406

من قبيل المعارضة بين المتباينين، نظير: (صلّ) و(لا تصلّ).

المورد الثاني: ما إذا لم تكن معارضة بين العامّ والمنطوق ابتداءً ونشأت المعارضة بينهما من المعارضة بين العامّ والمفهوم.

وهنا لا معنى لملاحظة النسبة بين العامّ والمنطوق؛ لأنّهما متباينان، بل لابدّ أن يرى المقدار المعارض من المفهوم هل هو لازم لأصل المنطوق أو لإطلاقه؟

فعلى الأوّل يجب تقديم المفهوم ولا يمكن العكس؛ للزوم سقوط المنطوق والمفهوم رأساً.

وعلى الثاني يكون حال معارضة هذا المفهوم مع العامّ حال معارضة كلّ منطوقين بينهما عموم من وجه.

مثال ذلك: ما لو قال: (لا تكرم فسّاق المخدومين)، وهذا هو العامّ، وقال: (أكرم فسّاق خدّام العلماء)، وهذا هو المنطوق، ولا معارضة مباشرة بينهما؛ لأنّ فسّاق الخدّام مباين لفسّاق المخدومين، ولكن مفهوم الموافقة لهذا المنطوق هو: (أكرم العلماء) وهذا معارض للعامّ بالعموم من وجه.

فتارة يفترض أنّ وجوب إكرام خادم فاسق واحد من خدّام العلماء يدلّ على وجوب إكرام تمام العلماء، واُخرى يفترض أنّ وجوب إكرام كلّ خادم إنّما يدلّ على وجوب إكرام مخدومه. وقد عرفت حكم كلا الفرضين.

 

الكلام في تخصيص العامّ بمفهوم المخالفة:

المقام الثاني: في أنّه هل يخصّص العامّ بمفهوم المخالفة أو لا؟

لا يخفى أنّ الأساطين ـ قدّس الله أسرارهم ـ اختلفوا في أنّ تقديم الخاصّ على العامّ هل هو بالأقوائيّة أو بالقرينيّة، فذهب بعضهم كالشيخ الخراسانيّ(رحمه الله) إلى

407

الأوّل(1). وذهب البعض كالشيخ النائينيّ(رحمه الله) إلى الثاني(2)، وهذا هو المسلك الذي اخترناه نحن.

وهنا تارة: نبحث الأمر على مسلك التقديم بالأقوائيّة، واُخرى: نبحثه على مسلك التقديم بالقرينيّة:

أمّا على المسلك الأوّل ـ وهو مسلك الأقوائيّة ـ: فيختلف الأمر في تقديم كلّ من العامّ والمفهوم على الآخر باختلاف الموارد، وفي كلّ مورد من الموارد يقدّم ما هو الأقوى والأظهر منهما، هذا فيما لو تساويا في كونهما مستفادين من الوضع أو الإطلاق.

وأمّا إذا كان أحدهما مستفاداً من الوضع والآخر مستفاداً من الإطلاق:

ففي فرض الاتّصال يقدّم ما بالوضع على ما بالإطلاق؛ لأنّ الإطلاق متقوّم بعدم البيان، والدلالة الوضعيّة بيان. وكذلك في فرض الانفصال لو بنينا على أنّ إحدى مقدّمات الحكمة هو عدم البيان حتّى المنفصل.

أمّا لو لم نبن على ذلك فيبقى تقديم ما بالوضع على ما بالإطلاق في المنفصلين دائماً رهيناً للإيمان بأنّ الدلالة الوضعيّة دائماً أقوى من الدلالة الإطلاقيّة.

بل وحتّى لو بنينا على ذلك فلدينا استثناء في فرض كون العموم بالوضع والمفهوم بالإطلاق، فلا نقبل بما ذكر في المقام من تقدّم العموم على المفهوم



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 363 ـ 364، وكذلك ج 2، ص 381 ـ 382 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

(2) راجع فوائد الاُصول، ج 4، ص 720 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم. وراجع أجود التقريرات، ج 2، ص 509، طبعة مطبعة العرفان بصيدا.

408

مطلقاً؛ وذلك لأنّه قد يتّفق أنّ العامّ يكون معارضاً لأصل شرطيّة الشرط وكان الأخذ به موجباً لرفع اليد رأساً عمّا تدلّ عليه أداة الشرط من العلّيّة أو اللزوم بالوضع أو ما يشبهه من الظهور السياقيّ، لا لثبوت عدل لذلك الشرط.

مثاله: ما لو قال: (خلق الله كلّ ماء طهوراً لا ينجّسه شيء)، وهذا هو العامّ، وقال: (إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء)، وهذا هو المنطوق، فإنّه في مثل هذا المثال لو قدّم العامّ على المفهوم كان لازم ذلك رفع اليد عن أصل شرط الكرّيّة لا مجرّد فرض عدل للكرّيّة.

ثمّ إنّ ما ذكرناه ـ من أنّ العامّ والمفهوم لو تساويا في كونهما بالوضع أو بالإطلاق قدّم الأظهر منهما على الظاهر، أو الأقوى على الأضعف ـ قد يورد عليه في فرض ما إذا كانا معاً بالإطلاق بأنّ أقوائيّة إطلاق من إطلاق لا تتصوّر؛ لأنّ الدليل على الإطلاق دائماً شيءٌ واحد وهو مقدّمات الحكمة وكون المتكلّم بصدد البيان، ولا معنى لاختلاف أفراد هذا الدالّ قوّة وضعفاً باختلاف الموارد.

والجواب: أنّ كون المتكلّم بصدد البيان وإن كان شيئاً واحداً، ولكن كونه بصدد البيان لم يكن محرزاً باليقين والقطع كي يقال: إنّ مرتبة الدلالة إذن واحدة؛ لأنّ العلم واليقين بالمعنى الاُصوليّ ليست له مراتب وإن عُقلت له مراتب بمعنى آخر، وإنّما الدليل على كون المتكلّم في مقام البيان إنّما هو ظهور حاله في ذلك، وظهور الحال هذا له مراتب كثيرة ويختلف باختلاف الموارد كما هو واضح.

فمثلاً يختلف الحال فيما لو كان الانقسام الكذائيّ من الانقسامات الواضحة، فيكون ظهور الحال في كون المتكلّم في مقام البيان أقوى منه في الانقسامات غير الواضحة، فلو قال المولى: (أكرم إنساناً) فظهوره الإطلاقيّ من ناحية كونه عالماً أو جاهلاً أقوى منه من ناحية كونه ذا رأس واحد أو رأسين مثلاً.

409

وأيضاً ربّما توجد بعض الخصوصيّات توجب قوّة الظهور في كونه في مقام البيان، كما لو كان طرز العبارة بشكل كان يستشمّ منه كون المتكلّم في مقام بيان الحصر، كما لو قال: (لا يضرّ الصائم ما صنع ما ترك أربعاً) فهذا الكلام وإن كانت دلالته على نفي مبطليّة غير الأربع بالإطلاق، لكن هذا الإطلاق أقوى بكثير من الإطلاقات المتعارفة ولا يرفع اليد عنه إلّا بدليل قويّ جدّاً، رغم أنّه لم تكن الدلالة وضعيّة ولم تخرج عن حدود الإطلاق وكونه في مقام البيان.

وأمّا على المسلك الثاني ـ وهو مسلك التقديم بالقرينيّة، وهو الذي اختاره المحقّق النائينيّ(رحمه الله)وتابعناه ـ: فنقول:

إن كان المفهوم أخصّ خصّص به العامّ وإن فرض العامّ أظهر، وكذلك العكس؛ لأنّ الأخصّ هو القرينة دائماً، وإلّا قدّم ما يعدّ قرينة عرفاً للآخر إن كان في البين ذلك، وإلّا وقع التعارض؛ فإنّه بناءً على هذا المبنى لا عبرة بالأظهريّة(1) وإنّما العبرة بالقرينيّة، وتقدّم القرينة على ذي القرينة لا بما لها من المزيّة في قوّة الظهور في الحكم الذي يكون ذو القرينة ظاهراً في خلافه، بل بما لها من المزيّة في أنّ لها ظهوراً آخر ليس ذاك الظهور ثابتاً في ذي القرينة، وهو ظهورها في كونها ناظرة إلى ذي القرينة ومبيّنة لها.

وأمّا مصاديق عدّ أحد الدليلين قرينة للآخر فتعرف بفهم العرف بالمناسبات والخصوصيّات، وقد حقّق في محلّه أنّ منها الأخصّيّة، وعلى هذا فلو كان المفهوم



(1) كأنّه(رحمه الله) يقصد حصر نكتة التقديم بالقرينيّة، وافتراض أنّه في الأظهر والظاهر حينما لا توجد نكتة في قرينيّة الظاهر فنفس الأظهريّة توجب قرينيّة الأظهر لتفسير الظاهر.

410

أخصّ قدّم على العامّ ولو فرض العموم بالوضع والمفهوم بالإطلاق بلا فرق بين فرض الانفصال والاتّصال.

ثمّ إنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ذكر هنا بحثاً آخر، وهو البحث عن فرض كون مفهوم المخالفة حاكماً على العامّ، وكأنّه إنّما ذكر ذلك للبحث في آية النبأ التي يدّعي فيها حكومة المفهوم على عموم العلّة، فإنّه لم يوجد لذلك مثال آخر، ونحن نترك هذا البحث هنا، فإنّه بحث يذكر في آية النبأ في ذكر أحد الإشكالات على التمسّك بمفهومها وهو معارضته بعموم التعليل، والبحث هناك مغن عن البحث هنا.

411

 

تعقّب عمومات متعدّدة بالاستثناء

الجهة الثامنة: إذا تعقّبت عمومات متعدّدة باستثناء، فهل يرجع التخصيص إلى خصوص العامّ الأخير أو إلى الجميع؟

والاستثناء تارة: يكون بالحرف، واُخرى: بالاسم، فيقع الكلام في مقامين:

 

الاستثناء بالحرف:

المقام الأوّل: في الاستثناء بالحرف، وهذا له ثلاث صور:

الاُولى: أن يتعدّد الموضوع والمحمول معاً كما لو قال: (أكرم العلماء وأكرم السلاطين وأكرم التجّار إلّا الفسّاق منهم).

والثانية: أن يتعدّد الموضوع فقط كما لو قال: (أكرم العلماء والسلاطين والتجّار إلّا الفسّاق منهم).

والثالثة: أن يتعدّد المحمول فقط كما لو قال: (جالس العلماء وسلّم عليهم وأضفهم إلّا الفسّاق منهم).

ولعلّ المشهور في القسم الأوّل يرجع الاستثناء إلى الأخير فقط، وفي القسمين الأخيرين يرجع إلى الجميع أو لا أقلّ من الإجمال، فلا يمكن التمسّك بواحد من العمومات في مورد الاستثناء.

وهذا الكلام متين موافق للفهم العرفيّ وإن كان لا يوجد في كلامهم دليل فنّيّ صحيح على المدّعى.

هذا، ونحن نقيم دليلاً فنّيّاً على ظهور الكلام في الصورة الاُولى في رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فحسب، وعلى عدم ظهوره في ذلك في الصورة

412

الثانية والثالثة، فيبقى الأمر في الثانية والثالثة مردّداً بين ظهوره في الرجوع إلى الكلّ وبين الإجمال، فإن عيّنّا الأوّل بالفهم العرفيّ ـ كما لا يبعد ذلك ـ فبها ونعمت، وإلّا فعلى كلّ تقدير لا يبقى مجال للتمسّك بالعمومات السابقة؛ إذ لا أقلّ من الإجمال.

وذاك البيان الفنّيّ هو: أنّنا لو أرجعنا الاستثناء في الصورة الاُولى إلى الكلّ لابتلينا بأحد محاذير؛ وذلك لأنّه قد حقّق في محلّه أنّ المعاني الحرفيّة جزئيّة، لا بمعنى الجزئيّة الخارجيّة أو الذهنيّة أو نحوهما بل بمعنى الجزئيّة الطرفيّة، أي: أنّ النسبة الحرفيّة قائمة بطرفيها ومتقوّمة بهما، فتتغيّر بتغيّر طرفيها أو بتغيّر أحد الطرفين، فلو اُريد الاستثناء من العلماء والسلاطين والتجّار في المثال الأوّل فالطرف للاستثناء في كلّ واحد من هذه الموضوعات يختلف عن الآخر والمستثنى أيضاً يختلف، فإنّه تارةً يكون فسّاق العلماء واُخرى فسّاق السلاطين وثالثة فسّاق التجّار، فلدينا إذن نسب استثنائيّة ثلاث كلّ منها تتباين مع الاُخرى في كلا طرفيها، فإرجاع الاستثناء في هذا المثال إلى الكلّ لا يكون إلّا بأحد وجوه ثلاثة:

إمّا استعمال أداة الاستثناء في عدّة معان، وهذا خلف عدم استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

وإمّا استعمالها في الجامع بين الاستثناءات، وهذا خلف جزئيّة المعنى الحرفيّ.

وإمّا إلباس المواضيع الثلاثة ثوب الوحدة الاعتباريّة والتركيب الاعتباريّ، وهذه مؤونة زائدة بحاجة إلى قرينة ومنفيّة في فرض عدم القرينة بأصالة نفي المؤونة الزائدة.

وهذا بخلاف الحال في المثال الثاني وهو: (أكرم العلماء والسلاطين والتجّار

413

إلّا الفسّاق منهم)، ففي هذا المثال لا مانع من رجوع الاستثناء إلى كلّ هذه العناوين الثلاثة، فنبقى نحتمل رجوعه إليها جميعاً لا بمعنى استعمال الأداة في عدد من النسب حتّى يقال: إنّ هذا خلف عدم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، ولا بمعنى استعمال الأداة في جامع النسب حتّى يقال: إنّ هذا خلف جزئيّة المعنى الحرفيّ، بل بمعنى إلباس المواضيع الثلاثة ثوب الوحدة والتركّب الاعتباريّ؛ إذ لا مؤونة زائدة فيه هنا؛ لأنّ هذا الإلباس قد تحقّق سلفاً وقبل الاستثناء؛ لأنّ المفروض أنّه حُمل عليها محمول واحد، والنسبة بين الموضوع والمحمول أيضاً معنى حرفيّ جزئيّ متقوّم بالطرفين، فلا يمكن جعل هذه النسبة بين محمول واحد وعدّة مواضيع إلّا بإلباسها ثوب الوحدة والتركيب الاعتباريّ، فإذا تحقّق هذا الإلباس فلا مانع من رجوع الاستثناء إلى الكلّ وإذن فلا أقلّ من الإجمال(1).

والأمر في المثال الثالث أوضح وهو قوله: (أكرم العلماء وسلّم عليهم وأضفهم



(1) لا يخفى أنّ الوحدة الناتجة من جعل مجموع العناوين طرفاً واحداً للنسبة ليست بمؤونة جديدة، بل تكون بنفس طرفيّة الموضوعات العديدة لنسبة واحدة، فكلّ موضوع تارة يفرض طرفاً تامّاً لنسبة مّا وهذا يتطلّب تعدّد النسب، واُخرى يفترض جزء طرف، وعندئذ ـ لا محالة ـ ينتزع ثوب وحدة بين الموضوعات حيث أصبحت بمجموعها طرفاً واحداً. ومن هنا اتّضح خطأ الفرق بين الصورة الاُولى والثانية بأنّ الوحدة في الصورة الثانية ملحوظة ـ لا محالة ـ لأجل نسبة اُخرى، وهي النسبة بين الموضوع والمحمول فلا مورد لوحدة جديدة، بخلاف الصورة الاُولى، فإنّ هذا يرد عليه: أنّ هذه الوحدة انتزاعيّة لا اعتباريّة، والوحدة الانتزاعيّة بلحاظ كلّ نسبة إنّما هي في اُفق تلك النسبة، فالوحدة بلحاظ نسبة ثانية وحدة اُخرى غير الاُولى وهي نابعة من صميم طرفيّتها للنسبة الثانية.

414

إلّا الفسّاق منهم)، فإنّ الموضوع المستثنى واحد وليس متعدّداً وتعدّد ذكره بالضمير لا يعدّده من حيث المعنى، فسواء رجع الاستثناء إلى الأخير أو إلى الكلّ لا نلتقي بمحذور فلا أقلّ من الإجمال.

وهنا تقريب آخر في هذه الصورة الثالثة، وهو: أنّه من الممكن في هذه الصورة الاستثناء من الجميع، وذلك بجعل المستثنى منه خصوص اللفظ الأوّل الذي هو مرجع للضمائر، وبالاستثناء منه يثبت قهراً اختصاص المراد من الضمائر بغير المستثنى؛ لأنّ الضمير تابع لمرجعه(1).

والخلاصة: أنّ الفنّ قاض بعدم تحتّم اختصاص الاستثناء بالأخير، بل إمّا أن يرجع إلى الجميع أو يحصل الإجمال، ولا يبعد دعوى الظهور عرفاً في الرجوع إلى الجميع.

ثمّ إنّنا حينما أقمنا هذا البيان الفنّيّ لإثبات ظهور الاستثناء في المثال الأوّل في الرجوع إلى الأخير فحسب إنّما كان مقصودنا إثبات ذلك في مقابل دعوى الإجمال، ولم يكن مقصودنا إثبات ذلك في مقابل دعوى الظهور في الرجوع إلى الكلّ، والظاهر أنّه لم يدّع أحد في القسم الأوّل ـ وهو تعدّد العمومات موضوعاً ومحمولاً ـ كونه ظاهراً في الرجوع إلى الجميع، فبقي الاحتياج إلى نفي الإجمال فأوضحناه بالبيان الفنّيّ الذي عرفت.

أمّا لو ادّعى أحد في ذلك وجود قرينة على إلباس ثوب الوحدة الاعتباريّة على كلّ المواضيع، وهو نفس تأخير العامّ الأخير مع الاستثناء في الكلام، فلو كان



(1) هذا التقريب الآخر يختصّ بما إذا كان تكرار الموضوع عن طريق إرجاع الضمير، بينما التقريب الأوّل يأتي حتّى فيما لو كرّر الموضوع بلفظه.

415

الاستثناء خاصّاً بالأخير لكان الأولى أن يقدّمه في الكلام ويقول: (أكرم التجّار إلّاالفسّاق منهم وأكرم العلماء وأكرم السلاطين) أقول: لو ادّعى أحد قرينيّة ذلك على عدم اختصاص الاستثناء بالأخير وعلى إلباس جميع الموضوعات لباس الوحدة الاعتباريّة والتركيب الاعتباريّ لم يكن لدينا بيان فنّيّ لإبطال ذلك، وينحصر الردّ في دعوى أنّ الذوق العرفيّ لا يقبل هذه القرينيّة.

ثمّ إنّ المحقّق العراقيّ(قدس سره) لم يذكر أقساماً لتعقّب العامّ بأداة الاستثناء بل قال على سبيل الإطلاق: إنّه كما يمكن رجوع الاستثناء إلى خصوص الأخير كذلك يمكن رجوعه إلى الجميع.

وأمّا الإشكال بأنّ المعنى الحرفيّ جزئيّ فأجاب عنه:

أوّلاً: بأنّ الاستثناء من الجميع غير مناف لجزئيّة المعنى الحرفيّ، فإنّ الاستثناء من الجميع فرد من أفراد الاستثناء كالاستثناء من الأخير فقط، فلم يلزم من إرجاع الاستثناء إلى الجميع استثناءات عديدة حتّى يكون ذلك منافياً لجزئيّة المعنى الحرفيّ.

وثانياً: بأنّه لو سلّمنا أنّ ذلك مناف لجزئيّة المعنى الحرفيّ فإنّا قد أنكرنا في محلّه أصل المبنى وقلنا بأنّ الموضوع له في الحروف عامّ(1). هذا ما أفاده المحقّق العراقيّ(قدس سره).

أقول: يرد على جوابه الأوّل: أنّ الاستثناء من موضوعات عديدة لو كان بنحو فرض الجميع كلاًّ واحداً بالوحدة الاعتباريّة صحّ ما ذكره من كون الاستثناء استثناءً واحداً، لكن هذه مؤنة زائدة تحتاج في مقام الإثبات إلى القرينة وهي منتفية في الصورة الاُولى. وأمّا لو لم يكن بنحو فرض الجميع كلاًّ واحداً فلا محالة



(1) المقالات، ج 1، المقالة: 37، ص 476 ـ 477 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم.

416

يكون الاستثناء من كلّ واحد منها فرداً مستقلاًّ برأسه من أفراد الاستثناء، فلابدّ إمّا من استعمال الأداة في الجامع بين هذه الأفراد وذلك مناف لفرض جزئيّة المعنى الحرفيّ، وإمّا من استعمالها في أكثر من معنى واحد وهو أيضاً باطل.

ويرد على جوابه الثاني: أنّ القائلين بكون الموضوع له الحروف عامّاً اختلفوا فيما بينهم، فذهب المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) إلى أنّ المستعمل فيه أيضاً عامّ، ولكن ذهب المحقّق العراقيّ(قدس سره) إلى أنّ الحرف يستعمل في المعنى الخاصّ إلّا أنّه فرق بين استعماله واستعمال ما يكون الموضوع له فيه خاصّاً، وهو أنّه في الثاني يراد المعنى الخاصّ بنحو وحدة الدالّ والمدلول، وفي الأوّل يراد المعنى الخاصّ بنحو تعدّد الدالّ والمدلول، فطرفا النسبة الحرفيّة كالسير والبصرة مثلاً يدلاّن على الخصوصيّة، ونفس الأداة تدلّ على الحصّة الموجودة في ضمن هذا الفرد من الجامع، فالفرق بينه(قدس سره) وبين مَن يقول بجزئيّة الموضوع له في الحروف أنّ القائل بجزئيّته يقول: لا جامع بين النسب الجزئيّة يكون هو الموضوع له. وهو(قدس سره) يقول: إنّ الجامع بينها موجود وهو الموضوع له الحرف، فكلمة (من) مثلاً وضعت لجامع النسب الابتدائيّة، لكنّه بما أنّه لا يعقل تحقّق المعنى الحرفيّ في موطن الذهن إلّا إذا صار جزئيّاً لا يستعمل الحرف إلّا في حصّة خاصّة من الجامع موجودة في فرد خاصّ ويدلّ شيء آخر على الخصوصيّة، فاستعمل الحرف في معنىً جزئيّ بنحو تعدّد الدالّ والمدلول.

وأنت ترى أنّه بناء على هذا المبنى أيضاً لا يعقل الاستثناء من الجميع بأداة واحدة بدون ملاحظة وحدة اعتباريّة، فإنّه لو فعل كذلك فإمّا أن استعملت الأداة في حصص عديدة من الجامع من قبيل استعمال اللفظ في أكثر من معنى وذلك غير صحيح، وإمّا أن استعملت في ذات الجامع وهذا خلاف مبناه من كون المستعمل فيه جزئيّاً.

417

 

الاستثناء بالاسم:

المقام الثاني: في الاستثناء بالاسم، ككلمة (غير)، وهذا أيضاً له ثلاث صور وهي عين الصور التي مضت في المقام الأوّل:

الاُولى: أن يتعدّد الموضوع والمحمول معاً، كما لو قال: (أكرم العلماء وأكرم السلاطين وأكرم التجّار غير الفسّاق منهم).

والثانية: أن يتعدّد الموضوع فقط، كأن يقول: (أكرم العلماء والسلاطين والتجّار غير الفسّاق منهم).

والثالثة: أن يتعدّد المحمول فقط، كأن يقول: (جالس العلماء وسلّم عليهم وأضفهم غير الفسّاق منهم).

وقد قلنا في الصورة الاُولى من المقام الأوّل: إنّه لابدّ من كون الاستثناء راجعاً إلى خصوص الأخير؛ لجزئيّة المعنى الحرفيّ.

وهذا البرهان ـ كما ترى ـ لا يأتي في المقام الثاني؛ لأنّ المفروض أنّ الاستثناء بالاسم، فنقول في هذا المقام في جميع الصور الثلاث: إنّه لا مانع من الرجوع إلى الجميع.

نعم، هنا فرق بين الصورة الاُولى والصورتين الأخيرتين، وهو: أنّه في الصورتين الأخيرتين بعد أن لم يكن مانع عن الرجوع إلى الجميع يثبت ـ لا محالة ـ عدم تعيّن الرجوع إلى خصوص الأخير، فيدور الأمر بين الإجمال والظهور في الرجوع إلى الجميع، ولا يبعد دعوى موافقة الفهم العرفيّ للثاني.

وأمّا في الصورة الاُولى ـ وهي تكرّر الموضوع والمحمول معاً بحيث تكون كلّ جملة كلاماً مستقلاًّ برأسه ـ فيمكن أن يدّعى أنّ نفس هذا الوصف قرينة عرفاً على

418

اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة، فعدم المانع من الرجوع إلى الجميع ليس في هذه الصورة برهاناً على عدم تعيّن الرجوع عرفاً إلى خصوص الأخيرة.

والظاهر: أنّ العرف لا يفرّق بين الاستثناء بالاسم والاستثناء بالحرف، ففي كلا المقامين يكون ظاهر الكلام في الصورة الاُولى رجوع الاستثناء إلى خصوص الأخيرة، إلّا أنّ الفرق بينهما أنّه في المقام الأوّل دلّ الفنّ أيضاً على ذلك وفي المقام الثاني لم يدلّ الفنّ عليه(1).



(1) قد يقال: إنّ فرض الفرق بين باب الاسم وباب الحرف في الصورة الاُولى غير معقول؛ لأنّ أداة الاستثناء وإن فرضت هذه المرّة اسماً ولكن إنّما نستثني من الموضوعات السابقة عن طريق جعلها وصفاً لها، فلابدّ في البين من النسبة الوصفيّة، فلو كان هناك برهان في النسبة الاستثنائيّة يدلّ على أنّها ترجع إلى الأخير فحسب فعين ذاك البرهان يأتي في النسبة الوصفيّة فكلاهما معنى حرفيّ وجزئيّ.

أمّا لو قيل بأنّ الموضوعات المتعدّدة يمكن أن يكون كلّ واحد منها جزء طرف للنسبة الوصفيّة بلا حاجة إلى فرض وحدة اعتباريّة سابقة بينها فعين الكلام يأتي في النسبة الاستثنائيّة حرفاً بحرف.

والجواب: أنّ النسبة الوصفيّة مستفادة من الهيئة التركيبيّة وهي هيئة وقوع الوصف بعد الموصوف، ومع تعدّد الموصوف تكون الهيئة أيضاً متعدّدة، فيمكن افتراض استعمال كلّ واحدة منها في نسبة كما يمكن إهمالها جميعاً ما عدا الأخيرة، والمقياس في إهمال ما عدا الأخيرة أو استعمالها في النسبة الوصفيّة هو ما يقصد به من كلمة (غير)، فلو قصدت به أفراد من الموضوع الأخير كان وصفاً للأخير، ولو قصد الجامع بين المواضيع كان وصفاً للجميع، وبما أنّه اسم وليس حرفاً ومستعمل في معنى اسميّ لا النسبة فقصد الجامع به معقول.

419

ثمّ إنّ المحقّق العراقيّ(قدس سره) بعد أن ذهب إلى إمكان الاستثناء من الجميع بلامؤونة ولو كان الاستثناء بالحرف، وقال بعدم الفرق بين كون الاستثناء بالحرف وكونه بالاسم ساق كلا القسمين من الاستثناء مساقاً واحداً وذكر تفصيلاً في المسألة، وبما أنّ كلامنا فعلاً في الاستثناء بالاسم فلنمثّل بذلك فنقول:

لو قال المولى مثلاً: (أكرم العلماء وجالس الأسخياء وسلّم على العبّاد غير الفسّاق) فهل يرجع الاستثناء إلى الأخيرة أو إلى الجميع؟

ذكر المحقّق العراقيّ(قدس سره) أنّ مقتضى إطلاق الاستثناء والمستثنى هو الرجوع إلى الجميع، وهذا الإطلاق معارض بظهور ما عدا الجملة الأخيرة في الإطلاق أو العموم، فإن كان ظهور ما عدا الجملة الأخيرة بالعموم، ككلمة (كلّ) قدّم على إطلاق الاستثناء والمستثنى؛ لأنّ إحدى مقدّمات الحكمة عدم البيان، وعموم ما عدا الجملة الأخيرة بيانٌ، فهو مانع عن انعقاد مقدّمات الحكمة.

وإن كان ظهور ما عدا الجملة الأخيرة بالإطلاق ففي الحقيقة لا يتمّ شيء من الإطلاقين المتعارضين ويحصل الإجمال، وليس ذلك لأجل صلاحيّة كلّ منهما للقرينيّة للآخر، فإنّ قرينيّة كلّ منهما فرع ظهوره بتماميّة مقدّمات الحكمة بالنسبة إليه، ولا تتمّ؛ لما فيها من الدور ـ كما ستعرف ـ بل الإطلاق بنفسه غير جار في شيء من الطرفين؛ لأنّه مستلزم للدور، فإنّ الإطلاق في كلّ طرف متوقّف على عدم تحقّق البيان بالإطلاق في الطرف الآخر، وهو متوقّف على إطلاق الطرف الأوّل؛ لأنّه لولاه لكان إطلاق الطرف الآخر تامّاً، فلا يجري شيء من الإطلاقين للدور. هذا ما أفاده المحقّق العراقيّ(قدس سره)(1).



(1) المقالات، ج 1، المقالة: 37، ص 475 ـ 476 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم.

420

أقول: أمّا ما ذكره من أنّ إطلاق الاستثناء والمستثنى يقتضي الرجوع إلى الجميع فيرد عليه: أنّ (غير) مبهم في غاية الإبهام، وبإبهامه ليس قابلاً لصيرورته موضوعاً للحكم الشرعيّ، فإن أراد(قدس سره)إجراء الإطلاق في (غير) مع قطع النظر عن تحصّل مفهوم معيّن له بوقوعه صفة للمستثنى منه ومضافاً إلى الاستثناء لم يكن ذلك معقولاً؛ لما عرفت من أنّه بإبهامه لا تعقل صيرورته موضوعاً للحكم الشرعيّ. وإن أراد إجراء الإطلاق فيه بعد تحصّل مفهوم معيّن له بوقوعه صفة للمستثنى منه ومضافاً إلى المستثنى فالشكّ إنّما هو في نفس ذلك المفهوم المتعيّن، هل هو موضوع الجملة الأخيرة فقط المتّصف بكونه غير فاسق أو موضوع جميع الجمل المتّصف بكونه غير فاسق، وعلى أحد الفرضين لا يعقل رجوع الاستثناء إلى الجميع، فكيف يمكن إثبات رجوعه إلى الجميع بالإطلاق؟ هذا بلحاظ أداة الاستثناء.

وكذلك الأمر بلحاظ المستثنى، فإنّه بعد أن شككنا في المفهوم المتحصّل المتعيّن من أداة الاستثناء ولم ندر أنّه هل هو موضوع الجملة الأخيرة المتّصف بكونه غير الفسّاق أو هو موضوع تمام الجمل المتّصف بذلك لم يعقل إجراء الإطلاق في المستثنى، فإنّه على أحد الفرضين يستحيل كون المستثنى الفاسق من جميع تلك الموضوعات.

وأمّا ما ذكره من أنّ إطلاق الاستثناء والمستثنى معارض بظهور ما عدا الجملة الأخيرة، فإن كان ظهوره بالعموم قدّم على الإطلاق وإلّا فهما متساويان، فيرد عليه ـ بعد تسليم إطلاق المستثنى والمستثنى منه ـ: أنّه إن بنينا على مبنى كون العبرة في التقدّم بالقرينيّة ـ كما هو الحقّ ـ فإطلاق الاستثناء والمستثنى مقدّم على ظهور ما عدا الجملة الأخيرة ولو فرض ذلك بالوضع؛ وذلك لأنّ العرف يرى ملابسات الكلام ومتعلّقاته قرينة لأصل الكلام دون العكس، فلو قال: (رأيت أسداً يرمي) يكون قوله: (يرمي) قرينة على أنّ المراد بالأسد الرجل الشجاع، لا أنّ قوله:

421

(أسداً) قرينة على أنّ المراد بــ (يرمي) رمي قطع اللحم من الفم مثلاً، وكذلك الأمر فيما نحن فيه، فإنّ الاستثناء والمستثنى قرينة بالنسبة للمستثنى منه دون العكس، فظهر: أنّ إطلاق الاستثناء والمستثنى مقدّم على إطلاق المستثنى منه وعمومه.

وإن بنينا على مبنى كون العبرة في التقدّم بالأظهريّة ـ كما ذهب إليه المحقّق العراقيّ(قدس سره) ـ فالمتعيّن كون إطلاق الاستثناء والمستثنى في عرض ظهور ما عدا الجملة الأخيرة ولو فرض بالعموم، لا تقدّم العموم عليه؛ وذلك لأنّه كما يكون الإطلاق متوقّفاً على عدم البيان المتّصل أو مطلقاً، كذلك العموم متوقّف على عدم البيان المتّصل؛ لما مضى في السابق من أنّ أداة العموم إنّما تشمل وضعاً أفراد المفهوم المتحصّل من تمام ما يكون متّصلاً بمدخوله، فظهر: أنّه لا رجحان فيما نحن فيه للعموم على الإطلاق.

وأمّا ما ذكره من عدم جريان الإطلاقين رأساً ـ لمكان الدور لا لصلاحيّة كلّ منهما للقرينيّة للآخر ـ فيرد عليه: أنّه بعد تسليم كون كلّ منهما في مرتبة واحدة لا يجري شيء منهما، لكن لا لما ذكره من عدم تماميّة مقدّمات الحكمة رأساً لمكان الدور. توضيح ذلك: أنّ بطلان الدور معناه استحالة توقّف الشيء على نفسه لا أنّه بعد أن فرض توقّفه على نفسه يستحيل وجوده في الخارج؛ لأنّه علّة نفسه وهو ليس موجوداً حتّى يوجد نفسه مثلاً، والمحقّق العراقيّ(قدس سره) سلّم توقّف الشيء على نفسه فيما نحن فيه حيث قال: إنّ الإطلاق في كلّ طرف موقوف على عدمه في الطرف الآخر، وعدمه في الطرف الآخر موقوف على الإطلاق في الطرف الأوّل، فكأنّه توهّم أنّ معنى استحالة الدور استحالة وجود ما توقّف على نفسه، مع أنّ الأمر ليس كذلك.

وبكلمة اُخرى: لو لم يعترف بالتوقّفين فلا دور، ولو اعترف بهما فقد اعترف بالدور المحال، فإنّ المحال هو نفس توقّف الشيء على نفسه، هذا.

422

وممّا ذكرنا يظهر: أنّ استحالة الدور لا تختصّ بجانب الوجود بل تجري في جانب العدم أيضاً؛ لما عرفت من أنّه ليست الاستحالة في وجود ما توقّف على نفسه، بل الاستحالة في نفس علّيّة كلّ منهما للآخر بحسب نظام العلل وترتيبها بلا فرق بين جانب الوجود والعدم، فما ذكره من الدور في جانب وجود الإطلاق ـ بدعوى أنّ الإطلاق في كلّ طرف متوقّف على عدمه في الطرف الآخر وبالعكس ـ يأتي في جانب عدمه أيضاً؛ إذ عدمه في كلّ طرف متوقّف على وجوده في الطرف الآخر وبالعكس.

والتحقيق في حلّ المغالطة: أنّ الإطلاق في كلّ طرف وإن كان معلولاً لعدمه في الطرف الآخر أو معلولاً لما يلازمه(1) ـ وهو الصحيح كما سيظهر ـ لكن هذا العدم عبارة عن عدم الإطلاق الشأنيّ، فإنّ الإطلاق في كلّ طرف بوجوده الشأنيّ ـ أي: بصدق أنّه لولا الإطلاق في الطرف الآخر لتمّ هذا الإطلاق ـ يكون مانعاً عن الإطلاق في الطرف الآخر، فنقول مثلاً: إنّ الإطلاق الشأنيّ في كلّ طرف علّة لعدم الإطلاق الفعليّ في الطرف الآخر، وعدم الإطلاق الشأنيّ في كلّ طرف علّة للإطلاق الفعليّ في الطرف الآخر، وهاتان العلّيّتان ليستا دوراً؛ لاختلاف طرفيهما.

وبكلمة اُخرى: إنّه(قدس سره) لو أراد تصوير الدور في الإطلاق الشأنيّ في كلّ طرف قلنا: إنّ ما يتوقّف على هذا الإطلاق غير ما يتوقّف عليه هذا الإطلاق، فإنّ الأوّل هو عدم الإطلاق الفعليّ في الطرف الآخر، والثاني هو عدم تماميّة مقدّمات الحكمة في ذاك الطرف في نفسه مع قطع النظر عن الطرف الآخر.

وإن أراد تصوير الدور في الإطلاق الفعليّ في كلّ طرف، فإنّه وإن كان متوقّفاً على عدم الإطلاق الشأنيّ في الطرف الآخر لكن لا عكس فلا دور؛ لأنّ عدم



(1) وهو عدم العلم الإجماليّ بكذب أحدهما.

423

الإطلاق الشأنيّ ناش من عدم تماميّة مقدّماته في نفسه.

وقرينيّة كلّ منهما بالفعل لعدم إرادة الإطلاق وإن كانت موقوفة على فعليّة الإطلاق في ذاك الطرف لكن الصلاحيّة للقرينيّة يكفي فيها الإطلاق الشأنيّ.

بل التحقيق أنّ كلا الإطلاقين ساقطان بعلّة واحدة لا بصلاحيّة قرينيّة كلّ منهما للآخر ولا بما ذكره من الدور، وتلك العلّة عبارة عن العلم الإجماليّ بكذب أحد الإطلاقين.

ولا يصحّ فيما نحن فيه دعوى صلاحيّة القرينيّة، لا بالمعنى الملازم لفعليّة القرينيّة، ولا بمعنى كون الشيء بحيث يصحّ اعتماد المتكلّم عليه عند إرادة خلاف ما هو الظاهر من الكلام لولاه:

أمّا الأوّل: فواضح، فإنّ فعليّة القرينيّة متوقّفة على تماميّة الإطلاق الفعليّ، فيلزم تماميّة الإطلاقين، وهذا خلف علمنا الإجماليّ بكذب أحدهما.

وأمّا الثاني: فلأنّ الصلاحيّة بذاك المعنى لا تكون إلّا في موردين:

أحدهما: أن نشكّ في مفهوم الكلام ويكون ذلك على أحد التقديرين قرينة، وذلك كما في المخصّص المتّصل المجمل.

وثانيهما: أن يكون الكلام مشتركاً أو يكون قد دار أمره بين الحقيقة والمجاز الراجح، بناءً على أنّ المجاز الراجح في رتبة الحقيقة، وكان الكلام على أحد التقديرين قرينة.

وما نحن فيه ليس من شيء منهما.

هذا تمام الكلام في الاستثناء المتعقّب للجمل من ناحية قابليّة نفس الأداة للرجوع إلى الجميع وعدمه.

بقي الكلام فيه من ناحية قابليّة المستثنى للرجوع إلى الجميع وعدمه، فنقول: إنّ لذلك صوراً عديدة:

الاُولى: أن يكون قابلاً للرجوع إلى الجميع، كما في قولنا: (أكرم العلماء

424

والتجّار إلّا الفسّاق). ولا إشكال في ذلك من ناحية المستثنى في إمكان الرجوعإلى الجميع والرجوع إلى خصوص الأخيرة، فإن استظهرنا ممّا مضى من البحث في أداة الاستثناء أحد الأمرين فهو، وإلّا لم يمكن التمسّك بعموم غير الأخيرة؛ للإجمال.

الثانية: أن لا يكون قابلاً للرجوع إلى الجميع، كما في قولنا: (أكرم العلماء والتجّار إلّا الجهّال) وقولنا: (أكرم العلماء والتجّار إلّا زيداً). فإنّه لا يمكن إرجاع زيد إلى كليهما ولو فرض وجود مسمّى بزيد في العلماء ووجود مسمّى بزيد في التجّار، فإنّ الموضوع له في الأعلام جزئيّ، فلا يعقل رجوعه إلى الجميع إلّا بالتأويل بأن يراد من زيد المسمّى بزيد وهذا خلاف أصالة الحقيقة.

وبكلمة اُخرى: إنّ في هذا الكلام ثلاثة احتمالات: رجوع المستثنى إلى الجميع بتأويله إلى المسمّى، ورجوعه إلى الجميع بلا تأويل، ورجوعه إلى خصوص الأخير، والأوّل منفيّ إثباتاً، والثاني منفيّ ثبوتاً فيتعيّن الثالث.

الثالثة: أن يكون المستثنى مشتركاً لفظيّاً بين معنيين: أحدهما يصحّ رجوعه إلى الجميع دون الآخر، ولم يتعيّن أحدهما بالقرينة فيثبت الإجمال بالنسبة لما قبل الأخيرة؛ لاتّصاله بما يصلح للقرينيّة بمعنى ما يصحّ للمتكلّم الاعتماد عليه عند إرادة الخلاف.

الرابعة: أن يكون المستثنى بمعناه الحقيقيّ مختصّاً بالجملة الأخيرة وبمعناه المجازيّ قابلاً للرجوع إلى الجميع، فيتعيّن الأوّل بأصالة الحقيقة ويبقى ما عدا الأخيرة على عمومه.

الخامسة: عكس الرابعة، فتجري أصالة الحقيقة ويحصل الإجمال بالنسبة إلى غير الأخيرة مع عدم القرينة على الاختصاص بها.

425

 

الكلام في تخصيص العامّ الكتابيّ بخبر الواحد

الجهة التاسعة: في أنّه هل يخصّص العامّ الكتابيّ بخبر الواحد ـ بعد تسليم تخصّص خبر الواحد بخبر الواحد ـ أو لا؟

ومرجع هذا في الحقيقة إلى البحث عن أنّ خبر الواحد المخالف لعموم الكتاب حجّة أو لا؟ فإنّه بعد تسليم حجّيّته لا إشكال في تخصيص عموم الكتاب به؛ لأنّ المفروض أنّ الخاصّ قرينة على العامّ، وإلّا لما كان يخصّص خبر الواحد بخبر الواحد، وإذا كان مرجع البحث إلى ذلك فلابدّ للقائل بجواز تخصيص العامّ الكتابيّ به من إقامة البرهان على حجّيّة هذا الخبر الواحد؛ لأنّ مقتضى الأصل عدم الحجّيّة.

 

الاستدلال على حجّيّة خبر الواحد المخالف بالأخصّيّة لعموم الكتاب:

وقد أقام المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) ثلاثة براهين على ذلك(1):

الأوّل: الإجماع على حجّيّته(2).

ويرد عليه: أنّه إن أراد من ذلك الإجماع الفتوائيّ فإفتاء جميع العلماء على ذلك ممنوع، كيف؟! وأصل حجّيّة الخبر الواحد مختلف فيه حتّى ادّعى بعض الإجماع على عدم حجّيّته.



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 366 ـ 367 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق الشيخ المشكينيّ.

(2) صريح كلام الآخوند في الكفاية هو التمسّك بسيرة الأصحاب لا الإجماع.

426

وإن أراد من ذلك الإجماع العمليّ الذي تكون العبرة فيه بعمل أصحاب الأئمّة الكاشف عن رأي المعصوم(1) فهو غير معلوم، فإنّه إن لاحظنا السامع للخبر بنفسه من الإمام(عليه السلام) فمن الواضح أنّ الخبر عنده قطعيّ الصدور، ولا إشكال في جواز تخصيص الكتاب بذلك، وإن لاحظنا مَن ليس راوياً عن الإمام(عليه السلام) بلا واسطة بل يراجع الراوي عنه، فإن كان مقلّداً له فهو إنّما يأخذ بالفتوى وليس هو الذي يخصّص الكتاب بخبر الواحد وإنّما يخصّصه مجتهده به، وإن لم يكن مقلّداً له وكان بنفسه مخصّص الكتاب بهذا الخبر فمن المحتمل أنّه كان يخصّص الكتاب بالخبر مع تحصيل القطع أو الاطمئنان بصدوره، فإنّهم كانوا متمكّنين من تحصيل القطع أو الاطمئنان بصدور كثير من الأخبار، نظير تمكّن الناس في زماننا وفي كلّ زمان من تحصيل القطع أو الاطمئنان بصدور كثير من الأخبار الصادرة من فقيه زمانهم، وأمّا الأخبار التي لم يتمكّنوا من تحصيل الاطمئنان بصدورها فلم يعلم أنّهم كانوا يخصّصون الكتاب بها.

الثاني: دلالة أدلّة حجّيّة خبر الواحد على حجّيّة الخبر المخالف لعموم الكتاب بالصراحة؛ وذلك لأنّ جميع أخبار الآحاد مخالف لعموم الكتاب إلّا ما شذّ وندر لو وجد نادراً ما لا يخالفه، فيلزم من عدم تخصيص الكتاب بخبر الواحد طرح دليل حجّيّة خبر الواحد رأساً أو في غير مورد الندرة.

ويرد عليه: أنّ هذه الدعوى ممنوعة جدّاً، بل خبر الواحد المخالف لعموم الكتاب في غاية الندرة، فإنّك إن لاحظت أخبار باب الطهارة والنجاسة الخبثيّة لم تجد منها ما يخالف عموم الكتاب؛ لعدم ورود آية في الكتاب في ذلك إلّا نادراً



(1) نعم الظاهر أنّ هذا هو المقصود كما قلنا.

427

كقوله تعالى: ﴿أَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً﴾(1)، بناءً على دلالته على طهارة الماء.

وأمّا أخبار العبادات: فلا شيء منها يخالف عموم الكتاب وإطلاقه، وقد صرّح المحقّق الخراسانيّ(قدس سره)في بحث الصحيح والأعمّ أنّ آيات العبادات لا إطلاق فيها؛ لورودها في مقام التشريع لا في مقام البيان(2).

وأمّا أخبار المعاملات: فالغالب منها غير مخالف لعموم الكتاب وإطلاقه؛ إذ لم يرد في الكتاب عموم وإطلاق في ذلك إلّا بالنسبة للبيع في قوله تعالى: ﴿أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْع﴾(3). وأمّا قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُود﴾(4) فقد حقّق في محلّه عدم دلالته على صحّة العقود وإنّما يدلّ على لزومها. وأمّا قوله تعالى: ﴿تِجَارَةً عَن تَرَاض﴾(5) فالتجارة عن تراض مختصّة بالبيع وليس غيره من المعاملات تجارة.

والخلاصة: أنّ أخبار المعاملات ليس شيء منها ينافي إطلاق الكتاب إلّا ما دلّ على بطلان بعض أقسام البيع.



(1) سورة 25 الفرقان، الآية: 48. والآية إنّما تدلّ على طهارة ماء السماء في ذاته، فلا يعدّ دليل نجاسة ماء الاستنجاء مثلاً مخصّصاً له.

(2) المقدار الوارد في الكفاية في بحث الصحيح والأعمّ هو قوله: «نعم، لابدّ في الرجوع إليه. فيما ذكر (يعني الرجوع إلى الإطلاق بناءً على الأعمّ) من كونه وارداً مورد البيان»، وكأنّ هذا إشارة إلى ما نسب إليه اُستاذنا هنا.

(3) سورة 2 البقرة، الآية: 275.

(4) سورة 5 المائدة، الآية: 1. والظاهر أنّ العقد إن كان على مباح دلّت الآية على نفوذه بالمعنى المثبت للصحّة واللزوم.

(5) سورة 4 النساء، الآية: 29.

428

وأمّا أخبار العقوبات والحدود والديات: فالغالب فيها أيضاً عدم المخالفة لعموم الكتاب؛ لعدم ورود آية في ذلك في الكتاب إلّا نادراً كآية حدّ السرقة والزنا وشرب الخمر والعبث في الأرض فساداً.

وأمّا الأخبار المفردة غير الداخلة في شيء من الأبواب الدالّة على حرمة بعض الأشياء ـ كما دلّ على حرمة التختّم بالذهب للرجال مثلاً ـ: فليس في القرآن ما يدلّ على خلافها عموماً أو إطلاقاً؛ إذ لم ترد آية تدلّ على حلّيّة كلّ شيء، وإن توهّم بعض الأساطين أنّ الآية الشريفة هكذا: (اُحلّ لكم ما في الأرض جميعاً)، وليس كذلك بل الآية الشريفة هكذا: ﴿خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾(1).

وأمّا الأخبار المفردة الدالّة على حلّيّة بعض الأشياء: فأيضاً ليس في القرآن ما يدلّ على خلافها عموماً أو إطلاقاً؛ إذ لم ترد آية تدلّ على حرمة كلّ شيء.

والخلاصة: أنّ دعوى كون أخبار الآحاد ـ إلّا ما شذّ وندر ـ مخالفةً لعموم الكتاب أو إطلاقه ممنوعة جدّاً، وصدور مثلها عن المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) غريب غايته.

الثالث ـ وهو الوجه المتعارف بين المحقّقين ـ: إطلاق دليل حجّيّة خبر الواحد الشامل للخبر المخالف لعموم الكتاب، فإنّ هذا الإطلاق مقدّم بالحكومة.

توضيح ذلك: أنّ التعارض في الحقيقة يكون بين دليل حجّيّة ظاهر الكتاب ودليل حجّيّة خبر الواحد المخالف لعموم الكتاب، ودليل حجّيّة الظاهر قد اُخذ في موضوعه عدم ورود القرينة المنفصلة على الخلاف، ولذا سلّمنا تخصيص خبر الواحد بخبر الواحد، وإطلاق دليل حجّيّة الخبر الواحد الشامل للخبر المخالف لعموم الكتاب مثبت لقرينيّته، فيرتفع موضوع دليل حجّيّة ظاهر الكتاب بالحكومة.



(1) سورة 2 البقرة، الآية: 29.

429

أقول: لايخفى أنّ الأمر في ذلك يختلف باختلاف المباني في الدليل على حجّيّة خبر الواحد والدليل على حجّيّة ظاهر الكتاب، توضيح ذلك أنّه:

إن بنينا على أنّ الدليل على حجّيّة خبر الواحد هو الإجماع فهو في محلّ الفرض منتف؛ لوقوع الخلاف بينهم في جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد وعدمه، فلا مجال لدعوى الحكومة وتخصيص الكتاب به.

وإن بنينا على أنّ الدليل على حجّيّة خبر الواحد هو السيرة العقلائيّة فلابدّ من النظر إلى دليل حجّيّة ظاهر الكتاب:

فإن بنينا على أنّ الدليل عليه أيضاً هو السيرة العقلائيّة على حجّيّة الظهور فمن الواضح عدم إمكان اجتماع سيرتين متخالفتين في مورد واحد، والموجود فيما نحن فيه هو السيرة الاُولى لا الثانية؛ لأنّ السيرة على حجّيّة الظهور مقيّدة بعدم ورود قرينة على الخلاف، والسيرة على حجّيّة خبر الواحد مثبتة للقرينة وليست مقيّدة بعدم ورود عامّ كتابيّ على خلافه، فقد انتفى موضوع دليل حجّيّة ظهور الكتاب. لكن ليس هذا من الحكومة المصطلحة؛ لأنّها عبارة عن أن ينتفي الموضوع بالتعبّد، وما نحن فيه ليس كذلك.

وإن بنينا على الاستدلال بحجّيّة ظهور القرآن بالأخبار الواردة في وجوب العمل بالقرآن ـ إذ يصدق عرفاً على العمل بظاهر القرآن أنّه عمل بالقرآن، مع البناء على أنّ دليل حجّيّة خبر الواحد هو السيرة العقلائيّة ـ فإطلاق هذه الأخبار شامل لفرض ورود خبر واحد على خلاف عموم الكتاب ورادع للسيرة الثابتة في جانب خبر الواحد في هذا الفرض.

وإن بنينا على أنّ الدليل على حجّيّة خبر الواحد هو الكتاب كآية النبأ أو السنّة، والدليل على حجّيّة الظاهر ـ وهو عموم الكتاب ـ هو السيرة العقلائيّة فالسيرة

430

مقيّدة بعدم القرينة، وذلك الخبر قرينة تعبّداً لدليل حجّيّته فتتمّ الحكومة.

وإن بنينا على أنّه تدلّ على حجّيّة ظاهر الكتاب ـ مضافاً إلى السيرة العقلائيّة ـ الأخبار الدالّة على وجوب العمل بالقرآن، والدليل على حجّيّة خبر الواحد هو الكتاب كآية النبأ، فتقع المعارضة بين إطلاق تلك الأخبار لآية النبأ في المحلّ المفروض وإطلاقها للعموم المفروض ورود خبر واحد على خلافه ويتساقطان، فنرجع إلى السيرة الدالّة على حجّيّة ظاهر الكتاب وتثبت الحكومة بالنظر إلى السيرة كما عرفت.

وإن بنينا على أنّ الدليل على حجّيّة خبر الواحد هو الأخبار فدليل حجّيّة خبر الواحد هو الخبر المتواتر؛ لأنّه لا معنى للاستدلال على حجّيّة خبر الواحد بخبر الواحد، وبنينا على أنّه تدلّ على حجّيّة ظاهر القرآن الأخبار الدالّة على وجوب العمل بالقرآن التي هي أيضاً متواترة بلا إشكال، فالمعارضة في الحقيقة واقعة بين خبرين متواترين وتعارضهما بالعموم من وجه، فيمكن أن يقال بأنّهما يتساقطان وتبقى في البين السيرة الدالّة على حجّيّة ظاهر الكتاب سليمة عن الحاكم، هذا.

ولكن التحقيق: أنّ الأخبار الدالّة على وجوب العمل بالقرآن في بعضها قيّد الحكم بما بعد الرجوع إلى أهل البيت(عليهم السلام) فيما ورد منهم في مقام بيان المراد من الكتاب والقرينة عليه، والخبر المتواتر الدالّ على حجّيّة هذا الخبر الواحد دالّ تعبّداً على قرينيّته(1) فتتمّ الحكومة، هذا.



(1) كأنّ المقصود: أنّ الخبر المتواتر الدالّ على حجّيّة خبر الواحد دليل على حجّيّة خبر القيد بما بعد الرجوع إلى أهل البيت(عليهم السلام)، فيكون خبر القيد هذا دليلاً تعبّديّاً على حجّيّة الخبر المخصّص وقرينيّته.