314

إجزاء الأمر الظاهريّ

المقام الثاني: في إجزاء الأمر الظاهريّ عن الواقع وعدمه.

والكلام تارةً يقع في فرض انكشاف الخلاف بالجزم واليقين، واُخرى في فرض تبدّل الحكم الظاهريّ:

أمّا إذا فرض انكشاف الخلاف بالجزم واليقين، فمقتضى الطرحة الأوّليّة للكلام هو القول بعدم الإجزاء؛ إذ الحكم الظاهريّ في مرتبة متأخّرة من الحكم الواقعيّ، وفي طوله، وموضوعه الشكّ في الحكم الواقعيّ، فهو لا يتصرّف في الحكم الواقعيّ، فيكون الحكم الواقعيّ باقياً على حاله، ويتطلّب ـ لا محالة ـ من العبد الإعادة أو القضاء، إلّا أنّه قد يقرّب الإجزاء بعدّة تقريبات، أهمّها تقريبان:

التقريب الأوّل: ما ذهب إليه صاحب الكفاية (رحمه الله) من التفصيل بين حكم ظاهريّ ثبت بلسان جعل الحكم المماثل للواقع، كأصالة الحلّ والطهارة في رأيه، وحكم ظاهريّ ثبت بلسان إحراز الواقع وإن كان لبّاً حكماً ظاهريّاً وراء الواقع، ففي الأوّل مقتضى القاعدة الإجزاء، بخلاف الثاني، فمثلا لو صلّى مع أصالة الطهارة ثُمّ انكشف الخلاف، فمقتضى القاعدة الإجزاء؛ لأنّ دليل أصالة الطهارة يوسّع من موضوع دليل اشتراط الطهارة في الصلاة، فتصبح الصلاة واجدة لشرطها، بينما لو صلّى مع إثبات الطهارة بالأمارة مثلا، فهذه الأمارة لا تفيد شيئاً بعد انكشاف الخلاف؛ إذ إنّ شرط صحّة الصلاة غير موجود؛ لعدم الطهارة، لا طهارة واقعيّة بحسب الفرض، ولا طهارة ظاهريّة؛ لأنّ الدليل لم يدلّ على جعل طهارة ظاهريّة(1).



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 133 ـ 134 بحسب طبعة المشكينيّ.

315

وقد اُورد على ذلك من قبل مدرسة المحقّق النائينيّ (رحمه الله) بعدّة إيرادات:

منها: ما اتّفق عليه المحقّق النائينيّ (رحمه الله) والسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ من أنّ حكومة دليل على دليل قد تكون واقعيّة، ويكون دليل الحاكم في عرض دليل المحكوم، من قبيل «الطواف بالبيت صلاة» الحاكم على دليل اشتراط الطهارة في الصلاة، وحينئذ لا بأس بتوسعة موضوع دليل المحكوم، أو تضييقه بدليل الحاكم، واُخرى تكون حكومة ظاهريّة، ويكون دليل الحاكم في طول المحكوم، وفي المرتبة المتأخّرة عنه، واُخذ في موضوعه الشكّ في المحكوم، وحينئذ فلا يعقل صيرورته موسِّعاً أو مضيِّقاً حقيقة لموضوع دليل المحكوم؛ إذ هو في مرتبة متأخّرة عنه، فيتمحّض دور هذا الحاكم في مقام تشخيص الوظيفة العمليّة عند الشكّ، فلا معنى للإجزاء، وأصالة الطهارة مثلا من هذا القبيل؛ لأنّها حكم ظاهريّ موضوعه الشكّ في الواقع، فهو في مرتبة متأخّرة عن الواقع وفي طوله، ولا يعقل توسيعه للواقع(1).

ويرد عليه: أنّ دليل أصالة الطهارة إنّما هو في طول الحكم الواقعيّ من ناحية الطهارة والنجاسة، أي: أنّ موضوعه هو الشكّ في طهارة الثوب مثلا ونجاسته، فحكومته على دليل نجاسة ملاقي البول مثلا حكومة ظاهريّة، فهو يحكم بالطهارة ظاهراً دون أن يضيّق دائرة موضوع الحكم بالنجاسة، أو يوسّع دائرة موضوع الحكم بالطهارة واقعاً، وليس مدّعى صاحب الكفاية كون أصالة الطهارة موسّعة أو مضيّقة لموضوع دليل الطهارة والنجاسة حتّى يقال: إنّها في طول الحكم الواقعيّ،



(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 250 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وراجع أجود التقريرات، ج 1، ص 198 ـ 199 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، وراجع المحاضرات للفيّاض، ج 2، ص 255 ـ 258 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

316

فلا توسّع أو تضيّق موضوع الحكم الواقعيّ، وإنّما مدّعاه كون أصالة الطهارة موسّعة لموضوع حكم واقعيّ آخر، وهو الحكم بوجوب إيقاع الصلاة في الثوب الطاهر، وأصالة الطهارة ليست في طول هذا الحكم، ولم يؤخذ في موضوعها الشكّ في هذا الحكم حتّى يستدلّ بهذه الطوليّة على عدم الحكومة الواقعيّة، والتوسيع الواقعيّ لموضوع الحكم.

ومنها: ما ذكره المحقّق النائينيّ (رحمه الله)، وأمضاه السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ أيضاً، وهو أنّ الحكومة في نظر صاحب الكفاية ـ على ما يذكره في بحث التعادل والتراجيح(1) ـ منحصرة في التفسير اللفظيّ بمثل: أي وأعني، بينما أصالة الطهارة ليس لسانها لسان التفسير لدليل وجوب إيقاع الصلاة في الطاهر(2).

والجواب: أنّ من الجائز أنّ صاحب الكفاية (رحمه الله) لا ينظر هنا إلى الحكومة بمعنى التنزيل وإسراء الحكم، وإنّما يدّعي توسعة الموضوع حقيقة التي هي ـ في الحقيقة ـ عبارة عن الورود لا الحكومة، فكأنّما يريد أن يقول: إنّ الدليل الذي دلّ على اشتراط الطهارة في الصلاة إنّما دلّ على اشتراط مطلق الطهارة، سواء فرضت واقعيّة أو ظاهريّة، وأصالة الطهارة تولّد حقيقة فرداً من الطهارة، وهي الطهارة الظاهريّة، وكون مبنى صاحب الكفاية: أنّ الحكومة لا تتمّ إلّا بالنظر التفسيريّ اللفظيّ قرينة على أنّ مراده هنا هو ما ذكرناه، فإنّ اشتراط التفسير اللفظيّ إنّما يقوله صاحب الكفاية في الحكومة بمعنى التنزيل والادّعاء استطراقاً إلى إسراء الحكم، ولا يقوله هو ولا غيره في إيجاد فرد حقيقيّ للموضوع؛ ولذا يقول صاحب الكفاية بورود الأمارات على الاُصول مع أنّه ليس من أدلّتها تفسير بمثل: أي وأعني.



(1) راجع الكفاية، ج 2، ص 376 و 379 بحسب طبعة المشكينيّ.

(2) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 249 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 198 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله).

317

ومنها: ما اتّفق أيضاً عليه المحقّق النائينيّ (رحمه الله) والسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ من النقض بسائر أحكام الطهارة، من قبيل اشتراط طهارة الماء في الوضوء، ومن قبيل الحكم بطهارة الملاقي إذا كان الملاقى طاهراً ونحو ذلك، حيث لا يظنّ بصاحب الكفاية، ولا بأيّ فقيه آخر أن يقول مثلا: لو توضّأ أحد بماء ثبتت طهارته بأصالة الطهارة، ثُمّ انكشف الخلاف، صحّ وضوؤه، ولو لاقت يده مع ما ثبتت طهارته بأصالة الطهارة، ثُمّ انكشفت نجاسته، لم تنجس يده(1).

ولصاحب الكفاية (رحمه الله) أن يجيب عن هذه النقوض بفرضيّة اُصوليّة عهدة إثباتها صغروريّاً، أو نفيها كذلك في ذمّة الفقه، وذلك بأن يقول: إنّ أصالة الطهارة إنّما توسّع موضوع حكم اُخذ فيه الطهارة، ولا تضيّق موضوع حكم اُخذ فيه النجاسة؛ وذلك لأنّ أصالة الطهارة توجد طهارة اُخرى ظاهريّة في مقابل الطهارة الواقعيّة، ولا تُفني النجاسة الواقعيّة، فإذا ثبت في الفقه أنّ الطهارة هي الشرط في الصلاة، ولكن النجاسة هي المانعة عن صحّة الوضوء، أو الموجبة لتنجّس الملاقي، كان التفصيل بين دليل شرطيّة الطهارة في الصلاة من ناحية، ومثل دليل عدم صحّة الوضوء بالماء النجس، أو تنجّس ملاقي النجس من ناحية اُخرى بأن يحكم دليل أصالة الطهارة على الأوّل دون الأخيرين أمراً معقولا.

فإن قلت: إنّ أصالة الطهارة التي تدلّ بالمطابقة على إثبات الطهارة لو لم تدلّ بالملازمة العرفيّة على نفي النجاسة، فكيف يصحّح صاحب الكفاية الوضوء بماء ثبتت طهارته بأصالة الطهارة بناءً على كون النجاسة مانعة عن الوضوء! فإنّه لا إشكال في أنّه يُبنى على صحّة الوضوء ظاهراً مادام الشكّ، مع أنّه لم يثبت عدم



(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 251 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 199 ـ 200 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، والمحاضرات للفيّاض، ج 2، ص 254 ـ 255 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

318

النجاسة بحسب الفرض؛ لأنّ أصالة الطهارة إنّما أثبتت الطهارة ولم تنفِ النجاسة، ولو دلّت بالملازمة العرفيّة على نفي النجاسة بدعوى الملازمة عرفاً حتّى في مرحلة التعبّد بين الطهارة وعدم النجاسة، إذن فأصالة الطهارة كما تحكم على أدلّة الأحكام التي اُخذ في موضوعها الطهارة بتوسيع الموضوع كذلك تحكم على أدلّة الأحكام التي اُخذ في موضوعها النجاسة بتضييق الموضوع، فإن فرضت الحكومة واقعيّة، ثبت الإجزاء في كلا القسمين، وإن فرضت ظاهريّة لم يثبت الإجزاء في كلا القسمين، فكون الطهارة شرطاً أو النجاسة مانعة لا يصلح فارقاً في المقام.

قلت: هذا البيان إنّما يتمّ لو كان مقصود صاحب الكفاية الحكومة التنزيليّة والادّعائيّة بهدف إسراء الحكم، أمّا بناءً على ما حملنا عليه كلامه من إيجاد الفرد الحقيقيّ للموضوع، فالفرق بين فرض شرطيّة الطهارة وفرض مانعيّة النجاسة واضح، فإنّ المفروض: أنّ الشرط هو مطلق الطهارة أعمّ من الواقعيّة والظاهريّة، وأصالة الطهارة توجد طهارة ظاهريّة، فيصبح العمل صحيحاً واقعاً؛ فإنّه يكفي في صحّة العمل وجود أحد أفراد الشرط، وأمّا في طرف المانعيّة، فلابدّ في صحّة العمل من انتفاء كلّ أفراد المانع، ومنها النجاسة الواقعيّة، بينما ليس بمقدور أصالة الطهارة نفي النجاسة الواقعيّة حقيقة، وإلّا لأصبحت أصالة الطهارة حكماً واقعيّاً لا ظاهريّاً، وهو خلف.

نعم، يوجد لهذا الكلام لازم(1)، لا أدري هل يلتزم صاحب الكفاية به أو لا، وهو



(1) يعني لو بنينا على أنّ أصالة الطهارة تنفي النجاسة تعبّداً، ولهذا يصحّ ظاهراً الوضوء بماء طاهر ظاهريّ مادام الشكّ باقياً رغم ما فرضنا من أنّ النجاسة مانعة عن صحّة الوضوء لا أنّ الطهارة شرط لها، وبنينا على أنّ الطهارة الظاهريّة تخلق فرداً واقعيّاً للشرط حينما تكون الطهارة شرطاً، وجب أن نبني أيضاً على أنّ النجاسة الظاهريّة تخلق أيضاً فرداً واقعيّاً للمانع حينما تكون النجاسة مانعة، فالنتيجة أنّه لو توضّأ أحد رجاءً بماء نجس نجاسة ظاهريّة ثمّ انكشفت طهارته كان وضوؤه باطلاً.

319

أن يقال: إنّه لو توضّأ أحد رجاءً بماء نجس ظاهراً، ثُمّ انكشف الخلاف، كان وضوؤه باطلا(1)؛ إذ كما يفرض توسيع الشرط الواقعيّ للطهارة الظاهريّة كذلك ينبغي أن يفرض توسيع المانع الواقعيّ للنجاسة الظاهريّة.

ومنها: ما اختصّ به المحقّق النائينيّ (رحمه الله) دون السيّد الاُستاذ، وهو أنّ تصحيح الصلاة الواقعة مع الطهارة الظاهريّة بحيث لا نحتاج إلى الإعادة بعد انكشاف الخلاف يحتاج إلى مجموع أمرين: أحدهما: أصل وجود الطهارة الظاهريّة، والثاني: توسيع الشرط في الصلاة بحيث يشمل الطهارة الظاهريّة.

وهذان أمران طوليّان، فإنّه يفرض في الثاني الفراغ عن الأوّل، أي: تفرض طهارةٌ ظاهريّة، ويقال: إنّ هذا فرد من أفراد الشرط، ودليل أصالة الطهارة لا يمكنه أن يفي بكلا الأمرين؛ لما عرفت من الطوليّة بينهما.

وبتعبير آخر: هل دليل أصالة الطهارة ينظر إلى الطهارة مفروغاً عنها، أو ينظر إليها مجعولةً به؟

فإن نظر إليها مفروغاً عنها، فكيف تجعل الطهارة الظاهريّة به؟ وإن نظر إليها مجعولة به، فكيف ينظر إلى مرتبة متأخّرة عن هذا الجعل، وهي توسيع الشرطيّة لهذه الطهارة؟!(2).

أقول: لو حمل كلام صاحب الكفاية على ما يرجع إلى الورود، فهذا الإشكال جوابه: أنّ الدليل الوارد ليس له نظر إلى الحكم، فهو لا يثبت إلّا الطهارة الظاهريّة،



(1) وكذلك لو لاقى يده ماءً مستصحب النجاسة، ثُمّ انكشف طهارته، كانت يده متنجّسة.

(2) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 249 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 198 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله).

320

ولا يتكفّل توسيع الشرطيّة حتّى يقال: كيف تكفّل الجعل الواحد لكلا هذين الأمرين الطوليّين، وإنّما سعة الشرطيّة نستفيدها من نفس دليل اشتراط الطهارة في الصلاة، فإذا استفدنا سعة الشرطيّة من نفس دليل شرطيّة الطهارة، واستفدنا وجود أحد فردي هذا الشرط الوسيع من أصالة الطهارة، كفى ذلك في صحّة الصلاة.

نعم، في الحكومة التنزيليّة والادّعائيّة بداعي إسراء الحكم يكون نفس الدليل الحاكم ناظراً إلى الحكم ومتكفّلاً لإثباته.

وأمّا إذا لم يحمل كلام صاحب الكفاية على الورود، بل حمل على الحكومة بمعنى التنزيل وإسراء الحكم، فحينئذ نقول: إنّ بإمكان صاحب الكفاية (رحمه الله) أن يجيب على هذا الإشكال بأنّه ليس موضوع هذا التنزيل وتوسعة دائرة الشرط الطهارة الظاهريّة كما تخيّل، حتّى يقال: كيف يمكن أن يتكفّل جعل واحد وإنشاء واحد للتوسعة ولموضوع هذه التوسعة في وقت واحد، وإنّما موضوع هذا التنزيل والتوسعة نفس مشكوك الطهارة؛ فإنّ معنى: (كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر) أنّ مشكوك الطهارة محكوم بأحكام الطاهر الواقعيّ، فموثّقة عمار(1) متكفّلة رأساً لإسراء الأحكام، وليست متكفّلة لإيجاد موضوع هذا الإسراء، وإنّما موضوعه هو مشكوك الطهارة، والشكّ في الطهارة أمر ثابت تكويناً قبل موثّقة عمّار، وأمّا الطهارة الظاهريّة فهي منتزعة عن هذا التنزيل، لا أنّها موضوع لهذا التنزيل. هذا.

والتحقيق: أنّ هذه الإشكالات التي بيّنّاها على هذا التقريب للإجزاء وإن لم تكن تامّة، إلّا أنّ هذا التقريب للإجزاء وهو تقريب الحكومة غير تامّ في نفسه.



(1) وسائل الشيعة، ج. ـ بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت ـ ح 4، ص 467، عن عمّار، عن أبي عبدالله(عليه السلام): «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك».

321

وتوضيح ذلك: أنّ قاعدة الطهارة تقابل دليلين واقعيّين: أحدهما: دليل نجاسة الشيء، والآخر: دليل اشتراط الصلاة بالطهارة، فإذا قايسنا قاعدة الطهارة إلى الدليل الأوّل، فطبعاً من الواضح عدم حكومتها عليه؛ إذ ليست موسّعة لموضوعه أو مضيّقة له، فيدور الأمر بين أن تكون مخصّصة له كما يظهر من كلام صاحب الحدائق(1)، أو تكون حكماً ظاهريّاً بالنسبة إليه، وقد وضّحنا في الفقه في الجزء الثاني من البحوث(2): أنّها لا تكون مخصّصة لدليل النجاسة الواقعيّة، وإنّما هي حكم ظاهريّ موضوعه الشكّ في الطهارة. وعلى أيّ حال، فإن بنينا على أنّ قاعدة الطهارة مخصّصة لدليل النجاسة الواقعيّة، فلا إشكال في صحّة الصلاة واقعاً، ولا يبقى شكّ في الإجزاء، إلّا أنّنا يجب أن نقبل هنا بنحو الأصل الموضوعيّ عدم كونها مخصّصة لدليل النجاسة الواقعيّة؛ إذ لو كانت كذلك كانت حكماً واقعيّاً، فتخرج عن محلّ الكلام؛ لأنّ موضوع الكلام هو إجزاء الحكم الظاهريّ وعدمه، فيبقى أن نقايس قاعدة الطهارة بالدليل الثاني، وهو دليل اشتراط الصلاة بالطهارة، لنرى أنّها هل تنزّل مشكوك الطهارة منزلة الطاهر الواقعيّ بلحاظ عالم الأحكام الشرعيّة والجعول المولويّة، فتفيد إسراء أحكام الطهارة الواقعيّة حقيقة إلى مورد الشكّ، أو تنزّل المشكوك منزلة الطاهر بلحاظ عالم الجري العمليّ، ولتعيين الوظيفة العمليّة في مقام التحيّر؟(3).



(1) ج 1، ص 136 بحسب طبعة مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم.

(2) ص 210 ـ 211.

(3) أو لا هذا ولا ذاك، بل إنّ دليل الطهارة الظاهريّة أثبت حقيقة موضوع أحكام

322

فعلى الأوّل يثبت الإجزاء؛ لأنّ المولى رتّب على مشكوك الطهارة أحكام الطاهر الواقعيّ حقيقة، ومنها اشتراط الصلاة بالطهارة، فتكون الصلاة صحيحة واقعاً، وتكون الحكومة واقعيّة، وعلى الثاني لا يثبت الإجزاء؛ لأنّ قاعدة الطهارة لم تفد أزيد من الوظيفة العمليّة للمتحيّر، وهذا لا يقتضي سقوط الواقع، وبراءة الذمّة حقيقة.

ولا إشكال في أنّ التنزيل في سائر الموارد التي لم يؤخذ في موضوعها الشكّ من قبيل (جارُك قريبُك) إنّما يفيد المعنى الأوّل، وهو التنزيل بلحاظ الأحكام الواقعيّة؛ لعدم تعقّل المعنى الثاني، ولكن في مورد أخذ الشكّ في الموضوع كما يحتمل كونه تنزيلا بلحاظ الأحكام الواقعيّة كذلك يحتمل كونه تنزيلا بلحاظ الوظيفة العمليّة في حالة الشكّ والتحيّر، كما هو الحال بناءً على كون الحكم الظاهريّ في المقام لمجرّد الطريقيّة الصرف إلى التحفّظ على مصالح الواقع بقدر الإمكان، وإن لم نقل: إنّ أخذ الشكّ قرينة عرفاً بمناسبات الحكم والموضوع الارتكازيّة على الثاني، فلا أقلّ من الإجمال المنافي لإثبات الإجزاء، ويؤيّد إرادة الثاني في قاعدة الطهارة قوله في ذيل الحديث: «فإذا علمت فقد قذُر»؛ فإنّ هذا معناه: أنّه بمجرّد العلم بالقذارة تنفذ آثار القذارة، فقد يدّعى: أنّ مقتضى



الطهارة، بدعوى: أنّ أحكام الطهارة كان موضوعها منذ البدء مطلق الطهارة الأعمّ من الواقعيّة والادّعائيّة.

وهذا الثالث باطل؛ لأنّ ظاهر كلّ دليل رتّب حكماً على موضوع هو ترتيبه على ذاك الموضوع بوجوده الواقعيّ لا الادّعائيّ، كما أنّ حمل دليل أصالة الطهارة أيضاً على مجرّد الادّعاء من دون أن يكون روحه التنزيل أيضاً غير عرفيّ.

323

إطلاق ذلك أنّه تنفذ من حين حصول العلم آثار القذارة حتّى بلحاظ ما قبل العلم، فيحكم ببطلان الصلاة الواقعة فيه قبل العلم، وهذا يعني عدم الإجزاء، وإذا لم نستظهر من هذا الذيل الإطلاق، ولكن قلنا بالإجمال، كفى ذلك لسريان الإجمال إلى صدر الحديث، وبالتالي لعدم ثبوت الإجزاء.

التقريب الثاني للإجزاء: عبارة عن القول بالسببيّة في حجّيّة الأمارات أو الاُصول، بمعنىً يقتضي كون الحكم الظاهريّ واجداً لملاك الواقع، فبالعمل به لم يفت شيء من الملاك حتّى يجب التدارك بالإعادة أو القضاء.

وتحقيق الكلام في ذلك: أنّ الاحتمالات بدواً في جعل الحجّيّة للأمارات أو الاُصول عديدة:

الاحتمال الأوّل: ما يسمّى عند أصحابنا بالسببيّة الأشعريّة.

والمقصود بذلك ـ سواء صحّت نسبته إلى الأشاعرة أم لا ـ: أنّه لا حكم في المرتبة السابقة على أداء الأمارات والاُصول لمؤدّاها، فالحكم يتكوّن بأداء الأمارات أو الاُصول وفقاً لمؤدّياتها.

وهذا ـ لا محالة ـ يستلزم التصويب والإجزاء معاً؛ إذ لا أمر إلّا الأمر الذي قد امتثله، فلا معنى لانكشاف الخلاف، ولا معنى لعدم الإجزاء.

الاحتمال الثاني: ما يسمى عند أصحابنا بالسببيّة المعتزليّة.

والمقصود بذلك ـ سواء صحّت نسبته إلى المعتزلة أو لا ـ: أنّه توجد أحكام في المرتبة السابقة على أداء الأمارات والاُصول، لكنّها مغيّاة بأداء الأمارات أو الاُصول إلى الخلاف، فيصبح الحكم حينئذ وفقاً لمفاد الأمارة أو الأصل.

وهذا أيضاً ـ كماترى ـ يستلزم التصويب والإجزاء؛ إذ بعد قيام الأمارة أو الأصل لا يوجد حكم غير ما أدّت إليه هذه الحجّة، فلا معنى لانكشاف الخلاف، ولا معنى لعدم الإجزاء؛ إذ ليس هناك أمران حتّى يقال: إنّ أحدهما يجزي عن

324

الآخر أو لا، والأمر الذي سقط بالامتثال لا مبرّر لعوده مرّة اُخرى.

الاحتمال الثالث: الطريقيّة الصرف، وهو ما حقّقناه ثبوتاً، واخترناه إثباتاً في مبحث الجمع بين الأحكام الظاهريّة والواقعيّة، وهو: أنّ الحكم الظاهريّ لم ينشأ إلّا لأجل الحفاظ على ملاكات الأحكام الواقعيّة بقدر الإمكان مع مراعاة الأهمّ فالأهمّ، وهذا يساوق عدم الإجزاء وعدم التصويب؛ إذ لم يفرض فيه ارتفاع الواقع؛ إذ مقتضى إطلاق دليل الحكم الواقعيّ بقاؤه ووجوب إعادة العمل، ومقتضى إطلاق دليل القضاء وجوب القضاء، ولم يحصل في الوظيفة الظاهريّة استيفاء لملاك الواقع.

الاحتمال الرابع: افتراض مصالح في مؤدّى الأمارة والأصل تحفّظاً على ظهور الأمر في كونها حقيقيّة، بدعوى: أنّه كما أنّ الأمر ظاهر في النفسيّة والعينيّة والتعيينيّة في مقابل الغيريّة والكفائيّة والتخييريّة، كذلك ظاهر في الحقيقيّة، بمعنى نشوئه من مصلحة في متعلّقه في مقابل الطريقيّة، فهذا نحو من السببيّة، ولكنّه لا يلزم منه التصويب ولا الإجزاء؛ إذ لم يفترض بهذا المقدار: أنّ المصلحة من سنخ مصلحة الواقع بحيث تستوفى بها مصلحة الواقع، فيرجع إلى إطلاق دليل الحكم الواقعيّ، وهذا معناه عدم الإجزاء وعدم التصويب.

الاحتمال الخامس: القول بالسببيّة ووجود مصلحة في نفس جعل الحكم الظاهريّ دفعاً لشبهة ابن قبة، من قبح تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة، بأن يقال: إنّ التفويت قبيح، إلّا إذا كان لمصحلة في نفس التفويت.

وهذا ما تصوّره بعضهم في الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ، وهذا أيضاً لا يوجب الإجزاء ولا التصويب؛ فإنّ مصلحة الواقع لم يفرض تداركها بشكل من الأشكال، وإنّما افترض تدارك قبح التفويت بمصلحة في التفويت من دون فرض تدارك مافات بشيء.

325

الاحتمال السادس: السببيّة بالنحو الذي سمّي في كلمات المحقّق النائينيّ (رحمه الله)بالمصلحة السلوكيّة. وهذا أيضاً لأجل دفع شبهة ابن قبة، إلّا أنّ فرقه عن الاحتمال الخامس: أنّ المصلحة في الاحتمال الخامس كانت في نفس الجعل، وكان يتدارك بها قبح التفويت من دون أن يتدارك بها الفائت، وهنا في عمل المكلف، ويتدارك بها الفائت، ولكنّه ليس في عمل المكلّف بعنوانه الأوّليّ، بل فيه بعنوان ثانويّ، وهو عنوان سلوك طريق الأمارة واتّباعه بالمقدار الذي يكون مفوّتاً لمصلحة الواقع، فيتدارك بذلك المقدار، فإذا ارتفع الجهل في أثناء الوقت، وجبت عليه الإعادة؛ لأنّ الأمارة لم تفوّت عليه أكثر من فضيلة أوّل الوقت، فالتدارك الثابت ببرهان قبح التفويت إنّما هو تدارك فضيلة أوّل الوقت، وأمّا أصل العمل في الوقت، فبإمكانه أن يأتي به، ومقتضى إطلاق دليل الواقع وجوب الإتيان به، وإذا ارتفع الجهل بعد الوقت، فإن قلنا: إنّ القضاء بالأمر السابق، أي: أنّ الأمر السابق ـ في الحقيقة ـ عبارة عن أمرين: أمر بالصلاة، وأمر بإيقاعها في الوقت، فأيضاً من الواضح عدم الإجزاء، فإنّ التدارك إنّما هو بمقدار ما فات، وهو الإيقاع في الوقت لا أصل الصلاة، وأمّا إن قلنا: إنّ القضاء بأمر جديد موضوعه الفوت، فقد ذكر السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ: أنّه لا يجب القضاء؛ لأنّه فرع الفوت وخسارة المصلحة، ولا خسارة هنا؛ لأنّ المصلحة متداركة جميعاً بالعمل بالحكم الظاهريّ في داخل الوقت(1).

أقول: تارةً نفترض: أنّنا نستظهر من دليل القضاء أنّه ليس لمصلحة مستقلّة بعد انتهاء مصلحة الصلاة الأدائيّة بانتهاء الوقت، بل هو ـ في الحقيقة ـ بيان لكون مصلحة الصلاة باقية، وإنّما كانت خصوصيّة إيقاعها في الوقت مشتملة على



(1) المحاضرات، ج 2، ص 276 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

326

مصلحة زائدة، وهي التي قد فاتت، وعليه فلا يتمّ هذا الكلام؛ فإنّ المصلحة السلوكيّة إنّما ثبتت ببرهان قبح التفويت بمقدار ما فات، وهو مصلحة قيد الوقت، إلّا أنّ هذا معناه: رجوع الأمر الأوّل بالصلاة ـ بحسب روحه ـ إلى أمرين: أمر بأصل الصلاة، وأمر بإيقاعها في الوقت، فيقال: إنّنا نتكلّم على فرض كون القضاء بأمر جديد وعدم رجوع المطلب ـ بحسب الروح ـ إلى بقاء الأمر الأوّل.

واُخرى نفترض: أنّ دليل القضاء إنّما دلّ على وجوب مستقلّ لمصلحة مستقلّة، وحينئذ نقول: إنّه مع ذلك لا ينبغي الإشكال في كون تشريع القضاء ظاهراً في كونه بعنوان التدارك للمصلحة الفائتة، والمصلحة السلوكيّة إنّما تثبت ببرهان قبح التفويت بمقدار لولاها للزم فوات المصلحة بلا تدارك، إذن فلا يثبت وجود مصلحة سلوكيّة بإزاء أصل مصلحة الصلاة التي قد فاتت؛ لوجود تدارك آخر لها وهو القضاء، فإنّما تثبت المصلحة السلوكيّة بمقدار مصلحة الوقت، فيجب(1)



(1) هذا الكلام غير صحيح؛ إذ معنى كون القضاء بمصلحة مستقلّة هو أنّ فوت الصلاة يولّد حاجة جديدة تسدّ بالقضاء، من دون أن يكون القضاء موجباً لتدارك مصلحة أصل الصلاة؛ إذ لو كان القضاء موجباً لتدارك مصلحة أصل الصلاة، لرجع أيضاً روح الأمر إلى الأمر بأصل الصلاة مع الأمر بإيقاعها في الوقت؛ لأنّ كون القضاء موجباً لتدارك مصلحة أصل الصلاة عبارة اُخرى عن كون جامع الصلاة ذا مرتبة معيّنة من المصلحة، وإيقاعها في الوقت ذا مصلحة اُخرى، غاية الأمر: أنّ فردي الجامع قد تكون مصلحتهما متماثلتين، واُخرى متغايرتين ولا يمكن الجمع بينهما مثلا، ومصلحة الصلاة عندئذ عبارة عن الجامع بين المصلحتين.

وعليه، فالاعتراف بظهور دليل القضاء في تدارك مصلحة أصل الصلاة يعني الاعتراف بانحلال الأمر الأوّل في روحه إلى أمرين: أمر بأصل الصلاة، وأمر بإيقاعها في الوقت.

327

عليه القضاء لتحصيل مصلحة أصل الصلاة.

وقد تحصّل: أنّه بناءً على هذا الاحتمال أيضاً لا يلزم الإجزاء ولا التصويب، وأمّا لزوم التصويب بمقدار أنّه لو استمرّ الجهل إلى أن مات فقد تدوركت كلّ المصلحة، فلا دليل على كونه محذوراً.

الاحتمال السابع: ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)(1) بهدف تحصيل وجه يوجب الإجزاء من دون أن يستلزم التصويب، وهو افتراض الملاك في المؤدّى في



ومن هنا يظهر أيضاً إشكال في ما اشتهر أخيراً بين المحقّقين: من أنّ من شكّ بعد الوقت في فوات الصلاة لم تجرِ بشأنه أصالة الاشتغال؛ لأنّ القضاء بأمر جديد، ولا استصحاب عدم الإتيان؛ لأنّ موضوع الأمر الجديد بالقضاء هو الفوت، وهو عنوان وجوديّ، والإشكال هو: أنّه لو سلّمنا ظهور دليل القضاء في تدارك مصلحة الصلاة، فوجوب أصل الصلاة لا زال وقته باقياً؛ لأنّ إيقاعها في الوقت واجب مستقلّ عن أصل وجوب الصلاة، فقاعدة الاشتغال والاستصحاب يجريان ـ لا محالة ـ لولا قاعدة الحيلولة.

والتحقيق مع ذلك: إمكان تصوير القضاء لأجل تدارك مصلحة أصل الصلاة من دون أن يرجع ذلك إلى انحلال الأمر الأوّل إلى الأمر بأصل الصلاة، والأمر بالإتيان بها في الوقت، وذلك بافتراض مصلحة اُخرى زائداً على مصلحة المتعلّق في جعل الصلاة في الوقت كشيء موحّد على العهدة، وإلزام المكلّف بذلك، فيصحّ ما قالوا من عدم جريان الاستصحاب وأصالة الاشتغال بعد الوقت؛ لكون القضاء بأمر جديد، ولكن لا يصحّ القول بالإجزاء في المقام ما دامت مصلحة المتعلّق الفائتة قابلة للتدارك بالقضاء.

(1) بحوث في الاُصول للشيخ الإصفهانيّ (رحمه الله) ص 121 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

328

عرض ملاك الواقع، أي: أنّه ليس بعنوان تدارك الملاك الفائت، بل إنّ المؤدّى في عرض الواقع مشتمل على الملاك المطلوب، إلّا أنّ هذا الملاك إنّما يكون ثابتاً في المؤدّى لا بعنوانه الأوّليّ، بل بعنوان كونه مؤدّىً بأمارة مخالفة للواقع.

وهذا يوجب الإجزاء بلا إشكال؛ لحصول الغرض لا محالة، ولكن الذي يخطر بالبال لأوّل وهلة أنّه موجب للتصويب؛ إذ يوجب تبدّل الأمر الواقعيّ التعيينيّ بصلاة الظهر مثلا إلى الأمر التخييريّ المتعلّق بالجامع بين الظهر ومفاد الأمارة، وهو الجمعة مثلا؛ لأنّ الملاك لم يكن في خصوص الواقع بعينه، بل فيه وفي مفاد الأمارة.

ويمكن إثبات عدم تبدّل الأمر التعيينيّ إلى الأمر التخييريّ بعدّة بيانات:

الأوّل: أن يقال: إنّه لا يمكن للمولى أن يأمر تخييراً بالجامع بين الواقع والمؤدّى؛ وذلك لأنّ الأمر بالجامع مقيّد بأن يكون مفاد أمارة مخالفة للواقع، فالأمر بالجامع يستحيل أن يصل إلى المكلّف؛ إذ لو لم يعلم أنّ هذه الأمارة مخالفة للواقع، لم يعلم بتوجّه الأمر بالجامع إليه؛ لتعليقه ـ بحسب الفرض ـ على أداء الأمارة إلى خلاف الواقع، ولو علم بأنّها مخالفة للواقع سقطت الأمارة عن الحجّيّة.

ويمكن الجواب عن هذا البيان بأكثر من طريق، ولا أقلّ من أن يقال: إنّ بالإمكان فرض الأمر التخييريّ، مع أخذ قيد الأمارة المخالفة في أحد شقّي الواجب التخييريّ، فالوجوب التخييريّ يكون مطلقاً ثابتاً في حقّ كلّ أحد، وليس مقيّداً بوجود أمارة مخالفة، إلّا أنّ أحد طرفي التخيير هو الواقع، والطرف الآخر هو مؤدّى الأمارة بقيد المخالفة للواقع(1).



(1) ويمكن الجواب أيضاً بعد فرض أخذ قيد الأمارة المخالفة في الوجوب التخييريّ بأنّه يكفي في معقوليّة الأمر بالجامع وصوله الاحتماليّ، وهو ثابت في المقام

329

الثاني: أن يقال: إنّ الجامع بين الواقع ومفاد أمارة مخالفة للواقع ـ بمعنى: كون الأمارة متعلّقة بما يخالف الواقع ـ ليس له تقرّر لولا الأمر بالواقع؛ إذ لولا ذاك الأمر الواقعيّ التعيينيّ، فما معنى الجامع بين الواقع ومؤدّى أمارة متعلّقة بما يخالف الواقع؟!(1).

ويرد عليه: أنّ الجامع له تقرّر ثابت بغضّ النظر عن الأمر التعيينيّ بالواقع؛ إذ من الواضح: أنّنا نتصوّر مفهوماً الجامع بين الواقع ومؤدّى أمارة تعلّقت بما يخالف الواقع سواء تعلّق أمر تعييني بالواقع أو لا(2).

نعم، تحقّق أحد فردي الجامع خارجاً موقوف على تعلّق الأمر التعيينيّ والإرادة التعيينيّة بالواقع؛ إذ لولا ذلك لم يتحقّق عمل مخالف للواقع يكون مؤدّىً لأمارة تعلّقت بما يخالف الواقع، فيكون تعلّق الإرادة التعيينيّة بالواقع ذا مصلحة؛ إذ به يتمكّن العبد من الفرد الثاني من فردي الجامع، وقد حقّقنا في محلّه: أنّ الإرادة يتسحيل أن تنبثق من مصلحة في نفسها، بل يجب دائماً أن تنبثق من مصلحة في المتعلّق، وهنا لا مصلحة في متعلّق الإرادة التعيينيّة بالخصوص؛ لأنّ الملاك يكون في الجامع حسب الفرض.



بمجرّد احتمال مخالفة الأمارة للواقع، خاصّة وأنّ هذا الاحتمال يولّد في المقام العلم الإجماليّ بوجوب مفاد الأمارة: إمّا تعييناً باعتبارها مطابقة للواقع مثلا، أو تخييراً باعتبارها مخالفة للواقع.

(1) راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 405 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

(2) راجع نفس المصدر، تحت الخطّ، وهو تعليق للشيخ الإصفهانيّ (رحمه الله) على كتابه نهاية الدراية، وراجع أيضاً (بحوث في الاُصول) لنفس المؤلّف، ص 121 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

330

الثالث: أن يقال: إنّ تحقّق الملاك في الجامع إنّما هو متولّد من الأمر بالواقع تعييناً؛ إذ لولا ذلك لم يكن جامع بين الواقع ومؤدّى الأمارة المخالفة حتّى يتحقّق فيه الملاك، فلا يمكن أن يوجب ذلك انقلاب الأمر التعيينيّ إلى الأمر التخييريّ؛ فإنّ الشيء يستحيل أن ينفي علّته، وبالتالي ينفي نفسه.

ويرد عليه:

أوّلا: النقض بأنّ الوصول إلى هذه النتيجة المستحيلة، وهي لزوم نفي الشيء لعلّته، وبالتالي لنفسه كان من أثر مجموع أمرين: أحدهما: افتراض تولّد ملاك في الجامع من الأمر التعيينيّ بالواقع، والثاني: افتراض أنّه إذا صار الملاك في الجامع، انتفى الأمر التعيينيّ بالواقع، وتبدّل إلى الأمر التخييريّ، فلماذا يكون فساد النتيجة برهاناً على بطلان الأمر الثاني، فليكن برهاناً على بطلان الأمر الأوّل؟!(1).

وثانياً: الحلّ بأنّ كون الملاك في الجامع ليس وليداً لتعلّق الأمر التعيينيّ بالواقع، وإنّما إمكانيّة الإتيان بالفرد الثاني من هذا الجامع خارجاً، وهو العمل بما يخالف الواقع باعتباره مؤدّى أمارة مخالفة للواقع، هو الوليد لتعلّق الأمر بالواقع. هذا.

وقد تلخّص بكلّ ما ذكرناه: أنّ الإجزاء والتصويب في الحكم الظاهريّ متلازمان، ففي الاحتمالين الأوّلين يثبت الإجزاء والتصويب معاً، وفي ما بعدهما من الاحتمالات الأربعة لا إجزاء ولا تصويب، والاحتمال السابع غير معقول في نفسه.



(1) بل هذا ـ أي: كونه برهاناً على بطلان الأمر الأوّل ـ هو المتعيّن؛ لأنّ كون الشيء علّة لما يقتضي إفناءه محال، لا أنّ هذا ممكن، ولكن استحالة إفناء الشيء لعلّته توجب عدم فناء العلّة، فإنّ نفس كون الشيء علّة لما يقتضي إفناءه يعني اقتضاء الشيء لفناء نفسه، وهذا محال، وبهذا البيان يصبح هذا الجواب حلّيّاً، لا نقضيّاً.

331

إلّا أنّ ما قلناه: من الملازمة بين الإجزاء والتصويب إنّما هي في الإجزاء بملاك الاستيفاء، وأمّا الإجزاء بملاك التعذّر، فبالإمكان افتراض تحقّقه من دون تحقّق التصويب، وذلك كما لو فرض: أنّ مصلحة الحكم الظاهريّ هي مصلحة في مقابل مصلحة الواقع، ومضادّة لها في الوجود، أي: لا يمكن تحصيلهما معاً، فمع تحصيل أحدهما تتعذّر الاُخرى، فحينئذ يثبت الإجزاء لا محالة؛ إذ بعد العمل بالحكم الظاهريّ لا يمكن استيفاء ملاك الحكم الواقعيّ، لكن لا يلزم التصويب، وتبدّل الوجوب التعيينيّ للظهر مثلا إلى الوجوب التخييريّ بين الظهر والجمعة (فيما لو فرض: أنّ الحكم الواقعيّ هو وجوب الظهر، والحكم الظاهريّ هو وجوب الجمعة)؛ وذلك لأنّ الحكم الظاهريّ وهو وجوب الجمعة لا نفترض وجدانه لمصلحة الواقع حتّى يلزم تعلّق الأمر بالجامع وعلى سبيل التخيير، بل نفترض وجدانه لمصلحة اُخرى في مقابل مصلحة الواقع غير قابلة للجمع مع مصلحة الواقع.

نعم، يوجد في هذا الفرض إشكال في دعوى عدم لزوم التصويب، وذلك بأن يقال: إنّه إمّا أن تفرض مصلحة الواقع مع مصلحة الحكم الظاهريّ متساويتين، أو يفرض أنّ مصلحة الحكم الظاهريّ أنزل بمراتب من مصلحة الواقع، فمع فرض التساوي ينقلب ـ لا محالة ـ الحكم من الإيجاب التعيينيّ إلى الإيجاب التخييريّ؛ إذ لا ترجيح لإحدى المصلحتين على الاُخرى، ولا يمكن استيفاؤهما معاً، ومع فرض كون مصلحة الحكم الظاهريّ أنزل بمراتب من مصلحة الواقع لا معنى لأن يأمر المولى بالحكم الظاهريّ، فإنّه أمرٌ بما يفوّت المصلحة الأقوى.

والجواب: أنّه بالإمكان أن نختار كلاًّ من الشقّين، ومع ذلك ندفع الإشكال:

فتارةً نختار الشقّ الأوّل، وهو: أنّ المصلحتين متساويتان، ولكن كلّ من المصلحتين هي مصلحة تعيينيّة، بحيث لو أمكن استيفاؤهما معاً، وجب ذلك، إلّا

332

أنّ النقص في قدرة المكلّف، فيقع التزاحم بين المصلحتين، والتزاحم إنّما يوجب رفع اليد عن الأمر التعيينيّ بكلّ منهما عند وصول الحكمين، أمّا إذا وصل أحد الحكمين دون الآخر، فلا تزاحم بينهما، ولا موجب لرفع اليد عن الأمر التعيينيّ، وفي ما نحن فيه لا يصل الحكمان معاً؛ إذ مع وصول الأمر الواقعيّ لا حكم ظاهريّ، وفرض وصول الحكم الظاهريّ هو فرض عدم وصول الحكم الواقعيّ، إذن فالمقتضي للأمر التعيينيّ وهي المصلحة التعيينيّة موجود، والمانع وهو المزاحم للأمر التعيينيّ مفقود؛ لأنّ التزاحم بين أمرين فرع وصولهما، وهذا أحد الفوارق بين باب التعارض وباب التزاحم؛ حيث إنّ قوام التزاحم بالوصول؛ إذ مع عدم وصول أحدهما لا يقع المكلّف في ضيق، بينما التعارض بين حكمين يثبت سواء وصل كلا الحكمين أو لا.

واُخرى نختار الشقّ الثاني، وهو عدم اشتمال الحكم الظاهريّ على مصلحة توازي مصلحة الواقع، وإشكال لزوم التفويت هو إشكال ابن قبة المعروف في باب الأحكام الظاهريّة، وليس إشكالا جديداً، والمفروض الإجابة عليه: إمّا بأنّ الفوت شيء لابدّ منه على كلّ حال، وهو الجواب بناءً على مبنى الطريقيّة المحض، وإمّا بجواب من قبيل دعوى: وجود مصلحة في التفويت.

هذا تمام الكلام في فرض انكشاف الخلاف بالجزم واليقين، وقد تحصّل ضعف القول بالإجزاء بكلا تقريبيه.

وأمّا إذا فرض انكشاف الخلاف تعبّداً، فإمّا أن يكون الانكشاف بأمارة مثبتة لجميع اللوازم، أو يكون بأصل من الاُصول:

أمّا إذا كان انكشاف الخلاف بأمارة كما لو بنى على وجوب صلاة الجمعة بالاستصحاب، ثُمّ عثر على رواية تامّة الجهات تدلّ على وجوب الظهر، فالصحيح هنا أيضاً عدم الإجزاء، ولزوم الإعادة والقضاء؛ وذلك لأنّه حتّى لو

333

فرض كون الحجّة المخالفة قد تكوّنت حجّيّتها من الآن ولو من باب فرض: أنّ الرواية لم تكن واردة قبلئذ، ووردت الآن، يكون مفادها الذي هي حجّة فيه ناظراً إلى كلّ الأزمنة: من الماضي والحال والاستقبال، فتدلّ على أنّ الواجب كان هو الظهر ولم يأتِ به، فتجب الإعادة، ويجب القضاء، من دون فرق بين كون القضاء بالأمر السابق أو بأمر جديد، ولا بين كون موضوع وجوب القضاء هو الفوت أو عدم الإتيان، فعلى كلّ تقدير يجب القضاء مادامت مثبتات الأمارة حجّة.

وأمّا إذا انكشف الخلاف بأصل من الاُصول، فلتحقيق الحال في ذلك نستعرض صوراً عديدة للمطلب، مع بيان الحال في كلّ واحدة منها:

الصورة الاُولى: أن ينكشف الخلاف بالاستصحاب في الشبهة الموضوعيّة، بأن يفرض مثلا: أنّه شكّ في أثناء وضوئه في جزء من الأجزاء بعد التجاوز إلى جزء آخر، فتمسّك بقاعدة التجاوز غافلا عن خروج الوضوء منها بالتخصيص وصلّى، ثُمّ اطّلع على خروج الوضوء عن قاعدة التجاوز، فجرى في حقّه استصحاب عدم الإتيان بذلك الجزء، فإذا كان ذلك في أثناء الوقت، فلا إشكال في وجوب الإعادة؛ لأنّه قد ثبت عدم الإتيان بالمطلوب بحكم الاستصحاب، مضافاً إلى قاعدة اقتضاء الاشتغال اليقينيّ الفراغ اليقينيّ، وإن كان بعد الوقت، فإن قلنا بأنّ القضاء بنفس الأمر السابق ولو بأن نستكشف ذلك من دليل القضاء، فقد أصبح حاله حال الأداء، فلا إشكال في وجوب القضاء بنفس البيان، وإن قلنا بأنّ القضاء بأمر جديد، فإن قلنا: إنّ موضوعه هو عدم الإتيان، فهذا الموضوع يثبت بالاستصحاب، ويجب القضاء، وإن قلنا: إنّ موضوعه هو الفوت والخسارة الملازم لعدم الإتيان، فهنا يرد على فرض وجوب القضاء إشكال صاحب الكفاية (رحمه الله)(1):



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 135 بحسب طبعة المشكينيّ.

334

من أنّ استصحاب عدم الإتيان لا يثبت لوازمه، فلا يثبت وجوب القضاء، بل نرجع إلى البراءة عنه(1).

وهذا كلام في نفسه موافق للصناعة، إلّا أنّ فيه إشكالا فقهيّاً واحداً، وهو: أنّه لو تمّت هذه الصناعة في موارد الاستصحاب الجاري بعد الوقت، بمعنى تكوّن موضوعه بعد الوقت، أو تنجّزه على المكلّف بعد الوقت، لتمّت أيضاً في موارد الاستصحاب الجاري في الوقت، فمثلا لو شكّ في أثناء الوقت: أنّه هل صلّى أو لا، فاستصحب عدم الصلاة، ومع ذلك قصّر، فلم يصلِّ إلى أن فات الوقت، فيقال: إنّ استصحاب عدم الإتيان لا يثبت الفوت، فلا يجب عليه القضاء مع أنّ هذا ممّا لا يظنّ بفقيه أن يلتزم به.

ويمكن حلّ هذا الإشكال ببيان: أنّ الاستصحاب إذا جرى وتنجّز في أثناء الوقت، فقد وجبت عليه الصلاة ظاهراً، ويصبح هذا الوجوب الظاهريّ موضوعاً لقوله: «اقضِ مافات كما فات»، فلو ترك وجب عليه القضاء، بينما لو كان الاستصحاب جارياً بعد الوقت لا قبله، لم يفته واجب ظاهريّ في الوقت، ولا يمكن إثبات فوت الواقع باستصحاب عدم الإتيان، كما أنّ الاستصحاب لو فرض جارياً في أثناء الوقت، ولكنّه لم يكن واصلا إليه ومنجّزاً عليه، لم يصدق أيضاً الفوت والخسارة؛ فإنّ الحكم الظاهريّ ليس كالحكم الواقعيّ الذي يصدق بتركه الخسارة ولو لم يتنجّز عليه، فإنّ الحكم الظاهريّ روحه التنجيز، فمع عدم التنجّز لا تصدق خسارة.



(1) إلّا أنّ هذا لا علاقة له بإجزاء امتثال الحكم الظاهريّ عن الحكم الواقعيّ، وإنّما هذا مرجعه إلى أنّ الحكم الواقعيّ الأدائيّ مقطوع السقوط: إمّا بالامتثال، أو بانقضاء الوقت، والحكم الواقعيّ القضائيّ مشكوك الحدوث؛ للشكّ في حدوث موضوعه، وهو الفوت.

335

ويمكن النقاش في هذا الحلّ بأن يقال: إنّ ظاهر دليل القضاء بعد فرضه واجباً مستقلاًّ أنّه وجوب واقعيّ، كما هو الحال في ما هو الظاهر من كلّ أمر من الأوامر، من قبيل: (صلِّ) و(صم) وغير ذلك؛ إذ المفروض: أنّه ليس بقاءً للأمر الأوّل حتّى يقال: إنّه يتبعه في الواقعيّة والظاهريّة، من قبيل: (الميسور لا يسقط بالمعسور) الذي يتبع فيه حكم الميسور في الواقعيّة والظاهريّة، وفي الوجوب والاستحباب حكم المعسور، وإذا كان وجوب القضاء وجوباً واقعيّاً، قلنا: هل موضوع هذا الوجوب خصوص فوت الواجب الواقعيّ، أو موضوعه فوت الصلاة الواجبة سواء كانت واجبة بالوجوب الواقعيّ، أو الظاهريّ؟

فإن فرض الأوّل قلنا: لا سبيل إلى إثبات فوت الواقع ولو جرى الاستصحاب وتنجّز في أثناء الوقت؛ لأنّ استصحاب عدم الإتيان لا يثبت الفوت والخسارة إلّا بالملازمة العقليّة، إذن فلا يجب القضاء حتّى على من جرى في حقّه الاستصحاب في أثناء الوقت وتنجّز، وهذا ما قلنا: إنّه لا يظنّ بفقيه أن يقول به.

وإن فرض الثاني لزم من ذلك: أنّ من جرى في حقّه استصحاب عدم الإتيان في الأثناء وتنجّز عليه، ثُمّ ترك إلى أن فات الوقت، كان القضاء واجباً واقعيّاً عليه، بحيث حتّى لو كان في علم الله قد صلّى في الوقت يجب عليه القضاء، فلو تذكّر صدفة بعد انتهاء الوقت أنّه قد صلّى، فمع ذلك يجب عليه القضاء، وهذا أيضاً ممّا لا يظنّ بفقيه أن يلتزم به.

إلّا أنّ الصحيح: أنّ هذا النقاش يمكن حلّه بأن يقال: إنّ دليل القضاء حيث إنّه يكون بلسان التدارك، فلا ينبغي قياسه بالأوامر الابتدائيّة الصرف، ولا يبعد استظهار كونه تبعاً للشيء المتدارك، فإن كان المتدارك واجباً فهذا واجب، وإن كان مستحبّاً فهذا مستحبّ، وإن كان واقعيّاً فهذا واقعيّ، وإن كان ظاهريّاً فهذا ظاهريّ، كلّ هذا بنكتة ظهور الأمر بالقضاء في كونه تداركيّاً، وإذا كان الأمر

336

كذلك، قلنا: إنّه لو جرى الاستصحاب في الوقت وتنجز عليه، فقد وجبت عليه ظاهراً الصلاة، وهذا الوجوب مشمول لقوله: «اقضِ ما فات كما فات»، فلو لم يمتثله إلى أن انتهى الوقت، وجب عليه القضاء وجوباً ظاهريّاً، بينما لو جرى الاستصحاب بعد الوقت، لا يوجد هنا فوت وخسارة بلحاظ الحكم الظاهريّ في داخل الوقت، ولم يثبت فوت بلحاظ الواقع؛ لأنّ استصحاب عدم الإتيان لا يثبت الفوت، فلا يثبت عليه وجوب القضاء.

الصورة الثانية: أن ينكشف الخلاف بالاستصحاب في الشبهة الحكميّة، كما لو فرض: أنّ صلاة الجمعة مستصحبة الوجوب، وهو كان يرى حاكماً على هذا الاستصحاب، ثُمّ عدل عن هذا الرأي، فأخذ يستصحب وجوب صلاة الجمعة، وحينئذ فإن انكشف له ذلك في أثناء الوقت، فلا إشكال في وجوب الإعادة، ولو لم يعد إلى أن انقضى الوقت فعليه القضاء. وطبعاً قضاء كلّ شيء بحسبه، وقضاء صلاة الجمعة يكون بالإتيان بالظهر(1).

والوجه في وجوب القضاء ـ مع فرض كون القضاء بأمر جديد ـ ما مضى في الصورة الاُولى: من استظهار الأمر بقضاء ما فات على حدّ الأمر الذي كان ثابتاً لما فات من أمر واقعيّ أو ظاهريّ، أمّا مع فرض كون القضاء بالأمر الأوّل، فوجوب القضاء في غاية الوضوح.

وإن انكشف له ذلك بعد انتهاء الوقت، فإن قلنا: إنّ القضاء بالأمر السابق، وجب القضاء، وإن قلنا: إنّه بأمر جديد، وقلنا: إنّ موضوعه عدم الإتيان، وجب القضاء أيضاً؛ فإنّ الموضوع مركّب من جزءين: من عدم الإتيان بشيء وهو ثابت



(1) بل بهذا الاستصحاب ثبت: أنّه وجبت عليه الظهر بعد انتهاء وقت الجمعة، فعليه قضاؤها؛ لأنّها فاتت.

337

بالوجدان، وكون ذلك الشيء واجباً وهو ثابت بالاستصحاب، وإن قلنا: إنّ موضوعه الفوت، لم يثبت القضاء؛ لأنّ إثبات الفوت بالاستصحاب تمسّك بالأصل المثبت، كما في الصورة الاُولى(1).

وقد يتخيّل هنا إمكان إثبات الموضوع بالاستصحاب وإن لم يمكن ذلك في الصورة الاُولى؛ وذلك لأنّ الموضوع هنا مركّب من فوت شيء، وكون ذلك الشيء واجباً، وفوت شيء ثابت بالوجدان؛ فإنّه قد فاتته الجمعة حتماً، وكونه واجباً ثابت بالاستصحاب.

وفي الحقيقة قد جعلنا هذه الصورة في مقابل الصورة الاُولى؛ لامتيازها عنها بهذه الشبهة، فأردنا ذكرها مع جوابها.

والجواب: أنّ الموضوعات حتّى ما كان منها بظاهر صورتها تقييديّة وإن كنّا ندّعي رجوعها عرفاً إلى التركيب، لكن في خصوص الفوت نقول: إنّ الفوت ليس منتزعاً من مجرّد عدم الإتيان حتّى يفرض: أنّ الموضوع مركّب من الفوت ومن وجوب الفائت، وإنّما الفوت منتزع من خصوص عدم إتيان ما فيه مزيّة، فمن ترك بالنهار صلاة ثلاث ركعات مثلا ـ وهي غير مشروعة ـ لا يقال عنه: إنّه فاتته في هذا النهار صلاة ثلاث ركعات، فالفوت عنوان تقييديّ منتزع من مجموع عدم الإتيان، وكون ما لم يأتِ به ممّا لابدّ من الإتيان به، فكما لو كان الشكّ في الجزء الأوّل من منشأ الانتزاع، وهو عدم الإتيان، لم يكفِ استصحاب هذا العدم في إثبات هذا العنوان الانتزاعيّ وهو الفوت، كذلك لو كان الشكّ في الجزء الثانيمن ذلك وهو اللابديّة، لم يكفِ استصحابُها في إثبات هذا العنوان الانتزاعيّ.



(1) إلّا أنّ هذا لا علاقة له بإجزاء امتثال الحكم الظاهريّ عن الحكم الواقعيّ كما أشرنا إليه آنفاً في الاستصحاب الموضوعيّ.

338

الصورة الثالثة: ما إذا انكشف الخلاف بالعلم الإجماليّ، كما لو فرض: أنّه يعلم إجمالا في يوم الجمعة: إمّا بوجوب صلاة الظهر، أو الجمعة، لكنّه كان يرى انحلال هذا العلم الإجماليّ بقيام دليل شرعيّ تعبّديّ على وجوب الجمعة مثلا، ثُمّ انكشف له عدم دليل شرعيّ تعبّديّ على ذلك، وهذا الانكشاف لو كان قبل أن يصلّي صلاة، فلا إشكال في أنّه لابدّ له أن يعمل وفق هذا العلم الإجماليّ، وإنّما يقع الكلام في فرضيّتين:

الاُولى: أنّه لو حصل هذا الانكشاف قبل الصلاة، ثُمّ صلّى الجمعة وترك الظهر إلى أن انتهى الوقت، خلافاً لما هي وظيفته من العمل بالعلم الإجماليّ، فهل يجب عليه القضاء، أو لا؟

والثانية: أنّه لو حصل هذا الانكشاف بعد أن صلّى الجمعة، فهل يجب عليه الظهر أداءً إن كان في الوقت، أو قضاءً إن كان في خارج الوقت، أو لا؟

أمّا في الفرضيّة الاُولى: فلا يخلو إثبات وجوب القضاء فيها من صعوبة ثابتة في كلّ ما لو علمنا إجمالا في الوقت بأحد الواجبين ممّا له القضاء كالصلاة سواء اعتقد أوّلا وجود ما يحكم على العلم الإجماليّ ويحلّه، ثُمّ انكشف الخلاف، أو لم يعتقد ذلك من البدء، فإنّه ـ على أيّ حال ـ يقال: إنّ الواجب الأدائيّ قد سقط حتماً: إمّا بالامتثال أو بانتهاء الوقت، ووجوب القضاء عليه غير معلوم، لأنّه فرع كون الواجب هو ما تركه، وهو غير ثابت، فكيف يتنجّز عليه وجوب القضاء؟!(1).



(1) ولكن لو قلنا بعدم وجوب القضاء عليه، فهذا لا علاقة له بإجزاء امتثال الحكم الظاهريّ عن الواقع، وكيف لا والمفروض انكشاف الخلاف له قبل أن يعمل شيئاً أصلا، أو المفروض عدم قيام حكم ظاهريّ له منذ البدء حالٍّ للعلم الإجماليّ.