408

الإشكال الرئيسي الماضي الذي ذكره الأصحاب في المقام، وهو أنّ المشكوك اللاحق غير المتيقّن السابق؛ لأنّ المتيقّن السابق هو الوجوب الضمني للباقي، والمشكوك اللاحق هو الوجوب الاستقلالي له.

إلّا أنّ هذا الإشكال مبنيّ على تصوّر خاطىء في المقام: وهو تخيّل أنّ الباقي لو كان واجباً عليه عند العجز عن الجزء الزائد فإنّما يجب عليه ذلك بخطاب مستقلّ، وهذا التصوّر غير صحيح، فإنّه مضى في مبحث النسيان إمكان تصوير الخطاب من أوّل الأمر بنحو يُوجب الإتيان بالأقلّ عند النسيان، وكذلك الأمر فيما نحن فيه، فمن الممكن تصميم الخطاب من أوّل الأمر بنحو يوجب الإتيان بالتامّ عند القدرة والإتيان بالناقص عند العجز؛ وذلك بأن يوجب المولى من أوّل الأمر الجامع بين التامّ عند القدرة والناقص عند العجز، فلو كان الخطاب في الواقع هكذا فالباقي بعد العجز واجب بنفس الوجوب السابق، إذن فقد شككنا في بقاء وجوب الباقي الثابت عليه فيما سبق وعدمه، فإنّه إن كان ذلك الوجوب وجوباً للتامّ فهو غير باق، وإن كان وجوباً للجامع بين وجوب التامّ في حال القدرة ووجوب الناقص في حال العجز فهو باق، فاستحصاب وجوب الباقي لا يرد عليه الإشكال الذي ذكره الأصحاب.

نعم، يرد عليه: أنّ الوجوب السابق على أحد التقديرين غير قابل للتنجيز حين العجز، وهو تقدير كونه وجوباً للتامّ، فاستصحاب الوجوب السابق استصحاب للجامع بين ما يقبل التنجّز وما لا يقبل التنجّز، فإن اُريد بذلك إثبات هذا الجامع فقط فهذا الجامع لا يتنجّز بالعلم الوجداني فضلاً عن الاستصحاب، وإن اُريد بذلك إثبات التقدير الآخر فهو تعويل على الأصل المثبت.

وبمثل هذا نجيب عن التقريب الذي أشرنا إليه للاستصحاب من استصحاب بقاء مبادىء الحكم في الباقي، فإنّه على تقدير كونها منبسطة على الجزء غير المقدور كما كانت كذلك قبل العجز لا تقبل التنجّز، وعلى تقدير انكماشها ووقوفها على الباقي تقبل التنجّز، فإن اُريد إثبات التقدير الثاني كان الأصل مثبتاً، وإلّا لم يترتّب على هذا الاستصحاب تنجيز.

 

وجوب الباقي بقاعدة الميسور

الجهة الرابعة: أنّة قد يثبت في المقام وجوب الباقي بعد العجز عن الزائد بدليل اجتهادي وهو ما يسمّى بقاعدة الميسور.

409

 

 

 

قاعدة الميسور

 

والدليل عليها من الأخبار روايات ثلاث:

أحدها: الرواية العاميّة: عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»(1).

وثانيها: الرواية العلويّة: «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه»(2).

وثالثها: الرواية العلويّة الاُخرى: «الميسور لا يسقط بالمعسور»(3).

وهذه الروايات لا يمكن الاعتماد على شيء منها من حيث السند؛ فإنّ الروايتين الأخيرتين مرسلتان مذكورتان في غوالي اللئالي لم يُرَ لهما عين ولا أثر في كتب الأخبار المتقدّمة، فلا يحتمل فضلاً عن أن يُطمأن باعتماد السابقين الذين هم أشدّ بصيرة منّا بخصوصيّات الخبر من حيث الصدق والكذب على هذين الخبرين، فلا ينجبر سندهما بذلك بناءً على قبول كبرى الانجبار بعمل السابقين، وأمـّا الرواية الاُولى فهي عاميّة مرويّة عن أبي هريرة ليس لها عين ولا أثر في كتب أخبار الخاصّة، ولهذا ليس هنا مزيد حاجة إلى التكلّم تفصيلاً في دلالة هذه الأخبار والإشكالات التي اُوردت عليها، إلّا أنّنا نتكلّم عن خصوص حديث «الميسور لا يسقط بالمعسور»؛ لأنّ البحث فيه أكثر فنيّة، وبالتكلّم فيه يظهر حال جملة من الإشكالات التي تتطرّق إلى الحديثين الآخرين ثمّ نتكلّم ـ أيضاً ـ عن حديث «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»(4).

 


(1) سنن البيهقي: ج 4، باب وجوب الحج مرّة واحدة، ح 1، ص 326، وصحيح مسلم: ج 4، باب فرض الحج مرّة في العمر، ح 1، ص 102.

(2) غوالي اللئالي: ج 4، ح 207، ص 58.

(3) نفس المصدر: ح 205.

(4) كأنّ البحث عن هذا الحديث كان نتيجة أنّ اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) أحسّ بأنّ بعض

410

أمـّا حديث الميسور لا يسقط بالمعسور فقد اعترض على دلالته بعدّة إشكالات كل واحد منها يبتني على بعض التفاسير في هذا الحديث، فلنذكر أوّلاً التفاسير التي قد تحتمل في هذا الحديث وهي ثلاثة:

التفسير الأوّل: أن يفرض قوله: «لا يسقط بالمعسور» نهياً بلسان النفي من قبيل قوله تعالى﴿لا رَفَثَ ولا فُسوقَ ولا جِدالَ في الحَج﴾(1). على بعض تفاسير الآية ومن قبيل الأمر بلسان الإخبار كما يقال: (يسجد سجدتي السهو) بمعنى: اسجد سجدتي السهو.

التفسير الثاني: أن يفرض هذا الكلام نفياً تشريعيّاً بأن يقصد بنفس ذلك جعل الحكم والتكليف من قبيل قوله: «لا ربا بين الوالد وولده»(2). المقصود به تشريع حليّة الربا لا الإخبار بعدم وجوده تكويناً.

التفسير الثالث: أن يحمل على النفي الحقيقي الإخباري كقولنا: الإنسان لا يمشي على يديه وقوله تعالى ﴿ما جَعَلَ عليكُم في الدينِ من حَرَج﴾(3).

وأمـّا الإشكالات فهي اُمور:

منها: ما ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله) من تعارض ظهور هيئة (لا يسقط) في وجوب الإتيان بالباقي مع ظهور (الميسور) في الإطلاق وشموله للمستحبّات، فإنّ الميسور من المستحبّ لا يجب الإيتان به عند تعذّر بعض أجزائه(4).

وهذا الإشكال مبتن على التفسير الأوّل من التفاسير الثلاثة، وهو حمل النفي على النهي، إذ لو قلنا: إنّه جعلٌ لبقاء الحكم الثابت قبل العجز عن بعض الأجزاء، أو إخبار عن ذلك كما هو الحال في التفسير الثاني والثالث لم يكن موضوع لهذا الإشكال كما هو واضح.

 


الحضّار يحبّ أن يبحث عن هذا الحديث أيضاً، وإلّا فهو كان مصمّماً على الاقتصار على بحث الميسور.

(1) سورة 2، البقرة، الآية 197.

(2) راجع الوسائل: ج 18 بحسب طبعة آل البيت، ب 7 من الربا، ح 1، ص 135، و ح3، ص 136.

(3) سورة 22، الحجّ، الآية 78.

(4) راجع الكفاية: ج 2، ص 252 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق المشكيني.

411

والصحيح: أنّ التفسير الأوّل خلاف الظاهر؛ إذ:

أوّلاً: أنّ حرف السلب في قوله: «لا يسقط» بحسب ظهوره الأوّليّ يكون نفياً حينما لا قرينة على إرادة النهي.

ثانياً: لا يصحّ حمل الرواية على النهي، لا لمجرّد عدم القرينة على ذلك كما ذكرناه في الوجه الأوّل، بل لخصوصيّة في سياق الحديث، وهي أنّ حرف السلب لم يدخل على ما هو فعل المكلّف حتّى يقبل حمله على النهي، وإنّما دخل على ما هو من أفعال المولى، وهو سقوط الميسور، والتعبير (بالسقوط) يكون باعتبار وجوده واستقراره في العهدة كما يقال: كان عليه دين فاسقطه.

إن قيل: يمكن أن يراد السقوط من حيث العمل الخارجي بمعنى ترتيب آثار السقوط فيتصوّر النهي، وذلك كما في: «لا تنقض اليقين بالشكّ» حيث يحمل على ترتيب آثار النقض، وإلّا فأصل اليقين منقوض ومقطوع جزماً.

قلت: أوّلاً: إنّ هذا إنّما يصار إليه حيث لا يمكن حمل اللفط على معناه الحقيقي، فيُحمل على إرادة آثار ذلك المعنى كما في حديث: (لا تنقض)، وهذا بخلاف مثل ما نحن فيه الذي يمكن حمله على معناه الحقيقي.

وثانياً: أنّ النقض من الأفعال التي يمكن إضافتها إلى المكلّف في نفسها بغضّ النظر عن خروجه عن قدرة المكلّف، والسقوط ليس هكذا، وإنّما الذي يقابل النقض في هذه الجهة هو الإسقاط، وأمـّا السقوط فهو مقابل الانتقاض؛ ولذا اُسند في الحديث إلى الميسور لا إلى المكلّف.

نعم، لو قُرىء الحديث هكذا: (الميسور لا يُسقَط) بصيغة المجهول، صحّ من هذه الناحية قياسه بالنقض في حديث: (لا تنقض).

ثمّ لو سلّم حمل الحديث على النهي قلنا: إنّ هذا الحديث إنّما يدلّ على المنع عن إسقاط الميسور من المستحبّ من جهة تعذّر بعض الأجزاء، وأمـّا إسقاطه من جهة كونه من المستحبّات لا من الواجبات، فلا يدلّ على المنع عنه، فلا معارضة بين الهيئة والإطلاق.

ثمّ لو سلّم التعارض بين ظهور النهي في اللزوم والإطلاق، قلنا: إنّ الأوّل يقدّم على الثاني على ما قرّر في محلّه، فلو ورد مثلاً: (لا تكرم الفاسق) وورد الدليل على جواز إكرام زيد الفاسق، يجعل الثاني مخصّصاً للأوّل لا قرينة على حمل النهي على الكراهة، بأن يقال بجواز إكرام كل فاسق لكن مع الكراهة.

412

نعم، لو قلنا: إنّ تقييد كلمة (الميسور) بخصوص الواجبات يوجب تخصيص الأكثر وهو غير جائز، لم يكن وجه لهذا الإشكال، ولكنّ هذا مجرّد فرض وتقدير، فإنّ إخراج أفراد كثيرة بعنوان واحد تدخل تحته جميعاً غير ضائر فيما لو كان الباقي أفراداً عرفيّة، خصوصاً مع فرض كون الأفراد الباقية مع قلّتها أكثر جلاءً وبروزاً في نظر العرف لما هي عليها من الوجوب واللزوم المؤدّي إلى الاهتمام له على نحو أشدّ وأقوى.

ومنها: ما أورده السيّد الاُستاذ على ما في الدراسات(1) وبعد ما تبنّى التفسير الثاني(2) في الرواية وهو حملُها على النفي وإرادة التشريع.

وحاصله: أنّ هذا الحديث إن حُمل على باب الكلّي والفرد فدلَّ على وجوب إكرام باقي العلماء إذا وجب إكرام كلِّ عالم وتعذّر إكرام بعضهم، كان الحديث إرشاديّاً، فإنّ عدم سقوط بعض الأفراد بتعذّر بعض آخر أمر ثابت تكويناً يدركه العقل؛ إذ المفروض كونها واجبات استقلاليّة.

وإن حُمل على باب الكل والجزء فدلّ على ما هو المقصود في المقام من أنـّه لو تعذّر بعض أجزاء المركّب الارتباطي وجب الإتيان بالباقي كان هذا حكماً مولويّاً؛ لأنّ وجوب الباقي وجوب جديد مستقلّ لابدّ له من حكم مولوي جديد، ولا جامع بين الحكم الإرشادي والحكم المولوي، فلا يمكن حمل الحديث على كلا الأمرين، فيتردّد بينهما ويصبح مجملاً، ولا يمكن رفع إجماله بإجراء قانون أصالة المولويّة عند دوران الأمر بين المولويّة والإرشاديّة، فإنّ هذا الأصل إنّما يجري فيما لو اُحرز الموضوع ثمّ دار الأمر بين كونه مولويّاً أو إرشاديّاً، كما لو قال: (لا تأكل الرّمان) ودار الأمر بين كونه مولويّاً أو إرشاداً إلى وجود المفسدة فيه، فيحمل على المولويّة، وأمـّا لو دار الأمر مثلاً بين أن يكون مقصود المولى الأمر بالصلاة فيكون مولويّاً، أو الإخبار بشيء فيكون إرشاديّاً، فلا أصل يقتضي المولويّة، وما نحن فيه من هذا القبيل.

أقول: إنّ التفصيل الذي ذكره في أصالة المولويّة صحيح ولم يذكر نكتته،


(1) ج 3، ص 303 - 304، راجع ـ أيضاً ـ المصباح: ج 2، ص 482.

(2) لم يتبنَّ السيّد الخوئي(رحمه الله) في الدراسات تفسيراً معيّناً للحديث، وتبنّى في المصباح: ج 2، ص 484 تفسيره بالإخبار عن عدم سقوط الواجب والمستحبّ، أو عدم سقوط وجوبه، أو استحبابه.

413

ونحن نذكرها هنا فنقول: إنّ نكتة الفرق بين الموردين هي: أنّ الكلام في الصورة الثانية يكون محفوفاً بما يصلح للقرينيّة على خلاف الأصل؛ لأنّه مردّد بين معنيين يكون أحدهما قرينة على عدم المولويّة، وقد تقرّر في موضعه أنّ الأصل لا يجري في مثل ذلك.

ثمّ إنّ السيّد الاُستاذ بنى هذا التقريب على التفسير الثاني للرواية(1) مع أنـّه جار حتّى على الوجه الأوّل في تفسيرها، وهو حمل الرواية على النهي. نعم، لا يجري على الوجه الثالث، وهو حملها على الإخبار الصرف، فإنّه يكون ـ عندئذ ـ إرشاداً وإخباراً على كل تقدير مع قطع النظر عمّا سنبيّنه ـ إن شاء الله ـ من أنّ الإخباريّة لا تنافي المولويّة.

وعلى أيّة حال فهذا الإشكال ـ أيضاً ـ غير وارد، فإنّه يرد عليه:

أوّلاً: أنّ الكلام يكون مولويّاً حتّى إذا حمل على باب الكلّي والفرد، غاية الأمر أنـّه بناءً على حمله على الكلّي والفرد يكون الحكم المولوي بإتيان الميسور بعد سقوط المعسور مبيّناً بنفس الخطاب الأوّل أيضاً، ويكون الخطاب تكراراً وتأكيداً، وليس معنى هذا أنـّه أصبح إرشاديّاً لا مولويّاً، وإنّما الفرق بين الخطاب الإرشادي والخطاب المولوي هو أنّ الخطاب المولوي يبيّن حكماً يصدر عن المولى بما هو مولى، سواء كان ذلك بياناً مكرراً وتأكيداً، أو بياناً ابتدائياً وتأسيساً، والخطاب الإرشادي يبيّن حكماً لا يصدر عن المولى بما هو مولى وليس من شؤون مولويّته، كما لو بيّن مضارّ الجبن مثلاً، أو أمر باطاعته تعالى ونهى عن معصيته، فإنّ وجوب الإطاعة وحرمة المعصية له تعالى إنّما هو من مدركات العقل العملي، وليس أمراً يصدر عن المولى بما هو مولى.

والخلاصة: أنّ الفرق بين باب الكلّي والفرد وباب الكلّ والجزء في المقام إنّما


(1) السيّد الخوئي(رحمه الله) ذكر هذا الإشكال في حديث (ما لا يدرك) وعطف عليه في الدراسات حديث (الميسور)، وعلى أيّ حال فهو لم يخصّص الإشكال بالتفسير الثاني، بل عمّمه للتفسير الأوّل والثاني على اختلاف بين التفسير الأوّل والثاني في كلامه عنهما في كلام اُستاذنا الشهيد. فالسيّد الخوئي (رحمه الله) يجعل التفسير الأوّل كون (لا) ناهية حقيقة لا نافية قُصد بها النهي من سنخ قصد الإنشاء بالإخبار في مثل (اسجد سجدتي السهو) كما ذكر اُستاذنا الشهيد، ويكون التفسير الثاني عنده عين التفسير الأوّل عند اُستاذنا الشهيد.

414

هو بكون الخطاب تأكيداً أو تأسيساً لا بالمولويّة والإرشاد، ومن الواضح أنّ التأكيد والتأسيس ليسا من مداليل الألفاظ حتّى يلزم من الجمع بينهما استعمال اللفظ في معنيين مثلاً، وإنّما هما أمران ينتزعان من سبق بيان آخر لهذا الحكم على هذا البيان وعدمه، فلا يلزم من الجمع بين باب المركّب وباب الكلّي أيّ محذور في المقام.

وثانياً: أنّنا لو سلّمنا أنّ الحكم في باب الكلّي والفرد يكون إرشاديّاً، وفي باب المركّب يكون مولويّاً، قلنا: إنّ المولويّة والإرشاديّة ليستا من المداليل المستعمل فيها اللفط، فصيغة الأمر في قوله: (أقم الصلاة)، وفي قوله: (اطع اللّه) مثلاً قد استعملت في معنى واحد وهو النسبة البعثيّة والتحريكيّة، وإنّما المولويّة والإرشاديّة من مقام المدلول التصديقي لا التصوّري، فلا يلزم من الجمع بين باب الكلّي وباب المركّب محذور، ولا يكون استعمالاً للفظ في معنيين، غاية الأمر أنـّه اُريد من هذه الجملة مدلولان تصديقيّان، ولا محذور في ذلك إذا كان بين المدلولين التصديقيّين سنخيّة بحيث يُناسب أن يكون كلاهما معاً مراداً من هذه الجملة.

ومنها: إشكال يبتني على حمل الحديث في المقام على النفي الحقيقي الإخباري، وهو أنّ هذا النفي في باب الكلّي مع أفراده يكون حقيقياً، وفي باب الكلّ مع أجزائه يكون مسامحيّاً؛ لأنّ وجوب الكلّ يسقط بتعذّر أحد الأجزاء، ولو وجب الباقي فهو وجوب جديد، والمسامحة تحتاج إلى قرينة وهي مفقودة في المقام، فيحمل الحديث على باب الكلّي والأفراد.

أقول: إنّ هذا الكلام إنّما يكون بناءً على التصوير المشهور ـ في وجوب الباقي عند تعذّر أحد الأجزاء ـ من أنّ الوجوب الأوّل تعلّق بالكلّ، وسقط بالتعذّر، وأنّ هذا وجوب جديد. وأمـّا بناءً على التصوير الذي مضى منّا من فرض تعلّق الوجوب بالجامع بين الفرد الكامل عند التمكّن والفرد الناقص عند العجز، فلا يأتي هذا البيان.

بل التحقيق: أنّ هذا الكلام لا يتمّ حتّى بناءً على التصوّر المشهور من تعلّق الوجوب بالكلّ وسقوطه بتعذّر الجزء؛ وذلك لأنّه لو قدّر في المقام كلمة (الحكم) وكان المعنى: (أنّ حكم الميسور لا يسقط بالمعسور)، تمّ هذا الكلام، وقلنا ـ كما في الدراسات ـ(1): إنّ عدم السقوط هنا عنائي؛ لأنّ وجوب الكلّ قد سقط حتماً، ولكنّ التقدير خلاف الأصل. وظاهر الحديث إسناد السقوط إلى نفس الميسور باعتبار ما له


(1) ج 3، ص 304 - 305، وراجع ـ أيضاً ـ المصباح: ج 2، ص 484 - 485.

415

من نوع ثبوت في العهدة وهو ثبوت استعلائي، فنقول: إنّ هذا الميسور لا يسقط من مكانه بسقوط المعسور، وبحسب النظر الدقّي وإن كان الثبوت في العهدة تابعاً لثبوت الحكم، فيسقط الواجب بسقوط الوجوب، لكن في نظر العرف يُرى الحكم حيثيّة تعليليّة لثبوت الشيء في العهدة لا حيثيّة تقييديّة، من قبيل الشيء الذي يكون ثابتاً في الرفّ لأجل اتّكائه على خشبة مثلاً، فإذا اُستبدلت الخشبة بخشبة اُخرى قيل إنّ هذا الشيء لم يسقط من الرفّ؛ لأنّه اسندته خشبة اُخرى، وكذلك في المقام إذا اُستبدل الوجوب بوجوب آخر متعلّق بالميسور، قيل: إنّ الميسور لم يسقط عن العهدة.

هذا. والمحقّق الاصفهاني(قدس سره) ذكر: أنّ عدم السقوط منسوب إلى نفس الميسور لا إلى حكمه كما ذكرنا، إلّا أنـّه (رحمه الله) ذكر أنّ نسبة عدم السقوط عليه تكون باعتبار موضوعيّتة للحكم فمفاد الحديث: أنّ الميسور لا يسقط عن كونه موضوعاً للحكم بسقوط المعسور(1).

أقول: إنّ هذا ممّا لا يساعد عليه البحث العرفي، فإنّ السقوط يحتاج إلى فرض نحو ارتفاع للساقط بحيث يهوي ويسقط، ومجرّد كون الميسور موضوعاً للحكم لا يوجب نحو ارتفاع له ما لم تكن موضوعيّته لهذا الحكم مساوقة لوجوده في العهدة على المكلّف؛ ولذا لو ارتفعت إباحة شرب الماء مثلاً لا يقال: إنّه سقط شرب الماء، ولو ارتفع وجوب الصلاة قيل: إنّه سقطت الصلاة(2).

وأمـّا حديث «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» فلو كنّا نحن وهذه الجملة، لكانت دلالتها على المقصود واضحة، فإنّ ظاهرها أنـّه كلّما وجب شيء ثمّ


(1) نهاية الدراية: ج 2، ص 299.

(2) وكأنّ المتحصّل من هذا البحث: أنّ حديث الميسور عيبه هو ضعف السند، ولو كان تامّاً سنداً لصحّ الاستدلال به على قاعدة الميسور. ولكن لا يبعد القول بأنّ هذا الحديث حتّى لو فرضت تماميّته سنداً فهو غير تامّ دلالة؛ وذلك لأنّ قاعدة الميسور قاعدة مركوزة عقلائيّاً لا في مورد البحث من فرض عدم سقوط الميسور من الأجزاء بالمعسور منها، بل في مورد فرض سقوط الميسور من الأفراد بالمعسور منها، وهذا الارتكاز العقلائي يصرف النصّ إلى مفاده المرتكز، ولا تبقى للحديث دلالة على ما هو خارج من دائرة ذاك الارتكاز، وبهذا تبطل ـ أيضاً ـ دلالة (ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه).

416

تعذّر بعضه فلابدّ من الإتيان بالبعض الآخر، وهذا هو تمام المقصود في المقام.

إلّا أنـّه استشكل في دلالة الحديث من ناحية أنّ هذه الصيغة طبّقت على مورد الكلّي والفرد؛ إذ وردت في قصة: وهي أنّ صحابيّاً سأله (صلى الله عليه وآله)أنـّه هل يجب الحجّ في كلّ عام؟ فلم يجب (صلى الله عليه وآله) إلى المرّة الثالثة، فانضجر (صلى الله عليه وآله)وضاق بهذا الإلحاح، وقال: «لو قلت: نعم، لوجب الحجّ في كلّ عام، ولو وجب، لما استطعتم ولو تركتم لكفرتم» ثمّ قال بعد ذلك: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم».

وكلمة ( مِن ) وإن كانت ظاهرة في التبعيض إلّا أنـّه لابدّ من حملها على البيانيّة أو على معنى الباء مثلاً، حتّى ينسجم مع المورد، فكأنّه يقول (فأتوه، أو فأتوا به ما استطعتم)، وحملها على معنيين غير صريح.

وأجاب المحقّق الاصفهاني (قدس سره)عن ذلك بأنّنا لا نسلّم كون ( من ) موضوعة للتبعيض بالمعنى الذي لا يناسب الفرد بالنسبة للكلّي، بل معنى كونها دالّة على التبعيض أنّها دالّة على الاقتطاع والاستخراج والإفراز بنحو من الأنحاء، وهو كما يناسب اقتطاع الجزء من المركّب كذلك يناسب اقتطاع الفرد من الكلّي بحسب النظر العرفي باعتبار أنّ الكلّي له نحو إحاطة وشمول على الأفراد، فيكون إخراج الفرد منه نحو اقتطاع له منه(1). وهذا الذي أفاده (قدس سره) في غاية الوجاهة.


(1) الشيخ الإصفهاني(رحمه الله) ليس بصدد تصحيح دلالة الرواية على المقصود بهذا البيان، بل بصدد بيان أنّ كلمة (مِن) التبعيضيّة لا توجب اختصاص مفاد الرواية بالمقصود من وجوب الإتيان بالمقدار الممكن من المركّب لدى تعذّر بعض الأجزاء؛ وذلك لأنّ كلمة (مِن) هنا لا تحمل على التبعيض بعنوانه بالمعنى الذي ينسجم مع الكلّ والبعض، ولا ينسجم من الكلّي والفرد؛ إذ لو حملت على هذا المعنى لما أمكن تطبيق النصّ على مورده وهو الكلّي والفرد، بل هي لمجرّد اقتطاع مدخولها عن متعلّقه، وهذا وإن كان يوافق التبعيض في المركّب ولكنّه في نفس الوقت يناسب الكلّي والفرد أيضاً؛ لأنّ الفرد منشعب من الكلّي ويصحّ اقتطاع الفرد المستطاع من الكلّي، فلا تتعيّن إرادة المركّب من الحديث، والمتيقّن بحسب مورد الحديث هو الكلّي دون المركّب. راجع نهاية الدراية: ج 2، ص 299.

وكأنّه (رحمه الله) يقصد إبطال دلالة الحديث على المدّعى على أساس مسلك كون وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب يضرّ بالإطلاق، وبما أنّ القدر المتيقّن بلحاظ مورد الحديث هو الكلّي والفرد، فلا يمكن إثبات المقصود بإطلاق الحديث.

417

إلّا أنـّه لابدّ بعد هذا من التكلّم في فقه الرواية، باعتبار أنّ الرواية لا تخلو من إشكالات قد تؤدّي إلى الالتزام بإجمالها، أو بوقوع سقط فيها، او تفسير للرواية يوجب سقوطها عن الاستدلال بها، والإشكالات التي قد تخطر بالبال هي اُمور:

الأوّل: أنـّه يبدو من الحديث أنّ السؤال كان بنفسه قوّة محرّكة للتشريع، فكان من المحتمل أن يتحرّك التشريع الإسلامي بمنبّهيّة السؤال فيوجب الحجّ في كلّ عام.

وهذا عجيب، فإنّ الأحكام تتبع المصالح والمفاسد الواقعيّة، فلو كان ملاك الحكم تامّاً فلابدّ من تشريعه سواء سأل السائل وألحّ على السؤال أوْ لا، وإلّا فلا معنى لتشريعه سواء سأل أو لم يسأل.

الثاني: أنـّه (صلى الله عليه وآله)قال: «لو قلت: نعم، لوجب الحجّ في كلّ عام، ولو وجب لما استطعتم ولكفرتم ...»، فلو أنّهم لم يستطيعوا فكيف يجب؟! وكيف يكلّفون بما لا يُستطاع؟! ثمّ كيف يُعقل أن يفرضهم كفاراً لأنّهم لم يأتوا بما لا يستطيعون؟!

الثالث: أنّ هذه القاعدة ـ المستفادة من قوله (صلى الله عليه وآله): إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطتعم ـ لو خصّصناها بمورد الكلّ والجزء لم يناسب مورد الحديث، ولو طبّقت على باب الكلّي والفرد، فتصوير تطبيقها عليه يكون بأحد أنحاء ثلاثة:

1 ـ أن تحمل على الأمر بالكلّي بنحو صرف الوجوب، فيصير المعنى: إذا أمرتكم بشيء بنحو صرف الوجود، فأتوا من أفراده بمقدار استطاعتكم، وهذا كما ترى تناقض واضح، فإنّ الأمر المتعلّق بصرف الوجود لايقتضي أزيد من الإتيان بصرف الوجود.

2 ـ أن تحمل على الأمر المتعلّق بالكلّي بنحو مطلق الوجود، فيقول: إذا أمرتكم بكلّي بنحو مطلق الوجود من قبيل: أكرم العالم مثلاً، فأتوا من أفراده ما استطعتم.

وهذا أوّلاً: لا يناسب المورد؛ لأنّ الحجّ لم يؤمر به بنحو مطلق الوجود.

وثانياً: أنّ هذا هو المحذور الذي كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بصدد تخليص عكاشة والمسلمين منه، فإنّ عكاشة وبقية المسلمين لم يكونوا يحتملون أكثر من هذا المقدار، وهو وجوب الحجّ قدر المستطاع، وظاهر سياق الحديث أنـّه في مقام صيانتهم عن هذا المحذور.

3 ـ أن يكون المقصود ضرب قاعدة في مقام الاستفادة من الأدلّة: وهي أنـّه

418

متى أمرتكم بكلّيٍّ فاحملوا هذا الأمر على مطلق الوجود لا صرف الوجود.

وهذا أيضاً غريب، فإنّه أوّلاً: لا ينطبق على مورد الكلام؛ لأنّ الأمر بالحجّ لا يراد منه مطلق الوجود.

وثانياً: أنّ مثل هذه القاعدة غريبة عن لسان الشارع في مجموع خطاباته؛ لأنّ أغلب الأوامر الشرعيّة مبنيّة على صرف الوجود لا على مطلق الوجود، فتأسيس قاعدة تقتضي حمل كلّ أمر وارد في لسان الشرع على مطلق الوجود غريب.

هذه هي الإشكالات الثلاثة في المقام.

والجواب عن الإشكال الثالث يكون بالحمل على معنى معقول في المقام: وهو أنّ هذه القاعدة مضروبة للحدّ الأقصى للتكاليف الشرعيّة لا للحدّ الأدنى، أي: أنّ كلّ أمر يصدر منّي لا يلزم امتثاله بأكثر من المقدار المستطاع، وأمـّا أنـّه ما هو حدّه الأدنى؟ فهذا يتبع دليله، فقد يكون بنحو صرف الوجود وقد يكون بنحو مطلق الوجود مثلاً، والمقصود من المقدار المستطاع الذي جعل حدّاً أقصى للتكاليف الشرعيّة ليس هو الاستطاعة العقليّة، بل الاستطاعة التي تقابل الحرج والمشقّة، فإنّ بعض مراتب الحرج والمشقّة يوجب بالمسامحة العرفيّة صدق عنوان غير المستطاع، فالمقصود هو أنّ الحدّ الأقصى هو المقدار المستطاع بحسب النظر العرفي الخالي من تلك المرتبة العالية من الصعوبة والمشقّة التي قد تُزيل عنوان الاستطاعة عرفاً.

والقرينة على حمل الاستطاعة على هذا المعنى قوله: «لو قلت نعم لوجب الحجّ في كلّ عام، ولو وجب لما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم ...» فإنّ الاستطاعة هنا تكون بالمعنى الذي قلناه؛ لوضوح استحالة التكليف بغير المقدور، وعدم الكفر بترك غير المقدور، وبما أنّ الوضوح يكون كالقرينة المتّصلة بالكلام، فالاستطاعة في هذه الفقرة تكون ظاهرة في إرادة المشقّة الشديدة، فيكون هذا قرينة على أنّ الاستطاعة فى القاعدة ـ أيضاً ـ تكون بهذا المعنى، فيكون هذا الكلام جواباً لعكاشة بحسب الحقيقة، ولا يرد عليه الإشكال الثالث.

وبهذا البيان يظهر اندفاع الإشكال الثاني وهو أنـّه كيف يعقل إيجاب ما لا يستطاع وتكفير من ترك ما لا يستطيع؟ فإنّك عرفت حمل الاستطاعة على ما يقابل المشقّة الشديدة.

وأمـّا الإشكال الأوّل: وهو أنـّه كيف يمكن أن يكون السؤال منبّهاً للتشريع؟

419

فنقول: من المعقول افتراض جملة من الأحكام واجدة للملاك اللزومي في الواقع، مع فرض وجود محذور عن إبداء ذاك الحكم ومصلحة في إخفائه فيقع التزاحم بين ملاك الحكم ومصلحة الإخفاء، وقد تغلّبت مصلحة الإخفاء على ملاك الحكم، والإخفاء له مراتب، فقد تكون المصلحة في بعض مراتبه بالخصوص، ولا توجد في بعضها الآخر مصلحة، فمثلاً يكون شخص عطشاناً لكنّه يخفي عطشه عن أصدقائه لكي لا يكلّفهم بإتيان الماء، ولكن هذه مصلحة في بعض مراتب الإخفاء: وهي أن لا يتصدّى ابتداءً للبيان، أمـّا لو سُئل عن عطشه أو ألحّ عليه لبيّنه، هذا مثال للتقريب إلى الذهن، والمقصود أنـّه يمكن افتراض أنّ وجوب الحجِّ في كلّ عام مثلاً فيه ملاك لزومي، لكن توجد مصلحة في بعض مراتب الإخفاء، فقد يكون السؤال أو الإلحاح ببعض درجاته يوجب البيان؛ لعدم مصلحة في الإخفاء بتلك المرتبة بأن يسكت، أو يجيب بما يُفهم منه العدم عند الإصرار في السؤال بتلك المرتبة، فالسؤال يحقّق موضوع هذه المرتبة من الإخفاء التي ليس فيها مصلحة، ولعلّ هذا هو المشار إليه في الآية الكريمة في سورة المائدة﴿يا أيّها الّذينَ آمَنوا لا تَسألوا عن أشياءَ إن تُبدَ لكم تَسؤكم وإن تَسألوا عنها حينَ يُنزّل القرآن تُبدَ لكم عَفا الله عنها واللّه غَفورٌ حَليم﴾(1) وهذه الآية الكريمة لا تخلو عن إجمال، إلّا أنّ أظهر ما فيها هو حملها على ما ذكرناه من كون السؤال موجباً لإظهار الحكم.

ويوجد في الآية الكريمة احتمال أن يكون المراد من تلك الأشياء المعاجز كما حَمَلَه على ذلك جملة من المفسّرين، فكأنّهم كانوا يقترحون معاجز ويشتهونها، ومن السنن الإلهيّة أنـّه إذا أُبديت المعجزة الاشتهائيّة والمقترحة ولم يؤمنوا؛ ترتّب على ذلك العقاب على المقترحين والمشتهين؛ ولذا تقول الآية: ﴿ لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم﴾ .

هكذا يفسّر بعض المفسّرين، لكنّ هذا خلاف الظاهر؛ فإنّ الخطاب في لسان الآية متوجّه إلى المؤمنين، وتعدية السؤال بـ( عن ) والتعبير بــ (الإبداء) وربط المطلب بحال تنزّل القرآن كلّ هذه تبعّد هذا الاحتمال، وتقرّب كون تلك الأشياء أشياء يستخبرون عنها، لا أنـّه يطلبون إيجادها، وتلك الأشياء هي أحد أمرين: إمـّا هي الأحكام فهذا هو المقصود، وإمـّا هي اُمور واقعيّة تكوينيّة كانوا يستخبرون عنها


(1) سورة 5، المائدة، الآية 101.

420

كما يوجد في بعض الروايات: أنّ أحدهم سأل النبيّ (صلى الله عليه وآله) مَن أبي؟ وكان أبوه بحسب الظاهر شخصاً وعيّن النبي (صلى الله عليه وآله)شخصاً آخر غيره(1). وهكذا توجد بعض الحقائق التكوينيّة التي لو تبد لهم تسؤهم، إلّا أنّ حمل الآية على هذا أيضاً خلاف الظاهر؛ وذلك بقرينة ربط المطلب بتنزيل القرآن، وليس من عادة القرآن أن يبيّن مثل هذه المطالب، فلابدّ أن تكون الأشياء سنخ أشياء تبيّن في القرآن.

وعلى أيّ حال فلا إشكال في أنّ أقرب المحتملات بالنسبة إلى الآية: هو حملها على السؤال عن الأحكام، وهذه الأقربيّة تكون مؤيّدة ومعزّزة للتغلّب على المشكلة الاُولى في الحديث.

وبذلك نكون قد تغلّبنا على الإشكالات الواردة على الرواية. ولكن سقط الحديث عن الاحتجاج به في المقام؛ إذ غاية ما يستفاد منه بعد هذا هو بيان قاعدة عامّة للحدّ الأقصى للامتثال، وأنّ الامتثال لا يترقّب إلّا بمقدار لا يلزم منه الحرج، فتكون الرواية خارجة عن محل الكلام.

 

الدوران بين (الشرطيّة أو الجزئيّة) و(المانعيّة)

التنبيه الثامن: إذا دار أمر شيء بين كونه شرطاً او جزءاً وكونه مانعاً، فقد ذكر الشيخ الأعظم (قدس سره) أنّه ينفى كلاهما بالأصل، ولا يتعارض الأصلان لعدم لزوم المخالفة القطعيّة، فإنّه إمّا أن يأتي في هذه الصلاة التي يصليها بهذا الجزء أو يتركه، نظير دوران أمر شيء بين الوجوب والحرمة(2).

وأورد عليه المحقّق ا لنائيني (رحمه الله) والسيّد الاُستاذ بأنّ المخالفة القطعيّة للجزئيّة، أو المانعيّة في المقام تكون بترك الصلاة رأساً، إذن فيتساقط الأصلان، وعليه الاحتياط بتكرار الفعل إن وسع الوقت(3).

أقول:إنّ هذاالكلام غير صحيح؛لأنّه لو ترك أصل العمل فقدخالف شخص الأمر


(1) راجع تفسير علي بن إبراهيم: ج 1، ص 888 في ذيل الآية 101 من سورة المائدة.

(2) راجع الرسائل: ص 297 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة اللّه.

(3) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 90 بحسب طبعة مكتبة المصطفوي، وراجع أجود التقريرات: ج 2، ص 316، وراجع مصباح الاُصول: ج 2، ص 487.

421

المعلوم إجمالاً مخالفة قطعيّة تفصيليّة بتركه للأجزاء الاُخرى المعلومة، والأمر المتعلّق بالجميع واحد، والأجزاء ارتباطيّة حسب الفرض، والأصل لا يرخّص في المخالفة التفصيليّة، ولا تلزم من الجمع بين الأصلين مخالفة قطعيّة إجماليّة؛ لأنّه لو لم يصلِّ كانت المخالفة تفصيليّة، ولو صلّى لم تكن المخالفة قطعيّة.

نعم، بما أنّنا لا نشترط في تساقط الاُصول لزوم المخالفة القطعيّة، نبني هنا على التساقط ولزوم الاحتياط بتكرار الفعل مع سعة الوقت.

ثمّ إنّ السيّد الاُستاذ أورد نقضاً على الشيخ الأعظم (رحمه الله)، فقال: العجيب من الشيخ أنّه ذهب الى ذلك! مع أنّه في موارد دوران أمر الصلاة بين القصر والتمام يفتي بوجوب الاحتياط في حين أنّه بالدقّة داخلٌ تحت هذه المسألة؛ إذ قد دار أمر السلام بعد تشهّد الركعة الثانية بين الجزئيّة والمانعيّة(1).

أقول: إنّ هذا النقض غير وارد على الشيخ الأعظم (قدس سره) بمعنى أنّه يوجد فرق ظاهري بين المثال والمقام يمكن أن يوجب لمن يلتفت إليه التفصيل بينهما، والشيخ الأعظم (رحمه الله) فرّق بين فتوييه على هذا الأساس؛ وذلك لأنّه وإن دار الأمر في هذا المثال بين وجوب فعل السلام بعد الركعتين ووجوب تركه، لكنّه ليس الترك المحتمل الوجوب مطلق الترك، بل ترك تعقبه ركعتان اُخريان، فهنا يتصوّر شقّ ثالث، وهو أن يترك السلام ولا يأتي بركعتين اُخريين، فهو قد أتى بالأجزاء المعلومة تفصيلاً ولم تصدر منه إلّا مخالفة قطعيّة إجماليّة. فهذا هو الفرق الموجود في المقام الذي يجعلنا نقول: إنّ الشيخ (رحمه الله) لم يقع في تهافت وتناقض في كلامه كما كان يقصده السيّد الاُستاذ.

نعم، الصحيح عندنا أنّ هذا الفرق ليس فارقاً سواءٌ فرض العمل عباديّاً أم توصّليّاً؛ لأنّ المخالفة الإجماليّة في ذلك مقترنة بالمخالفة القطعيّة التفصيليّة دائماً.

فأمّا في فرض العباديّة فلأنّه لا يتمشّى منه قصد القربة فيما يأتي بها من أجزاء؛ لقطعه بأنّها لا تحقّق غرض المولى، إذن فقد ترك الواجب الضمني المعلوم تفصيلاً أيضاً.

وأمّا في فرض التوصّليّة فقد يقال فيه: إنّه لم تلزم مخالفة قطعيّة؛ لأنّه قد أتى بذات الأجزاء المعلوم وجوبها تفصيلاً، ولايشترط قصد القربة حسب الفرض، وإنّما


(1) راجع مصباح الاُصول: ج 2، ص 487.

422

خالف علمه الإجمالي بأنّه إمّا يجب عليه السلام، أو يجب عليه ترك السلام مع الإتيان بركعتين اُخريين.

إلّا أنّ هذا الكلام غير صحيح؛ لأنّه يعلم تفصيلاً بأنّ ما أتى به ليس مسقطاً للواجبات الضمنيّة المعلومة تفصيلاً؛ ومن هنا يعتبر عاصياً للتكليف المعلوم تفصيلاً بالحصّة المعلومة؛ لأنّ مجرّد الإتيان بعمل مع القطع بأنّه لا يُسقط ذلك المعلوم تفصيلاً لا يكون مخرجاً للمكلّف عن عهدة ذلك التكليف المعلوم تفصيلاً عقلاً؛ ولا يكون محقّقاً لقيامه بحق المولويّة.

وعليه فهذا يعتبر مخالفة وعصياناً للتكليف المعلوم تفصيلاً، فأيضاً أصبحت المخالفة العمليّة الإجماليّة مقترنة بالمخالفة التفصيليّة.

والعمدة ما قلناه من أنا لا نشترط في تعارض الاُصول لزوم المخالفة القطعيّة، فنقول بالتنجيز في كلّ هذه الموارد.

 

423

 

 

خاتمة

 

في شرائط الاُصول

 

 

 

1 ـ شرط الفحص

2 ـ شرط انتفاء الضرر

3 ـ قاعدة لا ضرر

 

 

425

 

 

 

 

 

 

شرائط الاُصول

 

وعمدة المطلب في هذا البحث هو شرط الفحص في الاُصول المؤمّنة، فنحن نتكلّم أوّلاً في هذا الشرط الذي هو المقصود الأصلي في المقام، ثمّ ننتقل الى كلام الفاضل التوني(رحمه الله) الذي جعل من شرائط جريان البراءة عدم استلزامها للضرر على مسلم آخر، ومنه ننتقل تبعاً للشيخ الأعظم (قدس سره)الى بحث قاعدة (لا ضرر).

 

 

426

 

 

 

شرط الفحص

 

والآن نبدأ ببحث شرط الفحص.

فنقول: تارة نتكلّم في وجوب الفحص في الشبهات الحكميّة، واُخرى في وجوب الفحص في الشبهات الموضوعيّة، فإن ثبت في الشبهات الحكميّة عدم الوجوب لم يجب أيضاً الفحص في الشبهات الموضوعيّة، ولا تصل النوبة الى البحث عن ذلك، وإن ثبت الوجوب تكلّمنا ـ عندئذ ـ في المقام الثاني وهو وجوب الفحص في الشبهات الموضوعيّة وعدمه، ونحن ننظر فعلاً الى خصوص أصالة البراءة، ويأتي الكلام عن اُصول اُخرى في أحد التنبيهات فنقول:

 

الفحص في الشبهات الحكميّة

أمّا المقام الأوّل: وهو وجوب الفحص في الشبهات الحكميّة وعدمه، فقد تكلّم الأصحاب في ذلك تارة في البراءة العقليّة ايماناً منهم بها، واُخرى في البراءة الشرعيّة .

 

بلحاظ البراءة العقليّة

أمّا البراءة العقليّة: فالمشهور بين المحقّقين اختصاصها بما بعد الفحص، واختار بعض عدم اختصاصها بذلك، ونحن قد مضى منّا إنكار البراءة العقليّة رأساً، وهنا نعيد إجمالاً ما مضى؛ لأنّه يفيدنا لدى البحث عن حال البراءة الشرعيّة في مقام بيان بعض الاُمور التي نريد أن نبيّنها في هذا الباب، فنقول: إنّ اُبّهة ما اشتهر من دعوى بداهة هذا الأصل تنكسر بمراجعة تاريخ مباحث هذا الأصل وتطوّراته في خلال تطوّرات العلم، فلم تكن لهذه القاعدة بصيغتها المعروفة الآن ـ أعني قبح العقاب بلا بيان ـ عين ولا أثر قديماً الى ما قبل مدرسة الوحيد البهبهاني (قدس سره)تقريباً

427

بحسب ما وَصَلَنا من كلماتهم، فكانت البراءة العقليّة في أزمنة الشيخ الطوسي الى المحقّق والعلاّمة تفسّر باستصحاب حال العقل الحاكم بعدم التكليف قبل الشريعة، وبعد هذا جعلت البراءة العقليّة أمارة من الأمارات من باب أنّ عدم وجود دليل على الحكم دليل على العدم، وبعد هذا اُرجِعت البراءة العقليّة الى قانون استحالة التكليف بغير المقدور خلطاً بين الجهل بالحكم بمعنى الإبهام المطلق والشكّ في وجود حكم معيّن وعدمه.

وواقع المطلب: هو أنّ هذه القاعدة ـ أعني قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ قاعدة عقلائيّة لا عقليّة كما تخيّلوا، حيث مضى تقسيم المولويّة، الى المولويّة الذاتيّة والمولويّات المجعولة، وقلنا: إنّ معنى قبح العقاب بلا بيان: هو أنّ المولى ليس من حقّه أن يعاقب على مخالفة حكمه عند عدم العلم به، وهذا يعني أنّه ليس من حقّه وجوب الامتثال في أحكامه المشكوكة، ومعنى ذلك: أنّ مولويّته تختصّ بالأحكام المعلومة ولا مولويّة له في دائرة الأحكام المشكوكة، إذن ففي مقام تشخيص صحّة البراءة العقليّة وعدمها يجب الرجوع الى مدرك المولويّة لنرى سعة المولويّة وضيقها. وفي المولويّات المجعولة من قبل العقلاء نرجع الى الجعل ونرى أنّه غير ثابت في دائرة التكاليف المشكوكة، وأنّ العقلاء بحسب جعولهم وارتكازاتهم يخصّون المولويّة بالتكاليف الواصلة. وهذا معنى قولنا: إنّ هذه قاعدة عقلائيّة.

وقد تمركزت هذه القاعدة العقلائيّة في أذهان العقلاء، وتعمّقت في نفوسهم الى درجة وقع الاشتباه بينها وبين القاعدة العقليّة، وتخيّل أنّ هذه قاعدة عقليّة نابعة من صميم العقل. وإذا رجعنا الى المولويّة الذاتيّة فلا بدّ أن نرجع الى مدرك مولويّته تعالى، وهو بداهة العقل، فمولويّته أمر واقعي ثابت يدركه العقل كإدراكه لأصل وجوده تعالى، ولا يمكن البرهنة على سعة هذه المولويّة أو ضيقها. ونحن يحكم عقلنا بالبداهة: أنّ مولويّة المولى تعالى تشمل التكاليف المعلومة والمظنونة والمشكوكة والموهومة، وأنّه لا أساس لقاعدة البراءة العقليّة.

هذا. وإذا راجعنا المرتكز العقلائي والقاعدة العقلائيّة، نرى أنّ حكمهم بعدم المولويّة وعدم حقّ الامتثال على العبد وحقّ العقاب لدى مخالفته إنّما يختصّ بما بعد الفحص، ولا تجري القاعدة بمجرّد عدم تصدّي العبد للفحص عن حكم مولاه وبقائه شاكّاً في الحكم، هذا في أحكام المولويّات الاجتماعيّة.

428

وأمّا في أحكامه تعالى فحيث عرفت أنّ البراءة عقلائيّة لا عقليّة فلا موضوع للبراءة العقليّة فيها حتّى يقال: هل تختصّ بما بعد الفحص، أو تشمل ما قبل الفحص؟ والمشهور لدى القائلين بالبراءة العقليّة هو اختصاصها بما بعد الفحص(1).


(1) والمحقّق الإصفهاني (قدس سره) ذهب الى أنّه بعد فرض انحلال العلم الإجمالي لا تختصّ البراءة العقليّة بما بعد الفحص، فإذا انحلّ العلم الإجمالي بالأحكام لدى العبد بحصوله على المقدار المعلوم بالإجمال مثلاً، ثمّ شكّ في حكم ما جرت بشأنه البراءة العقليّة حسب ما يراه المحقّق الاصفهاني(رحمه الله)(1).

وكان المقرَّر أن يبحث اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) كلام المحقّق الاصفهاني في المقام، ولكنّه أخيراً أضرب صفحاً عن ذلك ولم يبحثه.

وحاصل ما ذكره المحقّق الاصفهاني (رحمه الله) ـ بعد تنقيح وتحسين منّا مع إسقاط التشويشات الموجودة في كلامه ومع حمل كلامه على أفضل محتملاته ـ هو أن يقال:

إنّ اختصاص قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) بما بعد الفحص ينشأ من أحد وجهين:

الأوّل: دعوى أنّ البيان القابل للوصول بيان قاطع للعذر ومنجّز للتكليف، فاحتماله يؤدّي الى احتمال التكليف المنجّز، واحتمال التكليف المنجِّز منجّز عقلاً.

والجواب عن ذلك: أنّ محرّكيّة البيان إنّما تكون بالوصول الفعلي، وليس البيان بوجوده الواقعي قابلاً للتحريك ورافعاً لموضوع قاعدة (قبح العقاب بلا بيان).

والثاني: أنّ التكليف وإن لم يتنجّز بمجرّد البيان القابل للوصول ما لم يصل فعلاً فيقبح العقاب عليه، لكنّ العقاب يكون على ترك الفحص عن حكم عمل ارتكبه، فَتَرْكُ العبد للفحص عن حكم ما يرتكبه رغم علمه بأنّ بيان المولى عادة لا يصله إلّا بالفحص خروجٌ عن زيّ العبوديّة وظلم للمولى وقبيح عقلاً.

والجواب عن ذلك: أنّه بعد فرض عدم تنجّز التكليف الواقعي المحتمل قبل الفحص كما مضى في الجواب عن الوجه الأوّل لا نحسّ بقبح في عدم الفحص عنه، أو في الإقدام على مخالفته بلا فحص.

أقول: واقع المطلب هو ما يقوله اُستاذنا الشهيد (رحمه الله): من أنّ المهمّ هو معرفة مدى سعة دائرة مولويّة المولى تعالى، فإن فرضنا أنّ مولويّته تشمل مطلق الحكم ـ الثابت في الواقع ـ المحتمل لدى العبد، أو مطلق احتمال الحكم، ثبت العقاب على الحكم المحتمل، أو احتمال الحكم لدى المخالفة، ولا يبقى مورد لقاعدة (قبح العقاب بلا بيان).

وإن فرضنا أنّ مولويّته لا تشمل غير الحكم الواصل وصولاً فعليّا، أو غير العلم بالحكم


(1) راجع نهاية الدراية ج 2، ص 305 - 306.

429

بلحاظ البراءة الشرعيّة

وأمّا البراءة الشرعيّة: فالمشهور فيها أنّ دليلها له إطلاق لما قبل الفحص، إلّا أنّه يوجد مانع عقلي، أو شرعي عن التمسّك بهذا الإطلاق، لكنّ الصحيح عندنا قصور المقتضي في نفسه.

وعلى أيّ حال، فهنا وجوه عديدة لإثبات اختصاص البراءة بما بعد الفحص، بعضها يرجع الى إثبات قصور المقتضي، وبعضها يرجع الى إثبات وجود المانع العقلي، وبعضها يرجع الى إثبات وجود المانع الشرعي كما يظهر ذلك ببياننا لتلك الوجوه:

الوجه الأوّل: ما هو المختار من عدم تماميّة المقتضي وعدم الإطلاق في جميع أدلّة البراءة. ويظهر ذلك بذكر مقدّمتين:

الاُولى: ما تقدّم آنفاً عند إنكار البراءة العقليّة رأساً من أنّ ما يحسّ به من كون الأصل الأوّلي هو البراءة إنّما هو أصل عقلائيّ بنى عليه جميع المجتمعات البشريّة في المولويّات المجعولة لهم، فأصبح أصلاً أوّليّاً مرتكزاً في أذهانهم.

الثانية: أنّه مهما وجد ارتكاز عقلائيّ بنكتة عامّة في موارد، وورد من الشارع نصّ يطابق ذاك القانون العقلائيّ انعقد ظهور عرفي لذلك الكلام في إمضاء نفس ذلك القانون ونكتته، فيتبعها في السعة والضيق، وإن فرض أنّ نصوص العبارة كانت تختلف بحسب المداليل اللغويّة عن ذلك. وهذا نظير ما نقوله في دليل حجّيّة خبر الثقة من أنّه يعدّ إمضاء لما ارتكز في أذهان العقلاء من حجّيّة خبر الثقة بنكتة معيّنة، ويتبع ذلك سعة وضيقاً.

وعليه نقول فيما نحن فيه: إنّ دليل البراءة منصرف الى إمضاء القانون العقلائيّ ونكتته، وهو قانون المعذّريّة لدى عدم وصول الحكم، ويتبعه سعة وضيقاً،


إذن فقاعدة (قبح العقاب بلا بيان) تجري حتّى بعد الفحص.

وإن فرضنا أنّ مولويّته تشمل الحكم المحتمل، أو احتمال الحكم لدى وجود بيان قابل للوصول بالفحص، أو لدى احتمال البيان القابل للوصول بالفحص، إذن لا تجري البراءة العقليّة قبل الفحص وتجري بعد الفحص، ولا يمكن البرهنة على أيّ فرض من هذه الفروض.

والصحيح عندنا هو الفرض الأوّل.

ولو اُريد قياس المولويّة الذاتيّة بالمولويّات العقلائيّة اتّجه الفرض الثالث.

430

ومن المعلوم أنّ هذا القانون عند العقلاء ليس في فرض كون الحكم في معرض الوصول مع عدم تصدّي العبد للاطّلاع عليه(1).

الوجه الثاني: ما هو المختار ـ أيضاً ـ من عدم تماميّة المقتضي(2)، لكن لا بمعنى عدم الإطلاق في جميع أدلّة البراءة كما ذكرناه في الوجه الأوّل، بل بلحاظ مجموع أدلّة البراءة.

وتوضيح ذلك: أنّه لم يتمّ عندنا من أخبار البراءة من حيث السند والدلالة معاً إلّا حديث الرفع، وبغضّ النظر عن الوجه الماضي والوجه الآتي يكون هذا الحديث مطلقاً شاملاً لما قبل الفحص، وتمّت عندنا من الكتاب آيتان: وهما قوله تعالى: ﴿لا يكلّف اللّه نفساً إلّا ما آتاها(3) وقوله تعالى: ﴿وما كان اللّه ليُضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتّى يُبيّن لهم ما يتّقون(4).

وهاتان الآيتان تدلاّن بلحاظ المستثنى منه على البراءة، وبلحاظ المستثنى على عدم البراءة عند ثبوت الإيتاء والتبيين، وليس المفهوم عرفاً من الإيتاء والتبيين أن يطرق المولى باب دار كلّ واحد من عبيده ويخبره بالحكم مثلاً، بل يصدق الإيتاء والتبيين بمجرّد جعل الحكم في معرض الوصول، وهذا أعمّ من فرض الوصول فعلاً وعدمه. كما أنّ حديث الرفع أعمّ من عدم الوصول لعدم الفحص وفرض عدم الوصول بعد الفحص، فالنسبة بينهما عموم من وجه، ومتى ما وقع التعارض بين الكتاب والخبر غير القطعي بالعموم من وجه قدّم الكتاب على الخبر(5).


(1) وهذا البيان بعينه يأتي فيما لو اُريد التمسّك بأدلّة البراءة التي هي في المرتبة الثانية ـ أعني في مرتبة البراءة العقليّة ـ أي التي موضوعها الشكّ في الواقع وفي وجوب الاحتياط، فإنّها ـ أيضاً ـ منصرفة بنفس النكتة الى ما بعد الفحص عن الواقع وعن إيجاب الاحتياط لا الى خصوص ما بعد الفحص عن إيجاب الاحتياط، والمفروض أنّه لم يتمّ بعد في المقام الفحص عن الواقع، ولم يكن موضوعها الشكّ في وجوب الاحتياط فقط حتّى يفترض أنّ إطلاقها إنّما ينصرف عن فرض عدم الفحص عن وجوب الاحتياط، وأنّنا لو فحصنا عن وجوب الاحتياط ولم نحصل على دليل عليه تمسّكنا بإطلاق دليلها رغم عدم الفحص عن الواقع.

(2) ويمكن تسمية هذا الوجه ببيان وجود المانع.

(3) س 65، الطلاق، الآية 7.

(4) س 9، التوبة، الآية 115.

(5)لايقال: إنّنا ننفي احتمال الإيتاء والتبيين لدى شكّنا في ذلك قبل الفحص بالاستصحاب،

431

أمّا لو فرض عدم تقديم الكتاب فوقع في المقام التعارض والتساقط فقد يقال: إنّ النتيجة هنا ـ أيضاً ـ هي الاحتياط؛ وذلك لأنّ المرجع بعد التساقط ـ بناءً على إنكار البراءة العقليّة ـ هو الاحتياط العقلي.

إلّا أنّ الصحيح: أنّه بعد التعارض والتساقط تصل النوبة الى البراءة الشرعيّة في المرتبة الثانية، أي: البراءة عن وجوب الفحص والاحتياط(1).

الوجه الثالث: ما هو المختار ـ أيضاً ـ من قصور المقتضي ببيان آخر: وهو أنّنا نبني في موارد الشكّ في وجود القرينة المتّصلة على أنّ أصالة عدم القرينة لا تجري، وأنّ احتمال القرينة المتّصلة يوجب عدم إمكان التمسّك بالظهور كما هو الحال في الشكّ في قرينيّة الموجود، وذلك خلافاً للمشهور الذين فصّلوا بين الشكّ في وجود القرينة والشكّ في قرينيّة الموجود، فقالوا بعدم إمكان التمسّك بالظهور في الثاني وبإمكانه في الأوّل، فنحن نقول ـ على ما مضى تحقيقه ـ بأنّ الشكّ في وجود القرينة ـ أيضاً ـ موجب لعدم إمكان التمسّك بالظهور؛ لأنّ موضوع الحجّيّة هو الظهور الفعلي وهو غير محرز.

نعم، مضى أنّ احتمال القرينة منفيّ بشهادة الراوي؛ إذ يدلّ سكوت الراوي بظهور حاله على عدم وجود قرينة، إلّا أنّ هذا في القرائن المقاليّة، وما يشبهها من القرائن الحاليّة، وأمّا في قرينة الحال العمومي للنبي، أو الإمام المقتنص من مجموع حياته وحالاته، فكثيراً ما لا يلتفت إليها الراوي بالتفصيل أصلاً، وإن كان وجودها يؤثر تكويناً في فهم الراوي للظهور. وبكلمة اُخرى: لم يكن مبنى الرواة على ذكر القرائن الحاليّة التي تكون من هذا القبيل، ولذا لم تذكر في شيء من الروايات. نعم،


أو بالبراءة عنه في المرتبة الثانية.

فإنّه يقال: إنّ هذا الاستصحاب، أو البراءة بنفسه طرف للمعارضة مع المستثنى في الآيتين؛ لأنّ المستثنى يدلّ على أنّ وجود البيان في معرض الوصول كاف لاهتمام المولى بتحصيل غرضه لدى الشكّ ولو لم يصل، وهذا مساوق لعدم إمكان نفي البيان بالاستصحاب، أو البراءة حينما نحتمله.

(1) المقصود إمّا التمسّك بأدلّة البراءة التي هي في مستوى البراءة العقليّة بعد فرض سقوط دليل البراءة التي هي في عرض أصالة الاحتياط بالتعارض المفروض في المقام، أو التمسّك بنفس حديث الرفع لرفع وجوب الاحتياط بعد أن شككنا في الواقع، وفي وجوب الاحتياط.

432

قد تذكر تلك الحالات في التراجم وأحوال الأئمة (عليهم السلام).

وعلى هذا فليس سكوت الراوي شهادة على عدم قرينة حاليّة من هذا القبيل، فإذا احتملت قرينة حاليّة كذلك سقط الظهور عن الحجّيّة، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ من المحتمل وجود قرينة حاليّة صارفة لإطلاق الكلام عمّا قبل الفحص، وتلك القرينة: هي شدّة اهتمام النبي(صلى الله عليه وآله)بنشر الأحكام وتبليغها وترويجها، وحثّ الناس على تعلّمها والاهتمام الشديد الأكيد بالأحكام، فمثل هذا الحال يصرف ظهور قوله(صلى الله عليه وآله): «رفع ما لا يعلمون» عمّا قبل الفحص، بل نحن قاطعون بوجود قرينة حاليّة من هذا القبيل صارفة لظهور الكلام، إلّا أنّنا من باب التنزّل نفرض الشكّ في ذلك، ونقول: إنّه لا يمكن هنا نفي احتمال القرينة بشهادة الراوي.

الوجه الرابع: ما في الدراسات(1) من أنّ الحكم الضروري العقلي بوجوب الفحص ولزوم الاحتياط قبل الفحص دليل على عدم إرادة الإطلاق لما قبل الفحص، بل هو كالقرينة المتّصلة المانعة عن انعقاد الظهور.

ويرد عليه: أنّ هذا الحكم العقلي وإن كان ثابتاً، بل نحن نؤمن بحكم العقل بوجوب الاحتياط حتّى بعد الفحص، لكنّ هذا الحكم العقلي تعليقي، أي: أنّه معلّق على عدم ورود الترخيص من المولى كما هو واضح، فإطلاق دليل البراءة يرفع موضوع هذا الحكم العقلي، فكيف يعقل أن يكون هذا الحكم العقلي قرينة على التخصيص؟!

وكم فرق بين جعل حكم العقل بما هو حكم عقلي مقيّداً مع أنّه حكم تعليقي، وبين ما صنعناه من جعل الحكم العقلائي وارتكاز العقلاء صارفاً للإطلاق.

الوجه الخامس: أنّ دليل البراءة وإن فرضناه في نفسه مطلقاً لكنّه مقيّد بعدم قيام الأمارة المعتبرة على خلافها، فقبل الفحص يكون التمسّك به تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقيّة.

وهذا الوجه مبنيّ على القول بأنّ الوجود الواقعي للحجّة مانع عن جريان البراءة، وهذا يتّجه على مبنانا من أنّ الأحكام الظاهريّة كالأحكام الواقعيّة تتنافى بوجوداتها الواقعيّة، فيقع التعارض بين أدلّتها بمجرّد الوجود الواقعي؛ لأنّ الأحكام


(1) ج 3، ص 308 - 309، راجع ـ أيضاً ـ مصباح الاُصول: ج 2، ص 493.