107

 

 

 

ـ 2 ـ

المـراد بالمــال

 

تعريف المال:

مقصودنا بالمال في المقام (ما يرغب في امتلاكه بالعوض ذاتاً امتلاكاً غير محرّم) ولا يشترط في ذلك الرغبة العقلائيّة العامّة، فصورة شخص مّا مثلا قد يرغب ابنه في شرائها ولو بأغلى الأثمان، بينما عامّة الناس لا يقيم لها وزناً. ولو فرضنا دلالة دليل تعبّدي على اشتراط الرغبة العامّة في صحّة البيع أو المبادلة فهذا لا يمنع عن أن نجعل موضوع البحث هنا مطلق المال حتى نبحث بعد ذلك عن شرائط صحّة المبادلة كي نرى هل من شرائطها الرغبة العامّة أوْ لا؟

 

تحديد حدود المال:

والمال كما يصدق على العين كذلك يصدق على العمل والمنفعة ـ وإن كانت ماليّة المنفعة مندكّة في ضمن ماليّة العين ـ بل المنفعة حيثيّة تعليليّة لماليّة العين، وليست ماليّتها مستقلّة عن العين، كما أنّ ملكيّتها لم تكن مستقلّة عن العين. نعم، تظهر ماليّتها بشكل مستقلّ حينما تفصل عن العين، كما في عمل الحرّ في رأي الشريعة التي أسقطت الحرّ عن الماليّة ـ أي حكمت بتحريم امتلاكه ذاتاً

108

والمعاوضة عليه ـ ولم تسقط عمله عن الماليّة. كما مضى أنّه تظهر ملكيّتها بالاستقلال حينما تنفصل عن ملكيّة العين كما في باب الإيجار.

والهدف من ذكر كلمة (ذاتاً) في تعريفنا للمال هو إدخال ما امتنع امتلاكه بالعوض لعارض مّا ضمن تشريع، ولم يكن ذاك التشريع يرى عدم صحّة امتلاكه بالعوض لازماً ذاتياً له، وذلك كالعين الموقوفة التي منع التشريع عن تبادله لعارض وهو تعلّق الوقف بها، وكالعين المرهونة ونحو ذلك. فذاك التشريع معترف بماليّة هذه العين رغم عدم إمكان امتلاكها بالعرض.

والهدف من قيد (الرغبة) إخراج ما لا يرغب في امتلاكه إمّا لفقدانه لجميع المنافع أو لانتشاره وسعته كالهواء.

والهدف من قيد عدم الحرمة إخراج مثل الخمر التي يحرم امتلاكها والمعاوضة عليها شرعاً، فهي ليست مالا شرعاً وإن كانت مالا عرفاً لعدم الحرمة العرفيّة في ذلك.

وقد أخرجنا بهذا التعريف الحقّ، لأنّه لا يصبح طرفاً لإضافة الملك وإنّما هو إضافة في عرض إضافة الملك، وإنّما المال هو ما يتعلّق به الحقّ.

 

آراء اُخرى في تحديد المال:

وقد نقل عن الحنفيّة اختصاص عنوان المال بالعين، فلا يشمل المنفعة(1). وليس مقصودهم بهذا منع التبادل في باب المنافع وتخصيص العقود الماليّة بالأعيان، فإنّ هذا خلاف فتاواهم. إذن فلا يعدو هذا أن يكون اصطلاحاً خاوياً.


(1) راجع الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد 3: الفقرة 71 - 73.

109

وقد نقل عن علماء القانون الحديث شمول عنوان المال للحقوق المتعارف تداولها والاعتياض عنها(1).

وما ذكرناه أولى لما قلناه من أنّ الحقّ كالملك، وهما يتعلّقان بالمال، وكما لا يكون الملك مالا آخر غير متعلّقه كذلك الحقّ.

وأغرب ما رأيته في المقام ما نقل عن القانون المدنيّ العراقيّ من تعريف المال بأنّه كلّ حقّ له قيمة مادّيّة(2)، فقصر مفهوم المال على الحقوق بما فيها حقّ الملكيّة، وأخرج بذلك الأعيان عن حيّز المال، نظراً إلى أنّ ماليّة الأعيان إنّما هي باعتبار ما فيها من حقوق لأصحابها، فتدخل في زمرة الحقوق.


(1) راجع الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد 3: الفقرة 75.

(2) راجع نفس المصدر، الفقرة 76.

111

 

 

 

ـ 3 ـ

تحليل حقيقة الحقّ

 

يقع البحث عن الحقّ، والفرق بينه وبين الملك والحكم.

 

تفسير الحقّ في الفقه الإسلامي:

ذكر المحقّق النائينيّ (رحمه الله): أنّ الحقّ سلطنة ضعيفة على المال، والسلطنة على المنفعة أقوى منها، والأقوى منهما السلطنة على العين، فالجامع بين الملك والحقّ هو الإضافة الحاصلة من جعل المالك الحقيقي لذي الإضافة المعبّر عنها بالواجديّة، وكون زمام أمر الشيء بيد من جعل له وكونه ذا سلطنة وقدرة. وهذه الإضافة لو كانت من حيث نفسها ومن حيث متعلّقها تامّة بأن تكون قابلة لأنحاء التقلّبات تسمّى ملكاً. ولو كانت ضعيفة ـ إمّا لقصور نفس الإضافة كحقّ المرتهن بالنسبة للعين المرهونة، وإمّا لقصور في متعلّقه كحقّ التحجير وحقّ الخيار بناءً على تعلّقه بالعقد غير القابل لما عدا الفسخ والإجازة وحقّ الاختصاص بالنسبة إلى الأشياء غير المتموّلة كالخمر القابل للتخليل ـ تسمّى حقّاً(1).

وقد جاء في تقرير الشيخ الآمليّ لبحث المحقّق النائينيّ (رحمه الله) نقلا عن بعض


(1) منية الطالب للشيخ موسى النجفي 1: 41.

112

الاساطين التعبير عن الحقّ بـ (ملكيّت نارسيده) أي الملكيّة غير الناضجة(1).

وبحث المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)(2) في المقام تفاسير ثلاثة للحقّ:

التفسير الأوّل: ما نسبه إلى المشهور، وهو أنّ الحقّ بمعنى السلطنة، ورأى أنّ هذا غير الملك؛ لأنّه يرى الملك عبارة عن الإحاطة والاحتواء دون السلطنة. وذكر (رحمه الله): أنّه ليكن المراد بالسلطنة السلطنة الاعتباريّة لا السلطنة التكليفيّة ليورد على ذلك أنّ الجواز التكليفي من أحكام الحقّ لا نفسه، أو أنّه لا سلطنة للقاصر على التصرّفات مع كونه ذا حقّ شرعاً. وذكر أيضاً: أنّ المرادبالسلطنة الاعتباريّة اعتبار السلطنة لا السلطنة الانتزاعيّة لما يرد على ذلك ما أوردناه على انتزاعيّة الملك.

التفسير الثاني: أن يقال: إنّ الحقّ هو الملك، ولذا عُبّر عن حقّ الخيار بملك الفسخ والإمضاء.

وذكر (رحمه الله) على هذا التفسير إشكالين:

الأوّل: أنّ الملك يستلزم السلطنة المطلقة مع أنّ الحقّ سلطنة خاصّة على تصرّف خاصّ.

وأجاب على ذلك: بأنّ سعة المملوك وضيقه لا ربط له بسعة الوجدان وضيقه.

والثاني: أنّ الحرّ لا يملك عمل نفسه بالمعنى الذي يملك به أمواله، بينما الحقّ قد يتعلّق بعمل من أعمال ذي الحقّ كحقّ الفسخ والإمضاء، فإنّ الفسخ أو الإمضاء عمل لنفس ذي الحقّ.


(1) المكاسب والبيع للشيخ محمد تقي الآملي (رحمه الله) 1: 92.

(2) في تعليقته على المكاسب (فائدة في تحقيق حقيقة الحقّ): 10 و 11.

113

وأجاب على ذلك بأنّ عمل الحرّ يصبح مملوكاً له في حالتين:

(الاُولى) ما يتوقّف تحقّقه على اعتبار ملكه إيّاه وسلطنته عليه كالفسخ والإمضاء والتملّك، فهنا يعتبر ملكه لذاك العمل كي يصبح قادراً عليه. أمّا العمل الذي يقال عنه أنّه لا يملكه نفس العامل فهو ما يكون من قبيل الأكل والشرب والكتابة والخياطة ونحو ذلك ممّا لا يتوقّف تمكّنه منه من اعتبار الملك فيلغو اعتبار الملك.

(والثانية) العمل الذي يكون الإنسان قادراً عليه بلا حاجة إلى اعتبار ملكه إيّاه كالأكل ولكن كان له مساس بملك الغير، فمن حيث انتسابه إلى ملك الغير عدّ من منافع ملك الغير ومملوكاً للغير تبعاً، فيصحّ تمليك الغير إيّاه لنفس العامل أو جعل الشارع له إيّاه كحقّ المارّة.

وأورد (رحمه الله) على هذا الوجه ـ أعني تفسير الحقّ بالملك ـ بأنّه ربّما يضاف الحقّ إلى شيء لم يكن له اعتبار الملك شرعاً كحقّ الاختصاص بالخمر التي كانت خلاًّ قبل ذلك، وكحقّ الأولويّة في الأرض المحجّرة التي لا تملك إلّا بالإحياء على المشهور، فالحقّ ليس بمعنى الملك إمّا مطلقاً أو في أمثال هذه الموارد.

قال (رحمه الله): نعم، تفسيره بمعنى السلطنة الوضعيّة ـ يعني التفسير الأوّل ـ ممّن يجعل الملك غير السلطنة لا مانع منه. وأمّا من يرى أنّ الملك بمعنى السلطنة فالإيراد متوجّه إليه أيضاً.

أمّا الجواب على مثل النقض بحقّ الاختصاص في الخمر التي لا تملك شرعاً وحقّ الأولويّة في الأرض المحجّرة على رأي المشهور القائل بعدم ملكها بأنّنا نفترض الحقّ مرتبة ضعيفة من الملك، والملك المنفيّ في الخمر وفي الأرض المحجّرة هي الملكيّة التامّة، فلم يرتضه المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)، واعترض على

114

التفريق بين الملك والحقّ باختلاف الدرجة بأنّ حقيقة الملك سواء كانت من مقولة الإضافة أو مقولة الجدة ليست لها مراتب مختلفة. أمّا الإضافة فهي تتبع المقولة التي تعرضها، فإن كانت من مقولة تقبل الشدّة والضعف كالكيف قبلت الشدّة والضعف كعنوان الأحرّ العارض على الحرارة، وإلّا فلا. وأمّا الجدة فلا تتّصف بالشدّة والضعف، وإنّما تتّصف بالزيادة والنقص، حيث إنّ الهيئة الحاصلة للرأس من العمامة مثلا أنقص من الهيئة الحاصلة للبدن من القميص.

التفسير الثالث: ما ذكره بعنوان (يمكن أن يقال) قائلا: «وإن لم أجد من وافق عليه صريحاً» وهو أن يقال: إنّ الحقّ ليس له معنىً واحد في كلّ الموارد، ففي جملة من الموارد توجد هناك اعتبارات خاصّة لها آثارها الخاصّة، ولتكن تلك الاعتبارات هي الحقّ بلا حاجة إلى افتراض اعتبار آخر و هو اعتبار سلطنة أو ملك لترتيب تلك الآثار عليه.

فحقّ الولاية مثلا ليس إلّا اعتبار ولاية الحاكم والأب والجدّ، ومن أحكام نفس هذا الاعتبار جواز تصرّفه في مال المولّى عليه تكليفاً أو وضعاً، ولا حاجة إلى اعتبار آخر اسمه السلطنة أو الملك مثلا، وإضافة الحقّ إلى الولاية إضافة بيانيّة. وكذلك حقّ التولية وحقّ النظارة. وكذلك حقّ الرهانة، فإنّه ليس إلّا اعتبار كون العين وثيقة شرعاً، وأثره جواز الاستيفاء ببيعه عند الامتناع عن الوفاء. وكذلك حقّ التحجير، أي الحقّ المسبّب عن التحجير، فهو ليس إلّا اعتبار كونه أولى بالأرض من دون لزوم اعتبار آخر. وحقّ الاختصاص في الخمر ليس إلّا نفس اعتبار اختصاصه به في قبال الآخرين من دون اعتبار ملك أو سلطنة له، وأثر الأولويّة والاختصاص عدم جواز مزاحمة الغير له.

وخلاصة هذا الكلام: أنّه لا داعي لاعتبار السلطنة في جملة من الحقوق.

115

قال(رحمه الله): نعم، لا بأس بتفسير الحقّ بالسلطنة عندما يكون مفهوم السلطنة مأخوذاً في لسان الدليل كحقّ القصاص، حيث قال الله تعالى بشأنه: ﴿فقد جعلنا لوليّه سلطاناً﴾(1) وكذلك عندما لا يكون هناك معنىً اعتباريّ آخر مناسب للمقام. ولو فرض عدم ذكر عنوان السلطنة في لسان الدليل ـ وذلك كما في حقّ الشفعة ـ فإنّه ليس معناه اعتبار نفس الشفعة أي ضمّ حصّة الشريك إلى حصّته، وإلّا للزم انتقال حصّة الشريك إليه بمجرّد ثبوت الحقّ، بينما ليس كذلك. فحقّ الشفعة يعني السلطنة على ضمّ حصّة الشريك إلى حصته. وكذلك حقّ الخيار يعني السلطنة على اختيار الفسخ أو الإمضاء لا اعتبار اختيار أحدهما بالفعل بأن يكون بالفعل فاسخاً أو ممضياً، إذ لا فسخ ولا إمضاء بمجرّد جعل الحقّ.

قال (رحمه الله): نعم، ليس حقّ الخيار ملك الفسخ والإمضاء معاً أو السلطنة عليهما معاً، وإلّا نفذ إمضاؤه وفسخه معاً، ولا أحد الأمرين من الفسخ والإمضاء، فإنّ أحدهما المردّد لا ثبوت له حتى يقوّم به الملك أو السلطنة، بل الملك أو السلطنة يتعلّق بترجيح أحد الأمرين على الآخر.

وقال (رحمه الله): ويمكن أن يقال: إنّ المعنى الاعتباريّ المعقول هنا غير السلطنة، والمناسب للخيار جعله مفوّضاً، فاعتبار كونه مفوّضاً يترتّب عليه جواز الفسخ والإمضاء تكليفاً ووضعاً من دون لزوم اعتبار آخر.

أقول: إنّ هذا الكلام المفصّل للمحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) فيه مجال واسع للملاحظة:

فأوّلا: أنّنا لا نظنّ بمن يعتبر الحقّ مرتبة ضعيفة من الملك كالمحقّق النائيني


(1) الاسراء: 33.

116

(رحمه الله)أنّه يقصد بذلك الشدّة والضعف بالمعنى الفلسفيّ الذي شرح المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)عدم تصوّره في الملك، وإنّما المقصود التعبير العرفيّ عن كون السلطنة على الشيء أحياناً بلحاظ تمام الجهات، واُخرى بلحاظ بعض الجهات.

وثانياً: ما ذكره جواباً على أنّ الحقّ قد يتعلّق بعمل الإنسان فلا يمكن أن يفسّر بالملك من أنّ عمل الإنسان يمكن تصوير امتلاك صاحبه له في موردين.

يرد عليه: أنّ نكتة عدم تصوير العقلاء للملكيّة بالنسبة لعمل الإنسان بالقياس إلى نفس العامل هي أنّ العقلاء إنّما اعتبروا الملكيّة لتكون علاقة اعتباريّة بين الإنسان والأموال المنفصلة عنه من أعيان أو منافع أو أعمال الآخرين كي يرتّبوا عليها أحكام الاختصاص والأولويّة للإنسان بالنسبة لتلك الاُمور المنفصلة عنه. أمّا بالنسبة لأعماله هو فلم يروا حاجة إلى خلق علاقة اعتباريّة بينه وبينها بعد ما كانت العلاقة التكوينيّة والسلطنة الحقيقيّة موجودة بينه وبينها، فلم يبق إلّا الحكم التكليفيّ من حلّيّة وحرمة شرعيّتين، أو حُسن وقبح عقليّين، أو النفوذ وعدم النفوذ كنفوذ الفسخ وعدمه، فمتى ما جاز ذلك أو نفذ لا حاجة إلى خلق علاقة اعتباريّة لوجود العلاقة التكوينيّة، ومتى ما لم يجز أو لم ينفذ لسبب مّا انفصلت تلك العلاقة التكوينيّة عمّا يرتّب عليها من الأولويّة لمانع.

وهذه النكتة نسبتها إلى كلّ الأعمال على حدّ سواء، ولا استثناء فيها، فحتّى فسخه للعقد بمقدار ما هو عمل له ـ أعني إنشاء الفسخ وأكله لثمرة الأشجار التي مرّ بها ـ توجد بينه وبينهما العلاقة التكوينيّة والسلطنة الحقيقيّة، فان نفذ الفسخ وجاز الأكل لم تكن حاجة إلى فرض علاقة اعتباريّة بينه وبينهما، وإن لم ينفذ الفسخ ولم يجز الأكل لارتباط ذلك بمال الغير أو لأيّ سبب آخر، لم نحتج أيضاً إلى فرض علاقة اعتباريّة بينه وبينهما.

117

وكان الأولى به (رحمه الله) أن يدفع الإشكال ببيان أعمق وهو أن يتجاوز الأعمال في معرفة مصبّ الحقّ إلى الأموال التي تتعلّق بها تلك الأعمال، ويقول: إنّ مصبّ حقّ الفسخ هي العين المباعة، ومصبّ حقّ المارّة هي الثمرة التي تؤكل. إذن فكلّ الحقوق في واقعها تتعلّق بالأموال كالملك، وإن صحّ أحياناً التعبير العرفيّ عن ذلك بمثل تعلّق الحقّ بالفسخ أو بالأكل.

وثالثاً: أنّ تفسيره للخيار بحقّ الفسخ والإمضاء غير صحيح، وإنّما الخيار هو حقّ الفسخ. وأمّا الإمضاء فهو إسقاط للخيار، وإسقاط الخيار غير الخيار. نعم، قد يقال بالنسبة لصاحب المال الذي باعه الفضوليّ: إنّ له حقّ الإمضاء والردّ.

ورابعاً: أنّ قوله: إنّ حقّ الخيار ليس هو حقّ الفسخ والإمضاء معاً لعدم إمكان الجمع بينهما ولا حقّ أحدهما، لأنّ أحدهما المردّد لا ثبوت له، ثمّ حلّه للإشكال بأنّ حقّ الفسخ هو حقّ ترجيح أحد الأمرين على الآخر.

أقول: هذا الكلام من أطرف ما جاء في بحثه (رحمه الله)، ولا أدري لماذا لم يكرّر السؤال على نفسه من أنّ ما اُضيف إليه (الترجيح) في فرض تعلّق الحقّ بترجيح أحد الأمرين هل هو كلا الأمرين معاً أو أحدهما المردّد؟ والأوّل مستحيل، لعدم إمكان الجمع بينهما. والثاني باطل، لأنّ أحدهما المردّد لا ثبوت له. والواقع أنّ الخيار إذا كان بمعنى حقّ الفسخ والإمضاء إذن هو متعلّق بالفسخ والإمضاء معاً، ولكن كلمة (معاً) هنا ليست بمعنى المجموع، بل بمعنى الجميع، فله حقّ الفسخ وله حقّ الإمضاء، وهو تكويناً عاجز عن الجمع في إعمال الحقّ بين الأمرين، وهذا ما يصاغ عرفاً بصياغة (تعلّق الحقّ بأحدهما). فعنوان أحدهما قالب ذهنيّ يصوغه الذهن لصبّ بعض أحكامه عليه في عالَمه، والاستفادة منه خارجاً سيتجسّد في فرد معيّن لا في فرد مردّد.

118

وخامساً: أنّ الفارق بين الأمثلة التي ذكرها غير واضح، فلماذا يكون الحقّ في الخيار والشفعة سلطنة ولا يكون في الولاية والتولية والنظارة والاختصاص في الخمر سلطنة؟! وصحيح أنّ إضافة الحقّ إليها بيانيّة، فحقّ الولاية مثلا لا يعني حقّ السلطنة على الولاية، وإنّما يعني (حقّاً هي الولاية)، ولكن لِمَ لا نفسّر نفس الولاية بالسلطنة على أموال المولّى عليه والاُمور التي يجوز له التدخّل فيها بالنسبة لمولّى عليه؟ والتفسير الأخير الذي ذكره للخيار وهو جعله مفوّضاً لِمَ لا يذكر في الشفعة؟ فيقال أيضاً: إنّ حقّ الشفعة عبارة عن جعله مفوّضاً في ضمّ حصّة شريكه إلى حصّته ثمّ كيف الطريق لمعرفة أنّ التفويض غير التسليط؟ كلّ هذا غامض لم يوضّحه المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) في كلامه.

ومن الغريب ما استفاده من كلمة (السلطان) فى قوله تعالى ﴿جعلنا لوليّه سلطاناً﴾ من أنّ حقّ القصاص يكون بمعنى اعتبار السلطنة، بينما من الطبيعيّ العرفيّ التعبير عن الحقّ بالسلطنة حتى لو لم يكن فى تحليله الدقيق الفلسفيّ عبارة عن السلطنة، ولِمَ لا نحتمل أنّ السلطان في هذه الآية المباركة عبارة عن السلطنة التكليفيّة ولا علاقة لها بالسلطنة الاعتباريّة؟ !

وذكر الإمام الخمينيّ(1) (رحمه الله) في المقام: أنّ الحقّ بحسب المفهوم العرفيّ والمرتكز العقلائي له معنىً واحد وهو اعتبار خاصّ يختلف عن اعتبار الملك أو السلطنة، وجعل (رحمه الله) الحقوق التي عدّها المحقّق الإصفهانيّ بعنوان حقيقة اُخرى غير السلطنة خارجة عن الحقوق، فذكر: أنّ مثل الولاية أمر اعتباريّ لدى العقلاء مجعول بذاته غير الحقّ والملك والسلطنة.


(1) راجع كتاب البيع 1: 22 - 25.

119

واستشهد على كون الحقّ اعتباراً خاصّاً مغايراً للملك والسلطنة ـ إضافة إلى دعوى الفهم العرفيّ والارتكاز ـ باُمور:

1 ـ صدق الحقّ في موارد لا يعتبر فيها الملك ولا السلطنة، فحقّ الأولويّة الذي قال به المشهور في مَن سبق إلى المسجد أو الأمكنة الاُخرى الموقوفة وكذلك حقّ أولويّة الإحياء في مورد التحجير قد انفصل عن الملك لعدم الملك فى هذه الموارد بلا ريب ولو بمرتبة ضعيفة لو سلّمنا تصوّر الشدّة والضعف في الملك.

والحقوق الثابتة للصغير أو السفيه المحجور عليهما منفصلة عن السلطنة، فإنّ السلطنة فيها للولي لا للمحجور عليه. وما يقال من أنّ سلطنتهم سلطنة القاصر ليس بشيء، لأنّ القاصر مسلوب السلطنة لا مفوّضها.

2 ـ أنّه قد تثبت السلطنة ولا يثبت الملك ولا الحقّ، فهذا دليل على أنّ الحقّ غير السلطنة، وذلك من قبيل سلطنة الناس على نفوسهم، فإنّها عقلائيّة، ولهم أن يتصرّفوا في أنفسهم بأيّ نحو شاؤوا لولا المنع القانونيّ لدى العقلاء والشرعي لدى المتشرّعة، مع أنّهم لا يملكون أنفسهم ولا لهم الحقّ على أنفسهم.

3 ـ أنّ الملك في جميع الموارد إضافة بين المالك والمملوك، ولا يتقوّم بطرف ثالث اسمه المملوك عليه حتى في باب الدَين، فإنّ حال الذمّة فى الدَين حال المحفظة الخارجيّة في الأموال العينيّة التي جعلت فيها لا دخل لها فى اعتبار الملكيّة، بينما الحقّ كثيراً مّا يعتبر بين ذي الحقّ ومَن عليه الحقّ، كما في حقّ الاستحلاف للمدّعي على المدّعى عليه، فهذا دليل على أنّ الحقّ غير الملك.

4 ـ وذكر هذا الوجه بعنوان التأييد، وهو أنّ الحقّ حينما يكون على شخص يعتبر فيه الأداء، فيقال مثلا: أدّى حقّه، كما يقال في الدين: أدّى دينه، بينما لا يقال: أدّى سلطنته أو أدّى ملكه، فهذا يؤيّد تغاير الحقّ للملك والسلطنة.

120

5 ـ أنّهم قالوا: إنّ للمطيع على الله تعالى حقّ الثواب، بينما لا تعتبر الملكيّة ولا السلطنة في ذلك بالضرورة.

أقول: إنّ هذه الشواهد التي ذكرها (رحمه الله) كلّها قابلة للنقاش:

أمّا عدم تصوير الملكيّة الضعيفة في حقّ الأولويّة لمن سبق في الوقف كالمسجد ونحوه فليس بأوضح من أصل دعوى دلالة الارتكاز العقلائيّ على مغايرة الحقّ للملك، ومن ينكر ذلك لا يمكن إفحامه بهذا الشاهد، والقدر المسلّم بين الجميع عدم الملك بمعناه المقابل للحقّ، وهو الملك التامّ في المقام في رأي من يفترض الشدّة والضعف في الملك، وقد مضى أنّ المقصود بالشدّة والضعف قد لا يكون معناهما الفلسفيّ الواضح بطلانه في المقام، فبالإمكان أن يقال: إنّ من سبق إلى إشغال مكان في الوقف كانت له سلطنة محدودة على ذاك المكان في مقابل من يريد إزاحته كي يجلس هو مكانه، وبناءً على أنّ السلطنة هي الملك رجع الأمر إلى الملك بلحاظ بعض الجهات، ولا نعني بالملكيّة الضعيفة إلّا هذا.

وأمّا ثبوت سلطنة الناس على أنفسهم من دون ملك أو حقّ فهذه هي سلطنة تكليفيّة أو عنوان منتزع عنها، وهي أجنبيّة عن السلطنة الاعتباريّة التي يتكلّم السيّد الإمام (رحمه الله) عنها، والعقلاء لم يروا ملاكاً في اعتبار السلطنة للإنسان على نفسه أو جوارحه بعد أن كانت السلطنة التكوينيّة الموجودة في المقام تكفي في نظرهم لترتيب السلطنة التكليفيّة عليها، بلا حاجة إلى افتراض سلطنة اعتباريّة يترتّب عليها الحكم التكليفيّ.

وأمّا كون الحقّ متقوّماً أحياناً بمن عليه الحقّ بخلاف الملك فالواقع أنّ الحقّ دائماً متقوّم بمن عليه الحقّ حتى في الحقوق المتعلّقة بالأعيان الخارجيّة من قبيل حقّ التحجير، فحقّ التحجير يعني أنّ المحجّر له على الناس حقّ عدم

121

مزاحمتهم إيّاه في إحياء الأرض... وهكذا. والملك في مورد الدَين أيضاً متقوّم بالمملوك عليه، وفرق الذمّة عن المحفظة إضافتها إلى الإنسان وعدم امتلاكها الاستقلاليّة التي تمتلكها المحفظة، بل الملك في غير الدَين أيضاً قد فرض في حيثيّته التعليليّة وجود المملوك عليه. فلو لم يكن في العالم إلّا شخص واحد يتصرّف في كلّ الأموال كما يشاء لم تكن نكتة لفرض مالكيّته لها، وإنّما يملك الشخص الأموال باعتبار وجود آخرين معه في العالم فيقال: إنّ المال الفلاني ملك لزيد، أي أنّه مختصّ به في مقابل باقي الناس.

نعم، هناك فارق لغويّ بين الحقّ والملك، وهو أنّ الحقّ لوحظ في مفهومه لغةً فرض مَن عليه الحقّ، ولكن الملك لم يلحظ في مفهومه لغةً فرض مَن عليه الحقّ، فكأنّما يُرى أنّ الملك متقوّم بالمالك والمملوك فحسب، بخلاف الحقّ الذي هو بحاجة إلى من عليه الحقّ، وهذا فارق لغويّ بين الكلمتين، وليس فارقاً ماهويّاً بين السلطنتين.

وبما ذكرناه اتّضح الجواب على الشاهد الرابع، فإنّما يتعلّق الأداء بالحقّ وبالدَين فيقال: أدّى حقّه، أو أدّى دَينه، لأنّ (كلمتي الحقّ) والدَين قد اُشرِبتا لغويّاً معنى الإضافة إلى مَن عليه الحقّ أو الدَين، ولا يتعلّق الأداء بالملك، فلا يقال: أدّى ملكه، لعدم وجود إشراب من هذا القبيل لكلمة (الملك) فالفارق لغويّ لا علاقة له بهويّة السلطنتين.

وأمّا استحقاق العبد للثواب على الله تعالى فإنّما هو حقّ عقليّ بمنطق العقل العمليّ، وليس حقّاً وضعيّاً اعتباريّاً بالمعنى الذي نبحثه في المقام.

وتحقيق الكلام في المقام: أنّنا إذا اعتبرنا الحقّ عبارة عن أمر اعتباريّ يعتبره العقلاء كعلاقة بين صاحب الحقّ ومتعلّق الحقّ كي تترتّب عليه الأحكام فلا

122

ينبغي الشكّ في أنّ هذا الأمر الاعتباريّ هو من سنخ نفس الأمر الاعتباريّ الذي يعتبره العقلاء باسم الملك، فإنّ الدافع العقلائيّ لكلا الاعتبارين واحد، وهو إيجاد ربط بين الإنسان وما هو منفصل عنه من عين أو عمل أو منفعة يحلّ محلّ الربط التكوينيّ الموجود بين الإنسان وما هو متّصل به من جوارحه وأعماله، ويكون استنساخاً لتلك العلقة التكوينيّة التي إن شئت فسمّها بالسلطنة، و إن شئت فسمّها بالإحاطة، أو بأيّ اسم آخر، وهذا الخلق والاعتبار من قِبل العقلاء ـ سواء كان بملاك تنظيم الأحكام المترتّبة عليه أو بملاك صعوبة تصوّرهم لترتّب تلك الأحكام على ما هو منفصل عن الإنسان من دون فرض ربط وعلقة بينه وبين الانسان ـ من سنخ العلقة والربط الموجود بين الإنسان وجوارحه وأعماله، والتي كانت تترتّب على الجوارح والأعمال بنكتة تلك العلقة. ولا معنى لافتراضه في باب الملك شيئاً وفي باب الحقّ شيئاً آخر، فهو في كليهما استنساخ عن العلقة التكوينيّة الثابتة بين الإنسان وجوارحه، أو الإنسان وأعماله، وهي السلطنة، وإنّما الفرق يكون في سعة وضيق الأحكام التي تترتّب على هذه السلطنة الاعتباريّة، أو شدّة الأهمّية وضعفها، فالأحكام المترتّبة في باب الملك واسعة أو مهمّة، وفي الحقّ تكون في دائرة ضيّقة أو أقلّ أهمّية، وهذا يعني صحّة ما ذكره المحقّق النائيني (رحمه الله) من أنّ الحقّ هو المرتبة الضعيفة من الملك، وذلك لا بالمعنى الفلسفيّ للشدّة والضعف الذي أورد عليه المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) بعدم معقوليّة ذلك في مفهوم الملك، بل بمعنىً عرفيّ يقصد به كون اعتبار السلطنة بلحاظ دائرة واسعة من التصرّفات أو دائرة أهمّ تارةً، وبلحاظ دائرة ضيّقة أو أقلّ أهمّيّة تارةً اُخرى. والمقصود هو السعة والضيق أو الأهمّية وعدم الأهمّية بلحاظ الطبيعة الأوّليّة للاُمور، وبقطع النظر عن الطوارئ والموانع. فلا يرد على ذلك النقض بأنّ

123

الآثار المترتّبة على الملك من جواز التصرّف أو نفوذه قد تضيق أو تنعدم نهائيّاً بالنسبة للمالك كما في حالات الحجر.

وعلى هذا، فالحقّ عبارة عن سلطنة ضعيفة من سنخ السلطنة الموجودة بمرتبة أقوى في الملك، ولا اُريد أن أنكر بهذا الفارق اللغويّ الموجود بين الملك والحقّ وهو أنّ الحقّ لوحظ فيه لغويّاً فرض النظر إلى المحقوق عليه، بينما لم تشرّب كلمة (الملك) بفرض المملوك عليه، فالملك رابطة بين المالك والمملوك بلا حاجة إلى المملوك عليه وإن كان وجود المملوك عليه ضروريّاً من الناحية التعليليّة في الملك كما في الحقّ تماماً، أي أنّه لو لم يكن في العالم إلّا شخص واحد يتصرّف فيه كما يشاء لم تكن حاجة إلى اعتبار الملكيّة وفرض السلطنة الاعتباريّة له، وإنّما وقعت الحاجة إلى ذلك بلحاظ وجود الآخرين، فيفترض عندئذ كلّ شخص مالكاً لشي كي لا تجوز للآخرين مزاحمته في ملكه، فالملك أيضاً في واقعه حقّ على الآخرين ولكن لم ينظر إلى ذلك في مفهوم الملك لغويّاً، بينما نظر إليه في مفهوم الحقّ، وهذا لا يعدو أن يكون فارقاً لغويّاً بين المفهومين لا فارقاً ماهويّاً بين السلطنتين.

والخلاصة: أنّه بناءً على افتراض الحقّ اعتباراً عقلائيّاً يربط بين ذي الحقّ ومتعلّق الحقّ يكون الصحيح ما قاله المحقّق النائينيّ (رحمه الله) من أنّه درجة خفيفة من الملك.

 

تفسير الحقّ في الفقه الوضعي:

والمعروف في الفقه الغربيّ عدم التمييز بين الملك والحقّ، واعتبار الملك مصداقاً من مصاديق الحقّ.

والحقّ بهذا المعنى قد يكون صادقاً في بعض الحقوق كحقّ الولاية، ولكنّه

124

لا يصدق حتماً في جميع الحقوق كحقّ الأولويّة في مَن سبق في إشغال مكان فيالأوقاف العامّة. فمن الواضح أنّ العقلاء لا يوجدون بالخلق والاعتبار رابطة بين هذا الإنسان والمكان الذي أشغله، ولا يوجد هنا عدا الحكم التكليفيّ من جواز بقائه في المكان واستمراره في الاستفادة منه، وعدم جواز مزاحمة الآخرين له وإزاحتهم إيّاه إلى أن ينتقل هو من المكان، وما ينتزع من ذلك وهو عنوان اختصاصه بهذا المكان، فهذا المعنى الأوّل للحقّ وهي السلطنة الاعتباريّة قد يكون صحيحاً في الجملة.

ولكن يوجد في المقام منحىً ثان لتفسير الحقّ بما هو أوسع مصداقاً وأعمّ تطبيقاً من المعنى الأوّل، وهو تفسيره بأمر انتزاعيّ ينتزع من الأحكام التكليفيّة من الجواز وعدمه، والوضعيّة من النفوذ وعدمه، لا بأمر اعتباريّ جعل موضوعاً لتلك الأحكام، وذلك الأمر الانتزاعيّ عبارة عن عنوان اختصاص متعلّق الحقّ بذي الحقّ.

وقد فسّر الاُستاذ مصطفى أحمد الزرقاء الحقّ بذلك حيث قال: «الحقّ هو اختصاص يقرّر به الشرع سلطةً أو تكليفاً»(1)، وبكلمة (الاختصاص) تخرج العلاقة التي لا اختصاص فيها كإباحة الاصطياد والاحتطاب من البراري وحيازة المباحات وحقّ الانتخاب وما إلى ذلك.

وهذا المنحى في تعريف الحقّ يشمل مثل حقّ الولاية، ومثل حقّ الأولويّة في مَن سبق إلى مكان في الوقف العامّ، وسائر الحقوق الاُخرى.

ويقصد بكلمة (السلطة) في التعريف ما يرجع إلى تصرّف نفس الولىّ كما في حقّ الولاية على النفس، حيث يمارس الوليّ فيه سلطته على القاصر تأديباً


(1) الفقه الإسلاميّ في ثوبه الجديد 3: 11 الفقرة 3.

125

وتطبيباً وتعليماً وإيجاراً وتزويجاً وغير ذلك. وكما في حقّ الملكيّة حيث يمارسالإنسان سلطته على الشي المملوك. وكحقّ الشفعة حيث يمارس الإنسان فيه سلطته على حصّة الشريك المشتراة بضمّها إلى ملكيّة نفسه. والاُستاذ الزرقاء يتّبع في مصطلحه في (الحقّ) الفقه الغربيّ في جعل الملك مصداقاً من مصاديق الحقّ.

ويقصد بكلمة (التكليف) في التعريف ما يرجع إلى تصرّف مَن عليه الحقّ من قبيل حقّ المستأجر على الأجير الموجب لقيام الأجير بعمله، وحقّ الدائن على المدين الذي هو حقّ قيام المدين بوفاء الدَين.

وفي المقام معنىً ثالث للحقّ أوسع وأعمّ تطبيقاً من المعنين الأوّلين، وهو نفس الجواز التكليفيّ أو الجواز الوضعيّ بمعنى النفوذ، فهذا يشمل حتى مثل حقّ الاصطياد والاحتطاب والحيازة وحقّ الانتخاب وما إلى ذلك.

وعلى أيّة حال فهذا المنحى من البحث الذي بحثناه حتى الآن وهو البحث عن تعريف الحقّ وإن كانت له قيمته من زاوية فقه الحقوق ولكن لا أثر عمليّ فقهيّ يترتّب عليه.

وإنّما الأثر العمليّ يترتّب على منحىً ثان من البحث، وهو ما قد يسمّى ببحث الفرق بين الحقّ والحكم، وهو البحث عن الآثار المعروفة التي قد ترتّب على الحقّ.

 

الآثار المعروفة للحقّ:

وهي ثلاثة:

الأوّل ـ جواز الإسقاط.

الثاني ـ جواز النقل.

الثالث ـ الانتقال بالإرث.

126

(الأوّل) جواز الاسقاط:

وقد أفاد المحقّق النائينيّ (رحمه الله): أنّ قوام الحقّ بقبول الإسقاط، لأنّ الحقّ عبارة عن السلطنة، ولولا جواز الإسقاط لم يكن هذا سلطنة لذي الحقّ، بل هو حكم مفروض عليه، فإنّ السلطنة تعني كون زمام أمر الشيء بيده(1).

وهذا الاستدلال غريب، فإنّ السلطنة على الشيء تعني كون زمام أمر ذلك الشيء الذي هو متعلّق للسلطنة بيده، ولا تعني كون زمام أمر تلك السلطنة من الإسقاط وعدمه بيده.

ولا أدري لماذا لا يقول أيضاً بأنّ قوام الحقّ يكون بقبول النقل، لأنّ جواز النقل وعدمه أيضاً نوع من كون زمام أمر تلك السلطنة بيد الإنسان؟ !

(الثاني والثالث) جواز النقل والإرث:

وأفاد المحقّق النائينيّ (رحمه الله) بالنسبة للنقل والإرث: أنّ الحقوق ليست كلّها على حدّ سواء:

فمنها: ما لا يقبل غير الإسقاط كحقّ القذف.

ومنها: ما يقبل النقل إلى الغير إمّا بلا عوض كحقّ القسم على ما ذكره جماعة فهو ينقل إلى الضرّة ولا يجوز أخذ العوض(2)، أو ينقل بعوض كحقّ التحجير.

وما يقبل النقل قد يقبل النقل إلى كلّ أحد كحقّ التحجير، وقد لا يقبل النقل إلّا إلى بعض الناس كحقّ القسم الذي لا يقبل النقل إلّا إلى الضرّة.


(1) راجع منية الطالب 1: 42.

(2) لم نعرف السببب في عدم جواز أخذ العوض في المقام.

127

ومنها: ما يقبل الانتقال بالإرث لا النقل، كالخيار، فالبايع مثلا لو كان له خيار الفسخ لإرجاع العين فلا معنى لنقل خياره إلى شخص آخر، إذ لا معنى لإرجاع العين المبيعة إلى شخص آخر، ولكن انتقاله إلى الوارث في محلّه لدخوله تحت عنوان التركة.

والحقّ القابل للنقل لا يقبل النقل إلى مَن هو عليه لنكتة عامّة في جميع موارده، ولنكات خاصّة في بعض الموارد. أمّا النكتة العامّة في جميع موارده فهي عدم إمكان وحدة المسلّط والمسلّط عليه. وأمّا النكات الخاصّة فمن قبيل أنّ حقّ الرهانة سلطنة للمرتهن على العين المرهونة ليستوفي منها دَينه، ولا يتصوّر ذلك في الراهن كي يعقل نقله إليه، وحقّ الشفعة سلطنة بها يقدر الشريك على أخذ الحصّة المشتراة، ولا يتصوّر ذلك في المشتري نفسه كي ينقل إليه، وحقّ الخيار بالنسبة للبايع مثلا يعني حقّ تملّكه للمبيع، ولا معنى لنقل هذا الحقّ إلى المشتري بأن يكون له حقّ تملّك المبيع(1). انتهى ما أردنا نقله عن المحقّق النائينيّ (رحمه الله).

وللسيّد الإمام (رحمه الله)(2) إشكال على مثل دعوى عدم إمكان نقل حقّ القسم إلى غير الضرّة لعدم معقوليّة انتقال حقّ المضاجعة إلى غير الزوجة، وهو أنّ معنى انتقال حقّ القسم إلى إنسان آخر غير الزوجة ليس هو امتلاكه لحقّ المضاجعة بمعنى مطالبته لذاك الرجل بمضاجعته معه، وإنّما معنى ذلك أنّ حقّ المضاجعة الذي كان لتلك الزوجة صار أمره بيد من نقل إليه الحقّ، فبإمكانه مثلا إسقاطه وبإمكانه إعطاؤه لإحدى الضرّات الاُخرى، أو مصالحته مع إحدى الضرّات على


(1) منية الطالب 1: 42 - 43.

(2) راجع كتاب البيع 1: 28.

128

الحقّ الذي صار بيده، وكذلك حقّ الشفعة قابل للانتقال إلى المشتري بمعنى أن يكون له حقّ ضمّ الحصّة المشتراة إلى ملك الشريك، وليس بمعنى حقّ أن يمتلك هو تلك الحصّة حتى يقال: إنّ هذا غير معقول، لأنّ تلك الحصّة هي ملك له.

وبهذا يتّضح أنّ ما ذكره المحقّق النائينيّ (رحمه الله) من عدم إمكان نقل الخيار من البائع إلى المشتري ـ إذ لا معنى لتملّك المشتري للعين المبيعة، لأنّها ملكه ـ في غير محلّه، فإنّ جواب السيّد الإمام (رحمه الله) الذي نقلناه يسري هنا بأن يقال: إنّ معنى انتقال الخيار إلى المشتري هو أن يكون له حقّ إرجاع العين إلى البائع لا حقّ تملّكها، كي لا يعقل ذلك بالنسبة للمشتري، ولك أن تقول: إنّ الخيار للبائع لا يعني حقّ تملّك العين المبيعة بالذات، وإنّما يعني حقّ فسخ العقد، وهذا كما يتصوّر بشأن البائع يتصوّر بشأن المشتري.

كما أنّ ما ذكره المحقّق النائينيّ (رحمه الله) من عدم معقوليّة نقل الخيار إلى شخص ثالث ـ لأنّ الخيار يعني حقّ إرجاع العين إلى ملك المالك الأوّل بالفسخ ولا يعقل إرجاعها بالفسخ إلى ملك الأجنبيّ ـ غير صحيح، لأنّه يرد عليه ما أفاده السيّد الإمام (رحمه الله)، حيث ذكر: أنّ لصاحب الخيار سلطنة على الفسخ والإمضاء، ولازم الفسخ رجوع كلّ من العين والثمن إلى محلّه الأوّل، وهذا المعنى قابل للنقل إلى الغير سواء كان هو الأجنبيّ أو طرف المعاملة، وليس نقله إلى الأجنبيّ أو طرف المعاملة إلّا كجعل الخيار ابتداءً للأجنبيّ أو لطرف المعاملة، فلو فسخ ذاك الأجنبيّ كانت نتيجة الفسخ رجوع كلّ من العوضين إلى ملك مالكه الأوّل لا إلى ملك الأجنبيّ(1).


(1) كتاب البيع 1: 27 - 28.

129

نقل الحقّ إلى مَن هو عليه:

وأمّا ما أفاده المحقّق النائينيّ (رحمه الله) من أنّ نقل الحقّ إلى من هو عليه غير معقول لعدم إمكان وحدة المسلّط والمسلّط عليه، فهو منقوض ببيع الدين على من هو عليه.

وقد أجاب الشيخ الأنصاريّ (رحمه الله) عن هذا النقض بأنّ الحقّ متقوّم بالمحقوق عليه، فلا يمكن نقله إلى المحقوق عليه للزوم اتّحاد ذي الحقّ والمحقوق عليه، ولكن الملك غير متقوّم بغير المالك والمملوك، فيمكن نقل الدَين الذي في ذمّة المدين إلى المدين، فيملك الدَين فيسقط(1).

واعترض عليه المحقّق النائينيّ (رحمه الله) بأنّه إذا فرضنا تقيّد الدَين المملوك بالذمّة فأيّ أثر للقول بأنّ الملك لا يتقوّم إلّا بطرفين: المالك والمملوك؟ بينما الحقّ بحاجة إلى المحقوق عليه، فيلزم اتّحاد ذي الحقّ والمحقوق عليه ! ! فإنّه بعد فرض تقيّد الدَين بالذمّة من الواضح وقوع الحاجة إلى المملوك عليه، فلزم اتّحاد المالك والمملوك عليه، فلا فرق في الإشكال بين الموضعين(2).

وقد نقل عن المحقّق النائينيّ (رحمه الله) جوابان(3) على هذا النقض.

(الجواب الأوّل) يتركّز ابتداءً على تحليل حقيقة المبيع في بيع الدَين الذي هو بيع للكليّّ، حيث يقال: إنّ المبيع ليس متقوّماً ومتقيّداً بالذمّة، إذ لا شكّ في إمكان تطبيق الكلّي المبيع في بيع الكلّيّ على ما في الخارج لدى الوفاء، والمتقيّد بالذمّة لا يقبل الانطباق على ما في الخارج، وبهذا البيع يصبح المدين مالكاً على


(1) المكاسب 1: 79 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

(2) المكاسب والبيع للشيخ الآمليّ 1: 96، منية الطالب 1: 43.

(3) على ما في منية الطالب 1: 43، واقتصر في تقرير الشيخ الآمليّ 1: 95 على الجواب الثاني.

130

الدائن كلّيّاً منطبقاً تماماً على ما في ذمّته هو، وبهذا الانطباق القهريّ على ما فيذمّته تفرغ ذمّته، فهذا شبيه بالتهاتر، وليس تهاتراً، فإنّ التهاتر يعني سقوط الدَينين بالتقابل، بينما في المقام قد سقط الدَين بانطباق الكلّيّ المبيع عليه قهراً.

(والجواب الثاني) يبدأ بالتركيز على معرفة حقيقة ما في ذمّة المدين من الدَين، حيث يقال: إنّ الدَين الذي في ذمّة المدين ليس عبارة عن المال المتقوّم والمتقيّد بالذمّة، وإلّا لزم عدم إمكان تطبيقه على ما في الخارج وقت الأداء، وإنّما الذي في ذمّة المدين عبارة عن ذات المال من دون تقيّد بالذمّة، وليس الكليّّ المتقيّد بالذمّة في الذمّة ومستحقّاً عليه، وإنّما ذات الكلّيّ هو المستحَقّ عليه، وبهذا الاستحقاق اعتبرت الذمّة، فحينما باعه الدائن على المدين فقد باعه ذات الكلّي لا الكلّي المقيّد بما في الذمّة حتى يلزم اتّحاد المالك والمملوك، وقد ترتّبت على هذا البيع براءة ذمّته.

وفي أكبر الظنّ أنّ المقصود الحقيقيّ للمحقّق النائينيّ (رحمه الله) هو ما جاء في الجواب الثاني والذي ذكر مشروحاً في تقرير الشيخ الآمليّ (رحمه الله) مقتصراً عليه وأنّ ما جاء في منية الطالب من ذكر الجواب الأوّل مشروحاً ثمّ الإشارة إلى الجواب الثاني بشكل مختصر ناتج عن تشويش البيان أو تشويش التقرير، وذلك لأنّ ما جاء في الجواب الأوّل ـ من أنّ المبيع الكلّي لا بدّ أن لا يتقيّد بالذمّة كي يمكن تطبيقه على ما في الخارج لدى الوفاء ـ لا علاقة له بمورد البحث، إذ لا تطبيق على ما في الخارج لدى الوفاء في بيع الدَين، وإنّما المفروض حصول الوفاء بنفس سقوط الدَين قهراً، فهذا الكلام إنّما يناسب غير بيع الدَين من موارد بيع الكليّّ، وليس المفروض في باب بيع الدَين بيع كليّّ أجنبيّ ينطبق قهراً على الدَين، وإنّما المفروض فيه هو بيع الدَين نفسه.

131

على أن هناك إشكالا يرد على فرض هذا الانطباق ـ لو قيل به ـ وهو أنّه لا يوجد محتوىً حقيقيّ لفرض انطباق الكلّي المبيع على الدَين، لأنّ هذا يعني انطباق الرمز على الرمز بينما الرمز لا ينطبق إلّا على ذي الرمز.

وعلى أ يّة حال فالجواب الثاني في المقام أكثر معقوليّة في نفسه من الجواب الأوّل، إلّا أنّه مع هذا لا يصلح لإثبات كون المبيع هو ذات الكلّي لا الكلّي المتقيّد بالذمّة، فصحيح أنّ ما هو موجود في ذمّة المدين هو ذات الكلّي لا الكلّي المتقيّد بكونه في الذمّة، لأنّ المحمول لا يؤخذ قيداً في مرتبة الموضوع، ولكن البيع الطارئ على هذا الكلّي إنّما طرأ على الكلّي المقيّد بالذمّة، ففرق كبير بين طروّ الدخول في الذمّة على الكلّي وبين طروّ البيع على الكلّي الذي دخل في الذمّة، فالدخول في الذمّة لا يطرأ على الكلّي الذي هو داخل في الذمّة، وإنّما يطرأ على ذات الكلّي، ولكن بيع الدين ـ لا محالة ـ هو بيع للكلّي الذي هو في الذمّة.

والآن فلنفترض أنّ الكلّي الذي باعه على المدين هو ذات الكلّي لا الكلّي الذي في ذمّته سواء قرّب ذلك بالوجه الأوّل أو بالوجه الثاني، ولكنّنا نقول: إنّه هل امتلك المدين بالنتيجة الكلّي الذي في ذمّته ولو بسبب انطباق ذاك الكلّي على ما في ذمّته مثلا، أو امتلك كلّيّاً على البائع من دون انطباقه على ما في ذمّته؟ فعلى الأوّل لزم تملّك الشيء على نفسه واتّحاد المالك والمملوك عليه ولو بعد الانطباق، وعلى الثاني لزم عدم مبرّر لسقوط ما في ذمّته إلّا بالتهاتر، وهو خلف المفروض.

ثمّ إنّ الجواب الثاني لو تمّ لتمّ في باب الحقّ أيضاً، ولم يصلح فارقاً بين نقل الحقّ إلى مَن عليه الحقّ وبيع الدين على مَن هو عليه، إذ كما أنّ ما في ذمّة المدين هو ذات الكلّي لا الكلّي المتقيّد بكونه في ذمّته كذلك ما ثبت على المحقوق عليه من متعلّق الحقّ إنّما هو ذات متعلّق الحقّ لا المتعلّق بقيد كونه ثابتاً عليه.