321

الوجوب الضمني للأقلّ، فإنّه الوجوب الذي يوجب المؤونة الزائدة، بخلاف الوجوب الاستقلالي للأقلّ، فهما أقلّ وأكثر من حيث ما يوجبان من المؤونة فتجري البراءة عمّا يوجب المؤونة الزائدة.

 

3 ـ العلم بالغرض

المانع الثالث: مسألة العلم بالغرض، وهذا الوجه مركّب من مقدّمات ثلاث:

1 ـ إنّ الشكّ في المحصّل للواجب مجرى للاشتغال لا البراءة.

2 ـ إنّنا إذا لاحظنا متعلّق الوجوب كان ذلك مردّداً بين الأقلّ والأكثر، لكنّنا إذا لاحظنا الغرض كان من باب الشكّ في المحصّل؛ إذ لا نعلم أنّ الغرض الوحداني المقصود حصوله من العلم بهذا المركّب الارتباطي هل يحصل بالأقلّ أو بالأكثر؟

3 ـ إنّ حال الغرض حال نفس متعلّق الوجوب في حكم العقل بلزوم تحصيله على حدّ لزوم تحصيل متعلّق الوجوب.

فينتج من هذه المقدّمات وجوب الاحتياط في المقام؛ لأنّ الشكّ في المقام بلحاظ الغرض شكّ في المحصّل بحكم المقدّمة الثانية، والشكّ في المحصّل للغرض كالشكّ في المحصّل للواجب؛ لأنّ الغرض أيضاً واجب التحصيل كنفس الواجب بحكم المقدّمة الثالثة، وقد كان الشكّ في المحصّل للواجب مجرىً للاشتغال دون البراءة، ـ كما قلناه في المقدّمة الاُولى ـ فيتعيّن الاحتياط بإتيان الأكثر.

والجواب عن ذلك يكون بوجهين:

الوجه الأوّل: أنـّه قد فرض في المقام العلم بغرض وحداني واجب التحصيل غير دائر بين الأقلّ والأكثر، مع الشكّ في حصوله بالأقلّ، فلزم الاحتياط بفعل الأكثر، لكنّنا نمنع ثبوت مثل هذا العلم؛ إذ من المحتمل كون الغرض المطلوب تحصيله بنفسه مردّداً بين الأقلّ والأكثر، وفي مقام إبداء هذا الاحتمال نبدي خمس فرضيات:

الفرضيّة الاُولى: ما يستوحى من كلام المحقّق النائيني (رحمه الله)(1) حيث أفاد (قدس سره)


(1)راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 54 ـ 57، وأجود التقريرات: ج 2، ص293ـ294، وراجع أجودالتقريرات: ج 1، ص 38 ـ 40، وفوائد الاُصول: ج 1، ص 67 ـ 72.

322

في مقام الجواب عن شبهة الغرض: أنّ الغرض إنّما يجب تحصيله إذا كانت نسبته إلى المقدّمة التي هي فعل المكلّف نسبة المعلول إلى العلّة، كالإحراق بالنسبة إلى الإلقاء في النار، فعندئذ يجب تحصيل الغرض، بل الذي يفهمه العرف من الأمر بمثل هذه المقدّمة إنّما هو الأمر بتحصيل الغرض، فلو قال المولى: ألق ِ هذا الشيء في النار فهم منه الأمر بإحراقه، وأمـّا إذا كان الغرض متوقّفاً حصوله على مقدّمات خارجة عن قدرة المكلّف زائداً على توقّفه على الفعل الداخل تحت قدرة المكلّف، وكانت نسبة الغرض إلى فعل المكلّف نسبة ذي المقدّمة إلى المقدّمات الإعدادية، كما هو الحال في المصالح المترتّبة على الواجبات الشرعيّة مثل الصلاة، فلا يجب على العبد تحصيله؛ لأنّ تحصيله خارج عن قدرته، وإنّما الذي يجب تحصيله في مثل ذلك إنّما هو خصوص تلك المقدّمات الداخلة تحت قدرة العبد، والدليل على كون الغرض في أمثال هذه الاُمور من قبيل القسم الثاني ـ أي: الخارج عن قدرة العبد ـ لا القسم الأوّل، هو تعلّق الأمر في لسان الأدلة بنفس الأفعال؛ فإنّه في المورد الذي يشكّ في أنّ الغرض هل هو من قبيل القسم الأوّل أو الثاني، سيتكشف الحال فيه من ظاهر لسان الدليل، فإن كان الأمر في لسان الدليل متعلّقاً بنفس الغرض فهذا ظاهر في كونه من القسم الأوّل، وعدم توقّفه على أُمور اُخرى خارجة عن قدرة المكلّف، وإن كان متعلّقاً بنفس الأفعال فهذا ظاهره أنّ الغرض ليس بنفسه تحت قدرة المكلّف(1)، وإنّما الذي يكون تحت قدرته ويجب عليه تحصيله هو هذه الأفعال والمقدّمات.

هذا ما أفاده المحقّق النائيني(رحمه الله) في المقام.


(1) وإلّا لزم الأمر بالنتيجة أو تقييد الأمر بالمقدّمة بالذي تترتب عليه النتيجة؛ إذ لو لم يفعل ذلك لزم نقض غرض المولى؛ لأنّه بعد إن لم يكن هناك ظهور عرفي في إرادة المسبّب، كما في مثل الأمر بالإلقاء في النار الظاهر في إرادة الإحراق يكون إطلاق الكلام موجباً لعدم اهتمام العبد بتحصيل المسبّب، واقتصاره على فعل المقدّمة، سواء ترتّبت عليها النتيجة أو لا، هذا ما يستفاد من كلمات المحقّق النائيني (رحمه الله)، ولكن الواقع أنّ تعلّق الأمر بالمقدّمة دون النتيجة إنّما يكون ظاهراً في عدم إيجاب حصول النتيجة، سواء كان ذلك من باب خروجها عن قدرة المكلّف أو من باب ما سيأتي من اُستاذنا الشهيد في الفرضيّة الثانية من عدم اهتمام المولى بالنتيجة بأكثر من سدّ باب العدم من ناحية تلك المقدّمة.

323

وأورد عليه السيّد الاُستاذ(1): بأنّ هذا إنّما يتمّ في الغرض الأقصى، ولكن هنا غرض أدنى مباشر لفعل المكلّف الذي هو مقدّمة إعداديّة، وذلك الغرض هو نفس حصول الإعداد بمقدار هذه المقدّمة للغرض الأقصى، وهذا الغرض نسبته إلى الفعل نسبة المعلول إلى علّته، فعاد الإشكال.

هذا ما أفاده السيّد الاُستاذ.

ولكنّنا نكمل هنا تسلسل البحث بأن نقول: إنّ الغرض الإعدادي الأدنى لم يثبت كونه أمراً وحدانيّاً يترتّب على مجموع الأجزاء، فلعلّه يترتّب على كلّ جزء من هذه الأجزاء غرض إعدادي، بأن يكون كلّ واحد منها مُعِدّاً بقدره للمكلّف للوصول إلى الغرض الأقصى، وإنّما صار المجموع واجباً واحداً ارتباطيّاً بالرغم من تعدّد الأغراض المباشرة بتعدّد الأجزاء؛ لأنّ تلك الاغراض إنّما تكون غرضيّتها لأجل ذلك الغرض الأدنى الوحداني، فالواجب واحد ارتباطي لوحدة الغرض الأقصى، ولكن مع ذلك تكون الاغراض المباشرة المترتّبة على نفس الأفعال متعدّدة بتعدّد الأفعال.

وهذا هو ما قلناه منذ البدء من احتمال دوران الغرض بين الأقلّ والأكثر.

إلّا أنّ هذه الفرضيّة فيها نقطة ضعف: وهي أنّ المحقّق النائيني(قدس سره)فرض الغرض الأقصى بنحو يستدعي الإتيان بكلّ ما له من مقدّمات اختياريّة، وإنّما لم يجب تحصيله بإتيان تمام المقدّمات؛ لأنّ بعض مقدّماته غير اختياريّة، وإذا كان الأمر كذلك فعند الشكّ في كون فعل اختياري خاصّ داخلاً في مقدّمات ذلك الغرض وعدمه يكون ذلك مجرى للاشتغال، وحكم العقل بوجوب حفظ الغرض بهذا المقدار، أي: بمقدار سدّ أبواب عدمه، ولو الاحتماليّة الداخلة تحت قدرة المكلّف.

الفرضيّة الثانية: هي عين الفرضيّة الاُولى ـ أعني فرضيّة تعدّد الأغراض المباشرة المترتّبة على الأجزاء المتعدّدة ـ لكن بعد تجريدها عن نقطة الضعف التي عرفت، بأن يفرض أنّ الغرض الأقصى ليس بنحو يطلب سدّ جميع أبواب عدمه الاختياريّة، فالشارع إنّما أوجب بعض الأفعال الاختياريّة التي هي مقدّمة لذلك الغرض؛ لإتمامها لمصلحة التسهيل، أو غيرها من النكات، فقد ترى المولى يأمر


(1) راجع الدراسات: ج 3، ص 276 ـ 277، ومصباح الاُصول: ج 2، ص 437.

324

عبده مثلاً بالتفتيش عن كتاب في المكتبة الفلانيّة لغرض تحصيل ذاك الكتاب، ولكن ليس اهتمامه بهذا الغرض بدرجة يطلب من عبده التفتيش في جميع المكتبات حتى المكتبات الموجودة في غير بلده، فيقتصر على طلب التفتيش في المكتبة الفلانيّة الموجودة في بلده، وعليه فليس من المحتّم افتراض لزوم الإتيان بجميع الاُمور الاختياريّة التي هي في الواقع الدخيلة في تحصيل الغرض إعداديّاً؛ كي لا تجري البراءة في فرض الشكّ في داخل أمر اختياري ما في ذلك، بل نشكّ في أصل مطلوبيّة تمام هذه الإعدادات المتعدّدة وعدمها، وهذا هو ما قلناه من دوران الغرض بين الأقلّ والأكثر.

الفرضيّة الثالثة: أن يفترض أنّ الغرض عبارة عن نفس الأفعال: إمّا بذاتها كالسجود، بناءً على أن يكون وجوبه لحسنه الذاتي، وكونه بذاته كمالاً للعبد لا لغرض آخر متولّد منه، أو بعنوان منطبق على تلك الأفعال، كما لو فرضنا أنّ إيجاب الصلاة مثلاً لم يكن لأجل غرض متولّد من نفس متعلّق التكليف بما هو، بل لأجل أن يتّصف الإتيان به بعنوان طاعة المولى، التي هي بنفسها كمال للعبد، فالغرض إذن مردّد بين الأقلّ والأكثر. بل لو كان الغرض حصول الطاعة فعند جريان البراءة عن الزائد تحصل الطاعة بالباقي.

الفرضيّة الرابعة: أن يفرض الغرض مردّداً بين المرتبة الضعيفة والمرتبة الشديدة، كأن يتردّد الأمر بين أن يكون الغرض هو الارتواء الضعيف الذي يحصل بكأس واحد من الماء، والارتواء الشديد الذي يحصل بكأسين من الماء، بمعنى أن يكون الارتواء الشديد بمرتبته مطلوباً واحداً، لا بمعنى مطلوبيّة المرتبة الضعيفة مع مطلوبيّة المقدار الزائد كي ينافي ذلك فرض ارتباطيّة الواجب، فإذا تردّد الغرض بين المرتبة الضعيفة لشيء والمرتبة الشديدة له جرت البراءة بلحاظ المقدار الزائد؛ لأنّ المرتبة الضعيفة مطلوبة إمّا استقلالاً أو ضمناً، وكون الزائد مطلوباً غير معلوم.

الفرضيّة الخامسة: أن يفرض أنّ كلّ جزء من هذه الأجزاء يترتّب عليه أثر مستقلّ، والغرض كان عبارة عن نفس تلك الآثار، فتردّد أمر الغرض بين الأقلّ والأكثر.

ولا ينافي ذلك فرض ارتباطيّة الواجب؛ وذلك لإمكان افتراض أنّ الغرض عبارة عن مجموع تلك الآثار، لا عن كلّ واحد منها، كما لم يكن ينافيه فيما مضى من الفرضية الثالثة ـ وهي افتراض كون الغرض عبارة عن نفس الأفعال ـ حيث كان

325

المقصود هناك ـ أيضاً ـ كون مجموع الأفعال هو الغرض، لا كلّ جزء جزء منها كي ينافي الارتباطيّة. فمثلاً: قد يقال: إنّ الجرءة وحدها ليست كمالاً، والتروّي وحده ليس كمالاً، ومجموعهما كمال، فلنفترض تلك الأفعال في الفرضية الثالثة، أو تلك الآثار في هذه الفرضية من هذا القبيل.

فهذه فرضيات خمس أو أربع ـ بعد إسقاط الفرضية الاُولى لما كان فيها من نقطة ضعف ـ في صالح تردّد الغرض بين الأقلّ والأكثر.

ومع فرض تردّده بين الأقلّ والأكثر تجري البراءة العقليّة والنقليّة: أمـّا العقليّة فظاهر، فإنّ عقاب العبد تجاه الجزء الزائد من الغرض غير المبيّن عقاب بلا بيان، وهو قبيح عندهم.

وأمـّا النقليّة فيمكن أن يستشكل فيها في مثل «رفع ما لا يعلمون» باعتبار أنّ التعبير (بالرفع) يناسب أن يكون النظر إلى ما هو فعل المولى من الإلزام والتحريك، ونحو ذلك من العناوين التي ينتزعها العرف من أمر المولى، لا إلى الغرض فإنّ الرفع يناسب الفعل الاختياري للمولى الذي يكون بيده وباختياره رفعه ووضعه.

وهذا الاستشكال غير صحيح، إلّا أنّ الجواب عنه يرجع إلى ما سيأتي ـ إن شاء اللّه ـ من الوجه الثاني من وجهي الجواب عن شبهة الشكّ في المحصّل في المقام، في حين أنّ المقصود ـ الآن ـ تتميم المطلب بقطع النظر عن ذاك الوجه، فلنقتصر في المقام على القول بأنّ هذا الاستشكال لو تمّ في مثل حديث الرفع لم يضرّنا شيئاً؛ إذ تكفينا في المقام أدلّة البراءة التي لا تكون بلسان الرفع، بل تكون بمثل لسان عدم العقاب، من قبيل قوله تعالى:﴿وما كُنّا معذّبين حتّى نبعث رسولاً﴾(1) لو تَمّت دلالتها على البراءة، وقوله تعالى: ﴿وما كان اللّه ليضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتّى يبيّن لهم ما يتّقون﴾(2) فمثل هذه الأدلّة حالها حال البراءة العقليّة، وتنفي العقاب من دون بيان، ومن المعلوم أنّ العقاب بلحاظ الجزء الزائد من الغرض غير المبيّن عقاب بلا بيان.

ثمّ إنّ هناك إشكالاً آخر: وهو أنّنا لو كنّا نعلم أنّ الغرض أمر مركّب مردّد بين الأقلّ والأكثر سنخ ما هو حال أجزاء المتعلّق لصحّ إجراء البراءة بلحاظ الجزء الزائد


(1) سورة 17، الإسراء، الآية 15.

(2) سورة 9، التوبة، الآية 115.

326

المشكوك من الغرض، ولكنّ المفروض أنـّنا لا نعلم بذلك، بل نحتمل كونه كذلك، ونحتمل أيضاً كونه غرضاً واحداً بسيطاً دار أمره بين الترتّب على الأجزاء التسعة مثلاً، أو الأجزاء العشرة المتعلّقة للتكليف، فلم يثبت الانحلال ودوران الغرض بين الأقلّ وحده، وهو مع الزائد عليه كي تجري البراءة بلحاظ الزائد.

والجواب: أنـّه إذا دار الأمر مثلاً بين الغرض البسيط الوحداني الموقوف على الأكثر، والغرض المركّب الذي يحرز حصول المقدار المعلوم منه بالإتيان بالأقلّ، جرت البراءة بلحاظ ذلك الغرض البسيط، ولا تعارض بالبراءة بلحاظ الغرض المركّب المستدعي للإتيان بالأقلّ؛ لأنّ إجراء البراءة عن ذاك المقدار من الغرض المركّب لا معنى له؛ إذ ليست فيه مؤونة زائدة غير المؤونة المعلومة بالتفصيل، بخلاف الغرض البسيط الموقوف على الأكثر.

فإن قلتَ: على هذا لا أثر لفرض احتمال كون الغرض مركّباً ومردّداً بين الأقلّ والأكثر؛ إذ حتّى مع فرض وحدة الغرض وبساطته نقول: إنّنا علمنا إجمالاً بثبوت غرض وحداني إمّا في الأكثر أو في الأقلّ فتجري البراءة بلحاظ الغرض في الأكثر، ولا تعارَض بالبراءة بلحاظ الغرض في الأقلّ؛ لأنّ الأوّل هو المشتمل على المؤونة الزائدة دون الثاني الذي ليست فيه مؤونة عدا المؤونة المعلومة بالتفصيل، وهي ضرورة الإتيان بالأقل.

قلت: إنّ تردّد الأمر بين غرض بسيط وغرض مركّب هو تردّد بين سنخين من الغرض، فإنّ تركّبه أو بساطته داخل في ذات الغرض، فيعقل إجراء ا لبراءة عن أحد الغرضين، وهو الغرض المستدعي لمؤونة زائدة على المكلّف إضافة إلى المؤونة المتيقّنة، وأمـّا تردّد الأمر بين توقّف الغرض الوحداني على الإتيان بالأكثر، وتوقّفه على الإتيان بالأقل فليس هذا تردّداً بين سنخين من الغرض، فإنّ كون محصِّله عبارة عن الأكثر أو الأقلّ ليس داخلاً في ذات الغرض، فجهة الشكّ متمحّضة في المحصّل، أي: أنـّنا نشير إلى ذاك الغرض الوحداني ونقول: لا ندري هل يكفي الأقلّ في تحصيله أو لا؟ فعندئذ لا مجرى للبراءة بقطع النظر عمّا سوف يأتي ـ إن شاء اللّه ـ من الوجه الثاني.

نعم، لو كان هنا شيئان نعلم أنّ أحدهما متوقّف على الأكثر، والآخر متوقّف على الأقلّ، ولم ندرِ أنّ غرض المولى هل هو الأوّل أو الثاني؟ جرت البراءة عن الأوّل، ولكن الأمر ليس كذلك، فأيّ غرض يفترض في المقام يكون مردّداً عندنا بين

327

أن يحصُل بالأقلّ وأن يحصُل بالأكثر.

الوجه الثاني: أنّنا لو سلّمنا العلم بغرض وحدانيّ مردّد أمر تحصيله بين أن يكون بالأقلّ أو بالأكثر حكمنا مع ذلك بالتأمين بلحاظ البراءة العقليّة ـ لو قلنا بها ـ والشرعيّة.

أمـّا البراءة العقليّة فتقريب جريانها في المقام: هو أنّ أحد ملاكات البراءة العقليّة عند القائلين بها هو أخذ المولى على عاتقه بيان المطلب، فمتى ما التزم المولى ببيان شيء على تقدير وجوبه مثلاً، ولم يصلنا البيان قَبُحَ العقاب على ترك ذاك الشيء، رغم أنّنا نحتمل صدور البيان، وهذا الملاك وإن لم يكن موجوداً في الشبهات الموضوعيّة؛ لأنّ المولى غير ملتزم ببيان حال الموضوع، والمقدار الذي التزم به قد وصل وهو بيان كبرى الحكم، لكنّ الذي يؤمّن بالبراءة العقليّة في الشبهات الموضوعيّة يؤمّن بملاك آخر ـ أيضاً ـ يتمّ في الشبهات الموضوعيّة(1).

وعلى أية حال فكلامنا الآن يدور حول هذا الملاك الذي بيّناه، فنقول: إذا أمر المولى بتحصيل غرض، كما لو أمر بقتل كافر، ولم يكن بصدد بيان ما هو المحصِّل لهذا الغرض، هل هو إطلاق رصاص واحد مثلاً أو إطلاق رصاصين؟ بل أوكَلَ ذلك إلى العبد، فهنا لا تجري البراءة؛ لأنّ الذي التزم المولى ببيانه وإلقائه إلى العبد إنّما هو الغرض، وقد بيّنه ووصل البيان، وإنّما الشكّ في المحصّل، ولم يكن المولى ملتزماً ببيان المحصّل، وأمـّا إذا لم يُلق ِ المولى نفس الغرض إلى المكلّف، وإنّما التزم ببيان نفس الأعمال المباشريّة للمكلّف المحصّلة لتلك الأغراض، كما هو الحال فيما نحن فيه، لأنّ المولى أخذ يبيّن نفس الأفعال اللازم صدورها من المكلّف، من الصلاة وأجزائها وغير ذلك، فحينما لم تصل جزئيّة شيء كالسورة يصبح العقاب على تركه قبيحاً حسب هذا المبنى.

وأمـّا البراءة الشرعيّة فقد فرغنا فيما مضى عن أنـّه لو كنّا نحن ومسألة التكليف ومتعلّقه، مع غضّ النظر عن إشكال الغرض الوحداني في المقام فلا إشكال في جريان البراءة عن الإلزام والتحريك الزائد؛ لما عرفته مفصّلاً من انحلال العلم


(1) مضى من اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في التنبيه الثالث من تنبيهات البراءة والاحتياط دعوى أنّ من يعمّم البراءة العقليّة للشبهات الموضوعيّة لا يؤمن بملاك خاص بالشبهات الحكميّة ويعتقد أنّ البراءة في الشبهتين إنّما تكون بملاك مشترك.

328

الإجمالي بالأقلّ والأكثر إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ، والشكّ البدوي في وجوب الزائد، وإنّما الذي لم يوجد لنا مؤمّن تجاهه ـ فأوجب الإشكال ـ هو الغرض، وهنا نقول: إنّ نفس ما يؤمّن عن إلزام الشارع وتحريكه نحو الزائد هو الذي يؤمّن عن الغرض، فإنّ التأمين عن إلزام الشارع وتحريكه أو تنجيزه دائماً يكون بلحاظ ما يحفظه ذلك الإلزام من الغرض، ففي الشبهات البدويّة الاستقلاليّة مثلاً حينما نُجري البراءة عن إيجاب شيء والإلزام به تكون نفس تلك البراءة مؤمّنة عمّا يحفظه ذلك الإلزام من غرض، لا أنـّنا نُجري براءة اُخرى عن الغرض مثلاً، ولا فرق فيما قلناه ـ من أنّ البراءة عن الإلزام هي بنفسها تؤمّن عمّا يحفظه ذلك الإلزام من غرض ـ بين أن يكون ما يحفظه ذلك الإلزام عبارة عن نفس الغرض رأساً، كما في الشبهات البدويّة، أو عن توقّفه على شيء زائد، كما في المقام، فالبراءة في باب الشكّ في المحصّل للغرض إنّما لا تجري فيما إذا تعلّق الإلزام والتحريك ابتداءً بنفس الغرض، أو تعلّق بالفعل، وكانت نسبة الغرض إلى ذلك الفعل بحيث يفهم العرف من كلام المولى أنـّه في الحقيقة أمر بأصل الغرض، كما يرى العرف أنّ أمر المولى بالإلقاء في النار هو أمر بالإحراق، وأمـّا في مثل ما نحن فيه فلا مانع من جريان البراءة.

هذه هي عمدة الوجوه لمنع جريان البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيين مع إبطالها. وهذه الوجوه التي ذكرناها كانت هي الوجوه المشهورة للمنع، والتي تفيد المنع عن جريان البراءة في مطلق موارد دوران أمر الأجزاء بين الأقلّ والأكثر.

 

الموانع الخاصّة عن جريان البراءة

ولنذكر الآن وجوهاً اُخرى للمنع كلّ منها يختصّ ببعض أقسام دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر:

 

1 ـ فيما يجب إتمامه:

الوجه الأوّل: ما ذكره المحقّق العراقي (رحمه الله) وأبطله(1)، وهو يختصّ بخصوص


(1) راجع المقالات: ج2، ص 99 ـ 100، ونهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 418.

329

الواجب الذي يجب بالدخول فيه إتمامه ما لم يعص ِ بالإبطال، ويفوت بالدخول في بعض أجزائه محلّ تدارك ذاك الزائد المتروك، وذلك كما في الصلاة، فلو شكّ في جزئيّة السورة مثلاً فهو وإن كان من أوّل الأمر تجري في حقّه البراءة عن السورة، لكنّه إذا ترك السورة إلى أن دخل في الركن فلم يمكن تدراكها، وبنينا على ما هو المشهور من عدم جريان قاعدة (لا تعاد) في صورة الجهل، ولو مع معذّريّة جهله وعدم تقصيره ـ أو يفترض الكلام بدلاً عن مثل السورة فيما لا تجري فيه قاعدة (لا تعاد) كالطهارة مثلاً، أو يفترض الكلام في واجب آخر غير الصلاة فُرِضَ وجوب إتمامه على تقدير الشروع فيه ـ فعندئذ يحصل له العلم الإجمالي بأنّه إمّا يجب عليه إتمام هذا الفرد من الصلاة، وذلك على تقدير صحّته لعدم جزئيّة السورة، أو استئناف الصلاة بالإتيان بها مع سورة، وذلك على تقدير بطلان هذا الفرد لجزئيّة السورة، فيجب عليه الامتثال القطعي لهذا العلم الإجمالي، بإكمال هذه الصلاة ثم استئنافها مع السورة، فقد ابتلى بأزيد ممّا كان يبتلي به لو كان بانياً على الاحتياط من أوّل الأمر، إذ قد ابتلى بذاك الاحتياط زائداً إكمال ما بيده من الصلاة.

والمحقّق العراقي (رحمه الله) صوّر العلم الإجمالي بالشكل التالي: وهو أنـّه يحصل له بعد الركوع العلم الإجمالي التالي: إمّا قد انقلب وجوب طبيعي الصلاة إلى وجوب هذا الفرد بالخصوص، أو يجب عليه طبيعي الصلاة مع السورة، فكأنـّه (قدس سره)اعتقد أنّ وجوب إتمام الصلاة على تقدير الشروع فيها مرجعه إلى انقلاب وجوب الطبيعي إلى وجوب هذا الفرد(1).

ولكنّ الأولى هو التقريب الذي بيّناه نحن، فإنّ هذا الانقلاب وإن كان معقولاً بوجه من الوجوه: بأن يفرض أنّ الواجب من أوّل الأمر كان هو الصلاة التي لم يشرع قبلها في صلاة، وهذا العنوان بعد الشروع يصبح منحصراً بما تكون بيده من الصلاة، ولكن المستفاد فقهيّاً هو أنّ وجوب الإتمام تكليف زائد مستقلّ يتوجّه إلى المكلّف بالشروع في الصلاة غير مربوط بوجوب أصل طبيعي الصلاة، فالمكلّف إذا شرع في الصلاة فقد وجب عليه الإتمام، مضافاً إلى ما هو واجب عليه من الإتيان بطبيعي الصلاة، لا أنـّه انقلب تكليفه بالإتيان بطبيعي الصلاة إلى تكليفه بإتيان هذا الفرد الذي بيده.


(1) عبارته (رحمه الله) في المقالات لها ظهور في ذلك، وتقبل التوجيه، ولكن عبارة نهاية الأفكار ساكتة عن ذلك.

330

وعلى أيّة حال فالمحقّق العراقي (رحمه الله) بعد أن ذكر في المقام هذا الإشكال المانع عن جريان البراءة بعد الشروع في الركوع أجاب عنه بجوابين، نحن نذكر الثاني منهما أوّلاّ، والأوّل ثانياً فنقول:

الجواب الأوّل: ما يكون حاصل النكتة فيه بعد حذف الزوائد: أنّ هذا العلم الإجمالي إنّما حصل في طول عمله بما كان معذوراً فيه من ترك السورة، وما وقع من المكلّف معذوراً فيه وخالياً عن القبح يستحيل أن ينقلب في المرتبة المتأخّرة عن وقوعه إلى القبيح وغير المعذور عنه.

ويرد عليه: أنّ هذا العلم الإجمالي إنّما هو في طول تركه للسورة في هذه الصلاة، وما يتكلّم في أنـّه هل هو معذور فيه أو لا ليس هو تركه للسورة في هذه الصلاة، بل تركه لها في هذه الصلاة ليس مخالفاً لأمر المولى بالصلاة مع السورة في نفسه، بلا حاجة إلى التمسّك بالبراءة؛ إذ يمكنه أن يصلّي بعد هذه الصلاة صلاة مع السورة، والأمر بالصلاة مع السورة إنّما أوجب طبيعيّ الصلاة مع السورة في تمام الوقت، لا خصوص هذه الصلاة، فلو كان هذا العلم الإجمالي في طول ترك السورة في تمام الوقت، وهو الذي يؤمّننا عنه دليل البراءة، صَحّ ما ذكر: من أنّ العلم الإجمالي الحاصل في طول ذلك لا يوجب قبح ما تحقّق في السابق خالياً عن القبح في المرتبة السابقة، فلا يؤثّر هذا العلم الإجمالي إلّا مع فرض عامل جديد في المقام، وهو الأمر بالقضاء، فإنّه ـ عندئذ ـ يعلم إجمالاً بوجوب إتمام هذه الصلاة أو القضاء.

الجواب الثاني: أنّ هذا العلم الإجمالي الحاصل بعد دخوله في الركوع لا ينجّز؛ لأنّ أحد طرفيه ـ وهو وجوب الاتمام بالإتيان بالركوع وما بعده من الأجزاء إلى آخر الصلاة ـ كان منجّزاً عليه من قبل؛ لأنّه قبل أن يركع يُوجد له ـ إضافة إلى علمه الإجمالي الثابت من قبل الصلاة بوجوب طبيعي تسعة أجزاء أو عشرة في تمام الوقت ـ علم إجمالي آخر، وهو العلم بوجوب السورة في خصوص هذه الصلاة وما بعدها من الأجزاء إلى آخر الصلاة، أو وجوب الركوع فيها وما بعده من الأجزاء إلى آخر الصلاة؛ وذلك لعلمه بوجوب الاتمام، وهذا العلم الإجمالي مردّد أيضاً بين أقلّ وأكثر، وينحلّ إلى العلم بالأقلّ، وهو وجوب الركوع وما بعده من الأجزاء إلى آخر الصلاة الذي هو في نفس الوقت أحد طرفي العلم الإجمالي الحاصل له بعد الدخول فى الركوع، والشكّ في الزائد، وهو السورة، فالأقلّ قد تنجّز عليه قبل الركوع،

331

والمنجَّز لا يتنجّزُ مرّة ثانية، فالعلم الإجمالي الأخير الحاصل في الركوع لا ينجّز شيئاً؛ إذ يجب أن يكون تنجيز طرفي العلم الإجمالي في عرض واحد.

ويرد عليه: أنـّه (قدس سره) لا يقول بكبرى الانحلال الحكمي بتنجّز أحد طرفي العلم الإجمالي بعلم إجمالي آخر سابقاً زماناً، وإنّما يقول بذلك لدى تعلّق منجّز تفصيلي بأحد طرفي العلم الإجمالي، أمـّا إذا كان المنجّز الأوّل ـ أيضاً ـ علماً إجماليّاً يشترك مع العلم الإجمالي المتأخّر في أحد الطرفين فهو يقول: إنّ العلم السابق بوجوده البقائي، والعلم الحادث بوجوده الحدوثي يؤثّران في عرض واحد، وفيما نحن فيه وإن علم تفصيلاً قبل الركوع بوجوب الركوع من هذه الصلاة عليه وما بعده، إمـّا استقلالاً أو ضمن وجوب السورة وما بعدها، لكنّه بعد أن ركع قد سقط عنه الوجوب الضمني ـ ولو بمعنى سقوط فاعليّته ـ بالمخالفة بترك السورة، فلم يبقَ منجّز للركوع وما بعده إلّا طرفيّته للعلم الإجمالي بالوجوب الضمني أو الاستقلالي، وهذه حالها حال طرفيّته للعلم الإجمالي الجديد الحاصل بعد الركوع، فالعلم الأوّل بوجوده البقائي، والعلم الثاني بوجوده الحدوثي يؤثّران في عرض واحد حسب مبانيه هو (قدس سره).

نعم، نحن حيث لا نقول بعلّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة، كما يقول هو (رحمه الله) بذلك، يكفينا في حَلّ الإشكال ما ذكره من الجواب بتنجّز أحد طرفي العلم الإجمالي؛ لأنّه عندئذ يبقى الأصل في الطرف الآخر سليماً عن المعارض(1).

 


(1) وقد ورد في الجزء الثاني من الحلقة الثالثة، ص 177 ـ 178 جواب آخر عن الإشكال، وهو مبتن على مبنى فقهي كان يبني عليه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): وهو أنّ دليل حرمة قطع الصلاة لا إطلاق له للصلاة التي لا يجوز للمكلّف بحسب وظيفته العمليّة الاقتصار عليها في مقام الامتثال، أي: متى ما وجب عليه الاحتياط بالإعادة جاز له قطع ما بيده من الصلاة، إذن ففيما نحن فيه تكون البراءة عن وجوب السورة هي الموجبة لاحتمال حرمة القطع؛ إذ لولاها لم يجز للمكلّف بحسب الوظيفة العمليّة الاقتصار على هذه الصلاة التي ترك السورة فيها، وبالتالي كان يجوز له قطعها، وعليه فظرفيّة حرمة القطع للعلم الإجمالي موقوفة على جريان البراءة عن السورة، فلا معنى لافتراض البراءة عن حرمة القطع معارضة للبراءة عن السورة بسبب العلم الإجمالي.

332

 

2 ـ في خصوص العبادات

الوجه الثاني: ما كنّا نذكره في قديم الزمان وجهاً للمنع عن جريان البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيين في العبادات، وكان ذلك في الحقيقة نقضاً على الأصحاب في مبنى فقهيٍّ لهم في مسألة ما إذا قصد المكلّف في عبادته خصوصيّةً في الحكم، أو في المتعلّق، فتبيّن خلافها، فهل تَصحّ عبادته أو لا؟ مثلاً لو أتى بعمل بقصد الاستحباب فتبيّن كونه واجباً أو بالعكس، أو صلّى في المسجد بقصد وجوب خصوص الصلاة في المسجد ثم تبيّن أنّ الوجوب متعلّق بطبيعة الصلاة لا بخصوص الصلاة في المسجد، فصاحب العروة(قدس سره) فصّل في ذلك بين ما إذا كان قصده بنحو الاشتباه في التطبيق، أو كان بنحو التقييد، بحيث لا داعي له إلى الامتثال على تقدير كون الواقع خلاف ما تخيّله، فعلى الأوّل يَصحّ عمله، وعلى الثاني يبطل للإخلال بقصد القربة؛ لأنّ ما قصد القربة بلحاظه لم يكن ثابتاً في الواقع، وما كان ثابتاً في الواقع لم يقصد القربة بلحاظه فقد قصد هو أمراً أو ملاكاً خاصّاً غير موجود، ولم يقصد ما هو الموجود من أمر أو ملاك. وأكثر المعلّقين على العروة وافقوا المصنّف على هذا التفصيل.

وعلى هذا المبنى نقول في المقام: ليس الأقلّ هنا إذا دار الأمر بين وجوب الصلاة مع سورة أو بلا سورة مثلاً محفوظاً دائماً ضمن الأكثر كي نجري البراءة عن الزائد المشكوك، بل النسبة بين الأقلّ والأكثر عموم من وجه، فمادّة الاجتماع هي: ما إذا أتى بالأكثر لا بنحو التقييد، فعندئذ قد حصل الأقلّ والأكثر معاً، ومادّة الافتراق من جانب الأقلّ: هي ما إذا أتى بالأقل بأن صلّى بلا سورة في هذا المثال، فقد حصل الأقلّ ولم يحصل الأكثر، ومادّة الافتراق من جانب الأكثر هي: ما إذا أتى بالأكثر بنحو التقييد بأن قصد في هذا المثال وجوب الصلاة مع سورة، بحيث إنّه لايريد الامتثال لو كان الواجب واقعاً هو الأقلّ، ولنفرض أنـّه قصد امتثال الأمر بالأكثر رجاءً لا بنحو الجزم والتشريع كي يبطل العمل من هذه الناحية، فإذا صلّى بهذا الشكل فقد حصل امتثال الأكثر، ولكنّه لم يحصل امتثال الأقلّ على تقدير وجوبه، فالأقلّ مقيّد بعدم تقييد القصد بالأكثر، بناءً على تصوير تعلّق الوجوب الشرعي بوجه من الوجوه بقصد القربة، فالأقلّ لم يعد بالدقّة أقلّ، بل كلّ منهما مشتمل على زيادة منفيّة بالبراءة، فتتعارض البراءتان.

333

وبما أنّنا لانؤمن بما ذكروه من التفصيل، ولا نتعقّل صورتين نسمّي إحداهما بالاشتباه في التطبيق، والاُخرى بالتقييد، فنحن في فسحة من هذا الإشكال، ونجري البراءة في باب الأقلّ والأكثر من حيث الأجزاء بلا مشكلة في المقام، وأمـّا شرح الكلام في هذا التفصيل وتنقيح القول فيه فهو موكول إلى الفقه.

 

3 ـ في فرض مبطليّة الزيادة

الوجه الثالث: ما يختصّ بما تكون الزيادة فيه مبطلة كما في الصلاة، فهنا يمكن إبراز علم إجمالي مانع عن جريان البراءة، ببيان: أنّنا لو شككنا مثلاً في جزئيّة السورة وعدمها فقد تشكّل لدينا علم إجمالي بالتكليف دائر بين المتباينين، أحد طرفيه جزئيّة السورة ووجوبها، والطرف الآخر مانعيّة الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة، وبكلمة اُخرى: نعلم إجمالاً بوجوب الصلاة مع السورة، أو وجوب الصلاة الخالية عن السورة قصد بها الجزئيّة.

والجواب: أنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ بالعلم التفصيلي بمبطليّة الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة للصلاة في هذا الفرض ـ أعني فرض الشكّ في جزئيّتها ـ؛ وذلك لأنّ الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة مع الشكّ فيها تشريع ولو كانت جزءاً في الواقع، والسورة المشرّع بها ليست جزءاً، بل هي زيادة مبطلة.

هذا تمام الكلام في أصل جريان البراءة في الأقلّ والأكثر من حيث الأجزاء.

 

محاورات حول ما جاء في الكفاية

بعد هذا نذكر اُموراً ترجع إلى المطالب التي ذكرها المحقّق الخراساني(قدس سره)في الكفاية:

 

حول دعوى الانحلال

الأمر الأوّل: أنّ المحقّق الخراساني (قدس سره) برهن على عدم انحلال العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ والأكثر بالعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ بلزوم الخلف والتهافت، ولتوضيح ما ذكره في المقام نقدّم أمرين:

الأوّل: أنّ هنا أمراً مصادراً مفروغاً عنه في نظر المحقّق الخراساني (رحمه الله)دمجه

334

في برهانه وبيانه، ولم يذكره مستقلاّ، ونحن نفرزه هنا، وهو أنّ الواجب الارتباطي يستحيل أن يتبعّض في التنجّز بأن يتنجّز بعض أجزائه، ولا يتنجّز البعض الآخر، بل هنا تنجّز واحد للمجموع، فإمّا أن يتنجّز الكلّ أو لا يتنجّز شيء منه.

والثاني: أنّ الانحلال في المقام تارة يفرض حقيقيّاً بلحاظ مجموع ما في عالم الواقع حتّى الحكم، فيقال: إنّه لا علم إجمالي في المقام، كما هو الحال في الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين؛ إذ نعلم لا محالة فيهما بوجوب الأقلّ بحدّه، ونشك في وجوب الزائد، ولا ينبغي الإشكال في انتفاء هذا الانحلال في الأقلّ والأكثر الارتباطيين؛ إذ من الواضح أنّنا لا نعلم تفصيلاً بوجوب الأقلّ بحدّه، كي ينحلّ العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ بحدّه، أو وجوب الأكثر بحدّه، ولعلّه لم يستشكل أحد في نفي هذا الانحلال، وليس هذا الانحلال هو المنظور إليه في كلام المحقّق الخراساني (رحمه الله).

واُخرى يفرض حقيقيّاً بلحاظ خصوص عالم الإيجاب والعهدة بغضّ النظر عن الحدود، باعتبار أنّ حدود الوجوب ليست داخلة في العهدة، وإنّما الذي يدخل في العهدة هو ذات الوجوب.

وثالثة يفرض حكميّاً بلحاظ عالم التنجّز، ويقال: قد علمنا بصلاحية الأمر الموجود في المقام لتنجيز الأقلّ على كلّ تقدير، وأمـّا الزائد فلا نعلم بصلاحية الأمر لتنجيزه على كلّ تقدير؛ لاحتمال تعلّقه بالأقلّ، فلم يعلم وجود أمر يقتضى تنجيزه، فهو باق تحت قاعدة (قبح العقاب بلا بيان).

وهذا الانحلال الأخير سنحتاج إليه حتماً فيما بعد في غير فرض كون الدوران بين الأقلّ والأكثر بلحاظ الأجزاء، وعندئذ نتكلّم عنه ـ إن شاء اللّه ـ بجميع صيغه، ونختار منها صيغته الفنّيّة، والآن لا نحتاج إلى تصوير هذا الانحلال بأكثر ممّا ذكرناه استطراقاً إلى فهم كلام صاحب الكفاية.

وأكبر الظن أنّ المحقّق الخراساني(قدس سره) إنّما يكون ناظراً إلى مناقشة هذا الوجه الثالث من الانحلال دون الوجه الثاني، فكأنّه يأخذ حدود الوجوب بعين الاعتبار، فيفرغ عن بطلان الانحلال الحقيقي، ويتكلّم عن الانحلال الحكمي بالمعنى الذي عرفت.

وحاصل مرامه (رحمه الله) في المقام: هو أنّ الانحلال يتوقّف على تنجّز الأقلّ على كلّ تقدير، وأحد تقديريه هو تعلّق الأمر بالأكثر، فلا بُدّ من الفراغ عن تنجّز الأمر بلحاظ الأقلّ ولو كان متعلّقاً بالأكثر، وهذا يساوق تنجّز الأمر بالأكثر بلحاظ الزائد

335

ـ أيضاً ـ بعد ما عرفت المصادرة المشار إليها آنفاً في كلامه من افتراض عدم إمكان تبعّض أجزاء الواجب الارتباطي في التنجّز وعدمه، إذن ففرض الانحلال في المقام يوجب الخلف والتهافت.

ويمكن أن يقرّب مقصوده بصياغة تصبح إشكالاً حتّى على الانحلال الثاني فضلاً عن الثالث، وهو أن يقال: إنّ من ترك الصلاة رأساً فلم يأت ِ بالأكثر ولا بالأقلّ، وكان الواجب في علم اللّه هو الأكثر، فهل يستحق عقاب المعصية أو لا؟ فإن قيل: لا، فهو خلاف البداهة والضرورة. وإن قيل: نعم، قلنا: على ماذا يعاقب؟ هل يعاقب على مخالفة الأمر بالأقلّ؟ والمفروض عدمه، أو يعاقب على مخالفة الأمر بالأكثر؟ وهذا معناه تنجّز الأمر بالأكثر، ولا يمكن تنجّزه بلحاظ بعض أجزائه دون بعض، فلا بُدّ من تنجّز الجميع(1).

أقول: قد عرفت فيما مضى البرهان على الانحلال الحقيقي، ولم نكن بحاجة في مورد دوران أمر الأجزاء بين الأقلّ والأكثر إلى الانحلال الحكمي بالمعنى الذي عرفت، فكلام المحقّق الخراساني (رحمه الله)لو أُريد جعله إشكالاً علينا يجب أن نأخذ بالتقريب الثاني له، وأمـّا التقريب الأوّل فهو في نفسه غير وارد علينا.

وعلى أيـّة حال فشيء من التقريبين غير تامّ؛ لعدم تماميّة الأصل المصادر في المقام من عدم تبعّض أجزاء الواجب الواحد في التنجيز وعدمه، وعدم تعدّد التنجيز، فإنّه لو اُريد بذلك أنّ الواجب الارتباطي الواحد ليست له تنجّزات عديدة


(1) إلّا أنّ مقصود المحقّق الخراساني (رحمه الله) حتماً هو إبطال الانحلال الثالث، فالانحلال الثاني إمّا كان غافلاً عنه، أو كان مفروض البطلان لديه، والدليل على ذلك أنـّه (رحمه الله) ذكر وجهاً آخر لتقريب عدم إمكانيّة الانحلال، وهو لا يمكن أن ينظر إلّا إلى الوجه الثالث للانحلال، وحاصل هذا الوجه: أنـّه يلزم من الانحلال عدمه، وما يلزم من وجوده عدمه فهو باطل في المقام؛ وذلك لأنّ الانحلال يعني عدم تنجّز التكليف على تقدير تعلّقه بالأكثر المستلزم لعدم تنجّز الأقلّ على كلّ تقدير؛ إذ أحد تقديريه هو وجوبه ضمن الأكثر، والتنجيز لا يتبعّض كما مضى في الأصل المصادر في المقام، وإذا لم يكن الأقلّ مقطوع التنجيز مطلقاً لزم عدم الانحلال. وهذا الوجه كما ترى ينحصر في أن يكون ناظراً إلى الانحلال الثالث دون الثاني، وعلى أيّة حال، يكفي لبطلان هذا التقريب ـ أيضاً ـ أنـّه متوقّف على تلك المصادرة، والتي سيبطلها اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في المتن.

336

بعدد أجزائه بمعنى تعدّد العقاب بتعدّد الأجزاء المتروكة، فهذا واضح لا غبار عليه؛ إذ هو واجب واحد ذو غرض واحد ليس له إلّا تنجّز واحد واستحقاق واحد للعقاب، ولا معنى لاستحقاق عقوبات متعدّدة، إلّا أنّنا لا ندّعي تعدّد التنجيز بهذا المعنى، وإنّما نحلّ الإشكال في المقام عن طريق التبعّض في التنجّز بمعنىً آخر، ولو أُريد بذلك إنكار التبعّض في التنجّز بذلك المعنى الآخر، وهو أن يثبت ذلك التنجّز الواحد للأمر بالأكثر من بعض الجهات دون بعض، فتكون مخالفته عن طريق ترك الأقلّ موجبة لاستحقاق العقاب، ومخالفته عن طريق ترك الزائد غير موجبة لذلك، فهذا الإنكار نمنعه أشدّ المنع، ولا وجه له، بل البرهان على خلافه؛ لأنّ ملاك التنجّز إنّما هو الوصول، والوصول يمكن تبعّضه بتعدّد الأجزاء، فتتبعّض لا محالة أجزاء الواجب بلحاظ التنجّز بهذا المعنى، ويبقى الجزء غير الواصل تحت التأمين العقلي، من باب عدم البيان حسب تصورات القائلين بالبراءة العقليّة.

ولا يقاس تنجّز الأجزاء بوجوباتها، بتخيّل أنّ الارتباط بين وجوباتها ورجوعها إلى وجوب واحد يستدعي الارتباط بين تنجّزاتها بمعنى عدم إمكان تنجّز الأمر بالأكثر من بعض الجهات دون بعض؛ لأنّ تلك الجهات مترابطة، فإنّ هذا قياس مع الفارق؛ لأنّ هذه الوجوبات ملاكها الجعل، وبما أنّ الجعل كان واحداً وغير متعدّد ومتبعّض ترابطت هذه الوجوبات واتّحدت، وأمـّا تنجّزاتها فملاكها الوصول، وهو قابل للتبعّض بأن يصل تعلّق الوجوب ببعض الأجزاء ولا يصل تعلّقه بالباقي.

على أنّ التقريب الثاني لكلامه(قدس سره) ليس إبطالاً لما مضى منّا فيما سبق من البرهان على الانحلال الحقيقي، وإنّما هو إبراز لمشكلة في المقام في كيفيّة تصوير استحقاق العقاب، فلو ضممنا هذا التقريب إلى ذاك البرهان كانت النتيجة إشكالاً لا بُدّ للمحقّق الخراساني ـ أيضاً ـ أن يجيب عنه، وحاصله أنّ هذا الشخص الذي ترك الصلاة ـ وهو متردّد بين وجوب الأقلّ ووجوب الأكثر وكان الواجب في علم اللّه هو الأكثر ـ هل يستحق عقاب المعصية أو لا؟ فإن قيل: لا، فهذا خلاف البداهة مثلاً، وإن قيل: نعم، قلنا: هل يعاقب من ناحية تركه للأقلّ؟، أو من ناحية تركه للأكثر لتنجّز الزائد عليه أيضاً؟

فإن قيل بالأوّل فهذا خلاف المصادرة المفروضة من عدم قابليّة الواجب الواحد للتبعّض في التنجيز، وإن قيل بالثاني كان هذا تخصيصاً لقاعدة (قبح العقاب بلا بيان)؛ لعدم تماميّة البيان بالنسبة للزائد، بعد ما برهنّا عليه من الانحلال الحقيقي،

337

ولعلّ أهون المحاذير له (قدس سره) هو إنكار الانحلال الحقيقي.

على أنّ بالإمكان إيراد نقض على التقريب الثاني، وهو: أنـّه ماذا يقال فيما لو قطع بعدم جزئيّة السورة وترك الصلاة، وكانت السورة في علم اللّه جزءاً؟ فهل يُلتزم بعدم استحقاقه للعقاب إلّا من باب التجرّي؟ فبناءً على إنكار استحقاق المتجرّي للعقاب لا عقاب عليه، في حين أنّ استحقاقه للعقاب هنا أوضح من استحقاق المتجرّي، فمثل الشيخ الأعظم (رحمه الله) المنكر لاستحقاق المتجرّي للعقاب لا ينكر استحقاق هذا الشخص للعقاب، أو يلتزم باستحقاقه للعقاب على مخالفة وجوب الأقلّ، في حين أنّ الواجب هو الأكثر لا الأقلّ، أو يلتزم باستحقاقه للعقاب على ترك الأكثر، في حين أنـّه يقطع بعدم وجوب الأكثر، ولا يمكن تبعّض الأكثر بلحاظ أجزائه في التنجيز حسب الفرض.

 

التفصيل بين البراءة العقليّة والشرعيّة

الأمر الثاني: أنّ المحقّق الخراساني (رحمه الله) فصّل في الكفاية بين البراءة العقليّة والبراءة الشرعيّة، فمنع عن جريان الاُولى، واعترف بجريان الثانية. واعترض عليه المحقّقون المتأخّرون عنه كالسيّد الاُستاذ: بأنّ وجه المنع عن جريان البراءة العقليّة ـ لو تمّ ـ لا يفرّق فيه بين البراءتين. والمحقّق الخراساني (رحمه الله) بنفسه ـ أيضاً ـ عدل عن كلامه، وذهب في تعليقته على الكفاية إلى المنع عن جريان كلتا البراءتين.

أقول: إنّ ما اعتمد عليه المحقّق الخراساني في الكفاية في مقام منع جريان البراءة العقليّة وجهان: أحدهما: مسألة الغرض والشكّ في المحصّل. والثاني: العلم الإجمالي بالتكليف المردّد بين الأقلّ والأكثر. ونحن نقتصر في مقام بيان إمكان التفصيل بين البراءتين وعدمه على التكلّم على هذين الوجهين فنقول:

أحد الوجهين: مسألة الغرض والشكّ فيما يحصّل الغرض، فهل يمكن على أساس هذا الوجه التفصيل بين البراءتين، بأن يفترض أنـّه يبطل البراءة العقليّة فحسب؟ أو أنّ إبطاله للبراءة العقليّة يستلزم إبطاله للبراءة الشرعيّة؟

ذكر السيد الاُستاذ(1): أنـّه لا يمكن في المقام التفصيل بين البراءتين؛ إذ بعد


(1) راجع مصباح الاُصول: ج 2، ص 439 ـ 440، والدراسات: ج 3، ص 278.

338

الالتزام بمشكلة الغرض بلحاظ البراءة العقليّة لا معنى لحلّ الإشكال عن طريق البراءة الشرعيّة؛ لأنّ البراءة الشرعيّة إنّما تكون ناظرة إلى التكاليف لا إلى الأغراض.

وقد أوردت على السيّد الاُستاذ: أنّكم ماذا تصنعون إذن في موارد الشبهات البدويّة، فإنّ البراءة الشرعيّة حسب كلامكم إنّما أمّنت عن التكليف، ويبقى احتمال الغرض الذي يكمن وراء التكليف، فإن قلتم: إنـّنا نتخلّص عنه بالبراءة العقليّة، فهذا يعني أنّ البراءة الشرعيّة يجب أن تنضمّ دائماً إلى البراءة العقليّة، وتلزم من ذلك لغويّة البراءة الشرعيّة.

فأجاب السيّد الاُستاذ عن ذلك بأنّنا لو اقتصرنا على المدلول المطابقي لدليل البراءة لزم عدم تأمينه عن احتمال الغرض في الشبهات البدويّة، ولكن بما أنّ هذا يوجب لغويّة البراءة الشرعيّة نتمسّك بدلالة الاقتضاء، وتثبت بالدلالة الالتزاميّة من باب صون كلام الحكيم عن اللغوية التأمين عن الغرض، وبما أنّ دلالة الاقتضاء لا إطلاق لها فلا بُدّ من الاقتصار في ذلك على القدر المتيقّن، وهو الشبهات البدويّة البحتة دون موارد دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر.

وأوردتُ عليه ـ عندئذ ـ النقض بأنّه لئن كانت الاُصول الشرعيّة في حدّ ذاتها لا تجري إلّا بالنسبة لذات التكليف دون الأغراض، وأنّ التعدّي إلى الأغراض إنّما يكون بدلالة الاقتضاء التي لا إطلاق لها لزم من ذلك عدم جواز التمسّك بأصالة الطهارة في مقام تصحيح الوضوء بماء مشكوك الطهارة؛ لأنّ التكليف بالتطهّر بالماء الطاهر معلوم، والشكّ إنّما يكون في الامثتال، فهنا لا تؤمّن أصالة الطهارة عن الغرض؛ لأنّ تأمينها عن الغرض إنّما هو بدلالة الاقتضاء التي لا إطلاق لها، فيجب الاقتصار فيها على موارد الشبهات البدويّة، والشكّ في أصل التكليف، كما في جواز الشرب؛ لأنّ ذلك هو القدر المتيقّن. وهنا توقّف السيّد الاُستاذ عن الجواب.

وأقول: يلزمه ـ أيضاً ـ أن لا تجري أصالة الطهارة حتّى بلحاظ جواز الشرب لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الماءين، وكان أحدهما غير مجرىً لأصالة الطهارة بنكتة خاصّة.

أمـّا حقيقة الحال في المقام: فهي أنّ التكاليف تنجيزاً وتعذيراً إنّما تلحظ بمعناها الحرفي، وبما هي حافظة لما وراءها من غرض، أو توقّف؛ لحصول الغرض على الجزء، وبقطع النظر عن ذلك لا تكون سوى اعتبارات جوفاء لا معنى للتنجيز والتعذير عنها، فالبراءة الشرعيّة الجارية عن التكليف المشكوك بنفسها تؤمّن بالدلالة

339

العرفيّة الواضحة الابتدائيّة عمّا وراء التكليف ممّا يحفظه من غرض أو توقّف لحصول الغرض على الجزء، بلا حاجة إلى دلالة الاقتضاء، وصون كلام الحكيم عن اللغويّة.

وبهذا يظهر أصل إمكان التفكيك بين البراءتين، فلو فرضنا عدم جريان البراءة العقليّة في المقام عن الغرض لتماميّة البيان حسب الفرض؛ لأنّه غرض وحداني وأصل، لا يلزم من ذلك عدم جريان البراءة الشرعيّة؛ لأنّ البراءة الشرعيّة إنّما نجريها بلحاظ التكليف، والبيان لم يتمّ بالنسبة للتكليف الزائد، فتجري بلحاظه وتؤمّن ـ عندئذ ـ عمّا وراءه من توقّف حصول الغرض على هذا الزائد.

والوجه الثاني: مسألة العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر، وعندئذ يقال أيضاً: ما الفرق بين البراءة العقليّة والبراءة الشرعيّة، حيث جعل المحقّق الخراساني ذلك مانعاً عن جريان البراءة العقليّة، ولم يجعله مانعاً عن جريان البراءة الشرعيّة؟!

وقد فرّع السيّد الاُستاذ والمحقّق النائينيّ إمكان التفصيل بين البراءتين وعدمه في المقام على أنّ البراءة الشرعيّة عن القيد هل تثبت الإطلاق فهي كما تنفي أحد طرفي العلم الإجمالي تثبت الطرف الآخر ؟ أو لا؟ فإن اخترنا الثاني لم تجرِ البراءة الشرعيّة بعد فرض عدم انحلال العلم الإجمالي في نفسه في المقام، فإنّه يمنع جريانها إمّا بعلّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية، أو بتعارض البراءتين في طرفي العلم الإجمالي وتساقطهما، بناءً على الاقتضاء دون العلّيّة، وإن اخترنا الأوّل جرت البراءة، إمـّا لعدم المعارض لها بناءً على الاقتضاء؛ لأنّ المفروض أنّ البراءة عن أحد طرفي العلم الإجمالي اثبتت بنفسها الطرف الآخر(1)، أو لأنّ العلم الإجمالي ـ ولو قلنا فيه بالعلّيّة ـ ينحلّ أثره بقيام منجِّز في أحد طرفيه، والمفروض أنّ البراءة عن أحد الطرفين نجّزت الطرف الآخر.

أمـّا ما هو الصحيح من هذين الفرضين، أي: هل يثبت الإطلاق بجريان البراءة


(1) نقل لي السيّد الهاشمي (حفظه اللّه) عن اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) أيام حضورنا لديه (رحمه الله)في هذه المباحث: أنّ الوجه في عدم وجود براءة اُخرى في الطرف الآخر هو ما بنوا عليه ـ وإن كان ذلك غير صحيح عندنا ـ من أنـّه إذا كان أحد الأصلين نافياً للآخر، دون العكس أوجب ذلك حكومة الأصل النافي، ولذا تجري أصالة الطهارة في الماء، ولا يجري استصحاب النجاسة في الثوب المتنجّس المغسول به.

340

عن القيد أو لا؟ فقد فرّع السيّد الاُستاذ والمحقّق النائيني ذلك على أنّ الإطلاق هل هو عبارة عن عدم القيد؟ أو هو أمر وجودي مضادّ للتقييد؟ فعلى الأوّل يثبت الإطلاق بأصالة عدم القيد، وعلى الثاني لا يمكن إثبات أحدهما بأصالة عدم الآخر.

ومن هنا افترق السيّد الاُستاذ والمحقّق النائيني في النتيجة، فبما أنّ السيّد الاُستاذ يرى أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل التضاد انتهى هنا إلى نتيجة عدم إمكان التفكيك بين البراءتين عن هذا الطريق، فلو لم تجرِ البراءة العقليّة لم تجرِ البراءة الشرعيّة أيضاً(1)، وبما أنّ المحقّق النائيني يرى أنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة انتهى هنا إلى نتيجة أنّ البراءة عن القيد تثبت الإطلاق، وبالتالي تكون البراءة الشرعيّة جارية حتّى على تقدير عدم جريان البراءة العقليّة(2).

ولا يخفى أنّ هذا الوجه للتفصيل بين البراءتين ليس هو ما أفاده المحقّق الخراساني في المقام، وسيأتي الحديث عمّا أفاده المحقّق الخراساني فيما بعد.

أمـّا تقييم ما أفاده السيّد الاُستاذ والمحقّق النائيني هنا فهو: أنّ التفصيل بين البراءتين بفرض القول بكون الإطلاق عبارة عن عدم التقييد غير صحيح، ولا فرق في ذلك بين القول بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل العدم والملكة ـ كما هو مختار المحقّق النائيني ـ أو هو تقابل التضاد ـ كما هو مختار السيّد الاُستاذ ـ أو هو تقابل السلب والإيجاب كما هو مختارنا.

وتوضيح ذلك: أنّ التقييد تارة يكون بلحاظ عالم الجعل والواقع، وهذا هو الذي يفرض تعلّق العلم أو الشكّ به، ويقابله الإطلاق، واُخرى يفرض بلحاظ المرتبة المتأخّرة عن الشكّ، بأن يقال: إذا شككت في القيد فقد جعلنا عليك القيد، وذلك بمعنى إيجاب الاحتياط تجاه احتمال وجود القيد.

وعليه نقول: إنّ الشيء النافي للقيد تارة يفرض عبارة عن أمارة من الأمارات، فيثبت بذلك ـ لا محالة ـ الإطلاق، حتّى مع فرض كونه أمراً وجوديّاً مضادّاً للتقييد؛ لأنّ مثبتات الأمارات حُجّة، واُخرى يفرض عبارة عن أصل ناظر إلى وجود القيد في العالم الأوّل ـ أعني عالم الجعل والواقع ـ وذلك كما في فرض استصحاب عدم التقييد، وعليه يتّجه التفصيل بين ما إذا كان الإطلاق عبارة عن عدم القيد، فيثبت


(1) راجع الدراسات: ج 3، ص 279، والمصباح: ج 2، ص 441.

(2) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 53، وأجود التقريرات: ج 2، ص 289.

341

بهذا الاستصحاب؛ لأنّ الاستصحاب لسانه لسان إبقاء الواقع السابق على حاله ظاهراً، والواقع السابق عبارة عن عدم التقييد، فيثبت عدم التقييد ظاهراً، وعدم التقييد بنفسه هو الإطلاق، فقد ثبت الإطلاق ظاهراً. وثالثة يفرض عبارة عن أصل يكون لسانه لسان رفع وجود القيد في العالم الثاني، وعندئذ لا يثبت بذلك الإطلاق حتّى لو كان عبارة عن عدم القيد، فإنّ الإطلاق إنّما يكون عبارة عن عدم القيد في مقابل وجوده في العالم الأوّل، والأصل إنّما ينفي وجوده في العالم الثاني ـ أي أنـّه ينفي إيجاب الاحتياط تجاهه ـ فلا علاقة لذلك بإثبات الإطلاق، والبراءة تكون من هذا القبيل، فإنّ متعلّق الرفع ـ أعني الموصول في قوله: رفع ما لا يعلمون ـ وإن أُريد به الواقع، لكن المفروض أنـّه ضمّنت كلمة (الرفع) معنى الظاهريّة بمعنى كونه رفعاً في مقابل إيجاب الاحتياط، والرفع بهذا المقدار لا مساس له بمسألة الإطلاق الذي هو في مقابل وجود التقييد في عالم الجعل والواقع.

هذا. ويمكن توجيه التفصيل بين البراءتين على أساس آخر، ونبيّن ذلك بما يكون في نفس الوقت شروعاً في الأمر الثالث من الاُمور التي وعدنا بيانها هنا.

 

البراءة عن الجزئيّة لا عن ذات الجزء

الأمر الثالث: أنـّه ما هو الوجه في عدول المحقّق الخراساني عن إجراء البراءة عن الزائد، أو الأكثر إلى إجراء البراءة عن الجزئيّة؟ يمكن الإجابة عن هذا السؤال بنحو يكون على تقدير تماميّته جواباً عن السؤال السابق ـ أيضاً ـ عمّا هو الوجه في التفصيل بين البراءتين بمانعيّة العلم الإجمالي عن العقليّة دون الشرعيّة.

ونحن نذكر هذا الجواب عن السؤالين، ونبحث عن صحّته وبطلانه حسب مباني المحقّق الخراساني في نفسه ـ ولو لم يكن هو المستفاد من كلام المحقّق الخراساني(رحمه الله)ـ وبعد ذلك نتعرّض إلى محتملات كلام المحقّق الخراساني في المقام.

فنقول: إنّ هذا الجواب عبارة عن أنّ البراءة عن وجوب الأكثر تعارضت بالبراءة عن وجوب الأقلّ وتساقطتا، ووصلت النوبة إلى أصالة البراءة عن الجزئيّة، فجرت البراءة عنها بلا معارض، بناءً على أنّ الأصل الطولي في أحد الطرفين يجري بلا معارض بعد تعارض الأصلين العرضيّين وتساقطهما، فإنّ البراءة عن الجزئيّة في

342

طول البراءة عن وجوب الأكثر؛ لأنّ الجزئيّة أمر منتزع عن وجوب الأكثر، فالسرّ في العدول عن إجراء البراءة عن وجوب الأكثر إلى البراءة عن الجزئيّة ابتلاء البراءة عن الأكثر بالمعارض وتساقطهما، ووصول النوبة إلى البراءة عن الجزئيّة غير المبتلاة بالمعارض، وبهذا تتضح النكتة في التفصيل بين جريان وعدم جريان البراءة العقليّة أيضاً؛ وذلك لما عرفت من بقاء البراءة عن الجزئيّة بلا معارض بعد تعارض البراءتين العرضيتين وتساقطهما.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ هذا إنّما يتمّ على مبنى الاقتضاء دون العلّيّة المتبنّاة للمحقّق الخراساني (رحمه الله)؛ إذ على هذا المبنى لا تجري البراءة، ولو لم تكن مبتلاة بالمعارض.

وثانياً: أنّ الأصل في جانب الجزئيّة ليس في طول الأصل في جانب الأكثر؛ إذ ليس ترتّب الجزئيّة على وجوب الأكثر ترتّباً شرعيّاً، وإنّما تنتزع منه عقلاً، فنفيُه لا يوجب نفي الجزئيّة إلّا بالملازمة العقليّة.

وثالثاً: أنّ إجراء البراءة عن الجزئيّة في نفسه غير معقول؛ لأنّ الجزئيّة لا تقبل التنجيز، وإنّما الذي يتنجّز هو منشأ انتزاعها، فلو فرض محالاً تحقّق الجزئيّة من دون وجوب الأكثر لم يكن المكلّف ملزماً بالإتيان بالأكثر، إذن فالجزئيّة لا تقبل الوضع الظاهري بمعنى إيجاب الاحتياط تجاهها حتّى يرفع رفعاً ظاهريّاً ـ بمعنى نفي إيجاب الاحتياط تجاهها ـ وإنّما الذي يقبل الوضع الظاهري والرفع الظاهري هو منشأ انتزاعها من وجوب الأكثر، وأمـّا الجزئيّة فليس لها وضع ووجود إلّا الوجود الواقعي دون الظاهري، نعم قد تكون للشيء الجزئيّة الواقعيّة للواجب الواقعي تنتزع من الأمر الواقعي بذلك الواجب، واُخرى تكون له جزئيّة واقعيّة للواجب الظاهري تنتزع من الأمر الظاهري بذلك الواجب.

وقد يقول الشارع في مقابل الترخيص الظاهري: رفعت عنك جزئيّة السورة لدى الشكّ في الجزئيّة، لكن هذا الكلام منه يعدّ كناية عن رفع منشأ الانتزاع، ورفع إيجاب ذلك الجزء، وليس ذلك رفعاً ظاهريّاً للجزئيّة بالدقّة.

ورابعاً: ما ذكره المحقّق الاصفهاني(رحمه الله) في المقام(1) من أنّ البراءة عن الجزئيّة مُعارضة مع البراءة عن كلّيّة الأقلّ؛ إذ لو صحّتِ البراءة عن الجزئيّة المنتزعة عن


(1) راجع نهاية الدراية: في شرح الكفاية، ج 2، ص 273.

343

وجوب الأكثر صحّت البراءة عن الكلّيّة المنتزعة من وجوب الأقلّ.

وبهذا تحصّل أنـّه لا يمكن تصحيح الفرق بين البراءة العقليّة والشرعيّة، ولا تفسير الرجوع عن البراءة عن الأكثر إلى البراءة عن الجزئيّة تفسيراً صحيحاً بهذا الوجه.

هذا. وقد مضى توجيه الفرق بين البراءتين من وجهة نظر المحقّق النائيني (رحمه الله)وهو أنّ البراءة عن التقييد تثبت بدلالتها المطابقيّة الإطلاق؛ لكونه متقابلاً مع التقييد تقابل العدم والملكة، وبإمكان المحقّق النائيني أن يفسّر ـ من وجهة نظره هذه ـ العدول عن البراءة عن الأكثر إلى البراءة عن الجزئيّة، وذلك بأن يقال: إنّ البراءة عن الأكثر، أو عن وجوب الزائد لا تثبت الإطلاق؛ لأنّ عدم وجوب الأكثر، أو الزائد أعمّ من وجوب الأقلّ أو عدم وجوب شيء عليه أصلاً. نعم، هو يعلم بوجوب أحدهما عليه، لكن نفي أحد طرفي العلم الإجمالي لا يثبت بالملازمة الطرف الآخر، إلّا بناءً على التعويل على الأصل المثبت، وهذا بخلاف البراءة عن الجزئيّة بعد إرجاعها ـ حسب ما يستفاد من كلام المحقّق النائيني (رحمه الله) ـ إلى البراءة عن التقييد والتقيّد، ونحو ذلك من المفاهيم، فإنّ المطلق عبارة عن وجوب الأقلّ من دون تقييد، ووجوب الأقلّ ثابت بالوجدان، وعدم التقييد ثابت بالأصل، فقد ثبت الإطلاق بالأصل.

وأمـّا تفسير المطلب من وجهة نظر المحقّق الخراساني نفسه، فله (رحمه الله) كلام في الكفاية في الجواب عن السؤال الأوّل توجد فيه عدّة احتمالات، وهو على الاحتمال الثالث منها يصلح جواباً عن كلا السؤالين، وعلى الاحتمال الأوّل الذي هو الظاهر من عبارته، والاحتمال الثاني لا يصلح إلّا جواباً عن السؤال الأوّل دون الثاني، وذلك الكلام هو دعوى أنّ نسبة حديث الرفع إلى أدلّة الإجزاء نسبة الاستثناء إلى المستثنى منه، وهذا الكلام فيه احتمالات ثلاثة:

الاحتمال الأوّل: ما هو الظاهر من عبارته في الكفاية، وهو أنّ دليل جزئيّة السورة مثلاً غير الواصل إلينا على تقدير وجوده في الواقع مطلق، يشمل صورتي العلم والجهل، كما لو ورد ابتداءً دليل يدلّ على عدم جزئيّة السورة في حال من الحالات، كحال ضيق الوقت مثلاً، فإنّ هذا نسبته إلى دليل جزئيّة السورة نسبة الاستثناء إلى المستثنى منه، ويتعيّن لا محالة ـ بضمّ هذا الدليل بمدلوله المطابقي إلى دليل وجوب السورة وجزئيّتها في كلّ حال ـ وجوب الأقلّ عند ضيق الوقت، فكذلك الأمر في المقام، فبالجمع بين دليل الإجزاء وحديث الرفع المقيّد لها يثبت

344

وجوب الأقلّ مطلقاً، ومن دون تقييد بالأكثر.

ويرد عليه: أنّ حديث الرفع لا يصلح لتقييد دليل الجزئيّة بمدلوله المطابقي؛ لأنّ دليل الجزئيّة يفيد الحكم الواقعي، وحديث الرفع يفيد الحكم الظاهري، فهما في واديين مختلفين، ولا معنى لتقييد الأوّل بالثاني، وجعل الثاني كالاستثناء للأوّل، وبكلمة اُخرى: أنّ مرتبة العامّ وأدلّة الإجزاء تكون قبل مرتبة الشكّ، ومرتبة جريان حديث الرفع تكون بعد مرتبة الشكّ، وفي مرحلة الحكم الظاهري فكيف يجعل استثناء لتلك المرحلة؟!

الاحتمال الثاني: أنّ نسبة حديث الرفع ـ بلحاظ دلالته الالتزاميّة ـ إلى دليل الجزئيّة نسبة الاستثناء؛ وذلك لأنّ حديث الرفع وإن كان بمدلوله المطابقي يدلّ على الحكم الظاهري، لكنّه بمدلوله الالتزامي ـ حسب تصوّرات المحقّق الخراساني من فرض مراتب للحكم، واستحالة اجتماع مرتبة الفعليّة مع الترخيص الظاهري ـ يدلّ على انتفاء الحكم الواقعي بمرتبته الفعليّة، فهذا نسبته إلى الدليل الدالّ على الحكم الواقعي بمرتبته الفعليّة نسبة الاستثناء إلى المستثنى منه، بمعنى أنّ دليل الحكم الواقعي الفعلي كان مجملاً مردّداً بين الأقلّ والأكثر، ودليل البراءة دلّ بالالتزام على عدم فعليّة الأمر بالأكثر، فبضمّه إلى دليل وجود أمر فعلي يثبت أنّ الأمر الفعلي متعلّق بالأقل(1)، ولا يعارض ذلك بالبراءة عن الأقلّ، فإنّنا لا نحتمل أن يكون الأمر على تقدير تعلّقه بالأكثر فعليّاً، وعلى تقدير تعلّقه بالأقل غير فعلي(2).

ويرد عليه: بطلان المبنى حيث عرفت فيما سبق مفصّلاً عدم استحالة اجتماع الحكم الواقعي الفعلي مع الحكم الظاهري.

الاحتمال الثالث: دعوى الدلالة الالتزاميّة العرفيّة، بأن يقال: إنّ ما يدلّ على نفي جزئيّة السورة في حال الجهل مثلاً وإن كان بحسب الدقّة العقليّة منسجماً مع فرض رفع وجوب الأكثر من دون إيجاب الأقلّ ظاهراً، لكنّ المستفاد عرفاً من نفي جزئيّة شيء للصلاة في حال، هو وجوب الباقي عليه، بلا تقيّد بذلك الجزء في تلك الحال.


(1) هذا مبنيّ على القول بأنّ المجمل يمكن رفع إجماله بالمبيّن الذي يدلّ على خلاف أحد المعنيين المحتملين في المجمل.

(2) لم يعلم الوجه في عدم احتمال ذلك، واحتمال عكسه.

345

وهذا الوجه متين لو كان دليل نفي جزئيّة السورة دليلاً خاصّاً وارداً في مثل هذا المقام، وأمـّا الدليل الدالّ على (رفع ما لا يعلمون) بنحو الإطلاق المنطبق صدفة على الجزئيّة، فلا يدلّ على ذلك.

هذا. ولو تمَّ هذا الوجه لصلح ـ كما أشرنا إليه ـ جواباً عن السؤال الثاني أيضاّ، بأن يقال: إنّ ما يستفيد منه العرف وجوبَ الباقي ظاهراً إنّما هو لسان رفع الجزئيّة، دون لسان رفع وجوب الأكثر.

 

حول التفتيش عن منجّز للأقلّ

الأمر الرابع: أنّ المحقّق الخراساني (رحمه الله) ذكر بعد دعوى جريان البراءة الشرعيّة عن جزئيّة الزائد ما نصّه:

«لا يقال: إنّما يكون ارتفاع الأمر الانتزاعي برفع منشأ انتزاعه، وهو الأمر، ولا دليل على أمر آخر بالخالي عنه»(1).

وأجاب (رحمه الله) عن هذا الإشكال بجعل نسبة حديث الرفع إلى أدلّة الأجزاء نسبة الاستثناء إلى المستثنى منه، وهذا ما فسّرناه بوجوه ثلاثة كما عرفت، وحملناه على بيان المبرّر لإجراء البراءة الشرعيّة عن جزئيّة الزائد؛ لأنّه لو لم يوجد منجِّز آخر لأحد طرفي العلم الإجمالي لاتجري البراءة عن الطرف الآخر.

إلّا أنّ السيّد الاُستاذ حمل هذا الإشكال والجواب على أنـّه بصدد التفتيش عن منجّز للأقل، بعد فرض جريان البراءة عن جزئيّة الزائد، فأورد عليه بأنّه لا وجه للتفتيش عن منجّز للأقلّ؛ إذ وجوب الأقلّ معلوم تفصيلاً، فسواءٌ تنجّز الباقي، أم فرض جريان البراءة عنه، لا إشكال في تنجّز الأقلّ بالعلم بوجوبه ضمناً أو استقلالاً، وعلى هذا الأساس ذكر السيّد الاُستاذ: أنـّه لعلّ هذا الكلام كان صادراً من قبل الآخوند بلحاظ رفع الجزء المنسيّ، وأنـّه بعد فرض رفعه ما هو الدليل على وجوب الباقي، حيث لا يمكن رفع الجزء المنسيّ إلّا برفع أصل الأمر؟ فكان جوابه: أنّ نسبة دليل رفع المنسيّ إلى دليل الواجب هي نسبة الاستثناء إلى المستثنى منه، فوقع


(1) راجع الكفاية: ج2، ص 235 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق المشكيني.