المتيقّن هو تقيّد الواجب بالوقت مادام متمكّناً، فبعد زوال الوقت يتمسّك بإطلاق دليل الواجب لإثبات الوجوب.
ويرد عليه: أنّ هذا التبعيض في التقييد إنّما يُعقل بالنسبة إلى فرض تعدّد المكلّفين، بأن وجب الصلاة على الكلّ ودلّ دليل مقيِّد على تقيّد الصلاة بالجهر، وكان القدر المتيقّن من هذا التقييد هو صلاة الرجال مثلا، فهنا يتمسّك في صلاة النساء بإطلاق دليل الواجب، حيث إنّ الحكم الواحد هنا انحلاليّ، فقد قيّد بلحاظ الرجال دون النساء.
وواقع المطلب: أنّ الواجب يصبح هو الجامع بين صلاة جهريّة رجاليّة وصلاة إخفاتيّة نسائيّة. أمّا إذا لوحظ مكلّف واحد اُريد إثبات وجوب المقيّد عليه حدوثاً ووجوب المطلق عليه بقاءً ـ كما في المقام ـ فهذا يعني تعدّد الجعل والوجوب، بينما لا يدلّ دليل الواجب إلاّ على جعل واحد ووجوب واحد، والمركّب الارتباطيّ إذا سقط بعض أجزائه أو شرائطه ـ بعجز أو غيره ـ وبقى الباقي واجباً فهذا وجوب جديد لا محالة؛ إذ يستحيل بقاء وجوب الباقي مع سقوط ما سقط؛ لأنّ المفروض أنّه ارتباطيّ.
إذن فانحصر الأمر بالفرض الرابع. نعم، يبقى كلام في أنّه بعد انتهاء الوقت هل يمكن إثبات وجوب ذات العمل بالاستصحاب أو لا؟ وهذا بحث تعرّضنا له في بعض تنبيهات الاستصحاب، فلا حاجة إلى التعرّض له هنا.
الأوامر
الفصل الثاني عشر
الاحتمالات في المقصود من الأمر بالأمر:
الأمر بالأمر يوجد فيه عدّة احتمالات:
الاحتمال الأوّل: أن يكون مقصود المولى من ذلك أمر العبد الثاني بالفعل مع أمر العبد الأوّل بإيصال هذا الأمر إليه. وهذا وإن كان في الحقيقة خارجاً عن حقيقة الأمر بالأمر، لكنّه احتمال عرفيّ معقول في كلام المولى حينما يقول لعبده الأوّل: اُؤمر فلاناً يفعل كذا.
وبناءً على هذا الاحتمال يجب على العبد الثاني أن يفعل ذلك الفعل ولو لم يصله أمر المولى عن طريق العبد الأوّل؛ فإنّ كلام المولى في الحقيقة ينحلّ إلى أمرين عرضيّين: أحدهما متوجّه إلى العبد الثاني وهو الأمر بالفعل. والآخر متوجّه إلى العبد الأوّل وهو إيصال هذا الأمر بالفعل إلى العبد الثاني.
الاحتمال الثاني: أن يكون مقصود المولى حقيقةً هو الأمر بالأمر، إلاّ أنّ أمره للعبد الأوّل بأمر العبد الثاني لم يكن على وجه الموضوعيّة بل كان طريقاً لحصول الفعل من العبد الثاني، وهذا يستفاد منه عرفاً بالدلالة الالتزاميّة ـ لا بانحلال الدلالة المطابقيّة كما في الاحتمال الأوّل ـ أمر العبد الثاني بالفعل، فيجب عليه الفعل ولو لم يصله هذا الأمر عن طريق العبد الأوّل.
الاحتمال الثالث: أن يكون مقصوده هو الأمر بالأمر بنحو الموضوعيّة، بأن كان الملاك كامناً في أمر العبد الأوّل لا في فعل العبد الثاني، وهنا وجوب العمل على
العبد الثاني يبتني على استظهار نكتة عرفاً من أمر المولى عبده الأوّل بأن يأمر العبد الثاني، وهي أن يقال: إنّ هذا ظاهرٌ عرفاً في منح مقام الآمريّة والولاية للعبد الأوّل على العبد الثاني، فإن تمّت هذه النكتة عرفاً وجب على العبد الثاني أن يأتي بذلك الفعل، مع فرقين بين هذا الاحتمال والاحتمالين السابقين: أحدهما: أنّه إنّما يجب عليه الفعل لو أمره العبد الأوّل، بينما في الاحتمالين السابقين يجب عليه الفعل مطلقاً. والثاني: أنّه إنّما يجب عليه الفعل في هذا الفرض من باب كونه إطاعةً للعبد الأوّل، بينما في الاحتمالين السابقين كان يجب عليه الفعل لا بهذا العنوان.
الاحتمال الرابع: أن يكون غرض المولى كامناً في مجموع أمر العبد الأوّل وفعل العبد الثاني، وذلك بأحد شكلين:
الأوّل: أن يكون المجموع المركّب من أمر العبد الأوّل وفعل العبد الثاني دخيلا في حصول الغرض، بأن يكون كلّ واحد منهما ركنين عرضيّين لما هو متّصف بالملاك. وعليه فيجب على العبد الثاني الفعل لو صدر الأمر من العبد الأوّل؛ إذ لو لم يصدر منه الأمر لما أفاد هذا الفعل؛ لعدم كفايته وحده في حصول الغرض، ولو صدر منه الأمر كان هذا الفعل مفيداً في حصول الغرض والملاك. وبما أنّ هذا الملاك كان إلزاميّاً موجباً لإيجاب المولى الركن ـ وهو أمر العبد الأوّل ـ فالمستظهر عرفاً بالملازمة هو وجوب الركن الثاني أيضاً.
الثاني: أن يكون أمر العبد الأوّل ذا ملاك ويكون من شرط اتّصاف فعل العبد الثاني بالملاك، فأيضاً يجب على العبد الثاني الفعل لو أمره العبد الأوّل(1).
(1) فإنّه بناءً على أن يُستظهر من الأمر بالأمر ثبوت الملاك في الفعل ـ ولو بأن يكون نفس الأمر موجباً لاتّصاف الفعل به ـ تكون لهذا الأمر دلالة التزاميّة عرفيّة على كونه بمرتبة إلزام العبد الثاني بالفعل.
المستظهر عرفاً من بين الاحتمالات:
والمستظهر عرفاً من بين هذه الاحتمالات إنّما هو أحد الاحتمالين الأوّلين، فإنّه إن لم نقل: إنّ الظاهر عرفاً من الأمر بالأمر كونه أمراً موجّهاً إلى العبد الثاني رأساً مع أمر العبد الأوّل بإيصاله إليه، فلا أقلّ من استظهار كونه أمراً بالأمر طريقاً إلى حصول الفعل من العبد الثاني، فيجب على العبد الثاني الفعل ولو لم يصله الحكم من طريق العبد الأوّل(1).
(1) ذكر السيّد الخوئيّ(رحمه الله) ـ على ما في تقرير الشيخ الفيّاض ـ ثمرةً للبحث في المقام، وهي ثبوت شرعيّة عبادات الصبيّ بمثل ما ورد من قولهم(عليهم السلام): «مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين».
أقول: لو قَصد بمشروعيّة عبادة الصبيّ مجرّد كونها محبوبة لله ولو بملاك التمرين فهذا ممّا لا كلام فيه. وإنّما الكلام الفقهيّ يدور حول كون صلاة الصبيّ كصلاة البالغ في الملاك والآثار ما عدا الوجوب.
ولو قَصد بمشروعيّته كونها كصلاة البالغ حتّى يترتّب على ذلك مثلا جواز الاقتداء به ـ بغضّ النظر عن روايات الاقتداء بالصبيّ المتعارضة ـ وجواز نيابته وتبرّعه عن الغير ـ بناءً على القول بانصراف إطلاق دليل النيابة والتبرّع إلى من تكون عباداته مشروعة. أمّا بناءً على الإطلاق وعدم الانصراف فلا حاجة في تصحيح النيابة والتبرّع إلى إثبات مشروعيّة عباداته ـ وعدم وجوب الإعادة والاستيناف على الصبيّ إذا بلغ في أثناء الوقت بعد انتهائه من الصلاة أو في أثناء الصلاة، أقول: لو قصد بمشروعيّة عباداته شيئاً من هذا القبيل فبحث دلالة الأمر بالأمر على مأموريّة العبد الثاني بالعمل لا يدلّ على ذلك؛ إذ غاية ما يدلّ عليه كون فعل العبد الثاني مأموراً به أو محبوباً، وهذا ينسجم في المقام مع
←
فرض كونه مأموراً به أو محبوباً بملاك التمرين لا بنفس ملاكات صلاة البالغ.
ولا بأس بهذه المناسبة أن أتكلّم عمّا إذا بلغ الصبيّ في أثناء الوقت بعد الصلاة أو في أثنائها. فقد يقال بعدم وجوب الإعادة والاستيناف؛ وذلك بدعوى: أنّ تقييد الهيئة بالبلوغ لا يستلزم تقييد المادّة به، بناءً على أنّ فعليّة الوجوب لا تسقط بالامتثال وإنّما تسقط فاعليّته. فمقتضى إطلاق المادّة أنّه إذا بلغ في أثناء الوقت فقد وجب عليه مطلق الصلاة فيما بين الحدّين وقد أتى بها، فلا فاعليّة لهذا الوجوب من حين تكوّنه، ونحن نؤمن بأنّ تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادّة فيما إذا لم يتصوّر معنى معقول لانسحاب الوجوب على تلك الحصّة من المادّة المقترنة بفقدان القيد، وذلك كما في فرض عدم البلوغ إلى انتهاء الوقت.
وتوضيح المقصود: أنّه تارةً نفترض أنّ الوجوب أو مفاد الأمر يدخل في حقيقته قابليّة التحريك، بمعنى أن يكون محرّكاً لكلّ من هو مستعدّ للامتثال. وعليه فتقييد الهيئة يسري إلى المادّة دائماً ولا يمكن عدم السراية؛ إذ لو لم يسر إليها وأتى العبد بالمادّة قبل حصول القيد، كان إطلاق المادّة مساوقاً لفقدان الأمر لفاعليّته من حين وجوده، وهذا خلف كون التحريك أو قابليّة التحريك داخلا في حقيقة مفاد الأمر وهويّته. وبناءً على هذا فمقتضى القاعدة عدم اجتزاء الصبيّ إذا بلغ في أثناء الوقت بصلاته قبل بلوغه.
واُخرى نفترض أنّ الداخل في حقيقة الأمر هو عبارة عن قابليّته للتحريك على تقدير عدم كون العبد قد أتى بالفعل قبل الأمر. وعلى هذا فمتى ما كان عدم سراية قيد الهيئة إلى المادّة موجباً لسقوط الأمر عن قابليّة التحريك، حتّى على تقدير عدم كون العبد قد أتى بالفعل قبل الأمر، فلا محالة يسري القيد إلى المادّة، وذلك كما في فرض عدم البلوغ إلى انتهاء الوقت، فإنّه لو بلغ بعد ذلك في خارج الوقت لم يكن الأمر بالصلاة السابقة قابلا
←
لتحريكه حتّى على تقدير عدم إتيانه بالفعل قبل الأمر.
وهذا بخلاف ما لو بلغ في أثناء الوقت، فإنّ أمره بالصلاة مع عدم سريان قيد الهيئة ـ وهو البلوغ ـ إلى المادّة قابلٌ لتحريكه على تقدير عدم إتيانه بالفعل قبل الأمر، فإذا اكتفينا بهذا المقدار من قابليّة التحريك في حقيقة الأمر تأتّى القول بسقوط الصلاة عمّن صلّى ثُمّ بلغ في أثناء الوقت، وعدم وجوب الاستيناف عليه لو بلغ في أثناء الصلاة.
إلاّ أنّ هذا الكلام لو صحّ ثبوتاً ـ أي: صحّ القول بكفاية هذا المقدار من قابليّة التحريك في حقيقة الأمر ـ فلا ينبغي الإشكال في ظهور الأمر عرفاً في كون المطلوب صلاة جديدة غير ما صلاّها سابقاً في فرضين:
الأوّل: لو كان الأمر بالصلاة متوجّهاً بنحو القضيّة الخارجيّة إلى من يعلم المولى أنّه قد صلّى قبل هذا الأمر.
الثاني: لو لم يحدّد المولى للفعل المأمور به وقتاً خاصّاً كما لو قال: (إذا بلغت فصلّ)أو (إذا استطعت فحجّ)، فلا إشكال في ظهور ذلك في وجوب صلاة وحجٍّ بعد البلوغ والاستطاعة ولو صلّى أو حجّ قبل ذلك، وهذا يعني أنّ سريان القيد من الهيئة إلى المادّة في هذا الفرض عرفيّ على أقلّ تقدير.
نعم، لو حدّد المولى وقت العمل بفترة كان بعضها واقعاً قبل تحقّق القيد، فقد يدّعى عدم ظهور الأمر في إرادة خصوص الفرد الذي يتحقّق بعد القيد، وذلك كما هو الواقع بالنسبة للصلاة التي حدّد وقتها بما بين الحدّين، فإذا بلغ في الأثناء فقد وقع بعض الوقت قبل البلوغ، فلو استظهرنا في هذا الفرض إطلاق المادّة لم يجب على الصبيّ الإعادة. ولو قلنا بالإجمال أيضاً لم يجب عليه الإعادة؛ وذلك لجريان البراءة مع فرض الإجمال.
ثُمّ إنّ السيّد الخوئيّ(رحمه الله) ذكر ـ على ما في تقرير الشيخ الفيّاض ـ: أنّه لا يمكن إثبات
←
شرعيّة عبادة الصبيّ بعموم أدلّة التشريع، بدعوى: أنّ حديث رفع القلم ـ باعتباره امتنانيّاً ـ إنّما رفع الإلزام والوجوب، فأصل المحبوبيّة باقية على حالها؛ وذلك لأنّ الاعتبار المستفاد من الأمر بعد أن ارتفع بحديث الرفع لم يبق ما نستكشف به المشروعيّة والمحبوبيّة، فهذا يحتاج إلى دليل جديد.
أقول: إنّ هذا الكلام في غاية المتانة بناءً على مبنانا من كون الوجوب مفاداً للأمر. أمّا على مبناه من أنّ الأمر إنّما يدلّ على مطلق اعتبار الفعل في ذمّة المكلّف، وأنّ الوجوب ينتزعه العقل لو لم يقترن الأمر بالترخيص في الخلاف، فمن المحتمل كون هذا الرفع الامتنانيّ ناظراً إلى رفع الوجوب دون رفع أصل الاعتبار.
ولا يقال: إنّ الوجوب غير قابل للرفع باعتباره غير شرعيّ بحسب الفرض.
فإنّه يقال: إنّ الوجوب قابل للرفع بإفناء منشأ انتزاعه، ومنشأ انتزاعه عبارة عن مجموع أمرين: أحدهما الأمر بالفعل، والثاني عدم الترخيص في الخلاف. والقدر المتيقّن هو إفناء الثاني، فنتمسّك بإطلاق دليل الأمر في إثبات أصل المشروعيّة والمحبوبيّة مع الجزم بعدم الوجوب.
فإن قلت: إنّ التعبير برفع القلم ينصرف إلى رفع قلم التشريع، والمشرَّع إنّما هو الأمر لا الوجوب على ما هو المفروض من أنّ الوجوب أمر ينتزعه العقل.
قلت: كون المشرَّع إنّما هو الأمر وعدم كون الوجوب مشرَّعاً وإن كان صحيحاً فلسفيّاً وعقليّاً بحسب مبنى السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، ولكن يُفترض عرفاً الوجوب كأنّه شيء جاء من قِبَل الشريعة، وكأنّ القلم كتب الوجوب علينا عن طريق مجموع أمرين: أحدهما الأمر، والثاني عدم الترخيص، ويكون التعبير عن رفع الوجوب برفع القلم عرفيّاً ومعقولا.
إذا كرّر الأمر بشيء مع وحدة الشروط فهل يحمل على التأكيد، فلا يأتي العبد بالفعل إلاّ مرّة واحدة، أو على التأسيس، فيأتي العبد بالفعل مرّتين؟
ذكر صاحب الكفاية(رحمه الله): أنّه يقع التعارض بين ظهور الهيئة وظهور المادّة؛ فإنّ الهيئة ظاهرة في وجوب جديد، بينما المادّة بإطلاقها تقتضي كون الواجب هو ذات الطبيعة لا بقيد مرّة اُخرى، ويستحيل اجتماع أمرين على ذات الطبيعة، فهذا يوجب التأكيد. والنتيجة في المقام هي الحمل على التأكيد تطبيقاً لظهور المادّة؛ لأنّ الهيئة حينما تكرّرت بشكل متماثل ـ والتكرار المتماثل يناسب التأكيد ـ أصبحت(1) مجملة من حيث التأسيس والتأكيد، فيرجع إلى ظهور المادّة في كون المأمور به ذات الطبيعة، فيثبت التأكيد.
أقول: إنّ تحقيق الكلام في هذا المقام هو أنّ هيئة الأمر إنّما تدلّ على الوجوب، ولا تدلّ على أنّ هذا الوجوب تأسيس لا تأكيد؛ فإنّها لم توضع لخصوص وجوب لم يُكشَف قبل ذلك، ولهذا لو أمر شخص عبده بشيء كان قد أمره به قبل ذلك لأجل التأكيد لم يكن ذلك استعمالا مجازيّاً. نعم، قد يقال بدلالة سياقيّة وحاليّة للمتكلّم ـ بلحاظ حال المتكلّم ـ على كونه في مقام التأسيس
(1) يقول صاحب الكفاية(رحمه الله): أصبحت ظاهرة في التأكيد، ولعلّ مقصوده أنّها تفسَّر بظهور المادّة.
لا التأكيد، وذلك حينما يصدر من المتكلّم كلام مشتمل على جملتين، والجملة الثانية تنسجم مع معنى تأسيسيّ ومع تأكيد نفس الجملة الاُولى، وكانت نسبتها إليهما على حدّ سواء، فحينئذ يقال: إنّ الكلام ظاهر في التأسيس بدلالة سياقيّة؛ لأنّ التأكيد حالة استثنائيّة.
وهذا الكلام لا يمكن تطبيقه على المقام، فإنّ الأمر الثاني إمّا أن يُذكر متّصلاً بالأمر الأوّل بحيث يمكن عطفه عليه بالواو، أو يذكر منفصلا عنه، فإن ذُكر منفصلا عنه لم يكن له ظهور في التأسيس في مقابل الأمر الأوّل باعتبار ذلك الظهور الحاليّ؛ وذلك لأنّ ظهور حال المتكلّم إنّما هو التأسيس بلحاظ كلام واحد لا بلحاظ كلامين. وهذا ثابت في المقام، فإنّ هذا الأمر بلحاظ هذا الكلام تأسيس وليس تأكيداً.
وإن ذُكر متّصلاً به فإن عطفه عليه بالواو كان نفس العطف بالواو قرينة على التأسيس. وإن لم يعطفه عليه بالواو كان نفس عدم العطف بالواو قرينة عرفاً على التأكيد، حيث إنّ هذا اُسلوب متّبع عند العرف للتأكيد، وهو ذكر ما يناسب كونه تأكيداً لما سبق وترك العطف، ومتى ما كان كذلك يحمل عرفاً على التأكيد.
فقد تحصّل في المقام: أنّ الصحيح هو الحمل على التأكيد.
مباحث الألفاظ
3
وفيه فصول:
النواهي
الفصل الأوّل
ويقع البحث فيها من جهات:
مفاد صيغة النهي:
الجهة الاُولى: في مفاد صيغة النهي.
قد اشتهر في لسان جملة من الاُصوليّين: أنّ النهي والأمر مفادهما الطلب، إلاّ أنّ الأمر هو طلبٌ للفعل والنهي طلبٌ للترك.
وقد اشتهر في لسان جملة من المتأخّرين رفض كون الفرق بين الأمر والنهي في المتعلّق مع اتّحادهما في أصل معنى الطلب، وقالوا: إنّ هناك تبايناً بين مفادي الأمر والنهي غير راجع إلى اختلاف المتعلّقين.
وبإمكاننا تصنيف كلمات الرافضين لكون النهي كالأمر إلى ثلاث كلمات: الاُولى ما نسبه السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ إلى مشهور المعترضين على الرأي السابق. والثانية رأي السيّد الاُستاذ نفسه. والثالثة كلمتنا في المقام:
أمّا الكلمة الاُولى: فهي عبارة عن أنّ الأمر يدلّ على طلب الطبيعة والتحريك نحوها، والنهي يدلّ على الزجر عن الطبيعة والتبعيد عنها.
وهذا الكلام إن كان المقصود به مجرّد الإتيان بفرضيّة معقولة اُخرى في قبال ما قالوه: من أنّ مفاد النهي كالأمر هو الطلب وأنّ الفرق في المتعلّق، فهو أمر معقول كما سيتّضح، ولكنّه غير مشتمل على البرهان على المقصود. وإن كان المقصود به الاستدلال على رفض كون مفاد النهي هو الطلب، فلا يوجد في هذا المقدار من البيان دليل على ذلك، إلاّ إذا قصد الاستدلال بالوجدان العرفيّ واللغويّ، وهو صحيح إضافةً إلى ما سيأتي إن شاء الله من المنبّهات لهذا الوجدان.
والسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ علّق على هذا الرأي بأنّ هذا غير معقول؛ لأنّه إن قُصد بالتحريك والزجر التحريك والزجر التكوينيّان الحاصلان بمثل اليد، فمن الواضح عدم دلالة الأمر والنهي عليهما. وإن قُصد بهما التحريك والزجر التشريعيّان، فالأمر بنفسه تحريك تشريعيّ، والنهي بنفسه زجر تشريعيّ، فإنّ المولى بما هو مولى يحرّك بالأمر، ويزجر بالنهي، فلا معنى لافتراض أنّ الأمر يدلّ على التحريك، والنهي يدلّ على الزجر، بل هما مصداقان للتحريك والزجر، فيجب أن يكون مدلولهما شيئاً آخر به يتحقّق التحريك والزجر.
أقول: كأنّ هذا الكلام انسياق مع مبانيه ـ دامت بركاته ـ في الوضع، حيث ذهب إلى أنّ الوضع عبارة عن التعهّد، وتفرّع على ذلك القول بأنّ الوضع هو منشأ الدلالة التصديقيّة الموجودة في الجملة التامّة، وعليه يقال في المقام: إنّ الأمر والنهي لو كان مدلولهما اللغويّ التحريك والزجر كان معنى ذلك أنّ الأمر والنهي يدلاّن دلالة تصديقيّة على التحريك والزجر، أي: إنّها يكشفان عن التحريك والزجر، في حين أنّهما لا يكشفان عن التحريك والزجر التكوينيّين كما هو واضح، ولا التشريعيّين؛ لأنّهما بنفسهما مصداق للتحريك والزجر التشريعيّين لا كاشف عنهما.
أمّا على ما هو المشهور المختار من كون الوضع موجباً للدلالة التصوريّة فحسب، وأمّا الدلالة التصديقيّة فهي وليدة السياق وحال المتكلّم ومناسبات الحكم والموضوع، فمادّة الأمر والنهي تدلّ دلالة تصوريّة على معنى اسميّ، وهيئتهما تدلّ على النسبة التي هي معنى حرفيّ، أي: تدلّ على النسبة التحريكيّة التكوينيّة والنسبة الزجريّة التكوينيّة، بمعنى إخطار ذلك في الذهن لا الكشف(1)،
(1) مضى منّا في بحث مفاد هيئة الجمل: أنّ مفاد هيئة الأمر والنهي عبارة عن نسبة بعثيّة أو زجريّة تامّة ذات ثلاثة أطراف: الباعث أو الزاجر من ناحية، والمبعوث أو المزجور من ناحية اُخرى، والمبعوث إليه أو المزجور عنه من ناحية ثالثة، فراجع.
ثُمّ نحن نعرف بمناسبة الحكم والموضوع وبلحاظ حال المتكلّم أنّ الأمر كان بداعي التحريك التشريعيّ، والنهي كان بداعي الزجر التشريعيّ. وهذه فرضيّة معقولة لصالح اختلاف النهي عن الأمر في المفاد من دون فرض فرق في المتعلّق.
وأمّا الكلمة الثانية ـ وهي ما ذكره السيّد الاُستاذ دامت بركاته ـ: فهي أنّ الأمر يدلّ على اعتبار الفعل في ذمّة المكلّف، والنهي يدلّ على اعتبار حرمان المكلّف عن الفعل وابتعاده عنه، لا على اعتبار تركه في ذمّته، والشاهد على ذلك ـ بناءً على مسلك العدليّة من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ـ أنّ الأمر يتبع مصلحة في الفعل، فالمناسب هو اعتبار الفعل في الذمّة؛ لأنّ مركز الغرض هو الفعل. والنهي يتبع مفسدة في الفعل، فالفعل هو مركز الملاك والمبغوضيّة وليس الترك هو مركز الغرض، فالمناسب هو اعتبار حرمان المكلّف عن الفعل دون اعتبار الترك في ذمّته.
أقول: أمّا أصل كون مدلول الأمر والنهي هو الاعتبار بغضّ النظر عن أنّ متعلّق الاعتبار هل هو الترك أو الحرمان من الفعل، فهذا منسجم أيضاً مع مسلك كون الدلالة التصديقيّة مدلولا وضعيّاً للكلام. وقد مضى في محلّه توضيح أنّ المدلول الوضعيّ للأمر والنهي ليس هو الاعتبار وإن كان قد يُستظهر الاعتبار بدلالة سياقيّة وحاليّة. وهناك بعض الشواهد على ذلك، من قبيل: أنّ فكرة الاعتبار فكرة معقّدة لا تنسجم مع الدلالة الوضعيّة للأمر والنهي التي هي أبسط وأوضح تصوّراً بكثير من ذلك، وأنّ صيغة الأمر كما تصدر من العالي إلى الداني كذلك تصدر من الداني إلى العالي، فنحن نقول: (يا ربّنا اغفر لنا)، في حين أنّه لا يخطر ببالنا افتراض جعل شيء في ذمّة الله تعالى أو اعتباره فيها، فغاية الأمر أنّ الاعتبار وجعل الشيء في ذمّة المأمور به قد يستكشف من سياق وظهور حال ومناسبات، لا أنّ ذلك داخل في المدلول اللغويّ للأمر والنهي.
وأمّا الاستدلال على كون مفاد النهي هو اعتبار الحرمان من الفعل لا اعتبار الترك بمذهب العدليّة، فيرد عليه:
أوّلا: أنّنا نتكلّم في الوضع اللغويّ الثابت قبل تكوّن الإسلام ووجود أشاعرة وعدليّة، فما معنى الاستدلال على المدلول الوضعيّ بمذهب العدليّة؟!
وثانياً: فلتكن النواهي تابعة لمفسدة في الفعل، فالمولى يهدف للتوصّل إلى نقيض تلك المفسدة، وهذا كما يمكن باعتبار الحرمان كذلك يمكن باعتبار الترك في ذمّة المكلّف، فليس هذا دليلا على أنّ مفاد النهي هو اعتبار الحرمان من الفعل دون اعتبار الترك.
وغاية ما يمكن أن يقال هي: دعوى كون اعتبار الحرمان أنسب في المقام، ولكن متى صارت الأنسبيّة في الوضع دليلا على تعيين الوضع؟! فلعلّ الواضع ـ مثلا ـ لم يكن ملتفتاً إلى هذه الأنسبيّة التي التُفت إليها في المقام.
وأمّا الكلمة الثالثة: فهي أنّ ما ذُكر في الكلمة الاُولى من أنّ النهي يختلف عن الأمر في أنّ الأمر يدلّ على طلب الفعل والنهي يدلّ على الزجر عن الفعل، مطلب صحيح، وتوضيحه: أنّ النهي له مادّة وله هيئة، ومادّته تدلّ على الطبيعة، وهيئته تدلّ على النسبة الزجريّة. كما أنّ الأمر تدلّ مادّته على الطبيعة وهيئته على النسبة التحريكيّة، هذا بلحاظ الدلالة التصوّريّة. وأمّا بلحاظ الدلالة التصديقيّة الناشئة من ظهور الحال ومناسبات الحكم والموضوع، فالأمر يكشف عن داعي التحريك، والنهي يكشف عن داعي الزجر والمنع.
فعلى كلا المستويين ـ أعني: مستوى الدلالة التصوّريّة والتصديقيّة ـ يكون الفرق بين الأمر والنهي هو الفرق بين الطلب والزجر. ويدلّ على ذلك الوجدان العرفيّ واللغويّ، وهناك بعض المنبّهات لهذا الوجدان:
منها: أنّنا لو قلنا: إنّ النهي يدلّ على الزجر عن الطبيعة كان مدلول النهي مؤتلفاً
من عنصرين: عنصر اسميّ وهو الطبيعة، وعنصر حرفيّ وهو النسبة الزجريّة الثابتة بين الزاجر والمنزجر والطبيعة. وكذلك في نفس صيغة النهي يوجد عنصران يقابل كلّ منها واحداً من عنصري المدلول، وهما المادّة والهيئة، فالمادّة تدلّ على المعنى الاسميّ وهي الطبيعة، والهيئة تدلّ على المعنى الحرفيّ وهي النسبة الزجريّة.
أمّا لو فرضنا أنّ النهي يدلّ على طلب ترك الطبيعة، فإضافةً إلى عنصر الطبيعة التي تدلّ عليها المادّة، وعنصر النسبة الطلبيّة التي تدلّ عليها الهيئة يوجد عنصرٌ ثالث وهو الترك، وهو بحاجة إلى دالّ:
فإن فُرض الدالّ عليه أمراً ثالثاً غير المادّة والهيئة، فلا يوجد لدينا أمر ثالث غيرهما. وإن فُرض الدالّ عليه المادّة، فإن كان المفروض دلالة المادّة على الترك من باب الاستعمال، فمن أوضح الواضحات أنّ مادّة الصلاة في (لا تصلّ) مثلا لا تستعمل في ترك الصلاة. وإن كان المفروض دلالتها على الترك من باب الفناء والمرآتيّة، فأيضاً من الواضح أنّ الطبيعة إنّما تفنى في أفرادها الوجوديّة لا في عدمها.
وإن فُرض الدالّ عليه الهيئة كان معنى ذلك أنّ الهيئة تدلّ على معنى حرفيّ، وهي النسبة الطلبيّة مع طرفها الاسميّ وهو الترك، وهذا ممّا لا يُعهد في الحروف والهيئات.
أضف إلى ذلك: أنّ الترك منسوب ـ بنسبة ناقصة ـ إلى الطبيعة، وهذه النسبة الناقصة أيضاً بحاجة إلى دالّ عليها، إلاّ أن يقال: إنّ نفس تلك الهيئة دالّة عليها، وهذا يعني أنّ تلك الهيئة قد دلّت على نسبتين مع معنى اسميّ كان طرفاً لإحداهما، وهذا غريب في أوضاع الحروف والهيئات.
ومنها: أنّه قد ينهى عن الترك فيقال: (لا تترك)، فلو كان مفاد النهي عبارة عن طلب ترك الطبيعة لكان معنى (لا تترك): اترك الترك، في حين أنّنا لا نحسّ عرفاً
في (لا تترك) بحزازة تعليق الترك بالترك المحسوسة عرفاً في: (اترك الترك).
ومنها: أنّ (لا تفعل) صيغة للنهي وكلمة النهي مادّة له، أي: إنّنا لا نشكّ بحسب فهمنا العرفيّ أنّ هيئة النهي تدلّ على نفس معنى مادّة النهي بفرق: أنّ الاُولى في صياغة حرفيّة والثانية في صياغة اسميّة، فمادّة النهي ـ كما في: (نهيتك) ـ إن كانت دالّة على طلب الترك صحّ أن تكون هيئة النهي أيضاً دالّة على النسبة الطلبيّة، في حين أنّه لا ينبغي توهّم كون مادّة النهي معناها طلب الترك.
وينبّه على ذلك: أنّ مادّة النهي تتعدّى بـ (عن) فيقال: (النهي عن شرب الخمر) مثلا، بخلاف الطلب أو طلب الترك، فلا يقال مثلا: (طلب الترك عن شرب الخمر).
الشموليّة في إطلاق النهي والبدليّة في إطلاق الأمر:
الجهة الثانية: في كون الإطلاق في النهي شموليّاً انحلاليّاً وفي الأمر بدليّاً.
قد ذكر المشهور: أنّ الأمر يدلّ على طلب الطبيعة بنحو الإطلاق البدليّ، ولكن إطلاق النهي يكون شموليّاً انحلاليّاً.
ومن هنا يقع الكلام في أنّه كيف اختلف الإطلاق في النهي منه في الأمر، فصار في النهي شموليّاً وفي الأمر بدليّاً، في حين أنّ الدالّ على الإطلاق في كليهما واحد وهو مقدّمات الحكمة؟
وقد ذكر السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ(1) في تفسير ذلك: أنّ الفرق ينشأ من مقدّمة عقليّة خاصّة، وأمّا ذات مقدّمات الحكمة فنتيجتها في كلّ الموارد واحدة، وهي جامع الإطلاق من دون تعيين كونه شموليّاً أو بدليّاً، فالشموليّة والبدليّة إنّما تفهم دائماً من مقدّمة خاصّة اُخرى.
فمثلا في متعلّق الأمر من قبيل قوله: (صلّ) توجد ثلاثة احتمالات: كون الواجب هو صِرف وجود الصلاة على شكل الإطلاق البدليّ، وكونه كلّ الصلوات على شكل الإطلاق الشموليّ، وكونه مجموعة معيّنة من الصلوات كعشرين صلاةً في عشرين بيتاً مثلا. والاحتمال الثالث منفيّ بمقدّمات الحكمة المشتركة في الإطلاقين الشموليّ والبدليّ؛ لأنّ خصوصيّة تلك المجموعة بحاجة إلى البيان ولم يبيّن، والمفروض أنّه بصدد البيان، فيبقى الأمر دائراً بين الاحتمالين الأوّلين.
وهنا يأتي دور المقدّمة الفعليّة المعيّنة للاحتمال الأوّل، وهي: أنّ إيجاب كلّ الصلوات على المكلّف غير معقول؛ لأنّه غير قادر على الإتيان بكلّ الصلوات
(1) راجع المحاضرات للفيّاض، ج 4، ص 97 - 114.