160

المقصود تارة اُخرى، بل يمكن تصوير الخطأ والعمد في ذات اللفظ الذي يجريه العاقد فقد يقصد الشخص الإيجار ويتلفّظ خطأ بصيغة البيع فلا يترتّب عليه الأثر الشرعي وهذا هو الخطأ، وقد يقصد الشخص البيع حقيقة ويتلفّظ بصيغة البيع وهذا هو العمد، وعمد الصبي يكون بمنزلة الخطأ أي انّه لا يترتّب عليه أثر.

الثاني ـ ما ذكره السيّد الخوئي(1) من انّ الحديث لو كان منزّلاً للعمد منزلة نقيضه وهو عدم العمد لكان معنى ذلك نفي أثر العمد لكنّه لم ينزّل العمد منزلة نقيضه وانّما نزّله منزلة ضدّه وهو الخطأ، وهذا يعني ترتيب أثر ذاك الضد فيختص الحديث بما يكون لعمده أثر ولخطأه أثر آخر كما في الجنايات، ولا يشمل العقود التي لا أثر لخطأها، ومقتضى إطلاق الحديث شموله لما يوجب خطأه في الصلاة سجدتي السهو ولبعض كفارات الحج التي تختلف في فرض الخطأ من فرض العمد، ولكن بما انّ الصبي قد رفع عنه التكليف فلا تجب عليه كفارة ولا سجدتا السهو فبالتالي يختص حديث عمد الصبي وخطأه واحد بباب الجنايات.

أقول: إنّ عدم التكليف على الصبي لا يوجب خروج تلك الكفّارة أو سجدتي السهو عن إطلاق حديث عمد الصبي وخطأه واحد، ويظهر أثر الإطلاق بالنسبة لما بعد بلوغه فإن كان عمده خطأ كانت عليه الكفّارة أو سجدتا السهو يجب عليه الإتيان بها بعد البلوغ إن لم يأت بها قبله، وإن لم يكن عمده خطأ فصلاته باطلة وعليه كفّارة العمد بعد البلوغ إن لم يأت بها قبله.

وعلى أ يّة حال فالمهم تمحيص أصل الوجه الذي ذكره حيث يمكن الإيراد على هذا المقدار من البيان الموجود في تقريري بحثه بان الخطأ في العقد وإن لم


(1) راجع المحاضرات 2: 225 ـ 226، ومصباح الفقاهة 3: 253 ـ 254.

161

يكن يترتّب عليه أثر، ولكن لم لا نفترض شمول إطلاق الحديث لتنزيل عقد الصبي منزلة العقد الخطئي في انّه لا أثر له؟! فإن كان المدّعى انّ التنزيل الشرعي يجب أن يكون بلحاظ الأثر الشرعي لا بلحاظ نفي الأثر الذي هو أزلي قلنا: إذن كيف وافقتم على التنزيل بمعنى نفي الأثر في تنزيل الشيء منزلة نقيضه؟ وحلّه انّ نفي الأثر وإن كان أزلياً لكنّه بيد الشارع بقاء باعتبار انّ بإمكانه خلق الأثر وبإمكانه إبقاءه على النفي وان اعترف بانّ التنزيل بلحاظ نفي الأثر ممكن فلا شك انّ العقد الخطئي لا أثر له، فأي عيب في تنزيل عقد الصبي منزلة العقد الخطئي في نفي الأثر.

ولكن من المحتمل أن يكون مقصود السيّد الخوئي ممّا ذكره في المقام هو انّ العقد الخطئي وإن كان لا أثر له ولكن ليس سلب الأثر عنه لأجل كونه خطأ، وانّما هو لأجل عدم العمد فانّ ما يرفع أثر الموضوع هو نقيضه لا ضدّه. وعندئذ فمقتضى التعبير العرفي هو انْ يعبّر عن نفي الأثر بتنزيل الموضوع منزلة نقيضه لا بتنزيله منزلة ضده.

وبكلمة اُخرى: لعلّ نظر السيّد الخوئي ليس إلى برهان عقلي كي يورد عليه بما عرفت، بل إلى مناسبة عرفية في المقام إن قبلت انتجت النتيجة المقصودة له.

الثالث ـ ما ذكره السيّد الخوئي أيضاً(1) من أنّنا نقطع بعدم إمكان الأخذ بإطلاق قوله عمد الصبي وخطؤه واحد بعد فرض عدم اختصاصه في ذاته بباب الجنايات وإلّا لزم تأسيس فقه جديد بأن يقال مثلاً ان إتيان الصبي بمبطلات الصوم لا يبطل صومه لانّه بمنزلة الخطأ، وكذلك الحال في مبطلات الصلاة التي


(1) راجع المحاضرات 2: 225، ومصباح الفقاهة 3: 254 ـ 255.

162

لا تبطل لدى السهو، وكذلك لو سلّم لا يجب عليه ردّ السلام بل يلزم أن لا تكون عباداته من صلاة وصوم وغيرهما مشروعة لانّها جميعاً مبتنية على الصدور بالإرادة والاختيار وقد فرض انّ عمده خطأ.

أقول: إن اريد توجيه هذا الوجه بشكل معقول يجب إرجاعه إلى نظير ما مضى منّا في أحد وجوه الجواب على حديث رفع القلم وذلك بأن يقال: إذا دار الأمر بين تفسير الحديث بباب الجنايات أو تفسيره بمطلق الأبواب مع إخراج هذه الاُمور الكثيرة منه بالتخصيص فالأوّل أولى وأنسب عرفاً.

ولكن مع هذا يمكن الجواب على هذا الوجه بأن يلتزم بإطلاق هذا الحديث المستلزم لعدم مشروعية عبادات الصبي، فانّ هذا ليس أمراً ضروري البطلان وبالالتزام بذلك يرتفع موضوع لزوم عدم مبطلية مبطلات الصلاة والصوم بالنسبة للصبي، وإن كانت إطلاقات أدلّة العبادات تقتضي مشروعية عبادات الصبي فحديث عمد الصبي وخطأه واحد حاكم عليها لانّها ناظرة إلى كل أحكام العقد ولا تبقى إلّا مسألة ردّ السلام، فإمّا أن يلتزم بعدم وجوبه إن لم نقل بضرورة وجوبه، أو يلتزم بخروجه تخصيصاً من إطلاق الحديث، وهذا تخصيص مختصر لا يستوحش منه.

وقد يقال: تبقى أيضاً مسألة الحج إذ لا شك في مشروعية حج الصبي، وعندئذ يأتي الكلام أيضاً في صلاة الطواف وصلاة طواف النساء فيلزم عدم مبطلية المبطلات التي لا تبطل لدى السهو بل لعله يعود الكلام أيضاً في الصوم إذا لم يجد الهدي.

وقد يقال في قبال ذلك: لا استيحاش في افتراض أنّ حجّ الصبي المميّز كحجّ الصبي غير المميز يحجه وليّه، ويصلّي عنه عملاً بقاعدة عمد الصبي وخطؤه واحد.

163

الرابع ـ ما يمكن إرجاع كلام السيد الإمام (رحمه الله) في كتاب البيع(1) إليه من انّهمن المحتمل أن تكون قضية لحوق العمد في الصبيان بالخطأ في باب الجنايات مركوزة ومعهودة وقت صدور النص في الأذهان إلى حدّ أوجب انصراف الحديث إليه، وهذا من احتمال اتصال القرينة من القسم الذي لا يمكن نفيه بسكوت الراوي عنه بجعل سكوته شهادة على العدم، لانّ هذا ليس ممّا يجلب نظر الراوي على أساس احتمال انه سيأتي زمان لا تكون هذه القرينة واضحة فلا بد من التصريح بها منذ الآن.

وإذا اتضح بطلان الاستدلال في المقام بكل من حديثي رفع القلم وتنزيل عمد الصبي منزلة الخطأ في نفسهما قلنا: إنّ هناك كلاماً في تمامية الدلالة بلحاظ الرواية التي جمعت بينهما فصحيح انّ رفع القلم وحده لا يدل على المقصود، وتنزيل العمد منزلة الخطأ وحده لا يدلّ على المقصود لكن الجمع بينهما في نص واحد يدلّ على المقصود وذاك النص هو رواية أبي البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام)عن أبيه عن عليّ (عليه السلام) انّه كان يقول في المجنون والمعتوه الذي لا يفيق والصبي الذي لم يبلغ: عمدهما خطأ تحمله العاقلة وقد رفع عنهما القلم(2). والحديث ساقط سنداً.

ووجه دعوى تمامية دلالة الحديث على المقصود بسبب الجمع بين النصّين هو دعوى انّ الجمع بين قوله: عمدهما خطأ تحمله العاقلة، وقوله قد رفع عنهما القلم ظاهر في نحو علاقة بينهما وهي علاقة العلية والمعلولية وذلك إمّا بأن يكون رفع القلم علّة لكون عمدهما خطأ فلانّ القلم مرفوع عن الصبي والمجنون جعل


(1) كتاب البيع 2: 26.

(2) الوسائل 19: 66، الباب 36 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 2.

164

عمدهما خطأ أو بالعكس أي لانّ عمدهما كالخطأ رفع عنهما القلم، وهذا يدل على انّ رفع القلم لا يختص بقلم السيئات أو المؤاخذة الاُخروية ولا بقلم الحكم التكليفي لانّ كون عمدهما خطأ تحمله العاقلة ناظر إلى الحكم الوضعي والمؤاخذة الدنيوية فلا بد من تفسير علّته أو معلوله بما ينسجم معه.

وبهذا ترتفع كل الإشكالات الماضية أو أكثرها التي مرّ ذكرها في التمسّك بحديث رفع القلم:

فالإشكال الأوّل هو احتمال إرادة قلم السيئات فحسب وهو مدفوع بعدم مناسبته لكون عمدهما خطأ تحمله العاقلة.

والإشكال الثاني هو احتمال إرادة خصوص قلم الحكم التكليفي وهذا أيضاً جوابه نفس الجواب.

والإشكال الثالث ان الثقل المستفاد من كلمة (عن) يناسب حمل القلم على قلم التكليف أو قلم السيئات لانّ هذا هو الموجب للثقل مباشرة أمّا الحكم الوضعي فلا يوجب الثقل إلّا عبر الحكم التكليفي.

وهذا أيضاً جوابه انّنا نضطر إلى غضّ النظر عن هذه المناسبة في سبيل حفظ الارتباط بين رفع القلم وكون عمده خطأ تحمله العاقلة.

والإشكال الرابع بداهة عدم ارتفاع أكثر الأحكام الوضعية عن الطفل كالنجاسة والجنابة وغيرهما.

وهذا الإشكال إن قصد به مجرّد دعوى انّ حمل رفع القلم على قلم التكليف أو السيئات أولى من ارتكاب هذه التخصيصات فأيضاً يرتفع بنكتة حفظ الارتباط بين رفع القلم وكون عمده خطأ تحمله العاقلة، فهذه النكتة تحملنا على غض النظر عن هذه الأولوية.

 

165

وإن قصد به أنّ ارتكاب هذه التخصيصات من دون حمل القلم على مثل قلم التكليف أو السيئات غير صحيح عرفاً فقد يشكل رفع الإشكال بتلك النكتة ويصبح الحديث مجملاً متهافتاً، لانّ حفظ الارتباط بين الجملتين يتطلب من ناحية حمل رفع القلم على معنى مطلق ومن ناحية اُخرى يكلّفنا الإطلاق الالتزام بتقييدات لا تصحّ عرفاً.

إلّا انّ الشيخ الانصاري (رحمه الله) استظهر من رفع القلم رفع قلم المؤاخذة فرأى انّ حفظ الارتباط بين الجملتين لا يكلّفه إلّا تعميم المؤاخذة للمؤاخذة الدنيوية كي تشمل دية الجنايات وقصد بالمؤاخذة الدنيوية معنى واسعاً يشمل مثل مؤاخذة البائع للمشتري بالثمن، أو مؤاخذة المشتري للبائع بالمثمن وبهذا تمّم دلالة الحديث على بطلان معاملات الصبي، ومن هنا لم يبتل (رحمه الله) بإشكال ضرورة ثبوت الأحكام الوضعية على الطفل من قبيل النجاسة والجنابة إذ لا مؤاخذة اخروية ولا دنيوية عليه في تلك الاُمور، ولكن بقي عليه الإشكال بلحاظ قسم من الأحكام الوضعية وهو ضمان الاتلاف حيث لا شك في انّ الصبي كالبالغ يضمن ما اتلفه من أموال الناس واستبعد (رحمه الله) ارتكاب التخصيص بلحاظ باب الضمان.

وعالج الإشكال عندئذ بانّ حفظ الارتباط بين الجملتين كما يمكن بفرض كون رفع القلم علّة لكون عمده خطأ تحمله العاقلة كذلك يمكن بفرض العكس بأن يكون التحاق عمده بالخطأ علّة لرفع القلم عنه، والإشكال بلحاظ باب الضمان انّما يأتي على الفرض الأوّل باعتبار انّ رفع قلم المؤاخذة الدنيوية مطلق يشمل باب ضمان الاتلاف.

إذن فنحن نختار الفرض الثاني وهو كون التحاق عمده بالخطأ هو العلّة لرفع

166

القلم فيختص عندئذ رفع القلم بالموارد التي يكون العمد والقصد دخيلاً في حكمها كما في باب الجنايات وباب العقود، ولا يشمل ما ليس العمد والقصد دخيلاً فيه بلحاظ البالغين كما في ضمان الاتلاف فانّ البالغ يضمن بالاتلاف حتى إذا صدر منه خطأً.

أقول: إنّ هذا الكلام معناه تضييق المعلول بواسطة العلّة كما تعارف القول بانّ العلّة توسّع وتضيّق فقوله: رفع عنهما القلم وإن كان في نفسه مطلقاً يشمل حتى الموارد التي ليس الحكم فيها مخصوصاً بالعمد، لكن العلّة المذكورة وهي كون عمدهما خطأً خاصة بما يكون الحكم المرفوع مخصوصاً بالعمد، فالعلّة تضيق المعلول ولكنّنا إذا انسجمنا مع هذا المسلك فلم لا نتمشّى معه حتى النهاية بان نقول انّ المعلول يضيّق إلى ان يختص بموارد العلّة فحسب وهي الجنايات فالمقصود انّما هو رفع القلم في باب الجنايات؟! وإن قيل: إنّ وضوح وارتكازية رفع القلم عن الصبي في سائر الموارد يمنع عن هكذا حمل قلنا: أليس هذا اذن دليلاً على انّ رفع القلم ليس معلولاً إذ لو كان معلولاً لوجب ان يكون نظره قاصراً على مقدار موارد العلّة؟! فإن كان ولا بد من علاقة العلية والمعلولية بين الجملتين فالجملة الثانية هي العلّة كما سيأتي بيان ذلك قريباً أيضاً من المحقّق النائيني (رحمه الله).

وعلى أيّة حال فعلى هذا المسلك الذي اتّخذه الشيخ الأنصاري (رحمه الله) من حمل القلم على قلم المؤاخذة وتوسيعها للمؤاخذة الدنيوية بنحو يشمل مؤاخذة أحد المتعاقدين للآخر بعوض المال قد يقال: إنّ دلالة الحديث اذن أقصر من مقدار المدعى في المقام، وذلك لانّ المدّعى هو كون الصبي مسلوب العبارة فلا تصحّ معاملاته وعقوده في أمواله ولو باذن الولي أو إشرافه ولا تصحّ أيضاً معاملاته وعقوده في أموال غيره من البالغين ولو بالاذن والتوكيل في مجرّد

167

الإنشاء، في حين انّ رفع مؤاخذته بعوض الأموال انّما يدلّ على بطلان الاُولى ولا يدلّ على بطلان الثانية، إذ لا مؤاخذة عليه في العقود الراجعة إلى أموال غيره من البالغين وانّما المؤاخذة تكون في أموال الموكّلين.

وكأنّ الشيخ (رحمه الله) حاول معالجة هذا النقص فذكر(1): انّنا نفهم من رفع المؤاخذة عن الصبي في أمواله لدى صدور عقد منه سلب عبارته، لانّ رفع المؤاخذة لو لم يكن بنكتة سلب العبارة بل كان بنكتة الحجر على ماله واحتياجه إلى الولي لكان المناسب صحّة مؤاخذته في أمواله حيث يكون عقده باذن الولي وإشرافه، في حين انّ الدليل مطلق يشمل حتى فرض الاذن والإشراف.

فكأنّ الشيخ (رحمه الله) يريد أن يقول: إنّنا إذا استظهرنا كون الحكم بنكتة سلب العبارة عرفنا انّ الحكم ثابت حتى في فرض الوكالة عن الكبير في إنشاء بيع ماله مثلاً.

وصحّة هذا الكلام مبنية على ان يدّعى انّ الفهم العرفي يستبعد افتراض بطلان عقد الصبي في ماله تحت اذن الولي وإشرافه بنكتة يخصه، بل إمّا ان يكون ذلك بنكتة إلحاق الصبي المميز بغير المميز وسلب عبارته. اذن يبطل حتى العقد الذي يصدر منه بالوكالة عن البالغ في مال البالغ، أو انّه لا يلحق المميز بغيره ولا تسلب عبارته وتكون نكتة بطلان عقده إلحاق الرشيد منهم بغير الرشيد وفرض الحاجة إلى إشراف الولي (ولو بعنوان الاحتياط لصالحه من قِبَل المولى تعالى)، وهذا يعني عدم بطلان عقده تحت اذن الولي وإشرافه.

وعلى أيّة حال فيرد على هذا المنهج الذي نهجه الشيخ (رحمه الله) ـ من حمل القلم على قلم المؤاخذة بمعنى يشمل مؤاخذة أحد المتعاملين للآخر بعوض المال ـ انّه


(1) راجع المكاسب 1: 115، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

168

إن سلّم حمل القلم على قلم المؤاخذة إمّا باستظهار ذلك ابتداء كما هو مفروض الشيخ (رحمه الله)، أو لأجل الفرار من إشكال النقض بالأحكام الوضعية من قبيل النجاسة والجنابة، فالحمل على معنى عام للمؤاخذة يشمل مطالبة أحد المتعاملين لصاحبه بعوض ماله لا دليل عليه، ويحتمل الحمل على قلم المجازاة الشاملة للمجازاة الدنيوية وهي دية الجنايات دون المطالبة بعوض المال في العقود، ودعوى إجراء الإطلاق في استعمال مجازي من هذا القبيل قد مضى جوابه، على انّ مفهوم الثقل أيضاً المستفاد من كلمة «عن» يكون أنسب بالمؤاخذة بمعنى المجازاة من المؤاخذة بالمعنى الشامل لضمان عوض المال في المبادلة، وهذا الإشكال قد أخذنا أصله من كلام المحقّق النائيني (رحمه الله)في المقام(1).

وأمّا بحث أصل المطلب فقد أورد السيّد الخوئي عليه بانّه لا يمكن فرض رفع القلم علّة لكون عمد الصبي خطأ تحمله العاقلة ولا فرضه معلولاً له.

أمّا انّه لا يمكن فرضه علّة له فلأن رفع القلم عن الصبي لا ربط له بحال العاقلة فلا يصلح علّة لكون الدية على العاقلة، فلئن كان رفع القلم عنه يناسب عدم الدية عليه فأي مناسبة توجد بين رفع القلم عنه وثبوت الدية على العاقلة كي يكون الأوّل علّة للثاني؟!

نعم يمكن أن يقال: إنّ رفع القلم عنه بنفي القصاص والدية على نفسه ملازم لثبوت الدية على العاقلة على أساس أنّه لا يهدر دم امرء مسلم.

بل هذه الملازمة أيضاً ممنوعة إذ بالإمكان أن لا ترفع الدية عن الصبي ولا يهدر دم المسلم ولا تثبت الدية على العاقلة بل تثبت الدية في بيت المال أو على جميع المسلمين.


(1) راجع المكاسب والبيع للشيخ الآملي 1: 403.

169

وأمّا أنّه ليس معلولا له فلأنّ كون عمد الصبي خطأ ليس بالمعنى التكويني حتى يصلح علّة لرفع القلم، لوضوح انّ كون عمده خطأ تكويناً كذب محض وانّما هو بالمعنى التشريعي وبالتنزيل والحكومة، وهو في جانبه السلبي متقوّم برفع القلم على حدّ تعبير مصباح الفقاهة أو انّ رفع القلم متمّم ومبين له على حدّ تعبير المحاضرات وليس معلولاً له.

فالصحيح انّه لا علاقة علّية أو معلولية بين الجملتين، وانّما واقع الأمر أن كون عمد الصبي خطأ يعطي معنى إيجابياً وهو ثبوت ديته على العاقلة، ومعنى سلبياً وهو عدم ثبوتها على نفسه وقوله: تحمله العاقلة بيان للمعنى الأوّل وقوله: وقد رفع عنهما القلم بيان للمعنى الثاني، اذن فلا دلالة في هذه الجملة على ازيد ممّا دلّ عليه قوله (عليه السلام) رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم(1).

أقول: إنّ التفسير الذي توصّل إليه السيّد الخوئي للحديث في كلامه هذا وهو كون قوله رفع القلم بياناً للجانب السلبي لكون عمد الصبي خطأً وهو رفع الدية عن الصّبي يدعم الاستدلال بالحديث على المدّعى، فانّ هذا التفسير يعني شمول رفع القلم لقلم الحكم الوضعي فلا أدري لماذا يقول: إنّ الحديث عندئذ لا يدلّ على ازيد ممّا دلّ عليه قوله: رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم. نعم لو كان يؤمن باحتمال كون القلم قلم المجازاة الشاملة للمجازاة الدنيوية كالدية دون مثل ثبوت ثمن البيع عليه كان مفاد الحديث بعيداً عن المدّعى، لكنّه لا يؤمن بذلك كما انّه لا وجه لسلب الإطلاق عن رفع القلم لسائر الأبواب لمجرّد فرضه تفسيراً لعمد


(1) هذا الذي نقلناه هنا عن السيّد الخوئي ملفق ممّا جاء في مصباح الفقاهة 3: 257 ـ 258، والمحاضرات 2: 227.

170

الصبي خطأ فليكن مفاده أوسع من مفاد الجملة السابقة التي أراد توضيحها وأي ضير في ذلك؟!

ثم انّ المحقّق النائيني (رحمه الله) أيضاً أورد إشكالاً على فرض معلولية رفع القلم لكون عمده خطأً وهو: انّ رفع القلم الوارد في الحديث إن خصصناه بمورد عمد الصبي خطأ تحمله العاقلة فهذا خلف الاستدلال به على المدّعى من بطلان عقد الصبي. وإن جعلناه أوسع من ذلك لم يصلح للمعلولية، وانّما يصلح للعلّية فانّ تعليل حكم بقاعدة أوسع من ذلك الحكم معقول، ولكن كون العام معلولاً للخاص غير معقول(1).

ويمكن توجيه كلام الشيخ (رحمه الله) بنحو لا يرد على فرض المعلولية إشكال المحقّق النائيني ولا إشكال السيّد الخوئي وهو ان يقال: إنّ قوله: عمد الصبي خطأ وإن كان تنزيلاً شرعياً ووارداً في خصوص باب الجنايات بقرينة قوله تحمله العاقلة، ولكنّه مُشْرَب بالإشارة إلى أمر واقعي وهو كون عمد الصبي غالباً قريباً من الخطأ تكويناً على أساس ما في الصبي من الضعف في الإدراك والقصد، ويكون هذا المعنى المشرب هو العلّة لرفع القلم عنه، وبما انّ هذه العلّة موجودة في تمام موارد عمد الصبي ولهذا كان رفع القلم عامّاً يشمل تمام الموارد.

إلّا انّ هذا التوجيه وإن كان قد اعطى معنى معقولاً لفرض معلولية ذيل الحديث للصدر، لكنّه في نفس الوقت أبطل أصل الاستدلال بهذا الحديث على المدّعى إذ بناء على هذا المعنى لم يصبح رفع القلم معلولاً للحكم الوضعي كي


(1) المكاسب والبيع للشيخ الآملي 1: 402، أمّا كتاب منية الطالب فيختلف ما فيه عن هذا التقريب راجع 1: 174، منه.

171

نستظهر من ذلك عدم اختصاصه بالحكم التكليفي أو برفع السيئات أو العقوبة الاخروية.

وأمّا فرض علّية رفع القلم لتنزيل عمد الصبي منزلة الخطأ فيمكن توجيهه بالنحو الذي لا يرد عليه إشكال السيّد الخوئي بأن يقال: إنّ رفع القلم عن الصبي الموجب لعدم تحمله للدية زائداً عدم جواز هدر دم المسلم زائداً عدم رجحان تضمين بيت المال أو المسلمين في نظر الشارع وفق مصالح وحكم يعرفها الشارع شكّل ملاكاً للحكم بتحمّل العاقلة الدية.

نعم الظاهر انّ فرض العلّية أيضاً لا يثبت المقصود من بطلان عقد الصبي إذ بالإمكان حمل القلم على قلم الحكم التكليفي مثلاً، وافتراض انّ نفي التكليف كان في نظر الشارع علّة لرفع المجازاة الدنيوية وهي الدية عنه ولم يكن علّة لبطلان العقد حيث انّ صحّة العقد أو ثبوت العوض عليه مثلاً لم يكن مجازاة كي ترتفع بسبب ارتفاع التكليف.

هذا. وممّا أورد على الاستدلال بهذه الرواية تمسّكاً ـ بانّ الارتباط بين الجملتين لا تنحفظ إلّا بالعلية والمعلولية ـ ما ذكره السيد الإمام (رحمه الله)(1) من انّه يكفي في الارتباط بينهما انّ كون عمده خطأً ورفع القلم عنه حكمان لموضوع واحد من قبيل ان يقال: الجنب لا يجوز له الدخول في المسجدين ولا يجوز له مسّ الكتاب.

أقول: قد يقال: إنّ تأكيد الجملة الثانية بكلمة (قد) قد يشعر بالعلّية إلّا انّ افتراض وصول ذلك إلى مستوى الظهور مشكل.


(1) في كتاب البيع 2: 27.

172

وفي ختام البحث عن عقد الصبي نشير إلى أنّه بعد ما اتّضح من أنّه لا دليل على سلب عبارة الصبي، وأنّ العيب في عقد الصبي إنّما هو الحجر على أمواله المقتضي لاشتراط إذن الولي أو إشرافه، تبيّن من ذلك أنّ بطلان عقد الصبي ليس بمعنى لا يقبل التصحيح بعد ذلك بالإجازة المتأخّرة من قبل الولي أو من قِبله هو بعد بلوغه ورشده، وإنّما غاية الأمر أنّ عقد الصبي بلا إذن الولي وإشرافه يلحق بعقد الفضولي، وأدلّة صحّة عقد الفضولي تشمله وحتّى لو كان دليل صحّة عقد الفضولي وارداً في خصوص عقد غير المالك الملحوق بإجازة المالك فالعرف يتعدّى من ذلك إلى كلّ مورد كان العيب فيه عدم نفوذ رضاه هو مباشرة، ولا يحتمل العرف أن يكون فرض عدم نفوذ الرضا للحجر أشدّ من فرض عدم نفوذه لعدم الملك.

هذا تمام ما أردنا بيانه في بحث شرط البلوغ أو مانعيّة الصغر.

 

شرط الرشد

البحث الثاني ـ في شرط الرشد:

إنّ النصوص الماضية كتاباً وسنّة الدالّة على استمراريّة حجر الصبي إلى زمان حصول الرشد وإن تأخّر عن البلوغ كافية لاشتراط الرشد على الإطلاق، أي: ابتداءً واستدامةً، بناء على تعدّي العرف من موردها إلى فرض انتفاء الرشد بعد البلوغ بعد ما كان رشيداً كما لو عَرض عليه السفه بعد البلوغ، فعندئذ يعود الحجر بل حتّى لو أردنا غضّ النظر عن هذا التعدّي العرفي كفانا إطلاق الآية المباركة: ﴿ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم

173

وقولوا لهم قولاً معروفاً﴾(1) والظاهر انّ المقصود بإضافة الأموال إلى ضمير الخطاب ليس هو فرضها ملكاً لغير السفهاء كي يخرج عن المقام وانّما المقصود هو كون المال قواماً للمجتمع بشكل عام فعبّر عن مال السفيه بقوله ﴿أموالكم﴾إشعاراً بالعلية، بمعنى انّ هذه الأموال قوام للمجتمع فليس من الصحيح جعلها تحت اختيار السفهاء، والقرينة على ذلك أوّلاً انّ غير السفيه لا يجعل عادة ماله تحت اختيار السفيه بلا حاجة إلى النهي، فهذا النهي ينصرف إلى النهي عن جعل مال السفيه تحت اختياره.

وثانياً قوله تعالى: ﴿وارزقوهم فيها واكسوهم﴾.

أمّا تخيّل انّ هذا النهي يدلّ على الحرمة التكليفية فحسب لانّه ليس نهياً عن معاملة حتى يكون ظاهراً في الفساد وانّما هو نهي متوجّه إلى غير السفهاء عن جعل مال السفهاء تحت اختيارهم فجوابه: انّ المفهوم عرفاً بمناسبات الحكم والموضوع انّ هذا النهي في روحه هو نهي عن المعاملة إلّا انّه لمّا لم تكن فائدة في توجيهه إلى نفس السفيه تحوّل النهي عن المعاملة إلى نهي الوليّ عن دفع المال إليه، فهو وإن كان في نفس الوقت دالّاً على تحريم هذا الدفع يدلّ أيضاً على فساد معاملة السفيه.

هذا مضافاً إلى انّ ارتكاز بطلان معاملات المجنون وقرب السفه من الجنون بحيث ينتظر من المشرّع إلحاقه به في الحكم يعطي للآية ظهوراً في بطلان معاملة السفيه.

هذا إن لم نقل بارتكازية بطلان معاملة نفس السفيه ممّا يوجب أيضاً


(1) النساء: 5.

174

انصراف الآية إليه، بل يكفي لو ثبتت وثبت استمرارها إلى زمان المعصوم لإثبات المقصود من البطلان بعدم الردع.

هذا. والسفيه أيضاً بما انّه مميّز لا يكون مسلوب العبارة وتصحّ معاملاته باذن الولي أو إشرافه بنفس النكات التي مضت في الصغير.

ويلحق في بطلان العقد بالسفيه بطريق أولى المذهول والمدهوش لعدم احتمال الفرق عرفاً، وهو أحد محتملات المعتوه أو أحد معانيه لغة، وقد ورد في الحديث عن الحلبي عن أبي عبد لله (عليه السلام) قال: سألته عن المرأة المعتوهة الذاهبة العقل أيجوز بيعها وصدقتها؟ قال: لا(1) إلّا انّه لا يبعد أن يكون المقصود بها في هذا الحديث المجنونة بقرينة قوله: الذاهبة العقل، وفي السند سهل بن زياد.


(1) الوسائل 13: 141 ـ 142، الباب 1 من أبواب الحجر، الحديث 2.

175

 

 

 

 

اعتبار الملكيّة أو الولاية أو الإذن

 

 

الشرط الثاني ـ من شرائط المتعاقدين أن يكون العاقد مالكاً لمحلّ العقد أو وليّاً للمالك أو مأذوناً من قِبَل المالك أو الوليّ.

والكلام يقع تارة في أصل اعتبار هذا الشرط واُخرى في انّه هل من الضروري اقتران وجود هذا الشرط لزمان تحقّق العقد أو يكفي حصوله بعد العقد؟

 

أصل اعتبار هذا الشرط

توضيح المراد بهذا الشرط:

ونقصد بالملك معناه العام أي اختصاص محل العقد به سواء كان عيناً مملوكة له أو كان عبارة عن عمله فهو مختص به، أي ليس لأحد أن يجبره على ذاك العمل أو كان ممّا تعلّق به حقّ الاختصاص كالأرض المحياة بناء على انّها لا تملك بالإحياء وانّما يتحقّق للمحيي حقّ الاختصاص أو كان التعامل تعاملاً في الذمة إذ لا يتسنّى لأحد أن يتصرّف في ذمة غيره بإدخال شيء في ذمّته قهراً عليه.

176

ونفرّق بين شرط كون محلّ العقد مملوكاً وشرط كون العاقد مالكاً أو وليّاً أو مأذوناً، فالأوّل هو من شروط محل العقد ومعناه: انّ محل العقد إن كانت نسبته إلى الكل على حدّ سواء كالمباحات الأوّليّة لم يتعقّل نقله بالعقد، لانّ نسبته إلى المنقول منه والمنقول عنه على حدّ سواء فما معنى نقله منه إليه؟! وبعد الفراغ عن ضرورة كون محل العقد مملوكاً لأحد كي يتصوّر نقله منه إلى غيره يأتي السؤال عن انّه من الذي يصحّ له نقله من المالك إلى غيره هل هو المالك نفسه أو غيره؟ وهنا يأتي دور شرط المتعاقدين فنقول: يشترط في العاقد أن يكون هو المالك أو وليّاً على المالك أو مأذوناً من قِبَل المالك أو الوليّ.

ومن هنا نرى أنّ فقهائنا العظام ـ رضوان الله عليهم ـ بحثوا شرط المالك في كتاب البيع مرّتين من زاويتين مرّة في شرائط المتعاقدين فبحثوا في هذا المقام بيع الفضولي الذي ليس مالكاً ولا وليّاً ولا مأذوناً، وبحثوا أيضاً ولاية الأولياء كولاية الأب والجد وولاية الفقيه وعدول المؤمنين فهم في هذه الأبحاث يبحثون الأمر من زاوية العاقد، ومرّة اُخرى في شرائط العوضين فذكروا هناك أصل شرط كون العوض والمعوّض مملوكاً ملكاً طلقاً كي يقبل النقل والانتقال، وبحثوا موارد عدم طلقية الملك كما في العين الموقوفة والعين المرهونة، وبحثوا مثلاً الأرض المفتوحة عنوة ونحو ذلك ممّا يبحث الأمر فيه من زاوية العوضين لا من زاوية العاقد.

وعلى أيّة حال فقد ذكر الشيخ الانصاري (رحمه الله) في المقام: انّه يشترط في العاقد أن يكون مالكاً أو مأذوناً من قِبَل المالك أو الشارع(1).


(1) مكاسب الشيخ 1: 124، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

177

ولعلّ في العبارة نوعاً من المسامحة إذ ماذا يقصد باذن الشارع هل هو الإذن التكليفي أو الوضعي أو الاذن الولائي أي بما هو وليّ على المالك مثلاً؟

ان قصد به الأوّل فمن الواضح انّ الإباحة التكليفية والحرمة التكليفية لا علاقة لهما بصحّة العقد وفساده، ولو فرضنا انّ النهي التكليفي يوجب الفساد وانّه لا بدّ في صحّة العقد من الإباحة فهذا يثبت حتى بالنسبة لتصرّف المالك أو المأذون من قبله، فليس الاذن من الشارع عدلاً للمالكية أو الاذن من المالك.

وان قصد به الثاني فالاذن الوضعي من الشارع لا بدّ منه حتى بلحاظ المالك أو المأذون من قبل المالك فليس هذا شرطاً في عرض المالكية أو المأذونية من قبل المالك، وعدلاً لهما.

وان قصد به الثالث وهو الاذن الولائي فالأولى التعميم للاذن من كل وليّ شرعي لا التخصيص بالاذن من الشارع وكذلك التعميم لنفس كون العاقد وليّاً على صاحب المال إلّا ان يقال: إنّ هذا كلّه يعود إلى الاذن الولائي من الشارع.

وعلى أيّة حال فالتعبير الأفضل والأوضح ما ذكرناه من انّ العاقد يجب أن يكون مالكاً أو وليّاً أو مأذوناً من قبل المالك أو الولي.

الدليل العام على هذا الشرط:

والدليل على شرط المالكية أو ما يحل محلّها من الولاية أو الاذن وعدم كفاية اقتران العقد بمجرّد الرضا الباطني من قِبَل المالك انّ إطلاقات أدلّة المعاملات من قبيل ﴿اوفوا بالعقود﴾ أو ﴿تجارة عن تراض﴾ أو ﴿أحلّ الله البيع﴾ تدلّ بالمناسبات العرفية على انّ كل أحد تنفذ بشأنه المعاملة المرتبطة به، لا كل معاملة أوقعها أحد على ماله ولو مقترناً برضاه الباطني.

ويمكن أن يقال في خصوص ﴿اوفوا بالعقود﴾: انّ مقابلة الجمع بالجمع

178

تفيد التوزيع من قبيل اغسلوا وجوهكم إلّا ان هذا يجب ان يرجع في الحقيقة إلى ما ذكرناه من المناسبات العرفية، وإلّا فليس كل مقابلة للجمع بالجمع تفيد التوزيع، فلو قال مثلاً: اتركوا شرب الخمور فهذا لا يعني انّ كل أحد يترك شرب خمره هو أمّا لو أراد شرب خمر الآخرين فهو غير مشمول لهذا النهي.

ويمكن ان يقال أيضاً في خصوص ﴿اوفوا بالعقود﴾: إنّ الوفاء لا معنى له إلّا إذا كان العقد عقده، والعمل بعقد الغير ليس وفاءً فإذا لم تشمل الإطلاقات العقد الذي يجريه غير المالك رجعنا فيه إلى أصالة الفساد.

هذا. ويحل محل الملك أمران: الولاية والاذن:

أمّا الولاية فلانّ نفس دليلها هو الذي يجعل الولي بحكم المالك بالحكومة فيصبح تصرف الولي صحيحاً ونافذاً وواجب الوفا، بمقتضى القاعدة بالقياس للوليّ أوّلاً ثمّ بالقياس للمولّى عليه بعد خروجه عن الحجر.

وأمّا الاذن فلا شك فقهياً في انّ اذن من بيده الأمر يكفي في صحّة العقد أي انّ عقد المأذون من قبل من بيده أمر ذاك العقد يكون بمنزلة عقده مباشرة، وهذا من ضروريات الفقه التي لا داعي للاستدلال عليها، وعليه السيرة القطعية العقلائية والمتشرعية بل سيرة المعصومين (عليهم السلام) إمّا مطلقاً أو في خصوص الوكالة لو افترضناها أخصّ من مطلق الاذن فانّهم (عليهم السلام) لم يكونوا دائماً يباشرون عقودهم ومعاملاتهم بأنفسهم، ولكن مع هذا نريد ان نبحث عمّا إذا كان دليل آخر غير البداهة الفقهية والسيرة القطعية وعمل المعصوم دالّاً على كفاية الاذن وحلوله محل الملك، وفائدة ذلك هي انّ مجرّد الضرورة أو السيرة أو عمل المعصومين أدلّة لبية قد يقال إنّه لا إطلاق لها يشمل الاذن المتأخّر المسمّى بالإجازة، فلو استطعنا ان ننتهي إلى دليل لفظي على ذلك فقد يفيدنا ذلك في بحث الإجازة المتأخّرة فنقول:

179

الدليل الخاص على كفاية إذن المالك:

يمكن أن يستدلّ على انّ اذن المالك يصحّح العقد الذي يجريه المأذون ويحل محل الملك ـ بقطع النظر عن تلك الوجوه اللبية وبقطع النظر عمّا إذا فرضنا دلالة دليل خاص على كفاية الإجازة المتأخّرة فتثبت بالأولوية كفاية الاذن ـ باُمور:

الأوّل ـ ما ذكره السيد الخوئي من دعوى انّ الاذن في الاعتباريات أو التصرّفات القانونية يصحّح إسناد ذاك الأمر الاعتباري أو التصرّف القانوني إلى الآذن حقيقة فمن باع وكيله أو المأذون من قبله بيته يصحّ أن يقول حقيقة: بعت بيتي ومن طلّق وكيله أو المأذون من قبله زوجته يصحّ أن يقول حقيقة: طلّقت زوجتي وبهذا يدخل العقد تحت الإطلاقات التي أشرنا إليها، فعقد الوكيل أو المأذون وإن لم يكن بما هو فعل مُادّي منسوباً حقيقة إلى المالك ولكنّه بما هو إيجاد أمر اعتباري أو تصرّف قانوني ينسب إليه حقيقة فيشمله قوله ﴿اوفوا بالعقود﴾ أو ﴿تجارة عن تراض﴾ أو نحو ذلك(1).

أقول: إنّ الأمر الاعتباري الذي يفترض وجوده في مورد العقود يكون له وجود في عوالم ثلاثة: فله وجود في عالم اعتبار المتعاقدين أنفسهما فهما يعتبران النقل والانتقال مثلاً، وله وجود في عالم اعتبار العرف والعقلاء حيث يوافقون على ما فعله المتعاقدان فيعتبرون المال مثلاً قد انتقل من البائع إلى المشتري، وله وجود في عالم اعتبار الشارع حيث أمضى ما فعلاه، فقد يوجد ذاك النقل الاعتباري في بعض هذه العوالم دون بعض كما لو تبايع صبيان وفرض


(1) راجع المحاضرات 2: 295، ومصباح الفقاهة 4: 19 ـ 20.

180

بيع الصبي باطلاً حتى في نظر العقلاء فالنقل الاعتباري وجد في لوح اعتبار المتعاقدين، ولكنّه لم يوجد في لوح اعتبار العقلاء ولا الشارع وكما لو تبايع شخصان الخمر فحصل النقل والانتقال في لوح اعتبار المتعاقدين وفي لوح اعتبار العقلاء ولم يحصل ذلك في لوح اعتبار الشارع.

فإن كان المقصود من صحّة إسناد الأمر الاعتباري إلى الاذن حقيقة صحّة إسناد الوجود الاعتباري الذي هو في لوح اعتبار المتعاقدين إليه فلعلّه من الواضح انّ هذا الأمر الاعتباري انّما يكون من فعل الوكيل لا الموكّل، ومن فعل المأذون لا الآذن، ولا يصحّ إسناده حقيقة إلى الموكّل والآذن.

وإن كان المقصود صحّة إسناد الأمر الاعتباري الذي تولّد في لوح اعتبار العقلاء إليه فهذا صحيح، ولكن إنّما يصحّ هذا الإسناد إليه حقيقة في طول انّ العقلاء يرون انّ اذنه جزء موضوع لوجود ذاك الأمر الاعتباري.

ولولا اعترافهم بذلك لما اعترفوا بانّ هذا الأمر الاعتباري مسند إليه اذن، فتمامية هذا الوجه بناء على تفسير الأمر الاعتباري بما في لوح اعتبار العقلاء تتوقّف على كفاية الاذن بحسب ارتكاز العقلاء، ولا أقصد بذلك انّ هذا الدليل رجع إذن إلى الاستدلال بالسيرة والارتكاز الكاشفين ولو بعدم الردع عن رأي المعصوم، فلنفترض انّ السيرة والارتكاز لا يكشفان عن رأي المعصوم وانّ عدم وصول الردع ليس دليل الإمضاء.

وانّما المقصود انّ هذه السيرة أو هذا الارتكاز أوجب إسناد البيع الاعتباري مثلاً إلى الاذن فدخل في إطلاق مثل أحل الله البيع.

وأمّا الوجود الاعتباري الشرعي لهذا النقل والانتقال فإن كان موضوعه الوجود الاعتباري العقلائي فقد تمّ في المقام الإطلاق الحكمي، لانّ الأمر

181

الاعتباري العقلائي قد استند حقيقة إلى الاذن فدخل تحت إطلاق ﴿أحلّ الله البيع﴾ الذي كان معناه أحلّ الله لكل أحد البيع الراجع إليه أي المنسوب له من ناحية، والواقع على ما في سلطته من ناحية اُخرى.

وإن كان موضوعه الوجود الاعتباري في لوح اعتبار المتعاقدين كما هو كذلك يقيناً في ﴿اوفوا بالعقود﴾ فانّ العقد عبارة عن قرار مرتبط بقرار، وهذا راجع إلى المتعاقدين لا إلى العقلاء فيتمّ في المقام عندئذ الإطلاق المقامي، وأقصد بذلك انّ قوله: ﴿اوفوا بالعقود﴾ يفهم منه العرف خطأً تمامية ملاك الإطلاق الحكمي على أساس عدم تمييزه الدقيق بين العوالم التي شرحناها، فإن لم يكن يقبل الشارع بفهم الإطلاق من كلامه كان عليه ان ينصب قرينة مانعة عن الوقوع في هذا الخطأ، فعدم نصبه لها دليل الإطلاق.

هذا. والفارق المهم الذي يترتّب على التمييز بين التقريب الذي ذكره السيّد الخوئي لهذا الوجه وهو مجرّد دعوى انّ الشيء الاعتباري يكفي في صدق انتسابه حقيقة إلى الشخص اذنه وإجازته، والتقريب الذي نحن ذكرناه هنا من انّ ما ينتسب إلى الشخص حقيقة بالاذن والإجازة انّما هو الأمر الاعتباري الموجود في لوح اعتبار العقلاء وذلك بعد فرض انّ العقلاء يرون كفاية الاذن والإجازة في تحقّق ذلك هو ما سيظهر في بحث الفضولي، من انّه بناء على ما تبنّاه السيّد الخوئي نمتلك إطلاقات العقود لتصحيح عمل الفضولي بالإجازة المتأخّرة بقطع النظر عن دليل السيرة العقلائية أمّا على مسلكنا فتمامية الإطلاقات توقّفت على تمامية السيرة، صحيح انّ الاستدلال بالإطلاقات لم يصبح لغواً فانّ الاستدلال بها في عرض الاستدلال بالسيرة بعد إثبات إمضائها بعدم الردع فقد لا يقبل أحد انّ عدم وصول الردع دليل الإمضاء ويقبل الإطلاقات، لكنّني أقول إنّ مَن يؤمن بدلالة

182

السيرة وكفاية عدم وصول الردع لا يستفيد فائدة إضافية من الإطلاقات، فانّه إنثبتت السيرة على صحّة الفضولي بالإجازة المتأخّرة كفت لإثبات الحكم وإلّا لم تتم الإطلاقات في حين انّه على مسلك السيّد الخوئي تتم الإطلاقات حتى لو لم تثبت السيرة.

الثاني ـ انّ العقد عهد والعهد أمر تكويني نفسي والمتعهّد الحقيقي في باب العهود التي تقام بواسطة نائب أو وكيل انّما هو الموكّل أو الآذن، وليس الوكيل أو المأذون في إجراء الصيغة بل وحتى الوكيل المطلق الذي يتعهّد ويلتزم هو بالوفاء بالعهد لا يمكن افتراض ان موكّله خارج عن دائرة العهد، فموكّله قد اعطى تعهّداً مسبقاً ولو إجمالاً بما سيفعله الوكيل المطلق، والمبرز لتعهّد الموكّل أو الآذن هو مجموع ما يصدر منه من الاذن أو التوكيل مع صيغة العقد التي يجريها المأذون أو الوكيل. إذن فالآذن أو الموكّل قد أصبح هو طرفاً للعهد مباشرة، وهذا غير ما مضى دعواه في الوجه الأوّل من انّ الاذن في الأمر الاعتباري يجعل الأمر الاعتباري منتسباً إلى الآذن حقيقة، بل العهد ليس أمراً اعتبارياً أصلاً بل هو أمر حقيقي نفسي متقوّم بالموكّل أو الآذن كما هو متقوّم بالطرف الآخر، فإذا أصبح العقد على هذا الأساس منتسباً إلى الآذن حقيقة صحّ فيه التمسّك بإطلاقات العقود.

إلّا انّ هذا الوجه من البيان لا يتم في جميع العقود، وذلك لانّ العقد ليس دائماً عهداً بالمعنى الذي يكون أمراً تكوينياً نفسياً يتقوّم بالموكّل والآذن، بل قد يكون قراراً لأمر اعتباري بحت فيجب عندئذ ان نرجع إلى الوجه الأوّل ولا يفيدنا هذا الوجه، ومثاله البيع بناء على مشرب الفقه الإسلامي من كون البيع بنفسه نقلاً لا التزاماً بالنقل كما يقوله الفقه الغربي(1)، فالبيع ليس عهداً بمعنى الأمر التكويني النفسي وهو


(1) راجع بهذا الصدد المقدّمة الرابعة من المقدّمات الأربع لبحثنا هذا في فقه العقود.

183

الالتزام بشيء على العهدة بل هو نقل مباشر للعين إلى المشتري وفي مثله لا يرد هذا الوجه، وانّما يختص هذا الوجه بمثل الأجير الذي ينشيء الالتزام بالعمل.

والواقع انّ هذا الوجه مع الوجه الأوّل يشكلان وجهاً واحداً متكاملاً لانّ العاقد إمّا أن ينشىء أمراً اعتبارياً، أو ينشىء العهد الذي هو عمل تكويني للنفس، أو ينشئهما معاً فإنشاء الأمر الأوّل هو مورد للوجه الأوّل، وإنشاء الأمر الثاني هو مورد للوجه الثاني فلدينا إذن وجه واحد ذو جزئين ويمتاز هذا الجزء عن الجزء الأوّل أو هذا الوجه عن الوجه الأوّل بانّ الوجه الأوّل كان حسب مسلكنا لتقريره متوقّفاً على ثبوت السيرة العقلائية كما مضى شرحه، في حين انّ هذا الوجه ليس متوقفاً على ثبوتها فانّ التعهّد أمر تكويني ومنتسب إلى الآذن حقيقة، وليس أمراً اعتبارياً تتوقّف صحّة انتسابه إليه على ما مضى من فرض ثبوت الاعتبار في لوح الاعتبار العقلائي.

الثالث ـ ما أفاده السيّد الإمام (رحمه الله) وهو انّنا لو خلّينا وطبع الإطلاق اللفظي لأدلّة العقود لاقتضت إمضاء عقد الفضولي والغاصب اللذين عقدا بلا اذن وإجازة فضلاً عن العقد الصادر عن اذن المالك، والمناسبات العرفية التي أخرجت العقد الذي يكون اجنبياً عنّا تماماً انّما اخرجت العقد الاجنبي الصرف ولم تخرج العقد الذي وقع باذننا فنتمسّك في ذلك بالإطلاق.

وبكلمة اُخرى انّ تقييد هذه الأدلّة بان يكون العقد عقداً له، أو البيع بيعاً له، أو التجارة تجارته لم يكن بدليل لفظي، وانّما بمجرّد دعوى الانصراف على أساس المناسبات ولا انصراف عن البيع المأذون بعد ما كان صحيحاً لازماً عرفاً وفي جوّ العقلاء(1).


(1) راجع كتاب البيع 2: 101.

184

أقول: إنّ هذا الكلام لا يتمّ كوجه مستقل عمّا سبق بالنسبة لاُوفوا بالعقود لأنّ القيد هنا وارد في اللفظ لما مضى من انّ الوفاء لا يصدق حقيقة إلّا ممّن ينتسب إليه العقد حقيقة، بل لا يتم كوجه مستقل عمّا سبق حتى في غير اوفوا بالعقود من قبيل احلّ الله البيع فانّ القيد المستفاد بالمناسبات العرفية لهذه الإطلاقات انّما هو قيد استناد البيع أو المعاملة إليه، فعلى أي حال لا بدّ من إحراز هذا القيد بالرجوع إلى الوجهين السابقين، فهذا الوجه لا يتمّ إلّا بإرجاعه إلى ما سبق.

هذه هي الوجوه التي اردنا التعرّض لها ممّا يدلّ على كفاية الاذن، وهذه الوجوه تثبت كفاية مطلق الاذن لا خصوص الوكالة لو قلنا انها أخص من الاذن.

وهناك وجه آخر يدلّ على كفاية مطلق الاذن وهو روايات الوكالة إمّا بدعوى انّ الوكالة عقد اذني ولا تتجاوز حقيقتها مجرّد الاذن، أو بدعوى انّها حتى لو كانت مشتملة على شيء زائد على مجرّد الاذن، فالمفهوم عرفاً بمناسبات الحكم والموضوع من أدلّتها انّ نكتة نفوذها هي ما تشتمل عليه من الاذن، فالروح الحقيقية للوكالة التي عليها المعتمد انّما هي الاذن.

ولكن هذا الوجه لا يفيدنا في المقام لما عرفت من انّ هدفنا من هذا البحث ليست حقيقة معرفة كفاية الاذن في صحّة العقود فانّ هذه من الواضحات وليست بحاجة إلى بحث علمي، وانّما الهدف هو أن نرى هل يمكن توسيع الحكم المستفاد من دليل كفاية الاذن للإجازة المتأخّرة أو لا؟ وهذا التوسّع إن كان محتملاً فانّما يحتمل بلحاظ الوجوه الثلاثة التي ذكرناها، لا بلحاظ أدلّة الوكالة الواضح عدم صدقها في مورد الإجازة المتأخّرة.

هذا تمام الكلام في الاذن.