً من

194


الأموال التي يسرقها.

أمّا الأوّل: فزائداً على الصدق العرفي لعنوان اللقطة عليه قد ورد التصريح بذلك في صحيحة جميل بن صالح «قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): رجل وجد في منزله ديناراً، قال: يدخل في منزله غيره؟ قلت: نعم، كثير. قال: هذا لقطة. قلت: فرجل وجد في صندوقه ديناراً؟ قال: يدخل أحد يده في صندوقه غيره، أو يضع فيه شيئاً؟ قلت: لا. قال: فهو له»(1).

وأمّا الثاني: ورد التصريح بكون ذلك بمنزلة اللقطة في رواية حفص بن غياث بسند غير تامّ «قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن رجل من المسلمين أودعه رجل من اللصوص دراهم، أو متاعاً واللصّ مسلم، هل يردّ عليه؟ فقال: لا يردّه، فإن أمكنه أن يردّه على أصحابه فعل وإلّا كان في يده بمنزلة اللقطة يصيبها، فيعرّفها حولاً، فإن أصاب صاحبها ردّها عليه، وإلّا تصدّق بها، فإن جاء طالبها بعد ذلك خيّره بين الأجر والغرم، فإن اختار الأجر فله الأجر، وإن اختار الغرم غرم له، وكان الأجر له»(2)، إلّا أنّنا لو أخذنا بهذا الحديث لم يبق فرق في الحكم بين اللقطة ومجهول المالك، وقد أشرنا إلى أنّ سند الرواية ضعيف.

وبعد هذا التطواف على الروايات نقول: إنّ هناك عدّة مسائل قابلة للطرح:

الاُولى: ما هو حكم اللقطة القابلة للتعريف؟

الثانية: ما هو حكم اللقطة غير القابلة للتعريف على أساس سعة دائرة الجهالة، أي: المردّدة بين عدد من بلاد الله العريضة، فهل يجوز تملّكها أو لا؟

الثالثة: ما هو حكم اللقطة غير القابلة للتعريف على أساس عدم العلامة، فهل يجوز تملّكها أو لا؟


(1) الوسائل، ب 3 من اللقطة.

(2) الوسائل، ب 18 من اللقطة.

195


الرابعة: ما هو حكم مجهول المالك غير اللقطة، فهل هو ملحق في الحكم باللقطة أو لا؟

أمّا المسألة الاُولى ـ وهي حكم اللقطة القابلة للتعريف ـ فهي خارجة عن بحثنا هنا، وقد بحثناها بحثاً مفصّلاً في أحد أبحاثنا القديمة، وكتبناها بعنوان «كتاب اللقطة» ولا زالت غير مطبوعة، واخترنا فيها رأي المشهور القائل بوجوب التعريف سنة، وبعده يتخيّر المكلّف بين التصدّق بها وتملّكها، وعلى كلا التقديرين يضمن المال لصاحبه لو وجد صدفة بعد ذلك، فيخيّره بين قبول ثواب المال وبين المطالبة بالمبلغ.

يبقى الكلام هنا في أنّه ما هو المقصود باللقطة؟

وقد ذكر صاحب الجواهر(رحمه الله) أنّها كلّ مال غير الحيوان ضائع اُخذ ولا يَدَ عليه(1).

وكأنّ هذا التعريف مأخوذ من الفهم العرفي لهذه الكلمة وإن كان هذا العنوان ليس هو بالضبط موضوع أحكام اللقطة، وليس مأخوذاً من الروايات، فإنّنا لم نرَ في الروايات تعريفاً للُّقطة (نعم، استثناء الحيوان مأخوذ من أنّ الحيوان له أحكامه الخاصّة الواردة في الروايات) وليس مأخوذاً من مرّ اللغة الذي لم يؤخذ فيه أيّ قيد غير أصل الالتقاط، وليس منتزعاً من موضوعات أحكام اللقطة الواردة في الروايات، فإنّها تختلف في موضوعاتها، فمثلاً من جملة أحكام اللقطة: كراهة الالتقاط، والتي لا تشمل قطعاً اللقطة التي لا يكون ترك أخذها موجباً لاحتمال وصولها إلى المالك، فمن كان لبيته روّاد كثيرون ونَسِيَ أحدهم ماله هناك، فليس عدم قبضه وسيلة يحتمل انتهاؤها إلى الوصول إلى الملاك، في حين أنّ هذه لقطة عرفاً كما دلّت صحيحة جميل الماضية على أنّها لقطة(2)، فلا يحتمل كون الأفضل عدم قبضها.


(1) كتاب الجواهر، كتاب اللقطة، القسم الثالث في اللقطة.

(2) الوسائل، ب 27 من اللقطة.

196


وقد وردت في بعض الروايات الإشارة إلى نكتة كراهة الالتقاط من قبيل: معتبرة الحسين بن أبي العلاء قال: «ذكرنا لأبي عبدالله(عليه السلام)اللقطة فقال: لا تعرّض لها، فإنّ الناس لو تركوها لجاء صاحبها حتّى يأخذها»(1).

ولو سلّمنا بما مضى من رواية حفص بن غياث فيما يودعه اللص «كان ذلك في يده بمنزلة اللقطة»(2) فمن الواضح أنّ هذا ليس داخلاً في تعريف اللقطة الذي ذكره صاحب الجواهر، وليس لقطة عرفاً. إلّا أنّه مضى أنّ سندها غير تامّ.

وأمّا المسألة الثانية ـ وهي حكم اللُّقطة غير القابلة للتعريف على أساس سعة دائرة الجهالة ـ فقد مضى عدد من الروايات تدلّ على جواز التملّك.

إحداها: صحيحة عبدالله بن جعفر الحميري، وهي الرواية الاُولى ممّا مضى من روايات التملّك خصوصاً على نسخة الكافي والشيخ.

والثانية والثالثة: صحيحتا محمّد بن مسلم، وهما الرواية الثانية والثالثة ممّا مضى من روايات التملّك.

والرابعة: معتبرة فضيل بن غزوان، وهي الرواية الرابعة ممّا مضى من روايات التملّك.

فلو وجد في مقابلها ما دلّ على وجوب التصدّق فمقتضى الجمع العرفي هو الحمل على استحباب التصدّق. نعم، لو احتملنا عرفاً الخصوصيّة في مواردها لم نمتلك إذن دليلاً على جواز التملّك في اللقطة لدى سعة دائرة الجهالة مطلقاً.

وأمّا المسألة الثالثة ـ وهي حكم اللقطة غير القابلة للتعريف على أساس عدم العلامة ـ فلم نجد فيها ما يدلّ على جواز تملّكها.


(1) الوسائل، ب 1 من اللقطة، ح 2.

(2) الوسائل، ب 18 من اللقطة.

197


فإمّا أن نقول: إنّ حكمها هو وجوب التصدّق تمسّكاً بما مضى من صحيح داود بن يزيد، وهي الرواية السادسة من الروايات التي ذكرناها ضمن روايات التصدّق. وإمّا أن نقول: إنّ تلك الرواية لم تدلّ على انّ الحكم العامّ هو التصدّق; لاحتمال كونها إذناً في قضيّة خارجيّة بتقسيم المال بين إخوانه، لا حكماً شرعيّاً عامّاً. وعندئذ نقول: ما دمنا لا نمتلك دليلاً على جواز التملّك، فلا يبقى عدا التصدّق به بإذن حاكم الشرع، أو إيكال أمره إلى حاكم الشرع، باعتبار أنّ تلك الرواية دلّت على أنّ الإمام هو المالك لمثل هذا المال.

وأمّا المسألة الرابعة ـ وهي ما حكم مجهول المالك غير اللقطة ـ فقد نجد فيه عدّة روايات:

الاُولى: ما مضى من حديث يونس بن عبد الرحمن بسند تامّ، وهي الرواية الثانية ممّا نقلناها تحت عنوان روايات التصدّق.

إلّا أنّ احتمال خصوصيّة المورد في الأمر بالتصدّق وارد فيه، لأنّ مورده ليس من مجهول المالك بمعنى عدم معرفة صاحبه إطلاقاً; لأنّ المفروض فيه أنّ صاحبه رفيق لهم بمكّة يعرفونه ويعرفهم، وإنّما المشكلة أنّهم لا يعلمون بمكانه وبلده(1).

الثانية: رواية ابن أبي عمير بسند تامّ عن خلاّد السندي، وهي الرواية الخامسة ممّا نقلناها في صفحة 188 بعنوان روايات التصدّق «أعط المال همشاريجه»(2).

فقد يدلّ هذا الحديث على التصدّق بمجهول المالك الذي لا يمكن تعريفه.

والنكتة في عدّ ذلك خارجاً عن اللقطة أنّ هذا المال: إمّا قد كان أودعه عند الشخص قبل موته، أو أنّ حكم ذاك الشخص بإعطائه لهمشاريجه يكون قبل أن يفترض التقاطه.

وعلى أيّ حال، فلا يبعد خروج هذا الحديث عن مورد بحثنا; لأنّه ورد في عنوان


(1) راجع الحديث في الوسائل، ب 7 من اللقطة، ح 2.

(2) راجع الحديث في الوسائل، ب 4 من ولاء ضمان الجريرة، ح 1.

198


«ليس له أحد» يعني ليس له وارث، وهذا كان متعارفاً في زمان أمير المؤمنين(عليه السلام)باعتبار الكفّار الذين يسلمون ولا إشكال في أنّ هذا للإمام.

الثالثة: ما رواه هشام بن سالم بسند تامّ، وهو الحديث الخامس ممّا نقلناه تحت عنوان روايات التملّك صفحة 192(1).

وهذا الحديث في نسخته الواردة في (ب 6 من ميراث الخنثى وما أشبهه، ح 10) لا يخلو من غموض; لأنّ قوله: «فلم يدع وارثاً ولا قرابة» قد ينقل الذهن من ناحية إلى ميراث من لا وارث له، ومن ناحية اُخرى ليس تعارف ذلك الذي قلناه بلحاظ زمان أمير المؤمنين(عليه السلام) ثابتاً بتلك القوّة في زمان الإمام الصادق(عليه السلام)، ولكن نسخته الواردة في (ب 4 من ولاء ضمان الجريرة والإمامة، ح 7، وكذلك ب 22 من الدين والقرض، ح 3) ترفع الغموض; لأنّ قوله: «تطلب له وارثاً» يوضح أنّ المقصود من عدم الوارث له عدم معرفة وارثه، كما أنّ هذه النسخة أوضح في التخيير بين التصدّق والتملّك، وأيضاً هذه النسخة صريحة في الفحص عن الوارث، إلّا أنّه(عليه السلام) لم يأمر بالفحص سنةً، فينصرف الكلام إلى الفحص العادي، وهو الفحص بقدر اليأس العرفي.

فالنتيجة: أنّ مجهول المالك غير اللقطة يفحص عنه بقدر اليأس العُرفي، ثُمّ يتخيّر فيه بين التملّك والتصدّق، أي: أنّ حال مجهول المالك غير اللقطة هو حال اللقطة في الفحص والتخيّر بين التصدّق والتملّك، بفرق: أنّ الفحص فيه ليس إلى سنة، بل بمقدار اليأس العرفي.

الرابعة: ما ورد أيضاً عن هشام بن سالم بسند تامّ، وهو الحديث السادس ممّا نقلناه في صفحة 192 تحت عنوان روايات التملّك(2) وهذه الرواية دلّت في مجهولة المالك على


(1) راجعه في الوسائل، ب4 من ولاء ضمان الجريرة، ح7، وفي ب6 من ميراث الخنثى، ح10.

(2) راجعه في الوسائل، ب 6 من ميراث الخنثى، ح 1.

199


الفحص، وتنصرف أيضاً إلى الفحص بمقدار اليأس العرفي، ثُمّ التملّك، وإذا جاز التملّك جاز التصدّق بطريق أولى. إذن فهذه الرواية أيضاً تدلّ على أنّ حكم مجهول المالك غير اللقطة كحكم اللقطة، بفرق: أنّ الفحص الذي يجب في اللقطة إنّما هو بقدر اليأس العرفي لا سنة كاملة، فكأنّ الحكم بالتعريف سنة نتيجة للالتقاط.

الخامسة: ما مضى ذكره من الرواية السادسة ممّا نقلناها في صفحة 188 ـ 189 بعنوان روايات التصدّق، وهي صحيحة داود بن أبي يزيد عن أبي عبدالله(عليه السلام) «قال: ... ما له صاحب غيري...»(1)، ثُمّ أمره بالتصدّق بين إخوانه، وهذا الأمر ـ كما مضى ـ لا يدلّ على كون التصدّق حكماً شرعيّاً، وإنّما الرواية تدلّ على أنّ مطلق مجهول المالك سواء كان لقطة أو غيرها ملك للإمام.

وقد عقد صاحب الرسائل(رحمه الله) باباً لحكم مجهول المالك، وهو الباب السادس من أبواب ميراث الخنثى وما أشبهه، والحديث الأوّل والعاشر منها مضيا منّا تحت عنوان الحديث الخامس والسادس من روايات التملّك، وهما معتبرتا هشام بن سالم.

وينبغي التطواف على روايات هذا الباب لكي نرى هل ينفعنا شيء منها في المقام أو لا؟ فهنا نشير إلى روايات الباب بالشكل التالي:

1 ـ الحديث الأوّل هو معتبرة هشام بن سالم التي مضت منّا ضمن روايات التملّك، الحديث السادس(2).

2 ـ والحديث الثاني غير تامّ سنداً بسبب ابن عون، إلّا أنّه رواه صاحب الوسائل بسند تامّ(3)،


(1) الوسائل، ب 7 من اللقطة، ح 1.

(2) راجع صفحة 192 من الكتاب، الحديث 6.

(3) الوسائل، ب 22 من الدين والقرض، ح 2.

200


ونحن ننقله هنا بنسخته الواردة بسند صحيح، فقد روى صاحب الوسائل فيما أشرنا إليه من كتاب الدين والقرض بسند صحيح عن معاوية ابن وهب قال: «سُئل أبو عبدالله(عليه السلام)عن رجل كان له على رجل حقّ، ففقد، ولا يدري أحيّ هو أم ميّت؟ ولا يعرف له وارث، ولا نسب، ولا بلد؟ قال: اطلبه، قال: إنّ ذلك قد طال فاصّدّق به؟ قال: اطلبه».

ومقتضى إطلاق هذا الحديث إدامة الطلب مادام لم يحصل اليأس حتّى ولو طال أكثر من سنة، ولعلّ السرّ في ذلك: أنّ المال كان ديناً في الذمّة لا عيناً، فلو طالت المدّة لا يبتلي بمال خارجيّ مجهول المالك، ويكفي بالنسبة لما في الذمّة أن تكون من نيّته الأداء، ولا يكون منه تقصير في الفحص لدى الإمكان، فهذا نظير ما ورد بسند تامّ عن زرارة قال: «سألت أبا جعفر(عليه السلام) عن الرجل يكون عليه الدين لا يقدر على صاحبه، ولا على وليّ له، ولا يدري بأيّ أرض هو؟ قال: لا جناح عليه بعد أن يعلم الله منه أنّ نيّته الأداء»(1).

وقد تقول: إنّ الحديثين خارجان عن المقام; لاستصحاب حياة المالك.

3 ـ رواية نصر بن حبيب صاحب الخان (وهو رجل مجهول عندنا) قال: «كتبت إلى عبد صالح(عليه السلام) لقد وقعت عندي مئتا درهم وأربعة دراهم وأنا صاحب فندق، ومات صاحبها، ولم أعرف له ورثة، فرأيك في إعلامي حالها، وما أصنع بها فقد ضقت بها ذرعاً؟ فكتب: اعمل فيها، وأخرجها صدقةً قليلاً قليلاً حتّى تخرج».

4 ـ عن الهيثم بن أبي روح صاحب الخان (وهو رجل مجهول عندنا) قال: «كتبت إلى عبدصالح(عليه السلام): إنّي أتقبّل الفنادق فينزل عندي الرجل، فيموت فجأة ولا أعرفه ولا أعرف بلاده ولا ورثته، فيبقى المال عندي، كيف أصنع به؟ ولمن ذلك المال؟ فكتب(عليه السلام): اتركه على حاله».


(1) الوسائل، ب 22 من الدين والقرض، ح 1.

201


5 و 6 و 7 و 8 و 9 ـ وهذه الروايات خارجة عمّا نحن فيه.

10 ـ معتبرة هشام بن سالم بالنسخة التي أشرنا إليها في آخر الحديث الخامس من أحاديث التملّك صفحة 192 بحسب هذا الكتاب.

11 ـ مرسلة الصدوق: قال الصدوق(قدس سره) بعد نقله للرواية الماضية: وقد روي في خبر آخر: «إن لم تجد له وارثاً وعرف الله ـ عزّ وجلّ ـ منك الجهد، فتصدّق بها».

12 ـ ما عن محمّد بن القاسم بن الفضيل بن يسار عن أبي الحسن(عليه السلام) «في رجل كان في يده مال لرجل ميِّت لا يعرف له وارثاً، كيف يصنع بالمال؟ قال: ما أعرفك لمن هو؟ يعني نفسه(عليه السلام)». وفي السند عباد بن سليمان الذي لا دليل على وثاقته عدا وروده في كامل الزيارات، ونحن لا نؤمن بدلالة ذلك على الوثاقة.

وهذه الرواية تؤيّد في امتلاك الإمام لمجهول المالك ما مضى من صحيح داود بن أبي يزيد، وهي الرواية السادسة التي أوردناها تحت عنوان التصدّق (في صفحة 188 ـ 189).

والذي نستنتجه من هذا العرض: أنّ الذي يسلم لنا من روايات مجهول المالك ـ الخارجي لا الدين ـ بالمعنى المقابل للّقطة إنّما هي روايتان لا غير، وهما معتبرتا هشام بن سالم:

إحداهما: معتبرته الواردة في الوسائل، ب 4 من ولاء ضمان الجريرة، ح 7. وهذه النسخة أكثر جلاءً من نسخة: ب 6 من ميراث الخنثى، ح 10.

والثانية: معتبرته الواردة في الوسائل، ب 6 من ميراث الخنثى، ح 1.

وكلتاهما تدلاّن بالشرح الذي مضى على التخيير بين التملّك والتصدّق بعد الفحص بمقدار اليأس، إلّا أنّ هذا الحديث وارد في المفقود والذي يجري فيه استصحاب الحياة، فالتمسّك به متوقّف إمّا على دعوى الإطلاق لما إذا عرف بعد ذلك موته، أو على التعدّي

202


العرفي من مورد جهل المكان إلى مورد جهل المالك.

وأمّا إذا كان مجهول المالك ديناً في الذمّة فله أن يبقيه على حاله، ويوصي به مادام يحتمل ولو عقلاً مجيء صاحبه لو آمنّا بالإطلاق في صحيح معاوية بن وهب، وصحيح زرارة الماضيين (في صفحة 200) لفرض ما إذا بلغه بعد ذلك خبر موت المالك، أو آمنّا بالتعدّي العرفي من مورد جهل المكان إلى مورد جهل المالك.

ومتى ما أراد فراغ الذمّة انتهى مرّة اُخرى إلى ما عرفت من معتبرتي هشام بن سالم.

ولا يبقى بعد ذلك في مجهول المالك شيء آخر إلّا إطلاق صحيحة داود بن أبي يزيد(1) التي تشمل مجهول المالك بالمعنى المقابل للّقطة بالإطلاق بملاك ترك الاستفصال. فإن صرفناها إلى مجهول المالك بقرينة معروفيّة اللقطة بأحكام خاصّة بها، فالنتيجة هي: أنّ مجهول المالك في مقابل اللقطة للإمام، والإمام قد سمح لمن يستطيع الفحص بقدر اليأس أن يفحص، ثُمّ يتملّك أو يتصدّق به. أمّا مع عدم الفحص أو عدم القدرة على الفحص، فهو للإمام.

ويؤيّد ذلك حديث محمّد بن القاسم بن الفضيل بن يسار(2) المشتمل في سنده على عباد بن سليمان.

ولو لم نقبل هذا الانصراف; لمنع معروفيّة ووضوح حكم اللقطة في زمان الإمام الصادق(عليه السلام)، لم يبقَ إلّا موضوع التمسّك بالإطلاق.

فإن قصد بذلك الإطلاق الحَكَمي فمن الواضح أنّ صحيحة داود مجملة، فإنّه قال: «إنّي قد أصبت مالاً» ولم نعرف هل كان ذلك مجهول المالك أو لقطة؟


(1) الوسائل، ب 7 من اللقطة، ح 1.

(2) الوسائل، ب 6 من ميراث الخنثى وما أشبهه، ح 12.

203

105 ـ الرابع: الغوص (1). والظاهر شمول الحكم لما اُخرج عن طريق الغوص،


وإن قصد بذلك الإطلاق بملاك ترك الاستفصال، فتدلّ الصحيحة على أنّ اللقطة ومجهول المالك كلاهما بعد عدم إمكانيّة الحصول على المالك للإمام، ولكنّ الإمام(عليه السلام)سمح بحكم روايات اللقطة بالتملّك والتصدّق لو كان قد قام بالفحص سنة، وسمح بحكم معتبرتي هشام بن سالم بالفحص بمقدار اليأس العرفي، ثُمّ التملّك أو التصدّق.

ولا شكّ أنّ الأحوط هو التصدّق بإذن حاكم الشرع.

أمّا مجهول المالك الذي لا يمكن الفحص عن صاحبه، فيسلّم إلى حاكم الشرع.

وأمّا صحيح عليّ بن مهزيار المفصَّل(1): «ومثل مال يؤخذ لا يعرف له صاحب»، فهو أجنبيّ عن مجهول المالك; إذ لم يقل: «لا يعرف صاحبه»، وإنّما قال: «لا يعرف له صاحب»، أي: أنّ أصل وجود صاحب له غير معلوم. وهذا يعني: أنّه من قبيل كنز أو مال باد أهله.

وهناك رواية لعليّ بن أبي حمزة قد يستدلّ بها على التصدّق بمجهول المالك غير اللقطة حينما يعجز عن تعريفه، وهي رواية واردة في الوسائل، ب 47 ممّا يُكتسب به، وهي الرواية الوحيدة في الباب، إلّا أنّها غير تامّة سنداً، على أنّ أمر الإمام(عليه السلام)للسائل الذي كان من كتّاب بني اُميّة بالتصدّق لم يعلم أنّه كان من باب الحكم الشرعي، بل لعلّه أمره بما هو(عليه السلام)مالك لمجهول المالك بالتصدّق. راجع الرواية في المصدر الذي أشرنا إليه.

(1) والعمدة من أحاديث الغوص أو البحر خمسة:

1 ـ صحيحة الحلبي قال: «سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن العنبر وغوص اللؤلؤ؟ فقال: عليه الخمس...»(2).


(1) الوسائل، ب 8 ممّا يجب فيه الخمس، ح 5.

(2) الوسائل، ب 7 ممّا يجب فيه الخمس، ح 1.

204

ولما اُخرج عن طريق آلة، وكذلك شموله للبحر وللشطوط والأنهار الكبيرة (1).


2 ـ مرسلة حمّاد بن عيسى عن العبد الصالح(عليه السلام) قال: «الخمس من خمسة أشياء: من الغنائم والغوص، ومن الكنوز، ومن المعادن والملاحة...»(1). وإنّما عددناها من عمدة أحاديث الباب ـ برغم إرسالها ـ لما قد يقال بحجّيّة مراسيل حمّاد بن عيسى على أساس أنّه أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه، وإن كنّا نحن لا نبني على هذا المبنى.

3 ـ صحيحة ابن أبي عمير عن غير واحد، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «الخمس على خمسة أشياء: على الكنوز والمعادن والغوص والغنيمة»، ونسي ابن أبي عمير الخامس(2).

4 ـ صحيحة عمّار بن مروان قال: «سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول: فيما يخرج من المعادن والبحر والغنيمة والحلال المختلط بالحرام إذا لم يعرف صاحبه والكنوز الخمس»(3).

5 ـ صحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن محمّد بن عليّ بن أبي عبدالله، عن أبي الحسن(عليه السلام)قال: «سألته عمّا يخرج من البحر من اللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وعن معادن الذهب والفضّة هل فيها زكاة؟ فقال: إذا بلغ قيمته ديناراً ففيه الخمس»(4).

وهذا الحديث وإن أسقط السيّد الخوئيّ(قدس سره) سنده بمحمّد بن عليّ بن أبي عبدالله; لجهالته(5). لكنّنا نقول بكفاية كون الراوي عنه أحمد بن محمّد بن أبي نصر.

(1) وقد يوقع التعارض بين الحديث الثالث والحديث الرابع والخامس رغم أنّ


(1) الوسائل، ب 2 ممّا يجب فيه الخمس، ح 4.

(2) الوسائل، ب 3 ممّا يجب فيه الخمس، ح 7.

(3) المصدر نفسه، ح 6.

(4) المصدر نفسه، ح 5.

(5) راجع مستند العروة، كتاب الخمس، ص 43 بحسب طبعة المطبعة العلميّة بقم.

205


الحديثين مثبتان، وذلك بناءً على العلم بوحدة الموضوع، والنسبة بين الغوص والبحر عموم من وجه، فقد يكون الغوص في الشطوط أو الأنهار العظيمة، وقد يكون الإخراج من البحر بآلة قنّاصة.

بل يمكن إدخال الحديث الأوّل أيضاً في المعارضة مع الحديث الرابع والخامس; لأنّه لو كان عنوان البحر أعمّ منه أمكن القول بأنّ الحديث الأوّل ليس طرفاً للمعارضة; لأنّ ذكر العنبر وغوص اللؤلؤ إنّما ورد في لسان السائل، وليس في لسان الإمام، فلا ينافي كون موضوع الحكم في الواقع أعمّ ممّا ذكره السائل، لكن بما أنّ النسبة عموم من وجه وقع التعارض بين الحديثين في مثل الغوص من الشطوط التي لا تعتبر بحراً.

وقد نقل السيّد الخوئيّ(قدس سره)(1) عن المحقّق الهمدانيّ(قدس سره) وجود التنافي بين الروايات بسبب أنّ المترائي من ظواهر النصوص والفتاوى انحصار ما يجب فيه الخمس بالخمسة، فلو كان كلّ من عنواني الغوص والبحر موضوعاً مستقلاًّ للحكم، لأصبحت العناوين ستّة، وهو مناف للحصر المذكور، ورجّح الشيخ الهمدانيّ الجمع بينهما بتقييد كلّ منهما بالآخر، فيكون الموضوع ما اُخرج من البحر بالغوص.

وأورد عليه السيّد الخوئيّ(قدس سره) بأنّ صحيحة ابن أبي عمير عن غير واحد وإن كانت ظاهرة في الحصر، إلّا أنّه لا مناص من رفع اليد عن هذا الظهور; للقطع بوجوب الخمس فيما يُخرج من البحر بغير الغوص: إمّا بعنوان ما يُخرج من البحر لو كان في نفسه عنواناً مستقلاًّ، أو بعنوان الفوائد والأرباح فيخمّس ولو بعد سنة، لو زاد عن مؤونة السنة.

أقول: الظاهر: أنّ هذا الإشكال غير وارد على الشيخ الهمدانيّ(قدس سره) لأنّ الحصر يحتمل أن يكون: إمّا على أنّ المقصود حصر ما يجب فيه الخمس فوراً ومن دون استثناء مؤونة


(1) في مستند العروة الوثقى، كتاب الخمس، طبعة المطبعة العلميّة بقم، ص 111 ـ 112.

206


السنة، وإمّا على أساس أنّ اهتمام الأئمّة(عليهم السلام)بخمس الأرباح تحقّق بالتدريج بعد أن لم يكن في زمن الأئمّة الأوائل، كما لم يكن في زمن الرسول(صلى الله عليه وآله).

قد تقول: لو حملنا الحصر الذي تكون صحيحة ابن أبي عمير عن غير واحد (وهي الرواية الثالثة ممّا نقلناها في أوّل البحث) على الأربعة المذكورة في متنها زائداً الملاحة، وقلنا: إنّها التي نسيها ابن أبي عمير بقرينة مرسلة حمّاد، فذكر الحلال المختلط بالحرام في صحيحة عمّار بن مروان (وهي الرابعة من تلك الروايات) دليل على أنّ الحصر في صحيحة ابن أبي عمير عن غير واحد إضافيّ، فلا وجه لحمل الحصر على كون المقصود حصر ما يجب فيه الخمس فوراً أو حصر ما اهتمّ به الأئمّة الأوائل(عليهم السلام) بذكر تخميسها.

والجواب:

أوّلاً: نحن نحتمل أنّ الخامس الذي نسيه ابن أبي عمير كان هو الحلال المختلط بالحرام، وأمّا الملاحة فلعلّ السبب في عدم ذكرها عدّها من المعادن.

وثانياً: أنّ كسر الحصر بالحلال المختلط بالحرام بمقيّد منفصل لا يفني الظهور في الحصر بلحاظ قيد آخر، وهو البحر فيبقى التعارض ثابتاً.

ولذا ترى أنّ السيّد الخوئيّ(قدس سره) لم يذكر إشكاله بهذه اللغة، وإنّما ذكر إشكاله بلغة: أنّ نفس مادّة الافتراق من البحر نعلم بخروجها من الحصر يقيناً وإن تردّدنا بين خروجها لثبوت الخمس عليها لكونها بحراً، أو لكونها من أرباح المكاسب. وجوابه ما قلناه من احتمال كون الحصر بمعنى حصر ما فيه الخمس فوراً، أو حصر ما اهتمّ به الأئمّة الأوائل(عليهم السلام)، وأرباح المكاسب ليس هذا ولا ذاك.

فإذا حصل التعارض قلنا: قد طرحت في المقام وجوه أربعة للجميع:

الأوّل: التقييد من الطرفين، فيكون موضوع الحكم هو الغوص من البحر، وهذا ما رجّحه المحقّق الهمدانيّ(قدس سره) عملاً بصناعة الإطلاق والتقييد.

207


والثاني: جعل الموضوع كلّ واحد منهما، أو قل: الجامع بينهما.

والثالث: الأخذ بعنوان الغوص، وإرجاع البحر إليه باعتبار حمل التعبير بما يُخرج من البحر على الورود مورد الغالب، باعتبار غلبة كون الغوص في البحر.

والرابع: العكس، أي الأخذ بعنوان البحر، وحمل الغوص وارداً مورد الغالب باعتبار غلبة كون الاستخراج من البحر بالغوص.

وليس المقصود من الوجهين الأخيرين دعوى انصراف النصّ إلى الفرد الغالب كي يرد عليه ما ذكره السيّد الخوئيّ(قدس سره) من أنّ اختصاص المطلق بالفرد النادر هو المستهجن، أمّا دعوى انصراف المطلق إلى الغالب فغير مقبول.

وبما أنّ السيّد الخوئيّ(قدس سره) أنكر أصل كون الحصر حقيقيّاً اختار أنّ الموضوع للحكم هو كلّ واحد منهما، أي: الغوص والبحر.

هذا.وعلى طرف النقيض ممّا رجّحه الشيخ الهمدانيّ من التقييد في الجانبين وأن يكون الموضوع هو الغوص بالبحر ما استظهره الشيخ المنتظريّ(1) من أنّ العرف يلغي خصوصيّة البحريّة والغوصيّة قطعاً، فيشمل الحكم ما يستفاد من قعر الشطوط وما يخرج بالآلات بلا غوص، خصوصاً أنّ ذكر ما يخرج من البحر أو الغوص في صفّ المعادن والكنوز يقوّي استظهار كون المراد بذلك ما يستفاد من قعر الماء في مقابل ما يستفاد في قعر الأرض.

أقول: إنّ رأي الشيخ المنتظريّ وإن اقترب إلى رأي السيّد الخوئيّ في إثبات الخمس في كلا الأمرين، إلّا أنّهما يختلفان في أنّ السيّد الخوئيّ استفاد ذلك من إنكار الحصر الحقيقي، فصار موضوع الحكم كلاهما، أمّا لو فرض الإخراج من الشطوط بآلة قنّاصة


(1) راجع كتابه في الخمس، ص 100 ـ 101.

208

106 ـ والظاهر أنّ الحكم مخصوص بالمجوهرات المعدنيّة والنباتيّة (1)، ولا يشمل الأسماك.

107 ـ والأحوط عدم اشتراط خمس الغوص بنصاب دينار، وإن كان الأقوى


فهذا لا يكون غوصاً ولا استخراجاً من البحر، فلا نفهم من كلام السيّد الخوئيّ(قدس سره) تعلّق الخمس الفوري به، ولكن نفهم من كلام الشيخ المنتظريّ تعلّقه به; لأنّه استفاد الحكم من استظهار إلغاء خصوصيّة البحر أو الغوص.

ولعلّه يمكن تحليل كلام الشيخ المنتظريّ إلى نكات ثلاث لو لم يتم بعضها تمّ البعض الآخر:

الاُولى: دعوى استظهار إلغاء الغوصيّة أو البحريّة ابتداءً، ككثير من الخصوصيّات التي يلغيها العرف من النصوص.

والثانية: أنّ اختلاف التعبير بين الغوص والبحر يؤدّي إلى هكذا استظهار.

والثالثة: أنّ ذكرهما في صفّ المعادن والكنز يؤدّي إلى هكذا استظهار.

فإن لم نقبل بالدعوى الاُولى نقبل بالثانية والثالثة، واجتماع النكتتين يُؤدّي قطعاً إلى تماميّة الاستظهار. هذا.

(1) ولا يشمل الحكم الأسماك، خلافاً لما نقله الشيخ المنتظريّ من أنّه حكي عن الشيخ وبعض معاصري الشهيد الأوّل وصاحب المستند إلحاقها بالجواهر المعدنيّة أو النباتيّة.

وقد أورد الشيخ المنتظريّ على ذلك بأنّ ابتلاء أصحاب الأئمّة(عليهم السلام)بالأسماك كان كثيراً، ولو كان فيها الخمس بصرف اصطيادها لكان مذكوراً في كلمات الأئمّة(عليهم السلام)وأصحابهم، لا بمجرّد إطلاق في صحيحة عمّار بن مروان. فالظاهر أنّ الحكم مقصور على سنخ الجواهر ونحوها، وأمّا اصطياد الحيوانات البحريّة فيكون من مصاديق الاكتسابات اليوميّة.

209

اشتراطه به (1).

 


(1) المشهور شهرةً عظيمةً اشتراط خمس الغوص بنصاب دينار.

ولكن من ناحية النصوص لا مدرك لذلك عدا ما مضى في أوّل البحث من صحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصير عن محمّد بن عليّ بن أبي عبدالله، عن أبي الحسن(عليه السلام) قال: «سألته عمّا يخرج من البحر من اللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وعن معادن الذهب والفضّة، هل فيها زكاة؟ فقال(عليه السلام): إذا بلغ قيمته ديناراً ففيه الخمس»(1). ومجهوليّة محمّد بن عليّ بن أبي عبدالله تعالج برواية أحمد بن محمّد بن أبي نصر عنه.

ولكن المشكلة الموجودة في هذا الحديث هي أنّ مقتضى ظاهر ذكر نصاب الدينار ـ بعد التعرّض للغوص ثُمّ المعادن والذهب والفضّة ـ كون هذا نصاباً للغوص والمعادن، ولو فرضت إرادة هذا النصاب لأحدهما، فالمفروض أن يختصّ بالأخير، وهو المعدن. أمّا فرض اختصاصه بما يخرج من البحر ـ وهو الأوّل ـ فغير خفيّ ما يوجبه من الركّة في العبارة، في حين أنّنا لم نرَ عاملاً بهذا الحديث في المعدن غير أبي الصلاح الحلبي، ورأينا المشهور شهرة محقّقة قد أفتوا بمفاد هذا الحديث في الغوص، فإن كانوا قد أعرضوا عن هذا الحديث في باب المعدن، فكيف صحّ لهم الإفتاء بمضمونه في باب الغوص؟! وإن لم يكونوا قد أعرضوا عنه، فلماذا لم يعتنوا به في باب المعدن ليجعلوه على الأقلّ معارضاً لصحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصر(2) التي جعلت دليلاً على نصاب عشرين ديناراً في المعادن؟!

والظاهر: أنّ الحلّ منحصر في أحد أمرين:

الأوّل: ما أشار إليه السيّد الخوئيّ(قدس سره)(3) من استظهار رجوع الضمير في قوله: «إذا بلغ


(1) الوسائل، ب 3 ممّا يجب فيه الخمس، ح 5.

(2) في الوسائل، ب 4 ممّا يجب فيه الخمس.

(3) في مستند العروة، كتاب الخمس طبعة المطبعة العلميّة بقم، ص 43.

210


قيمته ديناراً» إلى الأوّل، وهو ما يخرج من البحر، دون الثاني، وهو معادن الذهب والفضّة، بقرينة تذكير الضمير، فإنّه لو كان راجع إلى المعادن كان المفروض تأنيثه.

كما أنّ صاحب الوسائل(قدس سره) أيضاً خصّ هذا الحكم بالغوص دون المعدن.

وأمّا الركّة التي يحسّ بها في العبارة بناءً على رجوع الضمير إلى الأوّل، فما أكثرها في كثير من النصوص نتيجة ما فعله الرواة من النقل بالمعنى.

والثاني: دعوى إسقاط السند بالإعراض بمقدار دلالة الحديث على ثبوت نصاب دينار في المعادن.

ومع ذلك كلّه لا شكّ في أنّ الأحوط التخميس مطلقاً.

ثُمّ إنّ صاحب العروة(رحمه الله) بحث في المقام فروعاً كثيرةً نحذفها هنا اختصاراً، ولعلّ أكثرها يظهر حالها من جذور بحث خمس الغوص التي تعرّضنا لها، وإنّما نقتصر من بين تلك الفروع على فرعين نذكرهما هنا:

الأوّل: أنّ حكم الغوص لا يشمل الأمتعة التي غرقت في البحر فأخرجها غوّاص; إذ لا إشكال في انصراف عنوان الغوص، أو ما يخرج من البحر ولو بالمناسبات العرفيّة إلى مكوّنات البحر، ولا يشمل ما غرق فيه.

أمّا حكم ما غرق في البحر، فقد ورد ذكره في حديث السكوني المرويّ عن الكافي بسند فيه النوفلي، عن أبي عبدالله(عليه السلام)، عن أمير المؤمنين(عليه السلام)قال: «وإذا غرقت السفينة وما فيها فأصابه الناس، فما قذف به البحر على ساحله فهو لأهله، وهم أحقّ به، وما غاص عليه الناس وتركه صاحبه، فهو لهم»(1).

وقد ورد في السند النوفلي عن السكوني، فلو بنينا على ما يقوله البعض من أنّ شهادة


(1) الوسائل، ب 11 من اللقطة، ح 1.

211

108 ـ الخامس: الأرض التي اشتراها الذمّيّ من المسلم (1). والظاهر أنّ الخمس


الشيخ الطوسيّ(رحمه الله)على عمل الأصحاب بأحاديث السكوني كما تثبت موثوقيّة السكوني كذلك تثبت موثوقيّة النوفلي; لأنّ غالبيّة أخبار السكوني وصلتنا عن طريق النوفلي، تَمَّ سند الحديث.

والظاهر: أنّه ليس المقصود بترك صاحبه خصوص إعراضه بمعنى رفع اليد عنه بطيب نفسه، بل يشمل إعراضه بمعنى ترك إخراجه بالغوص ولو للعجز.

وشبيهاً بهذا المضمون رواه الشيخ عن السكوني(1) مع حذف مسألة الإعراض، إلّا أنّ هذا ساقط سنداً باُميّة بن عمرو الذي لا دليل على وثاقته.

ويحتمل كونهما رواية واحدة.

والثاني: حكم العنبر، ولا إشكال في وجوب الخمس فيه; لصحيح الحلبي: «سألت أبا عبدالله(عليه السلام)عن العنبر وغوص اللؤلؤ؟ فقال: عليه الخمس»(2).

وإذا كان على سطح الماء أو الساحل ومن غير البحر، فهذا شيء جديد غير الغوص وغير البحر، ويثبت فيه الخمس ولو مستقلاًّ على ما قاله السيّد الخوئيّ(قدس سره)(3)، ولكنّنا نرى على ما مضى من إلغاء خصوصيّة الغوص والبحر أنّه داخل فيما سبق، وليس عنواناً جديداً.

(1) قال السيّد الخوئيّ(قدس سره): «على المشهور من زمن الشيخ ومن تأخّر عنه، بل عن الغُنية دعوى الإجماع عليه. نعم نُسب إلى كثير من القدماء إنكار هذا الخمس نظراً إلى خلوّ كلماتهم عن التعرّض إليه لدى تعداد الأقسام»(4).


(1) المصدر نفسه، ح 2.

(2) الوسائل، ب 7 ممّا يجب فيه الخمس، ح 1.

(3) راجع مستند العروة، كتاب الخمس، ص 124 بحسب طبعة المطبعة العلميّة بقم.

(4) راجع مستند العروة الوثقى، كتاب الخمس، ص 173 بحسب طبعة المطبعة العلميّة بقم.

212


والأصل في هذا الحكم صحيحة أبي عبيدة الحذّاء: «قال: سمعت أبا جعفر(عليه السلام) يقول: أيّما ذمّيّ اشترى من مسلم أرضاً، فإنّ عليه الخمس».

وتؤيّده مرسلة المفيد عن الصادق(عليه السلام): «الذمّيّ إذا اشترى من المسلم الأرض فعليه فيها الخمس»(1).

إلّا أنّ في هذا الحديث، أو في هذين الحديثين احتمالين:

الأوّل: أن يكون المقصود هو الخمس المصطلح عليه مقابل الزكاة.

والثاني: أن يكون المقصود بالأرض الأرض الزراعيّة، ولا تشمل الدار، وأن يكون المقصود بالخمس مضاعفة العشر المتعلّق بغلّة الأرض.

وعن منتقى الجمان لصاحب المعالم(قدس سره): «ويُعزى إلى مالك القول بمنع الذمّيّ من شراء الأرض العشريّة، وأنّه إذا اشتراها ضوعف عليه العشر، فيجب فيه الخمس. وهذا المعنى يحتمل إرادته من هذا الحديث: إمّا موافقةً عليه، أو تقيّةً، فإنّ مدار التقيّة على الرأي الظاهر لأهل الخلاف وقت صدور الحكم، ومعلومٌ: أنّ رأي مالك كان هو الظاهر في زمن الباقر(عليه السلام)، ومع قيام هذا الاحتمال أو قربه لا يتّجه التمسّك بالحديث في إثبات ما قالوه»(2).

والطرف المقابل لكلام المنتقى إصرار السيّد الخوئيّ(قدس سره) على أنّ الإمام الباقر(عليه السلام)لم يكن مبتلىً بتقيّة من هذا القبيل; لأنّ مالكاً لم يكن في زمن الإمام الباقر(عليه السلام)، وإنّما عاصره الإمام الصادق(عليه السلام)، فإنّ مالكاً تولّد سنة 96، أي: بعد إمامة الباقر(عليه السلام) بسنتين، وتوفّي سنة 179 وكان عمره 83 سنة، وكانت إمامة الباقر(عليه السلام) سنة 95 ووفاته سنة 114، فكان عمر مالك عند وفاة الباقر(عليه السلام) 20 سنة، ولم يكن عندئذ صاحب فتوى فضلاً عن


(1) الوسائل، ب 9 ممّا يجب فيه الخمس، ح 1 و2.

(2) راجع الخمس للشيخ المنتظريّ، ص 138.

213


اشتهارها، على أنّ الرواية لم تصدر سنة وفاة الباقر(عليه السلام)، فلعلّها صدرت ولم يكن مالك بالغاً فضلاً عن كونه صاحب فتوى(1).

أقول: أمّا إنّ اشتهار تعلّق الخمس بالمعنى المصطلح بالأرض التي اشتراها الذمّيّ من المسلم ابتداءً من الشيخ الطوسيّ(رحمه الله)، فالظاهر أنّه خطأ; لأنّ هذا وإن كان يوحي إليه تعبير الشيخ الطوسيّ(رحمه الله) في المبسوط في كتاب الخمس: «وإذا اشترى ذمّيّ من مسلم أرضاً، وجب عليه فيها الخمس»(2)، ولكن كلامه في الخلاف صريح في خلاف ذلك; إذ قال فيه في المسألة 84 من الزكاة: «إذا اشترى الذمّيّ أرضاً عشريّة وجب عليه فيها الخمس، وبه قال أبو يوسف، فإنّه قال: عليه فيها عشران، وقال محمّد: عليه عشر واحد، وقال أبو حنيفة: تنقلب خراجية، وقال الشافعي: لا عشر عليه ولا خراج. دليلنا: إجماع الفرقة; فإنّهم لا يختلفون في هذه المسألة، وهي مسطورة لهم، منصوص عليها، روى ذلك أبو عبيدة الحذّاء»(3).

فأنت ترى أنّ الشيخ الطوسيّ(رحمه الله) لم يكتفِ بحمل صحيح أبي عبيدة الحذّاء على معنى العُشرَين، بل نسب هذا الفهم إلى الأصحاب، وادّعى أنّهم لا يختلفون في هذه المسألة.

وأمّا ما قاله السيّد الخوئيّ(قدس سره) من أنّ مالكاً لم يكن يُتّقى منه في زمن الباقر(عليه السلام)، فإنّني لا أعلم مقصود صاحب المنتقى من قوله: «ومعلوم أنّ رأي مالك كان هو الظاهر في زمن الباقر(عليه السلام)» هل يقصد أنّ التقيّة من فتوى مالك بالخصوص؟ ولكنّنا نقول: إنّ الرأي المنسوب إلى مالك كان هو السائد في زمن الباقر(عليه السلام) وإن كان على لسان علماء السنة قبل


(1) راجع مستند العروة، كتاب الخمس ص 174 بحسب طبعة المطبعة العلميّة بقم.

(2) راجع الخمس للشيخ المنتظريّ، ص 136.

(3) راجع خمس الشيخ المنتظريّ، ص 137.

214


مالك; إذ هو المنقول عن أبي يوسف، وأبي حنيفة من الانقلاب إلى الجزية بصورة عُشرَين، أو بصورة الخراج.

والحمل على التقيّة الناتج من الأخبار العلاجيّة وإن كان خاصّاً بفرض التعارض، وقال السيّد الخوئيّ(قدس سره): «إنّ الرواية سليمة عن المعارض فلا موجب لرفع اليد عن أصالة الجدّ»(1)، ولكن الحمل على التقيّة قد ينشأ من الجمع العرفي، فإنّ أصالة الجدّ ليست إلّا ظهوراً من الظهورات قد يتّفق أن يكون الجمع بين المطلقات الدالّة على حصر الخمس في غير هذا، وهذا الحديث أقوى عرفاً من تقييد تلك المطلقات.

«وليُلتفت إلى أنّ تخصيص ما دلّ من الأخبار العلاجيّة على إسقاط ما وافق العامّة من المتعارضين بإسقاطه بمعنى الحمل على التقيّة غير واضح، فقد يكون بسبب كون نفس الموافقة مع العامّة الذين يكون الرشد في خلافهم قرينة على سُقم الرواية».

وعلى أيّ حال، فليس المهمّ في المقام مسألة الحمل على التقيّة، فلنفترض أنّه تحمل الرواية في المقام على الجدّ، وليطابق رأي الإمام(عليه السلام)رأيَ بعض العامّة، وإنّما المهمّ في المقام أن نرى أنّه: هل يوجد أساساً للرواية ظهور في الخمس المصطلح حتّى تتمّ الفتوى التي أكّد عليها السيّد الخوئيّ(قدس سره) ومشهور المتأخّرين، أو أنّها ظاهرة في مسألة العُشرَين، وعندئذ فلتحمل على التقيّة، أو فليُعمل بها؟

والأقوى عدم ظهور الرواية في الخمس المصطلح.

ولعلّ السيّد الخوئيّ(قدس سره) اعتمد في دعوى الظهور في الخمس المصطلح لنفس الأرض أوّلاً: على إطلاق الأرض للزراعيّة وغيرها، وثانياً: على أنّ كلمة «الخمس» في الرواية تنصرف بذاتها إلى خمس الأرض وبالمعنى المصطلح; إذ لم يقل: «خمس الحاصل


(1) راجع مستند العروة، كتاب الخمس، ص 174 حسب طبعة المطبعة العلميّة بقم.

215


بالزراعة».

أقول أوّلاً: إنّ التعبير بالأرض عن الأرض الزراعيّة كأ نّما كان مألوفاً كما ورد في حديث صفوان بن يحيى، وأحمد بن محمّد بن أبي نصر بسند فيه عليّ بن أحمد بن أشيم، قالا: «ذكرنا له الكوفة وما وضع عليها من الخراج، وما سار فيها أهل بيته، فقال: من أسلم طوعاً تركت أرضه في يده، واُخذ منه العشر ممّا سقي بالسماء والأنهار، ونصف العشر ممّا كان بالرشاء»(1). فترى أنّ كلمة «أرضه» استعملت في مورد الأرض الزراعيّة، ونحو صحيح أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال: «ذكرت لأبي الحسن الرضا(عليه السلام)الخراج وما سار به أهل بيته، فقال: العشر ونصف العشر على من أسلم طوعاً تركت أرضه في يده واُخذ منه العشر ونصف العشر فيما عمّر منها...»(2).

وقد نقول: إنّ هذا الاستعمال كان بقرينة، ولكنّا نقول: إنّ هذا لا يخرج الروايتين عن كونهما شاهداً ناقصاً على تعارف استعمال الأرض وقتئذ في الأرض الزراعيّة، فإذا ضمّ إلى الشواهد الاُخرى التي نحن بصدد تعديدها على المقصود من صحيح أبي عبيدة يشرف الفقيه على اليقين أو الاطمئنان بظهور الحديث في إرادة العُشرَين من الزراعة، لا الخمس من الأرض، أو يوجب الإجمال على أقلّ تقدير.

وثانياً: أنّ أخذ الخمس بمعنى الجزية من أهل الجزية كان مألوفاً وقتئذ كما ورد في صحيح ابن مسلم بشأن أهل الجزية: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): أرأيت ما يأخذ هؤلاء من هذا الخمس من أرض الجزية، ويأخذ من الدهاقين جزية رؤوسهم، أما عليهم في ذلك


(1) الوسائل، كتاب الجهاد، ب 72 أحكام الأرضين، ح 1، ص 157 ـ 158، ج 15 بحسب طبعة آل البيت.

(2) المصدر نفسه، ح 2، ص 158.