وثالثاً: أنّ افتراض العدم النعتيّ هو المقابل والنقيض للوجود النعتيّ بالتدقيق الفلسفيّ لا يؤثّر شيئاً في المقام؛ إذ لم يرد في دليل الاستصحاب أنّ ما يستصحب لنفي الحكم لابدّ أن يكون مقابلاً بحسب مصطلحات الفلاسفة لموضوع الحكم، فلو اعتقد أحد أنّ العدم المحموليّ يكون ولو عرفاً نفياً للوجود النعتيّ كفاه ذلك لنفي الحكم باستصحاب العدم المحموليّ.
هذا تمام الكلام في هذا المقام مع مدرسة المحقّق النائينيّ(قدس سره).
الكلام في تفصيل المحقّق العراقىّ(رحمه الله):
بقي الكلام حول ما أفاده المحقّق العراقيّ(رحمه الله): من التفصيل بين موارد استصحاب العدم الأزليّ، وقد ذكر ذلك التفصيل تارةً في رسالته التي ألّفها في اللباس المشكوك مستدلاًّ عليه بدليل، وثانيةً في رسالته التي ألّفها في استصحاب العدم الأزليّ مستدلاًّ عليه بدليل أعمق مع إبطاله للدليل الأوّل. ولا يخفى أنّ مصبّ كلامه(قدس سره) ليس ما هو مصبّ لكلام المحقّق النائينيّ في التقريرات من مسألة إثبات حكم العامّ باستصحاب العدم الذي صار جزءاً للموضوع، بل مصبّ كلامه هو مصبّ كلام المحقّق النائينيّ في رسالة اللباس المشكوك من مسألة نفي الحكم باستصحاب عدم جزء الموضوع الوجوديّ.
نعم، يظهر منه بالتبع حكم فرض جزئيّة العدم في موضوع وأنّه متى يجوز إثبات الحكم باستصحاب ذلك العدم ومتى لا يجوز.
وعلى أيّ حال فهنا تقريبان لما ذهب إليه من التفصيل:
التقريب الأوّل: ما جاء في رسالته في اللباس المشكوك، ونحن نبيّن هنا واقع مراده بالمقدار الذي تكشف عنه عبارته ولا نلتزم بالترتيب الذي سلكه هو في
مقام البيان، فقد نقدّم بيان نكتة ونؤخّر اُخرى، وهذا التقريب يتّضح بعد ذكر مقدّمتين:
الاُولى: أنّه إذا لوحظ شيئان بحسب الوجود الخارجيّ فربما يكون بينهما تقارن رتبيّ أو تقدّم وتأخّر كتقارن الحرارة والإحراق الناشئين من النار، وتأخّر الحرارة عن النار وتقدّمها على الغليان الناشئ منها، وكتأخّر القريشيّة رتبة عن الإنسان لكونها وصفاً له وتقدّم الإنسان عليها، وتقارن القرشيّة والعدالة العارضتين على الإنسان. هذا بحسب الوجود الخارجيّ.
وهكذا الحال بحسب عالم الجعل الشرعيّ، فربما يؤخذ شيء مع شيء آخر موضوعاً للحكم مع تقدّم وتأخّر رتبة، وربما يؤخذان في رتبة واحدة. والنسبة الرتبيّة بينهما بلحاظ عالم الجعل ربما تتّفق مع النسبة بينهما بلحاظ الوجود الخارجيّ وربما تختلف، فمثلاً العدالة والقرشيّة متقارنتان بحسب الوجود الخارجيّ لكن ربما تؤخذ العدالة مؤخّرة عن وجود القرشيّة فيقال: (القرشيّ إن كان عادلاً فأكرمه)، والعدالة مؤخّرة رتبة عن وجود الإنسان بحسب الخارج، وربّما تكون كذلك أيضاً بحسب الجعل كما لو قال: (إذا وجد إنسان وكان عادلاً فأكرمه) حيث فرض أوّلاً وجود الإنسان ثمّ اشترط بنسبة تامّة كون هذا الإنسان الموجود عادلاً، وربما لا يكون بينهما تقدّم وتأخّر وليست العدالة مضيّقة برتبة خاصّة وهي التأخّر عن وجود الإنسان، كما لوقال: (إذا وجد إنسان عادل فأكرمه) فالأوّل ـ أعني: فرض وجود الوصف والموصوف مرتّبين ـ يبيّن عادة في لسان أهل العرف بالنسبة التامّة، والثاني ـ أعني: فرض التقارن بمعنى فرض طروّ الوجود على المقيّد بالعدالة مثلاً ـ يبيّن عادة في لسان أهل العرف بالنسبة الناقصة التقييديّة.
الثانية: أنّ النقيضين في نظر المحقّق العراقيّ(قدس سره) يجب أن يكونا في رتبة واحدة، فلوضيّق أحدهما برتبة خاصّة كان الآخر أيضاً كذلك، فإنّ نقيض الشيء بديله وبديله ما يحلّ محلّه، فلابدّ أن يكون في تلك الرتبة والمحلّ.
ومع الالتفات إلى هاتين المقدّمتين نقول: إنّه بعد أن كان المفروض تأخّر القرشيّة بحسب الوجود الخارجيّ عن وجود الإنسان أمكن أن يقال: إنّه لا مجال لاستصحاب عدم القرشيّة؛ لأنّ القرشيّة تكون مضيّقة برتبة خاصّة وهي الرتبة المتأخّرة، فكذلك نقيضها، فما يجدي إثباته بالاستصحاب هو عدم القرشيّة الثابت في رتبة خاصّة الذي هو النقيض للقرشيّة الثابتة في رتبة خاصّة لا استصحاب مطلق عدم القرشيّة، فاستصحاب العدم الأزليّ لا يفيد أصلاً، ولكن بما أنّ العبرة ليست بالنسبة الرتبيّة من حيث الوجود الخارجيّ، وإنّما العبرة بما لوحظ من النسبة في عالم الجعل، فيختلف الأمر باختلاف كيفيّة الجعل، فمهما اُخذ القيد قيداً بعد فرض وجود الموضوع، كما لو قال: (إذا وجد إنسان وكان قرشيّاً فأكرمه) لم يجر استصحاب العدم الأزليّ؛ لأنّ نقيض القرشيّة المأخوذة قيداً ليس مطلق عدم العدالة حتّى يمكن إثباته باستصحاب العدم الأزليّ، بل العدم الخاصّ، أي: العدم الذي يكون متأخّراً رتبة عن وجود الإنسان، وذلك لا يمكن إثباته باستصحاب مطلق العدم؛ لعدم حجّيّة مثبتات الاستصحاب.
بل قال المحقّق العراقيّ(قدس سره) بعدم إمكان إثبات ذلك باستصحاب العدم الأزليّ حتّى بناء على حجّيّة مثبتات الاستصحاب؛ لأنّ هذا العدم الخاصّ ليس من الآثار العقليّة لمطلق العدم. ومراده(قدس سره) من حجّيّة مثبتات الاستصحاب هو إثبات الاستصحاب لجميع الآثار الشرعيّة والتكوينيّة، لا إثباته لجميع الملازمات حتّى يقال: إنّ الملازمة ثابتة فيما نحن فيه.
ومهما اُخذ القيد بنحو النسبة الناقصة وفرض طروّ الوجود على المقيّد، كما لو قال: (إذا وجد إنسان قرشيّ فأكرمه) فالقرشيّة ليست متأخّرة رتبة عن وجود الإنسان بحسب عالم الجعل، فكذلك نقيضها، فلا مانع من استصحاب العدم الأزليّ.
هذا كلّه هو التقريب الأوّل للتفصيل الذي ذهب إليه المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، وهو في الحقيقة تفصيل بين كون الموضوع وجود المتّصف أو اتّصاف الموجود، فيجري في الأوّل دون الثاني(1).
إلّا أنّ تصوّراته(رحمه الله) في رسالته التي ألّفها في خصوص استصحاب العدم الأزليّ اختلفت عمّا سبق منه في رسالة اللباس المشكوك، فتصوّراته في رسالة استصحاب العدم الأزليّ مايلي:
لو اُخذ الوصف بوجوده النعتيّ للموصوف دخيلاً في الموضوع فلا محالة يكون الموصوف مقدّماً رتبة على هذا الوجود النعتيّ تقدّم العلّة على معلوله(2)؛ لأنّ وجود الموصوف دخيل في علّة وجود النعت يقيناً، ولكن كما أنّ الاتّصاف بالقرشيّة مثلاً متأخّر رتبة عن وجود الإنسان كذلك عدم القرشيّة الأزليّ متأخّر رتبة عن عدم الإنسان(3) تأخُّر عدم المعلول عن عدم علّته، وإذا ثبت كون عدم القرشيّة الأزليّ متأخّراً رتبة عن عدم الإنسان، فلا محالة يكون متأخّراً عن وجود الإنسان؛ لأنّ عدم الإنسان يكون في رتبة نقيضه الذي هو وجود الإنسان؛ لأنّ النقيضين دائماً يكونان في رتبة واحدة.
(1) راجع رسالته في اللباس المشكوك، ص 164 ـ 168 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.
(2) رغم عدم التأثير والتأثّر في باب الأعدام.
(3) رغم عدم التأثير والتأثّر في باب الأعدام.
وقبل أن نكمل تحت عنوان التقريب الثاني بيان تصوّراته في رسالة استصحاب العدم الأزليّ أقول: إنّ هذا المقطع من كلامه صحيح وفق مبانيه، وهو إشكال وارد على ما في رسالته في اللباس المشكوك، وستأتي منّا ـ إن شاء الله ـ مناقشة مبانيه.
التقريب الثاني: ما جاء في رسالته في استصحاب العدم الأزليّ، وهو: أنّ القرشيّة مثلاً بما هي ذات الأثر دائماً تكون متأخّرة برتبتين إمّا عن ذات الإنسان أو عن وجوده؛ وذلك لأنّ المفروض أنّ الشارع جعل الموضوع مقيّداً بالقرشيّة، فالقرشيّة ذات الأثر متأخّرة رتبة عن التقيّد؛ لأنّه لولا التقيّد لم تكن ذات أثر، والتقيّد متأخّر رتبة عن ذات الإنسان لو كان المقيَّد هو ذات الإنسان، وعن وجوده لو كان المقيّد هو وجوده، فالشارع تارة: يجعل ذات الإنسان الموضوع للحكم في عالم التشريع مقيّداً بالقرشيّة ويبيّن ذلك بالنسبة الناقصة بأن يقال: (إذا وجد إنسان قرشيّ فأكرمه)، واُخرى: يجعل وجود الإنسان مقيّداً في عالم التشريع بالقرشيّة ويبيّن ذلك بالنسبة التامّة بأن يقال: (إذا وجد إنسان وكان قرشيّاً فأكرمه). ففي الأوّل تكون القرشيّة ذات الأثر متأخّرة برتبتين عن ذات الإنسان؛ لتأخّرها عن التقيّد الذي هو متأخّر ـ لا محالة ـ عن معروضه وهو ذات الإنسان، فنقيضها وهو عدم القرشيّة أيضاً متأخّر برتبتين عن ذات الإنسان حفظاً لاتّحاد رتبة النقيضين، وفي الثاني تكون القرشيّة متأخّرة برتبتين عن وجود الإنسان؛ لتأخّرها عن التقيّد المتأخّر عن معروضه وهو وجود الإنسان، فنقيضها وهو عدم القرشيّة أيضاً متأخّر برتبتين عن وجود الإنسان.
فإن كان من قبيل الأوّل لم يكن مانع عن استصحاب العدم الأزليّ؛ لأنّ الذات محفوظة في الأزل، فإنّها الجامع بين الوجود والعدم، فعدم القرشيّة الأزليّ ذو أثر؛ لتأخّره عن التقيّد المؤخّر عن ذات الإنسان وذو الأثر كان هو عدم القرشيّة
المتأخّر برتبتين عن ذات الإنسان، فعدم وجود الإنسان لا يضرّ بتأخّر عدم القرشيّة برتبتين، بل عدم القرشيّة وإن كان من باب السالبة بانتفاء الموضوع يكون تأخّره برتبتين عن الذات محفوظاً لانحفاظ الذات الجامع بين الوجود والعدم.
وإن كان من قبيل الثاني لم يجر استصحاب العدم الأزليّ؛ لأنّ وجود الإنسان ليس محفوظاً في الأزل حتّى يكون عدم القرشيّة الثابت بانتفاء الموضوع متأخّراً عن وجوده برتبتين، ولا يفيدنا استصحاب هذا العدم؛ لأنّ ما يكون ذا أثر إنّما هو عدم القرشيّة المتأخّر عن وجود الإنسان برتبتين(1).
ونكتة الفرق بين هذا التقريب والتقريب الأوّل أنّه في التقريب الأوّل بيّن تأخّر عدم القرشيّة ذي الأثر عن وجود الإنسان برتبة واحدة، ثمّ رُدّ بأنّه في الأزل أيضاً مؤخّر عنه برتبة واحدة؛ لتأخّره عن عدم وجود الإنسان الذي هو في رتبة
(1) كأنّه يريد أن يقول: فيكفي تأخّر الوجود النعتيّ خارجاً عن وجود الموضوع لتأخّر المعلول عن علّته؛ لافتراض أنّ الدخيل في الحكم هو النعت في المرتبة المتأخّرة، ولا تصل النوبة هنا إلى البحث عن أنّ الوصف والموصوف هل اُخذا في لسان التشريع طوليّين أو عرضيّين كما مضى عن رسالة اللباس المشكوك، فإنّ تأخّره الخارجيّ يعني أنّ قيد الموضوع في مرتبة متأخّرة.
ولكن مع ذلك لا يضرّ هذا المقدار باستصحاب العدم الأزليّ؛ لأنّه يجاب عنه بأنّ عدم القرشيّة مثلاً الأزليّ أيضاً متأخّر عن عدم الإنسان تأخُّرَ عدم المعلول عن عدم علّته، وبما أنّ عدم الإنسان ووجوده نقيضان فهما في رتبة واحدة. فنستنتج أنّ العدم الأزليّ للنعت متأخّر عن وجود الإنسان فلِم لا نستصحبه لكي يثبت بذلك نقيض النعت وفي رتبته؟! ومن هنا ننتقل إلى بيان آخر وهو ما جاء في رسالته في استصحاب العدم الأزليّ، وهو: أنّ القرشيّة... إلى آخر ما ورد في المتن.
وجوده. وفي التقريب الثاني بيّن تأخّر عدم القرشيّة ذي الأثر عن وجود الإنسان برتبتين، فلا يمكن إثباته بالعدم الأزليّ الذي ليس مؤخّراً برتبتين عن وجود الإنسان. نعم، هو مؤخّر عنه برتبة واحدة بناء على ما مضى في ردّ التقريب الأوّل، واستصحاب العدم المتأخّر برتبة لا يثبت العدم المتأخّر برتبتين.
ويرد عليه:
أوّلاً: أنّ تأخّر القرشيّة ذات الأثر عن التقيّد رتبة ممنوع، وإنّما المتأخّر عن التقيّد كونها ذات أثر؛ لأنّ ما نشأ عن التقيّد وصار التقيّد سبباً له هو كون القرشيّة ذات أثر لا نفس القرشيّة ذات الأثر.
وبكلمة اُخرى نقول: إنّ المتأخّر عن القرشيّة رتبة هو الموضوع بعنوان كونه موضوعاً لا ذات الموضوع، والذي يُستصحب لإثبات حكم هو ذات الموضوع، فإنّ الحكم يترتّب على ذات الموضوع لا على موضوعيّة الموضوع، فما ينفع استصحابه ليس متأخّراً رتبة عن التقيّد، ومايكون متأخّراً رتبة عنه ليس المقصود استصحابه.
وثانياً: أ نّا لو قطعنا النظر عمّا مضى من الإشكال قلنا: إنّ القرشيّة ذات الأثر إنّما هي متأخّرة رتبة عن تقيّد الإنسان بالقرشيّة في عالم الجعل والتشريع ـ بمعنى جعل الموضوع خصوص الإنسان القرشيّ لا مطلق الإنسان ـ لا عن تقيّد الإنسان بالقرشيّة خارجاً بمعنى خلق الله تعالى له قرشيّاً، فإن كان مراده(قدس سره)من التقيّد في قوله: القرشيّة ذات الأثر متأخّرة رتبة عن التقيّد المتأخّر رتبة عن وجود الإنسان، هو التقيّد في عالم الجعل سلّمنا تأخّر القرشيّة ذات الأثر رتبة عن التقيّد، لكنّا لا نسلّم تأخّر التقيّد في عالم الجعل عن وجود الإنسان، كيف وقد ثبت هذا التقيّد قبل وجود الإنسان؟ وإن كان مراده من ذلك هو التقيّد الخارجيّ سلّمنا تأخّر التقيّد الخارجيّ رتبة عن وجود الإنسان، فإنّ اتّصاف الإنسان بالقرشيّة متوقّف على وجوده بلا إشكال، لكنّا لا نسلّم تأخّر القرشيّة ذات الأثر رتبة عن التقيّد
الخارجيّ، فإنّ منشأ كونها ذات أثر وموضوعاً للحكم هو التقيّد في عالم الجعل لا التقيّد الخارجيّ.
وما عرفته من هذين الإشكالين واردان على ما أفاده المحقّق العراقيّ(قدس سره) من التقريب الثاني مع فرض صحّة أصل مباني التقريبين، كما أنّ ما أورده هو(قدس سره) على التقريب الأوّل وارد عليه مع التحفّظ على أصل المباني.
وهنا إشكالان واردان على أصل المباني:
الأوّل: أنّ ما ذكره(قدس سره) من لزوم كون النقيض في رتبة النقيض غير صحيح، فإنّ التقدّم والتأخّر بأيّ قسم من أقسامه ليس جزافيّاً بل يكون بملاك من الملاكات، وذلك الملاك في أيّ شيء وجد يثبت فيه ذلك التقدّم والتأخّر، وفي أيّ شيء لم يوجد لا يثبت فيه ذلك، ومن هنا نقول: إنّ ما هو مع المتقدّم زماناً متقدّم زماناً؛ لثبوت ملاك التقدّم فيه، ولكن ما هو مع المتقدّم رتبة بالعلّيّة مثلاً ـ بأن كان من ملازماته ـ ليس متقدّماً رتبة؛ لأنّ تقدّم ذلك الشيء على شيء آخر كان بملاك العلّيّة والمعلوليّة، وهذا الملاك غير موجود بالنسبة إلى ذلك الشيء الآخر؛ لعدم كون معلول الأوّل معلولاً للثاني، وكذلك نقول فيما نحن فيه: إنّ نقيض المتأخّر بملاك المعلوليّة مثلاً ليس متأخّراً؛ لعدم ثبوت ملاك المعلوليّة فيه؛ لاستحالة كون النقيضين معلولين لعلّة واحدة.
الثاني: أ نّا لو سلّمنا لزوم كون النقيض بمعناه الفلسفيّ في رتبة نقيضه لم يكن لذلك أثر في باب الاستصحاب أصلاً، فإنّه لم يذكر في لسان دليل الاستصحاب كلمة (النقيض) حتّى يبحث عن أنّه ما هو معنى النقيض، وهل المراد منه ما يجب أن يكون في رتبة نقيضه أو لا؟ والذي يكون عدم الحكم من آثاره عرفاً يكون أعمّ من النقيض المفروض كونه في رتبة نقيضه، إذن فلابدّ من التأمّل في لسان دليل الاستصحاب حتّى يُرى أنّ ما يمكن استصحابه لنفي الحكم ما هو، هل هو النقيض المفروض كونه في رتبة نقيضه أو غير ذلك؟ هذه هي الإشكالات
الحاضرة في الذهن فعلاً على كلمات المحقّق العراقيّ(قدس سره)في هذا المقام، ومن المحتمل أن تظهر بالتأمّل إشكالات اُخرى.
ثمّ إنّ ماذكره المحقّق العراقيّ(قدس سره) من التفصيل في استصحاب العدم الأزليّ لنفي الحكم بنفي القيد الوجوديّ للموضوع ـ إن تمّ ـ يأتي أيضاً في استصحاب العدم الأزليّ لإثبات الحكم بإثبات القيد العدميّ للموضوع، بلا حاجة في ذلك إلى ما احتجنا إليه في تقريب الكلام في الفرض الأوّل من مسألة لزوم اتّحاد رتبة النقيضين، ومن هنا يظهر أنّ ما ذكرناه من الإشكالين المبنائيّين لا يردان عليه في الفرض الثاني، أعني: الاستصحاب لإثبات الحكم، وإنّما يختصّان بالفرض الأوّل، أعني: الاستصحاب لنفي الحكم(1).
هذا تمام الكلام في استصحاب العدم الأزليّ.
(1) فإنّه لا شغل لنا هناك بنقيضين أصلاً، فلا تأتي ما مضت من النقاشات المبنائيّة بلحاظ باب النقيضين، ولا ما مضت من النقاشات البنائيّة بعد تسليم تلك المباني، بل يقال رأساً ـ في مقام إسراء كلام المحقّق العراقيّ إلى بحث إثبات حكم باستصحاب العدم النعتيّ الذي صار جزءاً لموضوع الحكم ـ: إنّ هذا العدم لو صار جزءاً على شكل ما يفهم من النسبة الناقصة كما لو قال: (إن وجد إنسان غير اُمويّ جاز إكرامه) فهذا العدم له حالة سابقة في الأزل؛ لثبوت ماهيّة الإنسان في عالم التقرّر في الأزل فيستصحب. ولو صار جزءاً على شكل ما يفهم من النسبة التامّة كما لو قال: (إن وجد إنسان ولم يكن اُمويّاً جاز إكرامه) فهنا يكون قد أخذ العدم بعد الفراغ عن فرض وجود الإنسان، وبما أنّ وجود الإنسان في الأزل غير ثابت فهذا العدم النعتيّ لا ثبوت له في الأزل فلا يستصحب.
والنقاش في ذلك يكون بما مضى شرحه في النقاش مع المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّه لا يتصوّر أصلاً عدم نعتيّ غير ثابت في الأزل.
دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص
الجهة الثالثة: في أنّه إذا دار الأمر بين التخصيص والتخصّص فهل يحمل على التخصّص لمكان أصالة العموم أو لا ؟ فلو قال: (أكرم كلّ عالم) وقال أيضاً: (لا تكرم زيداً) فهل يثبت بذلك عدم كون زيد عالماً حتّى يترتّب على ذلك نفي تمام آثار العلم وإثبات تمام آثار نقيض العلم، أو ضدّه الذي لا ثالث له، أو لا يثبت بذلك عدم علمه، وإنّما المتيقّن عدم وجوب إكرامه ؟ ويتأتّى عين هذا الكلام بالنسبة إلى المطلق والمقيّد. والمصاديق لهذا البحث في الاُصول والفقه كثيرة:
منها: تمسّك بعضهم في الاُصول على أنّ الأمر للوجوب بقوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ...﴾، فإنّه مبتن على كون التخصّص والتقيّد مقدّماً على التخصيص والتقييد، حيث يقال: إنّ الأوامر الاستحبابيّة الخارجة قطعاً عن تحت التحذير على مخالفته إن كانت أمراً حقيقة كان خروجها تقييداً وإلّا كان تخصّصاً، والثاني أولى من الأوّل.
ومنها: تمسّك بعضهم في الاُصول على القول بالصحيح بقوله تعالى: ﴿الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَر﴾، فإنّه مبتن على أولويّة التخصّص والتقيّد من التخصيص والتقييد، حيث يقال: إنّ الصلاة الباطلة الخارجة عن الناهية عن الفحشاء والمنكر قطعاً إن كانت صلاة حقيقة لزم التقييد وإلّا لزم التخصّص، والثاني أولى.
ومنها: ما يقال في الفقه في مسألة طهارة ماء الاستنجاء وعدمها، حيث إنّه ورد في ذلك بعض الأخبار، وذهب بعضهم إلى أنّه لا يدلّ في نفسه على طهارة ماء الاستنجاء وإنّما يدلّ على عدم لزوم الاجتناب عنه ولكن تثبت طهارة ماء
الاستنجاء بمسألة تقدّم التخصّص والتقيّد على التخصيص والتقييد؛ لأنّه لو قيل بنجاسته مع عدم لزوم الاجتناب عنه للزم تخصيص أدلّة لزوم الاجتناب عن النجس أو تقييدها، ولو قيل بطهارته كان خارجاً عن تلك الأدلّة تخصّصاً.
واُورد على ذلك بأنّه إن قلنا بطهارته استرحنا من تخصيص أدلّة الاجتناب عن النجس لكن لزم من ذلك تخصيص أدلّة تنجّس الماء القليل بملاقاة النجس، فدار الأمر بين تخصيص وتخصيص.
وأنت ترى أنّ أصل التقريب مع ردّه يكون مشياً على مسلك تقدّم التخصّص على التخصيص. ولذلك نظائر كثيرة في الفقه والاُصول.
وقد اختار المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) فيما نحن فيه عدم أولويّة التخصّص من التخصيص(1) بالرغم من أنّه استدلّ قبل ذلك في بعض الموارد على إثبات التخصّص بنفي التخصيص بأصالة العموم(2).
وأحسن ما يمكن أن يقال في مقام إثبات أولويّة التخصّص من التخصيص هو: أنّ قوله مثلاً: (يجب إكرام كلّ عالم) ينعكس بعكس النقيض إلى أنّ: (كلّ مَن لم
(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 352 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات الشيخ المشكينيّ.
(2) هذا إشارة إلى ما مضى منه في الكفاية ـ ص 45 من نفس الطبعة ـ من الاستدلال على الصحيح بالأخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواصّ والآثار للمسمّيات مثل: الصلاة عمود الدين، أو معراج المؤمن، والصوم جُنّة من النار ونحو ذلك ممّا نقطع بعدم ترتّبها على العمل الباطل. وهذا يعني أنّ الصلاة الباطلة خارجة عن هذه العمومات وكذلك الصوم الباطل مثلاً، إمّا تخصيصاً لو قلنا بكون هذه الأسامي أسامي للأعمّ، أو تخصّصاً لو قلنا بكونها أسامي للصحيح، فأصالة التخصّص تقتضي كونها أسامي للصحيح.
يجب إكرامه فهو ليس بعالم)، وصدق القضيّة مستلزم لصدق عكس نقيضها، والأمارات حجّة في إثبات لوازمها. فقد ثبت بذلك أنّ كلّ مَن لا يجب إكرامه فهو ليس بعالم، والمفروض أنّ زيداً لا يجب إكرامه فيثبت أنّه ليس بعالم.
ولكن الشيخ الخراسانيّ(رحمه الله) يرى أنّه مادام أنّ حجّيّة مثبتات الأمارات إنّما هي ببناء العقلاء فهي تتبع بناءهم، وبناؤهم غير ثابت في هذا المقام، فمهما ثبتت قضيّة كلّيّة من الشارع لم يبنوا على عكس نقيضها، ولا مانع من التفكيك بين المتلازمين فيما لم يكن ثبوت أحدهما بالوجدان بل كان بالتعبّد، ولذا يقع التفكيك بينهما في باب الاُصول العمليّة.
وذكر المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في مقام التعليق على كلام المحقّق الخراسانيّ(قدس سره): أنّ هذا الكلام ـ أعني: عدم ثبوت بناء العقلاء على إثبات اللازم فيما نحن فيه ـ مقبول لكنّه لابدّ من إرجاع ذلك إلى وجه يناسب ذوق العرف، فإنّ التفكيك بين المتلازمين في باب التعبّد وإن كان ممكناً لكن ذلك بنفسه ليس ممّا يساعد عليه العرف؛ لعدم بنائه على الدقّة. نعم، لا مانع من صدور ذلك من الشارع الحكيم في تعبّداته، فيعبّدنا بأحد المتلازمين بدون أن يعبّدنا بالمتلازم الآخر، ولذا وقع التفكيك بينهما في باب الاُصول العمليّة. وأمّا التعبّدات الثابتة من قِبل العرف في الأخذ بما يكشف عنه ظاهر الكلام فالتفكيك فيها بين المتلازمين من حيث هو غير صادر منهم؛ لعدم بنائهم على الدقّة والالتفات إلى نكتة الفرق بين هذا اللازم وذاك اللازم.
نعم، يمكن التفكيك بينهما بنكتة خاصّة عقلائيّة تناسب الذوق العرفيّ، وتلك النكتة هي عبارة عن أنّ العرف إنّما يتمسّك بظهور كلام المولى في قبال الشبهات الحكميّة وفهم الأحكام الكلّيّة الإلهيّة التي يكون المولى بصدد إيصالها، لا في قبال
الشبهات الموضوعيّة(1)، ولذا قلنا بعدم حجّيّة العامّ في الشبهة المصداقيّة وحجّيّته في الشبهة الحكميّة، فعين الوجه الذي اقتضى عدم حجّيّة العامّ في الشبهة المصداقيّة اقتضى أيضاً عدم حجّيّة العامّ فيما نحن فيه في إثبات أنّ زيداً ليس عالماً. هذا ما أفاده المحقّق العراقيّ(قدس سره)(2).
والتحقيق: أنّ هناك فرقاً بين المقام وبين التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، فإنّ الوجه في عدم حجّيّة العامّ في الشبهة المصداقيّة ـ على ما مضى بيانه ـ هو القطع بأنّ المولى بما هو جاعل للحكم ليس عالماً بحال هذا المصداق المشكوك حاله عندنا، ولا عبرة بعلمه بذلك بما هو علاّم الغيوب. وأمّا فيما نحن فيه فنحن غير قاطعين بعدم كون المولى بما هو جاعل عالماً بحال هذا الفرد؛ لأنّ المفروض أنّنا نحتمل أنّه إنّما جعل أصل الحكم المخالف للعامّ لهذا الفرد من باب علمه بخروج هذا الفرد تخصّصاً من تحت العامّ، وكذا الكلام فيما لو فرض موضوع المخصّص آل فلان مثلاً لا خصوص واحد، وهذا يعني احتمال أنّ المولى قد اطّلع بما هو جاعل على حال زيد أو حال آل فلان فجعل الحكم، فالملاك الثابت لعدم حجّيّة العامّ في الشبهات المصداقيّة غير ثابت فيما نحن فيه.
ثمّ إنّه بالإمكان التفصيل في المقام بين باب العموم وباب الإطلاق، فلو ثبت الحكم بالعموم أمكن نفي عنوان الخاصّ عن الفرد المشكوك بعكس النقيض للعامّ، أمّا لو ثبتت كلّيّة الحكم بالإطلاق وعلمنا بخروج فرد عن الحكم تقييداً أو
(1) التي قد يكون المولى أيضاً جاهلاً بها.
(2) راجع المقالات، ج 1، المقالة: 32، ص 451 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم.
تخصّصاً لم يكن بناء العقلاء على الأخذ بعكس النقيض، وليس ذلك من باب التفصيل بين المتلازمين بل من باب علمنا بأنّ أصل الإطلاق في هذا الفرض غير مقصود يقيناً بالقياس إلى الفرد الذي قطعنا بخروجه عن الحكم؛ لأنّ هذا الفرد إن لم يكن داخلاً تحت الموضوع رأساً فلا معنى لقصد المولى عدم دخل خصوصيّة في الحكم في قبال هذا الفرد، وإن كان داخلاً تحته لكنّه خارج عن الحكم تخصيصاً فهذا كاشف عن دخل خصوصيّة في الحكم في قبال هذا الفرد، وعلى أيّ حال لم يقصد المولى الإطلاق من هذه الناحية، وهذا غير مسألة التفكيك بين المتلازمين(1).
وقد اتّضح بكلّ ما ذكرناه: أنّه في خصوص باب العموم لا يبعد القول بكون التخصّص أولى من التخصيص.
وهذا بقطع النظر عمّا سيأتي ـ إن شاء الله ـ من أنّ مقتضى القاعدة عدم حجّيّة العمومات الصادرة عن الشارع رأساً، فنأخذ في الخروج عن هذه القاعدة بالقدر المتيقّن.
ثمّ إنّ دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص يتصوّر بشكلين:
الأوّل: ما بحثناه حتّى الآن من فرض العلم بخروج فرد مثلاً عن الحكم مع الشكّ في أنّه هل هو خارج عن تحت عنوان العامّ فخروجه يكون بالتخصّص، أو
(1) لا يخفى أنّ هذا الكلام غريب، فإنّنا نثبت الإطلاق ابتداءً في كلام المولى لا بالنظر إلى قياس الحكم بهذا الفرد، وإنّما بالنظر إلى أنّ ظاهر أخذ عنوان في موضوع الحكم من دون أخذ خصوصيّة اُخرى عدم دخل أيّ خصوصيّة اُخرى في الحكم، وهذا الأمر محتمل الصدق فنأخذ به، ولازم ذلك كون خروج زيد عن الحكم بالتخصّص لا بسبب دخل خصوصيّة زائدة على عنوان الموضوع في الحكم.
داخل تحت عنوان العامّ فيكون خروجه تخصيصاً كما لو قال: (أكرم كلّ عالم) وقال: (لا يجب إكرام زيد) وكان زيد فرداً مشخّصاً شككنا في علمه وجهله.
والثاني: أن يتردّد الخارج المذكور في الدليل الخاصّ بين فردين: أحدهما داخل تحت عنوان العامّ والآخر خارج عنه، كما لو قال: (أكرم كلّ عالم) وقال: (لا يجب إكرام زيد) أو قال: (لا تكرم زيداً) وكان لدينا شخصان مسمّيان بزيد: أحدهما عالم والآخر جاهل فلم نعرف مَن هو المقصود بزيد، فهنا أيضاً دار الأمر في الحقيقة بين التخصيص والتخصّص؛ إذ لو كان المقصود هو زيد العالم فخروجه تخصيص، ولو كان المقصود هو زيد الجاهل فخروجه تخصّص، فما هي الوظيفة في هذا الفرض؟
والكلام في ذلك يقع في مقامين:
المقام الأوّل: في أنّه هل يكون زيد العالم في هذا الفرض محكوماً بوجوب الإكرام أو لا؟ لا إشكال في أنّه محكوم بوجوب الإكرام؛ وذلك لأنّ المفروض دلالة العامّ على وجوب إكرامه، ولا شيء في قباله يوجب رفع اليد عنه إلّا قوله: (لا تكرم زيداً) والمفروض إجماله، ولا معنى لصيرورة المجمل معارضاً للمبيّن وموجباً لرفع اليد عنه.
وبكلمة اُخرى: إنّ العامّ بنفسه دالّ على شمول الحكم لزيد العالم، وقد شككنا في خروجه عن الحكم بالتخصيص، ومن الواضح أنّ المرجع عند الشكّ في خروج فرد من أفراد العامّ عن الحكم بالتخصيص هو العموم.
ولا يقاس ذلك بما مضى من فرض العلم بعدم وجوب إكرام زيد المشكوك علمه وجهله؛ إذ في ذلك الفرض كان خروج الفرد عن حكم العامّ مسلّماً وإنّما كان الشكّ في خروجه من موضوعه وعدمه، فكان ربّما يدّعى أنّ العامّ لا يدلّ على
خروجه من موضوعه. وأمّا فيما نحن فيه فالشكّ إنّما هو في خروج فرد العامّ عن حكمه وعدمه، ولا إشكال في أنّ المرجع في هذا الفرض هو العموم. نعم، لو كان قوله: (لا تكرم زيداً) متّصلاً بالعامّ لم يجز التمسّك بالعامّ؛ لاحتمال قرينيّة المتّصل، لكن ذلك خارج عن المبحث.
المقام الثاني: في أنّه هل يمكن أن يثبت بالعامّ ـ بعد ما مضى من الفراغ عن حجّيّته بالنسبة لزيد العالم ـ أنّ مراد المولى من (زيد) في قوله: (لا تكرم زيداً) هو زيد الجاهل أو لا ؟ ذهب المحقّق النائينيّ(قدس سره)(1) والسيّد الاُستاذ دامت بركاته(2)إلى الأوّل، وذلك لدلالة العامّ بالالتزام على أنّ مَن هو محرّم الإكرام هو زيد الجاهل؛ إذ المفروض أنّه دلّ على كون زيد العالم واجب الإكرام، ولا يعقل أن يكون إكرام زيد العالم واجباً وحراماً معاً، فيعلم أنّه إن كان أحدهما محرّم الإكرام ـ كما هو المستفاد من قوله: (لا تكرم زيداً) ـ فإنّما هو زيد الجاهل، فالعامّ في الحقيقة رافع لإجمال قوله: (لا تكرم زيداً).
ولا يخفى أنّ مبحث رفع إجمال المجمل بالمبيّن الذي يعارض أحد محتمليه مبحث سيّال وله صغريات كثيرة من أوّل الفقه إلى آخره ولا يختصّ بما نحن فيه من ورود عامّ وخاصّ مجمل، بل ربّما يفرض ورود النصّ على إكرام زيد العالم مثلاً وورود قوله على الإجمال: (لا تكرم زيداً)، فنقول: هل يمكن رفع إجماله بذلك النصّ أو لا ؟
(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 458 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).
(2) راجع محاضرات الفيّاض، ج 5، ص 243 بحسب طبعة دار الهادي بقم.
كما ربّما يفرض أيضاً كلا الكلامين مجملاً من جهة ومبيّناً من جهة اُخرى، فيرفع إجمال كلّ واحد منهما بالآخر، وذلك كما يقال في حديثين واردين في باب تحديد الكرّ بالوزن: أحدهما صحيحة محمّد بن مسلم(1)، والآخر مرسلة ابن أبي عمير(2)، دلّ الأوّل على أنّ الكرّ ستمئة رطل والثاني على أنّه ألف ومئتا رطل.
وتوضيح الكلام فيه: أنّ الرطل على ثلاثة أقسام: عراقيّ ومكّيّ ومدنيّ، والمكّيّ ضِعف العراقيّ، فألف ومئتا رطل عراقيّ يساوي ستمئة رطل مكّيّ، كما أنّهما مساويان لتسعمئة رطل مدنيّ؛ لأنّ الرطل المكّيّ يساوي رطلاً ونصفاً من الرطل المدنيّ، وعلى هذا فصحيحة محمّد بن مسلم تدلّ على أنّ الكرّ لا يكون أزيد من ألف ومئتي رطل عراقيّ، فإنّه إن كان المراد من الرطل فيها الرطل المكّيّ ساوى الكرّ ألف ومئتي رطل عراقيّ، وإن كان المراد منه غير ذلك كان أقلّ من ذلك المقدار، كما أنّ مرسلة ابن أبي عمير تدلّ على أنّ الكرّ لا يكون أقلّ من ستمئة رطل مكّيّ، فإنّه إن كان المراد من الرطل فيها الرطل العراقيّ الذي هو أخفّ الأرطال ساوى الكرّ ستمئة رطل مكّيّ، وإن كان المراد منه غير ذلك كان الكرّ أزيد من ذلك. إذن فمقتضى رفع إجمال كلّ منهما بالآخر حمل الصحيحة على الرطل العراقيّ والمرسلة على المكّيّ، وعليه فينبغي الكلام في أصل أنّه هل يمكن رفع إجمال أحد الحديثين بالدلالة الالتزاميّة للآخر أو لا ؟
(1) الوسائل، الباب 11 من الماء المطلق، ح 3، عن أبي عبدالله(عليه السلام): «والكرّ ستمئة رطل».
(2) المصدرالسابق، ح 1 عن أبي عبدالله(عليه السلام): «الكرّ من الماء الذي لا ينجّسه شيء ألف ومئتا رطل».
ولنتكلّم أوّلاً في المجمل الذي كان المبيّن معارضاً لأحد محتمليه لكي نرى هل يثبت محتمله الآخر بالدلالة الالتزاميّة أو لا، ويظهر الحال بعد ذلك بالنسبة للمجملين. فنقول:
تارة: نفترض أنّ دليلاً مّا كان مفاده أساساً هو الجامع بين حكمين ولم يكن يشر إلى أحدهما المعيّن عند الله والمردّد عندنا، والدليل المبيّن نفى أحد فردي الجامع، كما لو ورد ما يدلّ على أصل وجوب الصلاة لدى الزوال وورد دليل بلحاظ يوم الجمعة ينفي وجوب صلاة الظهر، ولا إشكال في أنّه يتعيّن هنا الفرد الآخر وهو في هذا المثال صلاة الجمعة، أو ورد دليل ينفي صلاة الجمعة فتثبت صلاة الظهر؛ إذ من الواضح أنّ ثبوت الجامع مع انتفاء أحد فرديه يلازم ثبوت الفرد الآخر، وهذا في الحقيقة خارج عمّا نحن فيه؛ لأنّ الدليل على الجامع ليس مجملاً.
واُخرى: نفترض أنّ الدليل مجمل أشار إلى فرد معيّن عند الله وإن كان مجهولاً عندنا كما في مثال: (لا تكرم زيداً)، فإنّه يشير إلى فرد معيّن اسمه زيد، ونحن لم نعرف هل كان مقصوده زيد العالم أو زيد الجاهل فقسنا ذلك إلى قوله: (أكرم كلّ عالم). وقد مضى أنّ المحقّق النائينيّ والسيّد الاُستاذ ذهبا إلى ثبوت الحكم الخاصّ متوجّهاً إلى زيد الجاهل ببركة الدلالة الالتزاميّة للعامّ(1).
والواقع هو: أنّنا تارة: نفترض القطع بإرادة الجدّ في قوله: (لا تكرم زيداً) وهنا يتمّ ما ذكراه؛ لأنّ حديث (لا تكرم زيداً) يدور أمره بين أن يكون كذباً، أو يكون
(1) لأنّ الشيخ النائينيّ(رحمه الله) بان على حجّيّة لوازم الأمارات، والسيّد الخوئيّ(رحمه الله) جعل حديثه فعلاً مبنيّاً على فرض حجّيّة لوازم الأمارات.
تقيّةً، أو يكون محرّماً لإكرام زيد العالم جدّاً، أو يكون محرِّماً لإكرام زيد الجاهل جدّاً، والأوّل منفيّ بوثاقة السند وحجّيّته، والثاني منفيّ بالقطع بالجدّ، والثالث منفيّ بحجّيّة العموم في (أكرم كلّ عالم)، فانحصر الأمر في الرابع وهو حرمة إكرام زيد الجاهل.
واُخرى: نفترض أنّ الجدّ في قوله: (لا تكرم زيداً) غير قطعيّ، كما لو افترضنا احتمال النهي عن إكرام زيد العالم الذي كان مخالفاً لمباني العامّة مثلاً تقيّة، وعندئذ نقول: لا مجال لإجراء أصالة الجدّ أو أصالة عدم التقيّة في قوله: (لا تكرم زيداً) لحمله على زيد الجاهل، فإنّ إجراءها بمعنى إثبات الجدّ أو عدم التقيّة تعبّداً يعني أنّ المدلول الاستعماليّ للكلام يكشف عن المراد الجدّيّ. إذن فهذا الأصل لا يمكن أن يعيّن المدلول الاستعماليّ؛ إذ ليس هو إلّا بمعنى أماريّة المدلول الاستعماليّ على الجدّ، فلابدّ أن نثبت أوّلاً أنّ المدلول الاستعماليّ هو حرمة إكرام زيد الجاهل حتّى تثبت بعد ذلك بأصالة الجدّ حرمة إكرامه، في حين أنّ هذا غير ثابت قبل أصالة الجدّ وعدم التقيّة، إذن فلا سبيل إلى حجّيّة أصالة الجدّ وعدم التقيّة في المقام(1).
(1) قد تقول: إنّ أصالة الجهة تبقى على حجّيّتها وتثبت على الإجمال حرمة إكرام أحدهما، وقد أصبح العامّ الدالّ على وجوب الإكرام مخالفاً لهذا العلم الإجماليّ في أحد طرفيه والبراءة مخالفة له في طرفه الآخر، فيتعارضان ويتساقطان.
والجواب يكون: إمّا ببيان: أنّ أصالة العموم لا تسقط بمعارضة الأصل؛ لكونها أمارة، ويختصّ أصل البراءة بالسقوط منعاً عن لزوم المخالفة القطعيّة، أو ببيان: أنّ أصل البراءة في كلا الطرفين موجود، والبراءة في كلا الطرفين من سنخ واحد، فيسقطان بثبوت الإجمال الداخليّ لدليل البراءة وتبقى أصالة العموم على حجّيّتها.
وقد اتّضح بهذا البيان الفرق الكامل بين ما لو كان الدليل دالّاً على الجامع وثبت انتفاء أحد فرديه فهنا يثبت الفرد الآخر بلا إشكال، وبين ما لو كان الدليل مجملاً بين معنيين وأصالة الجهة انصبّت لإثبات جدّيّة أحد المعنيين المعيّن عند الله والمردّد عندنا.
وإن أردت التوضيح بذكر مثال آخر قلنا: لو قامت البيّنة مثلاً على نجاسة أحد الإنائين وعلمنا بطهارة واحد معيّن منهما نعرفه، فإن كانت البيّنة تشهد بالجامع بين النجاستين فلا بأس بضمّ مفادها إلى العلم بطهارة واحد منهما بالخصوص لتثبت بذلك نجاسة الفرد الآخر، أمّا لو كان مدلول البيّنة نجاسة أحدهما بالخصوص لا الجامع بين النجاستين كما لو قال: (إنّ إناء زيد نجس) وكان إناء زيد معيّن عنده غير معيّن عندنا، ففي هذا الفرض لا تدلّ البيّنة بالالتزام ـ ببركة ضمّها إلى العلم بطهارة هذا الفرد ـ كون ذاك الفرد نجساً؛ وذلك لأنّ نجاسة ذاك الفرد ليست من لوازم البيّنة على كلّ تقدير؛ إذ لو كان مراد البيّنة في الواقع خصوص ما علمنا بطهارته لم تكن نجاسة ذاك الفرد ملازمة لنجاسة الآخر كما هو واضح، ففي هذا الفرض تسقط البيّنة عن الحجّيّة رأساً.
هذا في البيّنة، ويأتي عين ما ذكرناه في كلّ أمارة لم تنصبّ على الجامع، بل انصبّت على فرد معيّن عند الله احتملنا تشخّصه في الفرد الذي ثبت فيه خلاف مفاد تلك الأمارة.
وأصالة الجهة فيما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ مفادها جدّيّة المدلول الاستعماليّ المعيّن عند المتكلّم والمردّد عندنا بين ما ثبت خلافه وهو جدّيّة حرمة إكرام زيد العالم، وما لم يثبت خلافه وهو جدّيّة المراد الاستعماليّ الآخر وهو حرمة إكرام زيد الجاهل، وبهذا لا يمكن إثبات حرمة إكرام زيد الجاهل؛ إذ
ليس ذلك ملازماً لمفاد أصالة الجدّ على كلّ تقدير(1).
ولا يتوهّم وقوع المعارضة بين أصالة الجدّ في الخاصّ وأصالة الجدّ في العامّ، فإنّ المنافاة بينهما غير معلومة؛ لاحتمال صدق كلتيهما، بأن يكون مراد المتكلّم من الخاصّ هو خصوص الفرد الجاهل، فيبقى العامّ على حجّيّته بالنسبة إلى زيد العالم؛ لعدم معلوميّة مزاحم له، فأصالة الجهة تجري في العامّ بلا إشكال وتصير حاكمة على أصالة الجهة في الخاصّ؛ لأنّها توجب العلم تعبّداً بخطأ أصالة الجهة في الخاصّ على أحد التقديرين، والمفروض عدم تماميّة الدلالة الالتزاميّة حتّى نأخذ بالتقدير الآخر، فتسقط أصالة الجهة في الخاصّ عن الحجّيّة رأساً.
وما ذكرناه يجري في جميع موارد رفع إجمال أحد الدليلين بمبيّنيّة الدليل الآخر إلّا ما كان من قبيل ما مضى من مثال الكرّ الذي لا يمكن قياسه بما نحن فيه؛ لثبوت الدلالة الالتزاميّة على جميع التقادير، فإنّ حديث ستمئة رطل يدلّ ـ على جميع محتملاته الثلاثة ـ على عدم كون الكرّ أزيد من ألف ومئتي رطل عراقيّ، وحديث ألف ومئتي رطل يدلّ ـ على جميع محتملاته الثلاثة ـ على عدم كون الكرّ أقلّ من ستمئة رطل مكّيّ.
هذا تمام الكلام بالنسبة لحمل المجمل على المبيّن.
(1) قد أبطل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) هذا الكلام في تقريرالسيّد الهاشميّ ـ حفظه الله ـ في الجزء الثالث من بحوث في علم الاُصول ـ ص 446 ـ بأنّ هذا الإشكال غير تامّ رغم أنّنا كنّا نبني عليه سابقاً؛ وذلك لأنّ الظهور في الجدّيّة وعدم التقيّة صفة مضافة إلى نفس الكلام لا إلى المدلول الاستعماليّ له، بمعنى أنّ الدالّ على الجدّيّة وعدم التقيّة إنّما هو ظهور حال المتكلّم في أنّ كلامه الذي يتكلّم به ليس فارغاً وتقيّة، لا أنّ المدلول عليه هو نفس المدلول الاستعماليّ ليقال: إنّه مردّد بين ما ثبت بطلانه وما هو غير محرز الثبوت.
الكلام في العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص
الجهة الرابعة: في جواز الأخذ بالعمومات والإطلاقات الواردة في الأحكام قبل الفحص عن المخصّص وعدمه.
يمكن أن يستدلّ على عدم جواز ذلك باُمور:
الأوّل: الإجماع.
وبما أنّ من المحتمل كون مدركه بعض ما ذكروه من الوجوه يكون ذلك الإجماع في قوّة تلك المدارك، فلابدّ من النظر فيها ولا يصحّ الاستدلال بنفس الإجماع.
الثاني: الأخبار التي يستدلّ بها لوجوب الفحص في الشبهات الحكميّة وعدم جواز الرجوع قبله إلى البراءة.
والتحقيق: عدم تماميّة الاستدلال بها فيما نحن فيه بما لها من الألسنة المختلفة وإن استدلّ السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بتلك الأخبار.
واستدلّ المحقّق العراقيّ(قدس سره) ببعضها، حيث إنّه(قدس سره) ذكر خصوص ما سنذكره من الطائفة الأخيرة في مقام الاستدلال على المقصود، ولا يبعد أن يكون ذلك من باب المثال، بأن يكون مقصوده الاستدلال بمطلق الأخبار التي يستدلّ بها على وجوب الفحص في باب البراءة. وعلى أيّ حال فالأخبار الدالّة على وجوب الفحص على طوائف عديدة:
منها: ما ورد بلسان الأمر بالتعلّم والتفقّه(1).
(1) راجع الكافي، ج 1، الباب الأوّل من كتاب فضل العلم.
وأنت ترى أنّه لا يتمّ الاستدلال بذلك على المدّعى فيما نحن فيه، فإنّه إنّما يدلّ على وجوب الفحص فيما نحن فيه بعد الفراغ عن عدم حجّيّة العامّ قبل الفحص، فيدلّ على أنّه إن لم يكن العامّ حجّة قبل الفحص لم يجز للإنسان الجلوس في بيته وعدم التعلّم والتفقّه. وأمّا لو فرض حجّيّة العامّ قبل الفحص فهذا بنفسه يُثبِت للإنسان العلم والفقه، فله أن لا يفحص عن المخصّص ويجلس في بيته، لا بأن يترك العمل رأساً بل بأن يعمل بالعامّ، فإنّه يصدق عليه بعد فرض حجّيّة العامّ أنّه تَعَلَّمَ وتفقَّه، فالتمسّك بذلك في إثبات عدم حجّيّة العامّ قبل الفحص عن المخصّص دوريّ.
ومنها: ما ورد بلسان الذمّ على ترك السؤال، كما ورد في مَن غسّل مجدوراً أصابته جنابة فكزّ فمات: قتلوه، ألا سألوا ؟ ألا يمّموه؟!(1).
وهذا أيضاً ـ كما ترى ـ حاله حال سابقه، فإنّه بناءً على حجّيّة العامّ قبل الفحص لو اُوْرِد على المكلّف الآخذ به: أنّه لماذا لم يسأل عن الحكم فسيقول: بأ نّي سألتُ فاُجبتُ بالعامّ وكان العامّ حجّة لي.
ومنها: ما ورد بلسان هلاّ تعلّمت؟ كما ورد: من أنّه يقال للعبد يوم القيمة: هل علمت؟ فإن قال: نعم، قيل: فهلاّ عملت، وإن قال: لا، قيل له: هلاّ تعلّمت حتّى تعمل؟(2).
(1) الوسائل، ب 5 من التيمّم، ح 1.
(2) روى في البحار عن مجالس المفيد بسند صحيح عن مسعدة بن زياد قال: «سمعت جعفر بن محمّد(عليه السلام)وقد سُئل عن قول الله عزّوجلّ (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَة﴾ فقال: إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلّمت حتّى تعمل. فيخصمه وذلك الحجّة البالغة». البحار، ج 1، ص 178.
وهذا أيضاً ـ كما ترى ـ كسابقيه؛ إذ لو كان العبد عمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص وفرض حجّيّته يكون له أن يجيب بأ نّي تعلّمت العامّ وكان حجّة فعملت به.
والخلاصة: أنّ الاستدلال بأخبار وجوب الفحص المستدلّ بها في باب البراءة على المدّعى فيما نحن فيه دوريّ.
الثالث: العلم الإجماليّ بوجود المخصّصات والمقيّدات لعمومات الكتاب والسنّة ومطلقاتها.
وقد اُورد على ذلك بأمرين:
الأوّل: أنّ الفحص ليس رافعاً لأثر العلم الإجماليّ، أعني: عدم جواز العمل بالعامّ؛ وذلك لأنّه بعد الفحص والظفر بمقدار من المخصّصات بحسب إمكاننا لا يحصل لنا القطع بعدم وجود مخصّص آخر لم نجده، بل من المحتمل أن يكون لباقي العمومات مخصّص لم يصلنا، فباقي العمومات لم يسقط بعدُ عن طرفيّته للعلم الإجماليّ.
والجواب: أنّا كما نعلم إجمالاً بوجود مخصّصات في الواقع أعمّ ممّا وصلتنا وما لم تصل، كذلك نعلم إجمالاً بوجود مخصّصات في الكتب الأربعة مثلاً، وعدد المعلوم بالعلم الإجماليّ الثاني مساو لعدد المعلوم بالعلم الإجماليّ الأوّل، وهذا مرجعه ـ لا محالة ـ إلى العلم الإجماليّ بوجود المخصّصات في الكتب الأربعة والشكّ البدويّ بوجود مخصّص آخر عدا المعلوم إجمالاً في الواقع، فالعلم الإجماليّ الأوّل ـ لا محالة ـ منحلّ بالعلم الإجماليّ الثاني، نظير ما لو علمنا إجمالاً بوجود نجس واحد بين ألف إناء وعلمنا إجمالاً بوجود نجس واحد بين قسم معيّن منها، فإنّ العلم الإجماليّ الكبير ينحلّ ـ لا محالة ـ بالعلم الإجماليّ الصغير كما سيأتي تفصيله ـ إن شاء الله ـ في مبحث العلم الإجماليّ.
الثاني: ما ذكره المحقّق الخراسانيّ(قدس سره): من أنّ العلم الإجماليّ بوجود المخصّصات لا يقتضي وجوب الفحص إلّا بمقدار الظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال، فيلزم عدم وجوب الفحص بعد الظفر بهذا المقدار(1).
وهذا الإشكال متين لا مناقشة فيه.
إلّا أنّ المحقّق العراقيّ(قدس سره) لم يقبله؛ وذلك لأنّ مبناه في باب انحلال العلم الإجماليّ بالعلم التفصيليّ إنّ العلم التفصيليّ لا يحلّ حقيقةً العلم الإجماليّ إلّا مع فرض القطع بأنّ ما علمه إجمالاً هو عين ما علمه تفصيلاً، وإلّا فليس انحلال العلم الإجماليّ بالعلم التفصيليّ حقيقيّاً وإنّما يكون انحلاله به حكميّاً، والانحلال الحكميّ يختصّ بما إذا كان العلم التفصيليّ ثابتاً من أوّل حدوث العلم الإجماليّ، من باب أنّ العلم الإجماليّ لا يمكنه أن يبعث بالتنجيز في دائرة يكون بعض أطرافها بقدر المعلوم بالإجمال منجّزاً بالعلم التفصيليّ، ويرى أنّ هذا الانحلال الحكميّ مختصّ بما إذا كان هذا التنجيز الثاني معاصراً لأوّل زمان حدوث ذاك العلم الإجماليّ، ولكن فيما نحن فيه يكون العلم التفصيليّ بسبب الفحص متأخّراً عن العلم الإجماليّ، وبعد أن أثّر العلم الإجماليّ في تنجيز الأطراف ليس يرتفع أثره بسبب طروّ العلم التفصيليّ في بعض الأطراف(2).
وقد أورد(رحمه الله) عين هذا الإشكال على ما اُجيب به عن شبهة الأخباريّين في
(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 353 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.
(2) راجع المقالات، ج 1، المقالة: 33، ص 455 ـ 456 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم.