293

 

خلاصة الكلام في تصوير الوجوب التخييريّ:

وخلاصة الكلام(1) في تصوير الوجوب التخييريّ: أنّ مناسبة شكل الوجوب التخييريّ مع المورد تختلف باختلاف الموارد، ففي مورد تعدّد الملاك ـ بأن يكون في كلّ واحد من العِدلين ملاك مستقلّ ـ يناسب جعل وجوبين كلّ واحد منهما مشروط بترك الآخر. وفي مورد وحدة الملاك يناسب جعل وجوب واحد على الجامع، فالحقّ مع صاحب الكفاية(رحمه الله) إلاّ أنّه فرض الجامع في صورة وحدة الملاك جامعاً حقيقيّاً دائماً.

وتظهر الثمرة بين هذين التحليلين للوجوب التخييريّ في درجة وضوح جريان البراءة وخفائه عند الشكّ في كونهما تعيينيّين أو تخييريّين؛ إذ بناءً على إرجاعه إلى وجوبين مشروطين يكون الشكّ في التكليف الزائد، وهو وجوب


(1) تارةً نتكلّم عن حقيقة الواجب التخييريّ في مرحلة روح الحكم، أعني: الحبّ والبغض. واُخرى نتكلّم عن حقيقته في مرحلة الجعل والاعتبار.

أمّا في مرحلة المبادئ أو روح الحكم فإن كان الملاك في الجامع رجع إلى حبّ الجامع أو حبّ كلّ واحد منهما مشروطاً بترك الآخر. وإن كان الملاك في كلّ واحد منهما مستقلاّ عن الآخر:

فإن كان المانع عن إيجابهما معاً عدم إمكان تحصيل كلا الملاكين رجع أيضاً إلى حبّ كلّ واحد منهما مشروطاً بترك الآخر، أو حبّ الجامع. وقد عرفت في الأبحاث الماضية أنّ حبّ شيء مشروطاً بشيء يرجع إلى حبّ الجامع بينه وبين عدم الشرط.

وإن كان المانع مصلحة التسهيل رجع إلى حبّ كليهما مع حبّ التسهيل.

وأمّا في مرحلة الجعل والاعتبار فعلى أيّ شكل يُفرض الملاك يُعقل جعل الوجوب على الجامع، ويُعقل جعل الوجوب على كلّ واحد منهما مشروطاً بترك الآخر.

294

الصوم في فرض العمل بالعتق مثلا وبالعكس، فتجري البراءة بلا إشكال. وبناءً على إرجاعه إلى وجوب الجامع فقد يشكل جريان البراءة؛ للعلم الإجماليّ بوجوب الصوم بعنوانه أو عنوان أحد الفعلين، وإن كان الصحيح انحلال هذا العلم الإجماليّ حكماً؛ لجريان البراءة عن أشدّهما مؤونة وهو الوجوب التعيينيّ، وعدم جريانها عن أخفّهما مؤونة على ما نقّحناه في محلّه، فليست البراءة عن الوجوب التعيينيّ مبتلاة بالمعارض.

 

295

 

التخيير بين الأقلّ والأكثر:

بقي الكلام في التخيير بين الأقلّ والأكثر، فهل هو معقول بعد الفراغ عن معقوليّة أصل الوجوب التخييريّ أو لا؟ وقد عرفت أنّ الوجوب التخييريّ يتصوّر بأحد شكلين، إمّا بإيجابين كلّ واحد منهما مشروط بترك الآخر، أو بإيجاب الجامع بين الفعلين، فهل كلا التصويرين أو أحدهما يأتي في تصوير التخيير بين الأقلّ والأكثر أو لا؟

ووجه الاستشكال في خصوص التخيير بين الأقلّ والأكثر: أنّه إن كان الواجب تدريجيّاً فبعد الإتيان بالأقلّ قد حصل الغرض وتمّ الامتثال، فأيّ مجال يبقى لوجوب الزائد؟! وإن كان دفعيّاً ـ كدوران الأمر بين وجوب التصدّق بدرهم والتصدق بدرهمين دفعة واحدة ـ قلنا: إنّ الوجوب الضمنيّ للزائد ولو بنحو التخيير غير معقول؛ إذ الزائد يجوز تركه لا إلى بدل، وذلك بأن يقتصر على الأقلّ، فما معنى وجوبه؟ فإنّ وجوب الشيء لابدّ أن يكون إمّا بنحو لا يجوز تركه أصلا كما في الوجوب التعيينيّ، أو لا يجوز تركه إلاّ إلى بدل كما في الوجوب التخييريّ.

وقد ذكر المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) تصويراً للتخيير بين الأقلّ والأكثر راجعاً إلى افتراض إرجاعه إلى الجامع وهو: أنّ الطبيعيّ الذي له فردان فرد طويل وفرد قصير، قد يكون الملاك قائماً بهذا الطبيعيّ بلا فرق بين أن يوجد في ضمن هذا الفرد أو ذاك، فهنا لا محالة يتعلّق الأمر بالجامع بين كلا الفردين المنطبق على تمام هذا الفرد تارةً وتمام الفرد الآخر اُخرى.

وقد ذكر تلميذه المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) في شرح كلام اُستاذه: أنّ هذا مبنيٌّ على التشكيك الخاصّيّ في الوجود ببيان: أنّ كلّ فردين من الطبيعيّ إذا كان يتراءى إلى الذهن أنّ الفارق بينهما من سنخ جهة الاشتراك، كما في العدد القليل والكثير؛

296

حيث يُرى أنّ الكثير يختلف عن القليل بالعدد الذي هو جهة الاشتراك، يوجد في تحقيق حال ذلك عدّة مسالك:

الأوّل: إرجاع الفارق إلى فارق عَرَضيّ، من قبيل الفرق بالعلم والجهل أو السواد والبياض ونحو ذلك، بأن يقال: إنّ كون هذا العدد ثلاثة أو أربعة ـ مثلا ـ من عوارض العدد، وهذان الفردان يختلفان في هذا العارض.

الثاني: التسليم بكون الفارق جوهريّاً إلاّ أنّه مع ذلك يلتزم بالتشكيك العامّي، وهو كون ما به الامتياز غير ما به الاشتراك، فيُفرض أنّ ثلاثة وأربعة ـ مثلا ـ مشتركان في الجنس ومختلفان في الفصل، فالفرق بينهما إنّما هو بلحاظ الفصل.

الثالث: الالتزام بالتشكيك الخاصّيّ، بمعنى أنّ ما به الامتياز عين ما به الاشتراك. ويوجد في داخل هذا المسلك مشربان:

الأوّل: إرجاع هذا التشكيك الخاصّيّ إلى أصل الماهيّة والمفهوم، فالخطّ الطويل ـ مثلا ـ أجدر وأولى بكونه خطّاً من الخطّ القصير، ويكون دخوله تحت مفهوم الخطّ أشدّ وأولى منه. وهذا ما قال به الشواذّ من أصحاب مسلك التشكيك الخاصّيّ.

والثاني: إرجاع هذا التشكيك إلى الوجود لا الماهيّة، بأن يقال: إنّ الخطّ الطويل لا يختلف في خطّيّته ومفهوم الخطّ عن الخطّ القصير، لكنّ الخطّ الطويل أشدّ وجوداً وأولى بالوجود منه في القصير.

فإن بنينا على المسلك الأوّل ـ وهو كون الفارق عرضيّاً ـ فلا مجال لما ذكره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)في المقام؛ إذ لو فُرض الملاك كامناً في طبيعة الماهيّة الجامعة بين الأقلّ والأكثر، دون الفارقين العَرَضيّين اللذين بهما الامتياز، إذن لم ينطبق الواجب على كلّ من الأقلّ والأكثر بتمامه؛ لأنّ أقلّيّته وأكثريّته إنّما هي بأمر عَرَضيّ لا نصيب له من الملاك والوجوب، فلم يكن هذا تخييراً بين الأقلّ والأكثر.

297

وإن فُرض الملاك كامناً في المايزين ـ وهما العَرَضان ـ لزم صدور الواحد من الكثير، وهذا ما لا يقبله المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله).

وإن بنينا على المسلك الثاني ـ وهو كون الفارق جوهريّاً وكونه فصلاً ـ قلنا أيضاً: إنّ الملاك لو كان قائماً بالجنس لم ينطبق الوجوب على كلّ واحد من الفردين بما هما أقلّ وأكثر، وإن كان قائماً بالفصلين لزم صدور الواحد من الكثير.

وإن بنينا على المسلك الثالث ـ وهو التشكيك الخاصّيّ ـ فإن اُرجع ذلك إلى التشكيك في الماهيّة قلنا: إنّ فرض تأثير الماهيّة بكلتا حصّتيها المشكّكتين في ملاك واحد لا ينسجم مع مشرب: (أنّ الواحد لا يصدر إلاّ من واحد). وإن اُرجع ذلك إلى التشكيك في الوجود صحّ ما ذكره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من افتراض أنّ الملاك قائم بالطبيعة الموجودة في ضمن أيّ واحد من الفردين، المنطبقة على تمام هذا الفرد وتمام ذاك الفرد، ولا ينافي ذلك كون الواحد لا يصدر إلاّ من واحد؛ فإنّ المقصود من ذلك: الوحدة الماهويّة، والمفروض أنّ التشكيك في الوجود لا في الماهيّة. هذا ما يُستفاد من كلام المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) في مقام شرح مرام اُستاذه.

ولا يرد على هذا التصوير الذي ذكره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) ـ وهو تعلّق الوجوب بالطبيعة المنطبقة على كلّ واحد من الفردين ـ: أنّ الأقلّ موجود في ضمن الأكثر فيلغو الزائد؛ فإنّ مقصوده(رحمه الله) هو أنّ هذه الطبيعة تؤثّر في ضمن أيّ فرد مستقلّ لها، والأقلّ الذي هو في ضمن الأكثر ليس فرداً مستقلاًّ بل الفرد حينئذ هو الأكثر.

وبهذا يتّضح أنّه لا حاجة في مقام تكميل هذا التصوير ـ فيما إذا كان كلّ من الأقلّ والأكثر فرداً مستقلاًّ للطبيعة ـ إلى افتراض إضافة شرط على الأقلّ، بأن يجعل بشرط لا عن الزائد لكي يرجع إلى التصوير الثاني الذي سوف ننقله عن

298

صاحب الكفاية(رحمه الله). وبذلك يصبح هذا وجهاً مستقلاًّ عن التصوير الثاني الآتي عنه.

نعم، يوجد لنا حول هذا التصوير كلامان:

الكلام الأوّل: أنّ الوجوب التخييريّ بناءً على هذا التصوير ينحلّ إلى وجوب ضمنيّ لذات الأقلّ ووجوب ضمنيّ للجامع بين حدّ الأقلّ والزائد، بينما هذا الوجوب الضمنيّ لا يقبل التحريك إلى شيء جديد؛ إذ هل يحرّك نحو ذات الطبيعة بغضّ النظر عن استقلالها في الوجود الذي قالوا لا يكون في المتحرّك إلاّ بعد تماميّة الحركة، أي: إنّه قبل تماميّة الحركة لم يتمّ وجودها الكامل، أو يحرّك إلى استقلالها؟

أمّا الأوّل فهو حاصل بالأمر الضمنيّ الأوّل. وأمّا الثاني ـ وهو الاستقلال ـ فهو شيء قهريّ يتحقّق لا محالة بعد فرض الإتيان بأصل الطبيعة؛ إذ هذا الذي يخطّ بجرّ القلم على الورق ـ مثلا ـ لا يبقى يجرّ القلم إلى الأبد، بل سوف يقف إلى حدٍّ لا محالة.

إلاّ أنّ هذا الإشكال إن كان وارداً(1) فإنّما يرد فيما لو لم يعيّن مقدار محدّد من الوقت للواجب، أمّا لو عيّن ذلك بأن قال مثلا: يجب عليك الإتيان بفرد مستقلّ من أفراد الخطّ في دقيقة واحدة، فالأمر الضمنيّ الثاني يكون أثره التحريك نحو إيجاد الاستقلال في ذاك الوقت المحدّد؛ إذ لو لا هذا الأمر كان من المحتمل أنّ العبد يبقى مستمرّاً في جرّ القلم إلى ما بعد انتهاء هذا الوقت المحدّد. إذن فيبقى لنا مورد يمكن تخريج التخيير بين الأقلّ والأكثر فيه بهذا النحو.


(1) لعلّه إشارة إلى أنّ هذا الإشكال يمكن دفعه أيضاً بما يستدفع به الكلمة الاُولى، على ما سيأتي قريباً من التصوير الثاني من تصويري الآخوند(رحمه الله) للتخيير بين الأقلّ والأكثر.

299

الكلام الثاني: أنّ هذا التصوير إنّما يتصوّر إذا كان الأكثر بتمامه فرداً واحداً مستقلاًّ من أفراد الطبيعة كالأقلّ، أمّا إذا لم يكن كذلك بل كان الأكثر عبارة عن أفراد متعدّدة من تلك الطبيعة، كما في مثال التخيير بين تسبيحة واحدة وثلاث تسبيحات، فلا يأتي فيه هذا البيان؛ فإنّ الواجب وهو الإتيان بفرد مستقلّ يحصل بتسبيحة واحدة، والباقي لا مبرّر لوجوبه ولو تخييراً.

وقد التفت المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)إلى هذا النقص في هذا التخريج، فتداركه بذكر تصوير آخر لتخريج التخيير بين الأقلّ والأكثر يسري إلى مثل موارد التسبيحة الواحدة وثلاث تسبيحات ممّا يكون الزائد فيه عبارة عن فرد إضافيّ، وهو إضافة شرط إلى جانب الأقلّ، أعني: شرط عدم الزائد، فالواجب هو الجامع بين الأقلّ بشرط لا والأكثر.

ولا ينبغي الإيراد على صاحب الكفاية(رحمه الله) بأنّ هذا ليس تخييراً بين الأقلّ والأكثر بل بين المتباينين؛ لأنّ بشرط لا مباين لبشرط شيء؛ فإنّ المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) أجلّ شأناً من أن يخفى عليه هذا الشيء، وهو لم يقصد تصوير التخيير بين الأقلّ والأكثر بمعناه الدقيق، وإنّما قصد الإتيان بفرضيّة معقولة لتفسير ما يتعارف خارجاً وقوعه في الفقه ممّا يسمّى بالتخيير بين الأقلّ والأكثر.

ولنا حول هذا التصوير الذي ذكره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) ثلاث كلمات:

الكلمة الاُولى: أنّ الوجوب التخييريّ بهذا المعنى ينحلّ إلى وجوب ضمنيّ لذات الأقلّ، ووجوب ضمنيّ للجامع بين بشرط لا والزائد، بينما وقوع هذا الجامع بعد فرض أصل الإتيان بذات الأقلّ ممّا لابدّ منه، فإنّه إمّا أن يأتي بالزائد أو لا، فلا مجال للأمر بذلك ولو ضمنيّاً.

إلاّ أنّ هذا الكلام إن تمّ فإنّما يتمّ فيما لو لم يوجَد شقّ ثالث يخالف شرط العدم والزيادة معاً، أمّا لو وُجد مثل ذلك كما لو وجب إمّا الإتيان بتسبيحة واحدة

300

بشرط لا عن الزيادة، أي: بشرط أن لا يضاف إليها تسبيح آخر ولو كانت تسبيحة واحدة، وإمّا الإتيان بثلاث تسبيحات، ففي هذا الفرض لا يرد هذا الإشكال؛ إذ لو لا الأمر الضمنيّ بالجامع بين بشرط لا والزيادة كان بالإمكان أن يختار العبد ذلك الشقّ الثالث، وهو الإتيان بتسبيحتين.

الكلمة الثانية: أنّه بناءً على مسلك المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من (أنّ الواحد لا يصدر إلاّ من واحد) يقال في المقام: إنّ الملاك هل هو كامن في الجامع بين الأقلّ والأكثر الذي يكفي في تحقّقه ذات الأقلّ، أو أنّه تتدخّل في تحقيق الملاك، ـ ولو ضمناً ـ خصوصيّة عدم الزيادة مع خصوصيّة الزيادة، فعلى الأوّل رجع الإشكال جذعاً، وعلى الثاني لزم صدور الواحد من اثنين.

الكلمة الثالثة: أنّه لو كانت خصوصيّة عدم الزيادة مع خصوصيّة الزيادة دخيلتين في الملاك، فلئن لم نؤمن بقاعدة (أنّ الواحد لا يصدر من اثنين) فلا أقلّ من الايمان بـ (أنّ الواحد لا يصدر من نقيضين، أعني: من وجود الشيء وعدمه)، بينما هذا معناه كون الزيادة بوجودها دخيلة في الملاك وبعدمها دخيلة في الملاك أيضاً.

إلاّ أنّه يمكن دفع الإشكال الثاني والثالث بافتراض فرضيّة لا يرد عليها هذان الإشكالان، وهو أن يفرض أنّ الملاك يكمن في الجامع، أي: إنّ الجامع هو المولّد للملاك، ولكن ذاك الشقّ الثالث الذي فرضناه في الكلمة الاُولى، أعني: كون عدد التسبيحة اثنين يفرض مانعاً عن تأثير الجامع، فلا محالة يخيّره المولى بين تسبيحة واحدة وثلاث تسبيحات.

نعم، يبقى في المقام استبعاد هذه الفرضيّة خارجاً إلى حدّ الاطمئنان بالعدم، فنحن لا نتصوّر افتراض كون عدد التسبيحة اثنتين مانعاً عن تحقّق الملاك.

وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه: أنّ التخيير بين الأقلّ والأكثر في مثل تسبيحة

301

واحدة وثلاث تسبيحات بناءً على وحدة الملاك وإرجاع الحكم إلى إيجاب الجامع إنّما يُعقل بشرطين:

1 ـ أن يكون هناك شقّ ثالث مشتمل على ذات الأقلّ مع فقدانه لكلٍّ من شرط الزيادة وشرط العدم، لكي لا يرد عليه ما ذكرناه في الكلمة الاُولى.

2 ـ أن يُفرض أنّ الملاك يكمن في الجامع، وأنّ ذاك الشقّ الثالث يشكّل مانعاً عن تأثير ذاك الجامع.

هذا كلّه بناءً على افتراض ملاك واحد وإرجاع الوجوب التخييريّ إلى وجوب الجامع.

أمّا بناءً على افتراض ملاكين وإرجاع الوجوب التخييريّ إلى وجوبين مشروطين، فالتخيير بين الأقلّ والأكثر بكلا التصويرين اللذين ذكرهما المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) ـ من كون المطلوب الفرد المستقلّ أو جعل الأقلّ بشرط لا ـ معقول وخال عن كلّ الإشكالات الثلاثة:

أمّا الإشكال الأوّل ـ وهو تعلّق الوجوب بما لابدّ منه خارجاً ـ فمن الواضح عدم وروده هنا؛ إذ عندنا وجوبان: أحدهما متعلّق بالأقلّ على شرط أن لا يأتي بالأكثر، ومن الواضح أنّ من لا يأتي بالأكثر قد لا يأتي بالأقلّ أيضاً، فهذا الوجوب يحثّه نحو الإتيان بالأقلّ. وثانيهما متعلّق بالأكثر على شرط أن لا يأتي بالأقلّ بحدّه الأقلّيّ. ومن الواضح أنّ من لا يأتي بالأقلّ بحدّه الأقلّيّ قد لا يأتي بالأكثر أيضاً، فهذا الوجوب يحثّه نحو الإتيان بالأكثر.

وأمّا الإشكال الثاني والثالث ـ وهما لزوم صدور الواحد من اثنين أو من نقيضين ـ فمن الواضح أيضاً عدم ورودهما في المقام؛ لأنّنا قد افترضنا ملاكين مختلفين لا ملاكاً واحداً.

هذا تمام الكلام في الوجوب التخييريّ.

303

 

الأوامر

الفصل العاشر

الوجوب الكفائيّ

 

 

 

 

305

 

 

 

 

 

قد وقع الإشكال أيضاً في تصوير الوجوب الكفائيّ من قبيل الإشكال الذي وقع في تصوير الوجوب التخييريّ، حيث يقال: إنّه كيف يجتمع الوجوب مع جواز الترك؛ إذ الواجب الكفائيّ يجوز تركه على كلّ واحد من المكلّفين عند إتيان الآخرين به.

ولتحقيق حال الوجوب الكفائيّ ندرس أربع فرضيّات:

1 ـ فرض تعلّق الوجوب بجميع المكلّفين بأن يكون على كلّ واحد منهم وجوب مستقلّ.

2 ـ فرض تعلّق الوجوب بمجموع المكلّفين بأن يكون هناك وجوب واحد متعلّق بالمجموع.

3 ـ فرض تعلّق الوجوب بالجامع بين المكلّفين، أو بكلمة اُخرى: يكون الوجوب متوجّهاً إلى صرف الوجود.

4 ـ فرض عدم الموضوع لهذا الوجوب بأن يجب ـ مثلا ـ تحقّق غسل الميّت من دون أن يكون هذا الحكم متوجّهاً إلى أحد من المكلّفين.

والوجوب الكفائيّ يتمتّع بثلاث خصائص مفروغ عنها فقهيّاً وعقلائيّاً:

الأوّل: أنّه لو أتى به واحد سقط عن الباقين.

الثاني: أنّه لو تركه الجميع عمداً عوقب الجميع.

الثالث: أنّه لو كان الفعل قابلا للتكرار من قِبَل أشخاص متعدّدين مع التقارن،

306

فأتى به عديدون متقارنين كانوا ممتثلين، فلا يقال: إنّه مادام الفعل قد قام به عديدون، إذن لم يتحقّق الامتثال. ولو لم يكن قابلا للتكرار ـ كقتل حيوان مفترس مثلا ـ ولكن تعاون على فعله عديدون إلى أن حقّقوه بمجموعهم كانوا أيضاً ممتثلين، فلا يقال: مادام الفعل قد تعاون عليه عديدون ولم يستقلّ به واحد لم يحصل الامتثال.

فكلّ فرضيّة من الفرضيّات الأربع يجب أن ندرسها على هُدى هذه الخصائص الثلاث، أي: يجب أن نرى في كلّ فرضيّة من هذه الفرضيّات ـ بعد فرض معقوليّتها في نفسها ـ أنّها هل تفي بهذه الخصائص الثلاث أو لا، فنقول:

أمّا الفرضيّة الاُولى ـ وهي: تعلّق الوجوب بالجميع ـ: فتصويرها يكون بإحدى صيغ أربع:

الصيغة الاُولى: أن يكون على عهدة كلّ واحد من المكلّفين بنحو الوجوب المطلق أن يُؤتى بالفعل بنحو المبنيّ للمفعول، أي: أن يجب على كلّ واحد منهم أن يغسَّل الميّت ـ مثلا ـ لا أن يغسِّله. وبتعبير آخر: يجب على كلّ واحد منهم تحقّق الجامع بين فعله وفعل الآخرين.

وقد ذكرنا في بحث التعبّديّ والتوصّليّ: أنّ وجوب الجامع بين فعل الشخص وفعل غيره عليه أمر معقول؛ لأنّ الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور. وهذا الشكل الثاني يفي بكلّ الخصائص الثلاث بكلّ وضوح:

أمّا الخصيصة الاُولى ـ وهي: أنّه لو فعله شخص سقط عن الآخرين ـ فلأنّه قد وقع على العهدة تحقّق الفعل، وقد حصل.

وأمّا الخصيصة الثانية ـ وهي: أنّه لو ترك الجميع عوقب الجميع ـ فلأنّ الوجوب ثابت على الجميع، وقد خالفوا.

وأمّا الخصيصة الثالثة ـ وهي: حصول الامتثال عند إتيان أشخاص عديدين

307

بالفعل بنحو التقارن أو تعاونهم على فعل واحد ـ فلأنّ الواجب كان هو حصول الفعل وتحقّقه خارجاً بأيّ نحو اتّفق، وقد حصل ذلك.

الصيغة الثانية: أن يجب على كلّ مكلّف فعل هذا الواجب مشروطاً بترك الآخرين.

وقد اُورد على ذلك بإيرادين:

الإيراد الأوّل: أنّه لو فُرض هنا ملاك واحد في كلا الفعلين فالملاك الواحد يستدعي وجوباً واحداً مطلقاً لا وجوبين مشروطين. وإن فُرض ملاكان لا يجتمعان فتعدّد الملاك إنّما يعقل حينما يعقل تعدّد الفعل كالصلاة على الميّت، أمّا فيما لا يتعدّد كتغسيل الميّت فلا معنى لتعدّد الملاك.

والجواب على هذا الإيراد سهل، فمن أجوبته: أنّنا نفترض تعدّد الملاك بعدد الفعل، حيث إنّ النتيجة ومعنى الاسم المصدريّ وإن كان طبيعة واحدة لكنّه حينما يلحظ جانب الصدور يكون الفعل متعدّداً بتعدّد الأشخاص، فالغسل الصادر من زيد غير الغسل الصادر من عمرو، فيمكن افتراض وجود ملاكات عديدة بعدد الأفعال لا يمكن اجتماعها، فتولّدت وجوبات مشروطة(1).

 


(1) كما يمكن الجواب أيضاً بفرض ملاك واحد موجود في أصل صدور الفعل من أحد المكلّفين بنحو صرف الوجود، ولكن كان الملاك مهمّاً بنحو أراد المولى أن يجعله على عهدة كلّ واحد منهم لكي يضمن بشكل أقوى تحقّقه، أو لم يرد المولى تخصيص ثقل تحصيله ببعض المكلّفين دون بعض؛ لما في جعله بنحو الوجوب الكفائيّ من الإرفاق بالمكلّفين، أو أنّه لم تكن نكتة لتخصيص ثقل تحصيله ببعض المكلّفين بعد أن كانت نسبته إليهم على حدّ سواء، فلا بأس بتعدّد الخطاب بعدد المكلّفين بنحو الخطاب المشروط مثلا.

308

الإيراد الثاني: أنّه لو وجب على كلّ واحد منهما الفعل مشروطاً بترك الآخر فلو فعلا معاً لم يحصل الامتثال؛ لعدم حصول شرط الوجوب أصلا، بينما ليس الأمر كذلك كما بيّنّا في الخصيصة الثالثة.

وهذا الإيراد مسجّل في المقام. ولا يمكن قياس المقام بالوجوب التخييريّ، فإنّه في الوجوب التخييريّ أمكن فرض مجموع الفعلين عدلا ثالثاً، فهو مخيّر بين هذا الفعل وحده وذاك وحده ومجموعهما، بينما في المقام لا يمكن فرض مجموع المكلّفين مكلّفاً ثالثاً يوجّه إليه الخطاب المشروط(1).

الصيغة الثالثة: أن يقال ما هو من قبيل ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) في الوجوب التخييريّ، وذلك بأن يفرض تعدّد الملاك، وأنّ مجموع الملاكين تزاحم مع مصلحة التسهيل، فأوجبت مصلحة التسهيل ترخيص كلّ واحد منهما في الترك بشرط فعل الآخر، بل لا حاجة إلى فرض مصلحة التسهيل، فبالإمكان أن يُفرض أنّ كلّ واحد من الملاكين ليس بدرجة الإلزام وبنحو يكون فوته مؤذياً للمولى إلى حدّ يوجب حفظه، لكن فوتهما معاً تتحقّق فيه تلك الدرجة من الخسارة والأذيّة التي لا يريدها المولى. وهذا أمر عرفيّ يتّفق في حياتنا الاعتياديّة، فطلب المولى


ويمكن الجواب أيضاً بافتراض أنّ الملاك وإن كان واحداً بالنوع لكنّه كان موجوداً في فعل كلّ المكلّفين بنحو الاستغراق لا بنحو صرف الوجود، وعندئذ كان يُترقّب إيجاب الفعل على كلّ المكلّفين بنحو الوجوب المطلق والعينيّ، ولكنّ المولى عدل إلى الوجوب المشروط إرفاقاً بالمكلّفين لأجل مصلحة التسهيل.

(1) ولا يمكن أن يقال: إنّ الحكم في حقّ كلّ واحد منهم مشروط بعدم سبق الآخر عليه؛ إذ من الواضح أنّه إذا علم أحدهما أنّ الآخر سوف يأتي بالعمل في آخر الوقت جاز له أن لا يفعل.

309

الفعل من كلّ واحد منهما ورخّص في نفس الوقت كلّ واحد منهما في الترك بشرط فعل الآخر.

وهذه صياغة معقولة على مسلك المحقّق النائينيّ(رحمه الله): من كون مفاد الأمر هو الطلب، وأنّ الوجوب والاستحباب منتزع بحكم العقل من الطلب عند عدم اقتران الترخيص في الخلاف به أو اقترانه، فيقال في المقام: إنّه لو رخّص في الخلاف لكلا المكلّفين مطلقاً انتزع منه الاستحباب، ولو لم يرخّص في الخلاف أصلا انتزع منه الوجوب العينيّ، ولو رخّص كلّ واحد منهما في الخلاف بشرط فعل الآخر انتزع منه الوجوب الكفائيّ.

وحينئذ إذا فعله أحدهما سقط عن الآخر؛ لأنّه مرخّص في تركه على تقدير أن يفعله صاحبه وقد فعل. وإذا فعلاه معاً فقد امتثل كلاهما الطلب. وإذا تركاه معاً عوقبا؛ لأنّ ترخيص كلّ واحد منهما في الترك كان مشروطاً بفعل الآخر ولم يتحقّق.

نعم، بناءً على أنّ الوجوب والاستحباب من مفاد نفس الأمر لا يتمّ هذا الوجه، فإنّه لو فُرض توجّه الأمر الوجوبيّ إلى كلّ واحد من المكلّفين متعلّقاً بالإتيان بهذا الفعل، فإن كان الأمران مطلقين فلا معنى للترخيص في مخالفة الأمر الوجوبيّ المطلق، وإن كانا مشروطين رجع إلى الصياغة السابقة.

الصيغة الرابعة: ما يكون بديلا عن الصيغة الثالثة، حيث لم تتمّ على رأي المشهور: من كون الوجوب والاستحباب داخلين في مفاد الأمر، فيقال: بما أنّ مجموع الملاكين زاحم مصلحة التسهيل، أو أنّ كلّ واحد منهما كان بمقدار يتحمّل المولى ضرر فوته، لكنّه لا يتحمّل ضرر فوتهما معاً، فالمولى حرّم على كلّ واحد من المكلّفين بعض حصص الترك وهو الترك المقترن بترك الآخرين، فلو تركوا جميعاً عوقبوا؛ لأنّهم أتوا بتلك الحصّة من الترك المنهيّ عنها. ولو فعله أحدهم لم

310

يعاقب الآخرون؛ لأنّهم لم يتركوا تركاً مقترناً بترك غيرهم. ولو فعلوا جميعاً معاً فقد امتثلوا؛ لأنّهم لم يأتوا بتلك الحصّة من الترك. ولعلّ لسان الإيجاب الكفائيّ صياغة عرفيّة لإيصال هذه التحريمات، أعني: تحريم الترك الجمعيّ على كلّ واحد منهم، أو إيجاب سدّ بعض أبواب العدم وهو العدم المقترن بترك الآخرين.

وأمّا الفرضيّة الثانيةـ وهي: تعلّق الوجوب بمجموع المكلّفين ـ: فلذلك تصويران:

التصوير الأوّل: أن يُفرض تعلّق الأمر بالمجموع، بمعنى كون المطلوب اشتراك تمام الأفراد في تلك العمليّة الواحدة، من قبيل الأمر المتوجّه إلى مجموع عشرة أشخاص بدحرجة حجر ثقيل لا يمكن لأحدهم وحده دحرجته مثلا. وهذا مرجعه بحسب الحقيقة إلى توجّه أمر إلى الجميع على نحو الاستغراق لا المجموعيّة، إلاّ أنّ المأمور به ليس هو ذلك الفعل ـ وهو دحرجة الحجر مثلا ـ بل المساهمة في ذلك الفعل، فالمأمور به في مثال دحرجة الحجر هو دفع كلّ واحد منهم هذا الحجر بحسب قدرته، لكي تتجمّع قوى الدفع على هذا الحجر فيتدحرج من مكانه.

والوجوب الكفائيّ لا يمكن تفسيره بهذا التفسير، فإنّه:

أوّلا: قد يكون الفعل الواجب ممّا لا يمكن اشتراك المكلّفين جميعاً فيه، فلئن كان الدفن ـ مثلا ـ بالإمكان اشتراك عديدين فيه، فالصلاة على الميّت ـ مثلا ـ لا يمكن ذلك فيها بأن يأتي كلّ واحد منهم بجزء من الصلاة مثلا.

وثانياً: أنّه حتّى فيما يُفرض إمكان اشتراك الكلّ فيه، لو أتى به بعض سقط عن الكلّ لا محالة ولم يكن عليهم عقاب، بينما مقتضى هذا الوجه خلاف ذلك؛ إذ المطلوب كان اشتراك كلّ واحد منهم في العمليّة ولم يتحقّق ذلك.

التصوير الثاني: أن يُفرض تعلّق الأمر بمركّب ارتباطيّ يكون كلّ واحد من المكلّفين جزءاً من هذا المركّب الارتباطيّ قياساً على متعلّقات الحكم الارتباطيّة، من قبيل تعلّق الوجوب بالصلاة التي هي بالرغم من تعدّد ما فيها من

311

أعمال وتشتّتها توجد لها وحدة اعتباريّة تجتمع وتتركّب فيها كلّ الأجزاء.

وهذا التصوير أيضاً غير صحيح؛ فإنّ العمل الواحد المركّب الاعتباريّ يمكن تحريك العبد نحوه، ولكن تحريك الواحد الاعتباريّ ـ وهو المجموع المركّب ـ غير معقول، وإنّما التحريك يكون دائماً لواقع الآحاد، أمّا المجموع بما هو مجموع فلا يحرّك ولا يبعث ولا يزجر ولا يعاقب ولا يثاب.

وأمّا الفرضيّة الثالثة ـ وهي: فرض تعلّق التكليف بصرف الوجود من المكلّفين، قياساً للمكلّف بالمتعلّق الذي قد يكون صرف الوجود، كما في (أكرم عالماً) ـ: فهي أيضاً غير معقولة؛ فإنّ صِرف الوجود في المتعلّق إمّا يكون بمعنى أوّل الوجود، أو يكون بمعنى أحد الأفراد، وكذلك في المكلّف لو أردنا فرضه بنحو صِرف الوجود يجب تقييده بأوّل الوجود أو بعنوان أحدها، وإلاّ انتشر الحكم على كلّ المكلّفين على نحو الاستغراق ومطلق الوجود. وكلّ واحد من التقييدين غير محتمل في المقام: أمّا التقييد الأوّل وهو التقييد بأوّل الوجود، فسواءٌ اُريد به أوّل من تولّد من المكلّفين، أو اُريد به أوّل من اطّلع من المكلّفين على الموضوع، أو أيّ معنى آخر، من الواضح أنّه غير مقصود؛ فإنّ نسبة الوجوب الكفائيّ إلى آخر الأفراد كنسبته إلى أوّل الأفراد(1).

وأمّا التقييد الثاني وهو التقييد بأحد الأفراد فغير معقول؛ إذ فرقٌ بين التحريك نحو عنوان أحد الاُمور وبين تحريك عنوان أحد الأفراد، فالتحريك نحو عنوان


(1) ولا يمكن أن يقال في المقام: إنّه يجب على أوّل من يوجده، كما يمكن أن يقال في المتعلّق: إنّه يجب أوّل ما يوجده؛ إذ يلزم من ذلك أنّه لو لم يوجده أحد لم يكن أحد مكلّفاً به ولم يعاقب أحد، في حين أنّه لا يلزم نظير ذلك في المتعلّق بأن يقال: إنّه لو لم يوجد شيئاً لزم عدم وجوب شيء عليه؛ وذلك لأنّ قيد أوّل ما يوجده كان مأخوذاً في متعلّق الحكم لا في موضوع الحكم، وكلّ قيد يؤخذ في متعلّق الحكم يكون بذاته تحت الطلب.

312

أحد الاُمور معقول بلا حاجة إلى فرض سريان الحكم إلى أفراد تلك الاُمور؛ فإنّ المكلّف المطيع حينما رأى نفسه مكلّفاً بعنوان أحد الاُمور فهو لا محالة يختار فرداً من تلك الأفراد لكي يكون محقِّقاً لعنوان أحد الاُمور.

أمّا الإيجاب على عنوان أحد المكلّفين وإشغال ذمّته فلا أثر له؛ إذ هل يُفرض هذا الإيجاب وإشغال الذمّة واقفاً على عنوان أحد المكلّفين من دون أن يسري إلى واقع أفراد المكلّفين، أو يُفرض سريان ذلك إلى أفراد المكلّفين بفناء هذا العنوان في الأفراد مثلا؟ فإن فُرض الأوّل فهذا لا يحرّك واقع أفراد المكلّفين. وإن فُرض الثاني فهل يسري الحكم وإشغال الذمّة إلى كلّ الأفراد أو إلى فرد معيّن أو إلى فرد مردّد؟ والكلّ غير معقول؛ إذ لو سرى إلى كلّ الأفراد لانقلب إلى الوجوب العينيّ، ولو سرى إلى فرد معيّن كان ترجيحاً بلا مرجّح، والفرد المردّد لا وجود له.

نعم، يبقى أن يُدّعى أنّ الحكم وإشغال الذمّة الشرعيّ يقف على عنوان أحدهم، ولكنّ العقل يحكم على أفراد المكلّفين بوجوب إفراغ ذمّة ذاك العنوان، ولزوم الإتيان بما أوجب المولى على ذاك العنوان إيصالا للمولى إلى ما أراد.

وهذه دعوى إن صحّت لأحوجتنا إلى تصوير آخر للوجوب الكفائيّ غير هذا التصوير؛ لأنّ هذا الوجوب العقليّ كفائيّ لا محالة، بينما هذا التصوير لم يفسّر لنا كفائيّة هذا الوجوب الذي جاء من قِبَل العقل، فلابدّ من تصويره بإحدى الصور الاُخرى لكي يختلف عن اللزوم العينيّ في كنهه أو في متعلّقه أو في إطلاقه، وإلاّ لكان لزاماً على الجميع أن يأتوا جميعاً بما اُوجِبَ على عنوان أحدهم وهو خلف. فعلى الأقلّ يتبرهن بذلك أنّ تصوير الوجوب الكفائيّ غير منحصر بهذا النحو من التصوير(1).


(1) ومن الغريب ما اختاره السيّد الخوئيّ(رحمه الله) في تقرير الفيّاض: من إرجاع الوجوب الكفائيّ إلى الوجوب على صرف الوجود، ودعوى انحصار تصوير الوجوب الكفائيّ بذلك بإبطال باقي الوجوه الاُخرى المتصوّرة في نظره.

313

وأمّا الفرضيّة الرابعة ـ وهي: فرض تعلّق الحكم بذات الفعل من دون توجّه إلى مكلّف أصلا ـ: فذلك بأن يقال: إنّ الحكم بالرغم من عدم تعلّقه بأحد المكلّفين يرى العقل لزاماً على المكلّفين وفقاً لقانون العبوديّة تحصيل ما هو متعلّقه إيصالا للمولى إلى ما أراد.

إلاّ أنّ فرضيّة تعلّق الحكم بذات الفعل من دون توجّه إلى المكلّف إنّما هو أمر معقول بلحاظ مبادئ الحكم من الحبّ والبغض، فإنّ الحبّ والبغض وإن كانا من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة إلاّ أنّه يكفي في تحقيق هذه الإضافة ارتباطه بمتعلّق، وهو الفعل المحبوب بلا حاجة إلى توجّهه إلى من يصدر منه هذا الفعل. أمّا بلحاظ نفس الحكم أي: البعث والزجر وإشغال الذمّة فغير معقول؛ إذ الباعث له علاقة تضايف مع المبعوث، وإشغال الذمّة بحاجة إلى من تنشغل ذمّته. على أنّه لو تعقّلنا هذا الوجه احتجنا أيضاً إلى تصوير آخر للوجوب الكفائيّ لكي نفسّر به كفائيّة حكم العقل على المكلّفين بلزوم الإتيان بمتعلّق هذا الحكم.

 

315

الأوامر

الفصل الحادي عشر

 

 

الواجب الموقّت وغير الموقّت

 

○ تبعيّة القضاء للأداء.

 

317

 

 

 

 

 

قد قسّموا الواجب إلى الموقّت وغير الموقّت، والموقّت إلى المضيّق وهو ما كان وقته بقدر فعله، والموسّع وهو ما كان وقته أوسع من فعله، فكان للمتعلّق أفراد طوليّة قد وجب الجامع بينها. وقد وقع الإشكال تارةً في تصوير الواجب الموسّع، واُخرى في تصوير الواجب المضيّق إلاّ أنّه ممّا لا يستحقّ الذكر.

وإنّما الجدير بالذكر هنا أنّه لو انتهى الوقت في الموقّت ولم يأت بالعمل فهل يحتاج وجوب الإتيان به بعد الوقت إلى أمر جديد ودليل جديد أو لا؟ وهذه هي المسألة المعروفة بتبعيّة القضاء للأداء وعدمها.

 

تبعيّة القضاء للأداء:

وتحقيق الحال في ذلك يكون بأن نذكر أوّلاً الفروض المتصوّرة في دليل الموقّت وبيان نتيجة كلّ واحد من هذه الفروض فيما نحن بصدده. ثُمّ نتكلّم عن أنّ أيّ فرض من هذه الفروض يتّفق مع الأدلّة الإثباتيّة.

 

الفروض المتصوّرة في دليل الموقّت ثبوتاً:

فنقول: إنّ الفروض المتصوّرة في المقام أربعة:

الفرض الأوّل: أن يكون الدليل دالاًّ على أصل وجوب الفعل، ويكون دليل التوقيت منفصلا غير ناظر إلى تقييد ذلك الدليل، بل ناظراً إلى وجوب جديد