132

والواقع: أنّ أصل الإشكال في نقل الحقّ إلى مَن هو عليه وبيع الدَين على مَن هو عليه والوجوه التي ذكرت للفرق بينهما لا تخلو كلّها عن كونها دوراناً في عالم الألفاظ، وحقيقة الأمر هي أنّ امتلاك كلّ شيء بحسبه، فامتلاك شخص لذمّة شخص آخر يعني انشغالها للشخص المالك، وامتلاكه لذمّة نفسه يعني فراغ ذمّته، وبيع الدَين على مَن هو عليه أمر عرفيّ لا يقصد به إلّا تمليك ذمّته إيّاه وامتلاكه لذمّته عين فراغها، وكذلك بيع الحقّ على مَن عليه الحقّ يعني رجوع الحقّ أو متعلّقه إليه وهو عين سقوطه.

وعلى أيّة حال فلم نعرف من كلام المحقّق النائينيّ (رحمه الله) ضابطاً محدّداً لقبول الحقّ للنقل أو الإرث وعدمه.

 

نفي الفرق الجوهري بين الحقّ والحكم:

والذي يستفاد من المطالب المنقولة عن السيّد الخوئي (رحمه الله)(1) في المقام هو أنّه لا فرق بين الحقّ والحكم عدا مجرّد اصطلاح، حيث اصطلح على الحكم القابل للإسقاط باسم الحقّ، فلم يرَ السيّد الخوئيّ مجالا للبحث عن كون شيء مّا حقّاً وعدمه لنثبت بذلك قبوله للإسقاط أو النقل أو الإرث وعدمه، بل لا بدّ في كلّ حكم من الرجوع إلى الأدلّة الواردة بشأن ذلك الحكم، فإن ورد ما دلّ على جواز إسقاطه أو نقله أو عدم جواز ذلك أخذنا به، وإلّا فبالنسبة للإسقاط يكون مقتضى إطلاق دليل ذلك الحكم ـ لو كان له إطلاق لما بعد الإسقاط ـ هو عدم السقوط بالإسقاط. ولو لم يكن له إطلاق، فإن آمنّا باستصحاب بقاء الحقّ بعد إسقاطه ثبت أيضاً عدم نفوذ الإسقاط، وإن لم نؤمن بهذا الاستصحاب ـ إمّا لعدم الإيمان


(1) راجع المحاضرات 2: 20 - 24، ومصباح الفقاهة 2: 45 - 51.

133

بالاستصحاب في الحكم الكلّي الشرعيّ وإمّا لتعليقيّة الاستصحاب في ما إذا كانالحكم المشكوك قابليّته للإسقاط وضعيّاً لا تكليفيّاً ـ فعندئذ يكون مقتضى القاعدة هو سقوط الحقّ بالإسقاط، لأنّ المتيقّن من ثبوته هو ما قبل الإسقاط، أمّا بعد الإسقاط فنرجع إلى دليل عدم جواز التصرّف في مال الغير بلا رضاه، وإنّما رفعنا اليد عن هذا الدليل قبل الإسقاط لتقدّم دليل الحقّ عليه، والمفروض عدم ثبوت إطلاق له لما بعد الإسقاط.

وأمّا بالنسبة للنقل فمقتضى الأصل العمليّ ـ بعد فرض عدم دليل خاصّ على جوازه ـ عدم صحّة النقل، لأنّ دليل الحقّ إنّما دلّ على ثبوته على صاحبه الأوّل، ولم يدلّ على ثبوته للمنقول إليه، بل قد يقتضي الأصل اللفظيّ أيضاً عدم جوازالنقل، وذلك كما في حقّ الفسخ، فإنّ أكل المال بفسخ الشخص الثاني غير من كان له الفسخ أوّلا يكون خلاف إطلاق دليل حرمة أكل مال الغير إلّا بالتجارة عن تراض.

وأمّا الإرث فهو يتبع النقل، فإنّ ما يقبل النقل ولا يكون متقوّماً بالشخص الأوّل يبقى بعد موته ويصدق عليه عنوان التركة، ومع الشكّ في ذلك نكون قد شككنا في انتقاله إلى الوارث، ومقتضى الأصل عدم انتقاله إليه.

هذه خلاصة كلام السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، ومقتضاه أيضاً عدم وجود مميّز موضوعيّ نميّز به الحقّ عن الحكم بشكل يقع في طريق معرفة جواز الإسقاط أو النقل أو الإرث.

ضابطة التمييز بين الحقّ والحكم:

وذكر اُستاذنا الشهيد (رحمه الله): أنّه من الواضح المرتكز لدى العقلاء أنّ الحقّ قابل للإسقاط بخلاف الحكم، والتفتيش عن ضابط ذلك يكون بأحد وجوه ثلاثة:

134

الأوّل: أن يفتّش عن موارد الحقّ وموارد الحكم، أي عن التشريعات القابلة للإسقاط والتشريعات غير القابلة له، ثمّ يؤخذ جامع بين الطائفة الاُولى وجامع بين الطائفة الثانية، وهذا لا يفيدنا في مقام استنباط الأحكام، وإنّما هو شيء في طول الاستنباط، وإنّما أثره تنظيم الاستنباط والتطبيق لكبريات المطلب بعد الفراغ عن مجموعة الاستنباطات.

الثاني: أن يفتّش عن الموارد التي دلّ الدليل على قابليّة الإسقاط فيها فتستكشف نكتة مشتركة عن تلك الموارد فيحكم بالحقّيّة على كلّ تشريع مشتمل على تلك النكتة ولو لم يدلّ دليل خاصّ فيه على الحقّيّة وقابليّة الإسقاط، وهذا لو تمّ يفيدنا في مقام الاستنباط، إلّا أنّ هذا الاستقراء حجّيته موقوفة على إيراثه للقطع، إذن ففي غالب الظنّ سوف لن يفيدنا هذا الاستقراء خصوصاً إذا وجدت مادّة أو مادّتان للنقض وانخرام القاعدة.

الثالث: أن ننظر إلى المرتكزات والتشريعات العقلائيّة بقطع النظر عن الأحكام الشرعيّة، فقد نستكشف النكتة المشتركة عن طريق الرجوع إلى الارتكازات العقلائيّة وهذا يفيدنا فى مقام الاستنباط بعد إعطاء تلك طابع الشرعيّة بأحد وجوه ثلاثة:

الأوّل: إثبات إمضائها عن طريق عدم الردع على حدّ إمضاء سائر السِيَر العقلائيّة.

الثاني: الرجوع إلى ظاهر أدلّة التشريعات بعد تحكيم تلك الارتكازات في ظهورها، فدليل الخيار مثلا لا يبقى له ظهور في الإطلاق لمابعد الإسقاط بعد الالتفات إلى الارتكاز العقلائيّ القائل بقبوله للإسقاط، فإنّ الارتكازات العقلائيّة تتحكّم في الظهورات كما تتحكّم فيها الأوضاع اللغويّة.

135

إلّا أنّ الصحيح: أنّ هذا الوجه لا يثبت الإمضاء، إذ غاية ما يثبت به هو عدمالإطلاق لتلك الأدلّة لما بعد الإسقاط. وأمّا السقوط بالإسقاط فلا يثبت بها، بل يبقى مشكوكاً يجب الرجوع فيه إلى القواعد.

الثالث: الرجوع إلى الأخبار الظاهرة في الإمضاء كصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قلت له: رجل جنى إليَّ أعفو عنه أو أرفعه إلى السلطان؟ قال: هو حقّك، إن عفوت عنه فحسَن، وإن رفعته إلى الإمام فإنّما طلبت حقّك، وكيف لك بالإمام»(1). فهذا ظاهر في ذكر الصغرى والإحالة في الكبرى على الارتكاز العقلائيّ، فيدّل على إمضائه بحدوده العقلائيّة.

ثمّ إنّ هذا الطريق ـ أعني التمسّك بالسيرة العقلائيّة مع إثبات الإمضاء بعدم الردع أو بالرجوع إلى الأخبار الظاهرة في الإمضاء ـ لا يضرّه وجود بعض الموادّ للنقض وانخرام القاعدة، فتلك الموارد تعتبر ردعاً عن السيرة، وهذا لا ينافي الإمضاء في الموارد الاُخرى بالسكوت أو بتلك الأخبار.

ومع وجود هذا الطريق لا ننتهي إلى ما انتهى اليه السيّد الخوئيّ من انغلاق باب البحث عن كون شيء مّا حقّاً وعدمه بنحو منتج فقهيّاً. هذا تمام ما أردنا نقله عن اُستاذنا الشهيد (رحمه الله).

ولا يخفى أنّ إثبات الإمضاء بعدم الردع وإثباته بمثل ما مضى من صحيح محمّد بن مسلم كلاهما ينتجان جواز الإسقاط بمستوىً واحد، ولا يتوهّم أنّ نتيجة الثاني أوسع من الأوّل باعتبار ظهور الحديث في أنّ موضوع جواز الإسقاط هو الحقّ، وهو يشمل حتى الحقّ الذي ليس في ارتكاز العقلاء قابلا للإسقاط كحقّ الولاية.


(1) الوسائل 18: 329، الباب 17 من أبواب مقدّمات الحدود، الحديث 1.

136

والوجه في منع هذه السعة في نتيجة الثاني هو أنّنا إمّا أن نقول: إنّ ما لا يقبل الإسقاط في نظر العقلاء لا يسمّى حقّاً عندهم، أو نقول: إنّه يسمّى حقّاً رغم عدم قبول الإسقاط، فإن قلنا بالأوّل فعدم شمول الحديث له واضح، وليس القول بعدم تسميته حقّاً منافياً لما مضى منّا من فرض الولاية حقّاً إمّا بمعنى السلطنة الاعتباريّة أو بمعنى الاختصاص المنتزع من الأحكام، فإنّنا هناك كنّا نتكلّم عن الحقيقة الفلسفيّة لمغزى الحقّ مع غضّ النظر عن مثل الإسقاط أو النقل، ونعتقد أنّ الحقّ في سائر الموارد إن كان سلطنة اعتباريّة أو أمراً انتزاعيّاً من الأحكام وهو عنوان الاختصاص، فنفس هذه الحقيقة موجودة في مثل الولاية رغم قبولها للإسقاط، وهذا لا ينافي أن يفترض في المقام أخذ قيد جواز الإسقاط عقلائيّاً في المفهوم اللغويّ والعرفيّ لكلمة الحقّ.

وإن قلنا بالثاني ـ أي أنّنا افترضنا أنّ مثل الولاية أيضاً تسمّى في نظر العرف حقّاً رغم عدم قبولها للإسقاط في ارتكاز العقلاء ـ فأيضاً نقول: إنّ مثل صحيح محمّد بن مسلم لا يشمل ذلك، لما مضى عن اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) من (أنّه ظاهر في ذكر الصغرى والإحالة في الكبرى على الارتكاز العقلائيّ) فهو إنّما يدلّ على سراية الحكم من المورد إلى سائر الحقوق في حدود الارتكاز العقلائيّ لا أكثر، فإنّ الارتكازات العقلائيّة مؤثّرة كالدلالات اللغويّة في تحديد الظهورات.

ويمكن أن يقال في بعض ما لا يقبل الإسقاط كحقّ الولاية وحقّ الحضانة: إنّه لم يكن فقط حقّاً لمن يمارس السلطة كي يشمل قوله: «هو حقّك إن عفوت عنه فحسَن» بل هو حقّ أيضاً للمولّى عليه أو الطفل.

 

الضابط العقلائيّ لجواز الإسقاط:

وإذا أردنا التفتيش عن الارتكازات العقلائيّة فخير ما اُفيد كضابط لجواز

137

الإسقاط وعدمه هو ما يمكن استنباطه من كلام المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)(1) من أنّما كان في نظر العقلاء لرعاية حال من اُعطي الأمر بيده، ولأجل مصلحته كحقّ التحجير وحقّ الخيار وما شابه ذلك، فهو قابل للإسقاط في نظرهم، وكلّما لم يكن كذلك فهو غير قابل للإسقاط من قبيل الولاية المجعولة لمصلحة المولّى عليه لا لمصلحة الولي، والوصاية التي أعطاها الميّت للوصيّ حفاظاً على مصلحته هو لا حفاظاً على مصلحة الوصيّ.

وبهذا يظهر الفرق بين الأمثلة التي ذكرها السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، وجعل وضوح عدم الفرق بينها شاهداً على ما قال من عدم الفرق بين الحقّ والحكم. فقد جاء في المحاضرات: وممّا يشهد لما ذكرناه ـ من أنّ الحقّ هو الحكم بعينه ـ أ نّا لا نرى فرقاً بين الجواز الحكميّ غير القابل للإسقاط في جواز قتل الكافر تكليفاً وبين الجواز الحقّي في جواز قتل الجانيّ قصاصاً، وهكذا لا فرق في جواز رجوع الواهب وضعاً وجواز رجوع من له الخيار في البيع مع أنّ الأوّل حكميّ والثاني حقّي(2).

وجاء في مصباح الفقاهة: «فاعطف نظرك هل ترى فارقاً بين جواز قتل المشرك الذي يسمّى حكماً شرعيّاً وبين سلطنة وليّ الدم على قتل القاتل الذي يسمّى حقّاً شرعيّاً لقبوله الإسقاط؟ ثمّ ارجع البصر كرّتين هل ترى فارقاً بين حقّ الحضانة والاُبوّة والولاية وأشباهها ممّا لا يقبل الإسقاط، وبين حقّ الشفعة وحقّ الخيار القابلين للإسقاط؟ فافهم واغتنم»(3).


(1) راجع تعليقته على المكاسب (فائدة في تحقيق حقيقة الحقّ): 12.

(2) المحاضرات 2: 21.

(3) مصباح الفقاهة 2: 46.

138

أقول: إنّ الفرق أصبح واضحاً بالبيان الذي ذكرناه، فجواز القتل قصاصاً كان لأجل وليّ الدم ولمصلحته، وجواز قتل الكافر كان لخسّة الكافر وعدم حرمته. وجواز الفسخ بالخيار كان في نظر العقلاء لمصلحة الفاسخ. وكلمة الخيار الواردة في لسان الأدلّة تعني اختيار صاحب الحقّ، وتشير ـ في الفهم العرفيّ ـ إلى النظر إلى مصلحة ذي الحقّ، وعندئذ يحكم الارتكاز العقلائيّ بقبوله للإسقاط، بينما لم يعبّر عن جواز فسخ الهبة في لسان الدليل بعنوان خيار للواهب، بل فرض حالة راجعة إلى ذات الهبة، وهي كونها عقداً متزلزلا. ولا يفهم من هذا اللسان أنّ الجواز إنّما جعل لأجل الواهب ولصالحه وإن كان حقّ الحضانة قد لوحظت فيه مصلحة الاُمّ، فلا إشكال في أنّه ليس متمحّضاً في مصلحة الاُمّ، بل لوحظت فيه مصلحة الطفل أيضاً بلا شكّ، وهذا بخلاف حقّ الشفعة وحقّ الخيار. وبهذا يظهر الكلام في مثل حقّ الاُبوّة أو الولاية وأشباههما. هذا كلّه في جواز الإسقاط.

 

الضابط العقلائي لجواز النقل والإرث:

وأمّا جواز النقل أو الإرث فأيضاً يمكن أن يستنبط من كلام المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)(1) له ضابط ارتكازيّ للعقلاء، وهو أنّه إن وجدت في ذي الحقّ خصوصيّة ترى بالنظر العقلائيّ أنّها مقوّمة للحقّ لم يجز نقله إلى غيره ممّن لا يملك تلك الخصوصيّة، وإن نفيت مقوّميّة الخصوصيّة بالنظر العقلائيّ جاز.

فحق الولاية المعطى للحاكم أو للأب يُرى عقلائيّاً أنّه لخصوصيّة في الحاكم أو الأب، فلا معنى لنقله إلى الغير. وكذلك حقّ الوصاية التي أوكلها الميّت


(1) راجع تعليقته على المكاسب (فائدة في تحقيق حقيقة الحقّ): 12.

139

إلى شخص إنّما أوكلها إليه لخصوصيّة فيه ونظر الميّت إليه بالخصوص، فلا معنى لنقله إلى غيره. وحقّ الشفعة المجعول للشريك يرى أنّ التضرّر اللاحق به مقوّم له، فلا معنى لنقله إلى غيره. وحقّ الرهانة يُرى أنّ حاجة الدائن للوثيقة بالنسبة لدَينه مقوّمة لثبوته له، فلا معنى لنقله إلى غيره، وهذا بخلاف حقّ التحجير مثلا، فهو يقبل النقل لعدم وجود خصوصيّة مقوّمة في بقائه لنفس المحجّر عقلائيّاً.

وكلام المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) ليس كاملا في بلورة هذه الفكرة، فقد جاء في كلامه ما لا يمكن المساعدة عليه، من قبيل: أنّ حقّ الشفعة لا يمكن نقله إلى المشتري، لأنّ سلطنة الشخص على تملّك ما ملكه غلط: وأنّ حقّ الرهانة لا يمكن نقله إلى غير الدائن؛ لأنّ كون العين وثيقة لغير الدائن غير معقول، فلا ينقل إلى الغير إلّا بتبع نقل الدَين إلى الغير فينقل حقّ الرهانة تبعاً. وأنّ حقّ القسم يمكن انتقاله إلى الضرّة ولكن لا يمكن انتقاله إلى الوارث، إذ لا يعقل قيام الوارث مقام الزوجة في هذا الحقّ، ولا يعقل استفادته من هذا الحقّ.

وهذا كلّه يرد عليه ما مضى عن السيّد الإمام (رحمه الله) من أنّه بالإمكان انتقال حقّ القسم إلى غير الضرّة بأن يكون بيده أمر هذا الحقّ من إسقاطه أو إيقاع المصالحة عليه مع إحدى الضرّات ونحو ذلك. وبالإمكان انتقال حقّ الشفعة إلى المشتري بأن يكون أمر إرجاع تلك الحصّة إلى الشريك المالك للحصّة الاُخرى بيده. وكذلك في حقّ الرهانة يمكن أن يكون أمر هذه الوثيقة بيد شخص أجنبيّ لا بمعنى كونها وثيقة له حتى يقال: إنّ هذا غير معقول، بل لا زالت وثيقة لنفس الدَين السابق.

ولكن إذا صغنا المطلب بالصياغة التي نحن بيّنّاها لم يكن مورد لهذا الإشكال، وذلك بأن نقول: إنّ حقّ القسم متقوّم عرفاً بالخصوصيّة الموجودة في

140

الزوجة من استفادتها من المضاجعة، فلا يمكن نقله إلى غير الزوجة. وحقّ الشفعة متقوّم عرفاً بتوجّه الضرر المخصوص إلى صاحب الحقّ، حيث جعل له الحقّ تداركاً لذاك الضرر، فلا يمكن نقله إلى غير المتضرّر به. وحقّ الرهانة متقوّم عرفاً بالحاجة إلى الوثيقة، فلا يمكن نقله إلى الغير، بل قد لا يمكن نقله إلى الغير حتى بنقل الدَين إليه حينما تكون خصوصيّة الدائن الأوّل مأخوذة بعين الاعتبار في موافقة المدين على إعطاء الوثيقة.

والكلام في الإرث هو عين الكلام في النقل، فأيضاً نقول: إن المورّث إن كان واجداً لخصوصيّة ترى مقوّمة للحقّ فالوارث الفاقد لها لا يرثه، ولا يعتبر متعلّق الحقّ تركة بعد الوفاة، وإلّا اعتبر تركة وورثه الوارث.

ولا أقصد بهذا الكلام أنّ جواز النقل والإرث متلازمان متى ما صحّ أحدهما صحّ الآخر، فهما وإن كانا دائرين مدار نكتة واحدة وهي وجود الخصوصيّة المقوّمة وعدمها ولكنهما قد يفترقان بلحاظ نفس هذه النكتة. فحقّ الشفعة يورث ولا ينقل، لأنّ الوارث مالك لنفس الخصوصيّة المقوّمة بخلاف الأجنبيّ. وكذلك حقّ الخيار وحقّ الرهانة. بينما حقّ القسم ينقل إلى الضرّة ولايورث، لأنّ الضرّة مالكة لنفس الخصوصيّة المقوّمة بخلاف الوارث.

والواقع أنّ النقل أو الإرث بحاجة إلى مجموع أمرين لو ثبتا معاً ثبت النقل أو الإرث، وإلّا فلا:

أحدهما: أن لا تكون في الشخص الأوّل خصوصيّة مقوّمة للحقّ في نظر العقلاء مفقودة في الثاني، وهذا ما وضّحناه بالأمثلة الماضية.

والثاني: أن لا يكون الحقّ لقصره وضيقه غير قابل للانتقال، ومثاله حقّ الأولويّة الثابت لمن سبق في حيازة الوقف. فهذا لا يقبل النقل إلى الغير عقلائيّاً،

141

لأنّ الشخص الأوّل لو أراد نقله إلى شخص آخر فالمفروض به أن يخلي المكانكي يشغله صاحبه الذي أراد نقل الحقّ إليه، وبمجرّد إخلائه للمكان ينتهي حقّه، وتصبح نسبة المكان إلى صاحبه وإلى ايّ إنسان آخر على حدّ سواء.

وإن شئت فقل: إنّ كلا الأمرين راجعان إلى فكرة الخصوصيّة المقوّمة، إلّا أنّه تارةً يفرض أنّ الخصوصيّة المقوّمة أشارت إلى شخص معيّن ولا ينتقل الحقّ إلى غيره لفقدان الغير لتلك الخصوصيّة، واُخرى يفرض أنّ الخصوصيّة المقوّمة أشارت إلى فترة معيّنة من الزمان كفترة جلوسه في المسجد مثلا، وبفقدانها يفقد نفس الشخص الأوّل الخصوصيّة فينتهي حقّه. نعم، قد يأخذ مالا من شخص مّا لقاء أن يخلي المكان فيتمكّن الآخر من إشغاله، وهذا خروج عمّا نحن بصدده.

هذا، وكلّ حقّ لايقبل الإسقاط عرفاً لا يقبل النقل أو الإرث عرفاً أيضاً، لأنّ عدم قبوله للإسقاط كان لدخل مصلحة فيه غير مصلحة ذي الحقّ. ومن الواضح أنّ مصلحة الشخص الآخر التي أوجبت ثبوت حقّ الولاية أو الوصاية أو غيرهما لشخص مّا ليست بالضرورة منحفظة لدى انتقال الحقّ إلى شخص آخر، وليس ذو الحقّ هو صاحب المصلحة فقط حتى يحقّ له عرفاً أن يقول: أنا أرفع يدي عن مصلحتي.

 

اعتبار الماليّة في نقل الحقّ:

وهناك مشكلة اُخرى في مسألة نقل الحقّ أو المعاملات التي تكون بحاجة إلى ماليّة العوضين فيها، وهي أنّه هل الحقّ يعتبر مالا كي يمكن نقله بتلك المعاملة أوْ لا؟

والواقع أنّ الحقّ ليس مالا، فإنّ حاله حال الملك. وكما أنّ الملك لم يكن يعتبر مالا وإنّما كان يتعلّق بالمال كذلك الحقّ لا يعتبر مالا، وإنّما يتعلّق بالمال.

142

وماليّة المتعلّق كافية في حلّ الإشكال كما كان الحال كذلك في الملك. ولا فرق بين المعاوضة بين مالين في عالم الملكيّة أو في عالم الحقّ، أو ملكيّة وحقّ، والتعبير عن ذلك بمبادلة المالين أو بمبادلة الملكين أو الحقيّن سيّان، فكلّ هذا تعبير عن حقيقة واحدة عرفيّة.

والبحث الموروث عن المحقّق النائيني (رحمه الله)(1) عن أنّ البيع هل هو تبديل الملكيّتين والإضافتين كما يناسبه تعريف البيع بأنّه تمليك عين بمال؟ أو هو تبديل المملوك بالمملوك كما يناسبه تعريف البيع بأنّه مبادلة مال بمال، ثمّ استظهاره الثاني، لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم لا على ملكيّتهم الاعتباريّة... أقول: كلّ هذا بحث لفظيّ، ولا فرق في واقع المقصود العرفيّ بين التعبير بتبديل الملكيّتين أو الإضافتين في باب البيع والتعبير بتبديل المملوك بالمملوك. والواقع الفلسفيّ للعمليّة هو فناء الإضافة الاُولى وخلق إضافة جديدة. كما لا فرق في واقع المقصود العرفيّ أيضاً في باب الإرث بين التعبير بأنّ الوارث حلّ محلّ المورّث أو التعبير بأنّ الإضافة إلى المال انتقلت من المورّث إلى الوارث. والواقع الفلسفيّ للعمليّة هو فناء الإضافة الاُولى وخلق إضافة جديدة.

نعم، الفرق العرفيّ بين باب الإرث وباب البيع هو: أنّ الإضافة كأنّها تبدّلت في باب الإرث بتبدّل أحد طرفيها، وتبدّلت في باب البيع بتبدّل الطرف الآخر، وكلاهما مشتركان في صدق تبدّل الإضافة عرفاً. وليس من الصحيح تفريع الثمرة التي ذكرها المحقّق النائينيّ لهذا البحث في الإرث من أنّه لو كان المال متعلّقاً لحقّ آخر يكون بما هو كذلك موروثاً، لأنّ التغيّر والتحويل لم يحصل في ناحية الملكيّة، وإنّما التبديل في المالك.


(1) راجع تقرير الشيخ الآملي (رحمه الله) 1: 86 - 87.

143

ويرد عليه: أنّ الحقّ إذا كان متعلّقاً بالمال فمن الطبيعيّ أن يكون مع المالحيث ما ذهب المال، سواء فرض التبدّل في الملكيّة أو المالك أو المال.

وكذلك يظهر بما ذكرناأنّه لامورد للبحث الذي أثاره الشيخ الأنصاريّ (رحمه الله)(1)من أنّه هل يصحّ جعل الحقّ ثمناً في المبيع مع أنّ الحقّ ليس بمال ويشترط في ثمن البيع الماليّة؟ مع جواب السيّد الخوئيّ عليه بأنّ الحقّ مال، لأنّ المال ما يرغب فيه العقلاء ويبذلون بإزائه شيئاً، ومن البيّن أنّ حقّ التحجير مورد لرغبة العقلاء وتنافسهم، فيكون مالا بالحمل الشائع.

ولكن مع ذلك قال السيّد الخوئيّ (رحمه الله): بأنّه لا يصحّ جعله ثمناً في البيع لأنّه لا تتعلّق بالحقّ الذي هو حكم من الأحكام إضافة ملكيّة أو غيرها بأن يملك الإنسان الحقّ مثلا، والبيع مبادلة بين المالين والمملوكين لا بين الملكيّتين أو السلطنتين. نعم، نقل الحقّ أو إسقاطه أو إعماله فعل من أفعال المكلّف، فيصحّ جعله ثمناً، وإذن فيملك البائع على المشتري هذا الفعل ويلزم عليه تسليمه إلى البائع بعد البيع، كما هو الحال في بقيّة الأفعال المجعولة ثمناً(2).

أقول: هذا الكلام كلّه لا مورد له، صحيح أنّ حقّ التحجير شيء يرغب فيه العقلاء ويبذلون بأزائه المال، لكن هذا تماماً من قبيل أنّ ملكيّة الأرض أيضاً شيء يرغب فيه العقلاء ويبذلون بإزاء اتّصافهم بصفة ملكيّة الأرض المال، وهذا كلّه يعني ماليّة المتعلّق ومعاوضة المتعلّقين في كلّ شيء بحسبه، فقد تكون المعاوضة في عالم الملكيّة واُخرى في عالم الحقّيّة.


(1) راجع المكاسب 1: 79 أوّل البيع بحسب الطبعة التي تشتمل على تعليقة الشهيديّ.

(2) راجع المحاضرات 2: 22 - 23، ومصباح الفقاهة 2: 42 - 43.

144

وذكر المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله): أنّ النقل لو كان متعلّقاً بطرف الحقّ كانصحيحاً، فإنّ ذا الحقّ يخرج الأرض المحجّرة من طرف إضافته الحقّيّة إلى طرف إضافة اُخرى. وأمّا نقل نفس الإضافة بذاتها فغير معقول، لأنّ الإضافات تتشخّص بأطرافها، فشخص العين قابل للنقل دون شخص الإضافة، فإذا اُريد نقل الإضافة فلا بدّ أن يكون النقل فيها بالعناية وبنظر الوحدة، فكأنّ الإضافة المنقولة من طرف نفسه إلى طرف غيره شخص تلك الإضافة، بينما واقع الأمر هو موت إضافة وخلق إضافة جديدة(1).

أقول: إن كان المقصود بذلك مجرّد بحث لفظيّ عن مثل كلمة (النقل) كي ترى أنّ الأصحّ هو التعبير بنقل طرف الإضافة أو التعبير بنقل الإضافة فلا كلام لنا في ذلك، وأمّا إن كان المقصود تصوير عمليّتين إحداهما نقل طرف الإضافة والاُخرى إفناء الإضافة الاُولى بين شخص وذاك الطرف وخلق إضافة جديدة بين شخص آخر وذاك الطرف وأنّ العمليّة الثانية يعبّر عنها بنقل الإضافة بالعناية فالواقـع أنّهما عمل واحد فلسفيّاً يصحّ التعبير عنه عرفاً بنقل الحقّ كما يصحّ التعبير عنه عرفاً بنقل متعلّق الحقّ.

 

تقسيم الحقّ إلى العيني والشخصي

ثمّ إنّه تعارف في فقه القانون الوضعيّ الحديث تقسيم الحقوق الماليّة إلى قسمين(2): الحقّ العينيّ والحقّ الشخصيّ.


(1) راجع تعليقته على المكاسب (فائدة في تحقيق حقيقة الحقّ): 11 - 12.

(2) راجع بهذا الصدد الوسيط 1 الفقرة 2 - 5، و 8، الفقرة 94 - 99، والفقه الإسلاميّ في ثوبه الجديد 3: الفقرة 5 ـ 14.

145

فالأوّل: هو الحقّ الذي يكون قائماً بين صاحب الحقّ والشيء المستحقّ،ويكون ذو الحقّ مسلّطاً بموجبه على ذلك الشيء مباشرة ومن دون وساطة شخص آخر في ممارسة السلطان على ذلك الشيء، ومثاله: حقّ الملكيّة، وحقّ السكنى، وحقّ الانتفاع، وحقّ الرهن، وما إلى ذلك.

والثاني: هي الرابطة القائمة بين شخصين، التي يمارس ذو الحقّ بموجبها سلطته على ما يريد بواسطة الشخص الآخر، أي بمطالبته إيّاه بإعطاء مايستحقّه من دَين أو عمل، أو الامتناع عن عمل من قبيل حقّ الدائن المقرضعلى المدين المقترض وحقّ المستأجر على الأجير. وقد وجد للبعض في داخل الفقه الوضعيّ اتّجاه إلى إنكار هذا التقسيم، وإرجاع كلّ الحقوق الماليّة إلى قسم واحد على خلاف في ذلك بين إرجاع الحقّ العينيّ إلى الحقّ الشخصيّ، وبالعكس.

 

إرجاع الحقّ العيني إلى الشخصي:

أمّا من أرجع الحقّ العينيّ إلى الشخصيّ فحاصل كلامه: أنّ الحقّ إنّما هو رابطة بين شخصين، ويكون الحقّ ثابتاً لشخص على شخص آخر حتى في ما يسمّى بالحقّ العينيّ، وليس الحقّ ثابتاً لشخص على العين، غاية ما هناك أنّ العين هو مورد حقّه ومحلّه، فحقّ الملكيّة مثلا محلّه ومتعلّقه الشيء المملوك، وذو الحقّ هو المالك، ومَن عليه الحقّ هم الناس كافّة عدا نفس المالك، إذ يجب عليهم جميعاً احترام هذا الحقّ.

فكما أنّ الحقّ الشخصيّ يشتمل على عناصر ثلاثة: ذو الحقّ، ومَن عليه الحقّ، ومتعلّق الحقّ، كذلك الحقّ العينيّ مشتمل على هذه العناصر الثلاثة، ولا

146

فارق جوهريّ بينهما. نعم، هما يختلفان في شيء غير جوهريّ، وهو أنّ المدين ـ أي مَن عليه الحقّ ـ في الحقّ الشخصيّ هو شخص معيّن أو أشخاص معيّنون، وفي الحقّ العينيّ هم جميع الناس عدا الدائن، ولهذا يمكن اعتبار الحقّ العينيّ حقّاً شخصيّاً عامّاً من حيث المدين.

وأجاب على ذلك الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوريّ بجوابين(1):

الجواب الأوّل: صحيح أنّ الحقّ العينيّ يشتمل على جانب عامّ، وهو أنّه يجب على الجميع احترامه ولا يجوز لهم هتكه، إلّا أنّ هذا ليس هو امتياز الحقّ العينيّ عن الحقّ الشخصيّ كما تخيّله صاحب الإشكال، فإنّ هذا ثابت حتى في الحقّ الشخصيّ، فحقّ المقرض على المقترض مثلا يجب على الناس جميعاً احترامه، ولا يجوز لأحد أن يحرّض المدين على الامتناع عن أداء الدَين مثلا، وإن فعل ذلك كان مسؤولا عن التدارك، فالحقّ العينيّ والحقّ الشخصيّ مشتركان في الجانب العامّ، ولكنّ الحقّ الشخصيّ يزيد على الحقّ العينيّ في أمر جوهريّ، وهو ثبوت الجانب الخاصّ من حيث المدين إلى هذا الجانب العامّ الذي تقدّم ذكره، ففي كلّ حقّ شخصيّ يوجد مدين معيّن أو مدينون معيّنون هم الذين يباشر الدائن سلطته على الشيء محل الحقّ بوساطتهم، ولا وجود لهؤلاء في الحقّ العينيّ، وهذا فرق جوهريّ ما بين الحقّين تترتّب عليه نتائج هامّة سيأتي ذكرها.

وإذا اعتدى شخص بالذات على الحقّ العينيّ فأصبح مسؤولا عن تداركه فهذا الشخص ليس مسؤولا بموجب الحقّ العينيّ ذاته، بل بموجب التزام شخصيّ


(1) الجواب الأوّل موجود في الجزء الأوّل من الوسيط: الفقرة 3، وكلا الجوابين موجودان في الجزء الثامن منه: الفقرة 97.

147

تولّد عن الخطأ الذي ارتكبه، ويكون إذن طرفاً لا في الحقّ العينيّ الموجود من قبل بل في الحقّ الشخصيّ الذي تولّد عن الخطأ.

الجواب الثاني: أنّ الحقّ العينيّ غير متقوّم في عناصره بالمدين أو المدينين حتى بلحاظ عموم الناس، وصحيح أنّه يجب على الناس كافّة احترام الحقّ العينيّ لذي الحقّ، لكن هذا إنّما يكون بعد استكمال هذا الحقّ لجميع عناصره وقيامه حقّاً كاملا مستوفياً لجميع مقوّماته، فهذا الاحترام إذن ليس عنصراً من عناصر الحقّ العينيّ، ولا يوجد مدين بالحقّ العينيّ هو عنصر من عناصر هذا الحقّ، بينما يوجد مدين في الحقّ الشخصيّ هو أحد عناصره.

أقول: إنّ ما افترضوه من عدم وجود المدين في الحقوق العينيّة لا ينافي ما مضى منّا من أنّ كلمة (الحقّ) اُشربت لغويّاً النظر إلى مَن عليه الحقّ لا في الملك ولا في الحقوق الاُخرى.

أمّا في الملك فيكفي في رفع التنافي أن يقال: إنّنا لم نكن نصطلح على الملك بالحقّ، فنحن وإن قلنا: إنّ الحقّ ـ بناءً على كونه أمراً اعتباريّاً ـ هو في روحه ملكيّة ضعيفة ولكنّنا أشرنا إلى فارق لغويّ بين الملك والحقّ، وهو إشراب كلمة (الحقّ) النظر إلى من عليه الحقّ دون كلمة (الملك). نعم، قلنا: إنّ وجود الآخرين المملوك عليهم كان دخيلا كحيثيّة تعليليّة في جعل الملك، لكن هذا لا يعدو أن يكون حيثيّة تعليليّة، وبما أنّ الملك يفترض في الفقه الغربيّ حقّاً من الحقوق إذن فقد حصلوا على حقٍّ غير مأخوذ فيه عنصر المدين.

وأمّا في الحقوق العينيّة الاُخرى كحقّ الرهن أو حقّ الفسخ أو حقّ الشفعة فالمفروض عندنا تقوّمها بمن عليه الحقّ من شخص خاصّ، وهو الراهن أو المفسوخ عليه العقد أو المشتري. بينما ذكر السنهوريّ في جوابه الأوّل: أنّ

148

الحقوق الشخصيّة لا تشتمل على الجانب الخاصّ من حيث المدين. وذكر في جوابه الثاني: أنّ الحقوق الشخصيّة لا تتقوّم أصلا بالمدين حتى بلحاظ عموم الناس.

ولكن مع ذلك لا تنافي بين هذه الكلمات وما ذكرناه، وذلك بلحاظ الفرق بيننا وبينهم في المصطلحات. فنحن كنّا نقصد بمن عليه الحقّ المتقوّم به حقّ الرهن أو الفسخ أو الشفعة الراهن أو المفسوخ عليه أو المشتري بلحاظ أنّ الحقّ متعلّق بما يملكه ومحدِّد لصلاحيّاته في التصرّف الناتجة من مالكيّته. وهم يقصدون بنفي تقوّم هذه الحقوق بمن عليه الحقّ أو عدم وجود المدين في هذه الحقوق أنّ صاحب الحقّ يمارس سلطته على هذه الأعيان مباشرة لا بواسطة ممارسة السلطة على شخص مّا. وهذا صحيح. هذا، وسيأتي إن شاء الله أنّ الدكتور السنهوريّ أنكر دخول مثل الشفعة في الحقّ سواء العينيّ أو الشخصيّ.

 

إرجاع الحقّ الشخصي إلى العيني:

وأمّا من أرجع الحقّ الشخصيّ إلى الحقّ العينيّ فحاصل كلامه: أنّه حان الآن وقت النظر إلى الحقّ الشخصيّ لا باعتباره رابطة بين الشخصين، بل باعتباره عنصراً من عناصر الذمّة الماليّة ومنفصلا عن المدين، وهذا ما يقتضيه تقدّم المعاملات وسرعة تداول الأموال وتصحيح حوالة الدَين، فتتجرّد القيمة الماليّة للحقّ الشخصيّ عن شخص الدائن وعن شخص المدين، وبذلك يقرب الحقّ الشخصيّ من الحقّ العينيّ، وهذا هو المذهب المادّيّ في الالتزام.

وأجاب عليه الدكتور السنهوريّ(1): بأنّنا لا ننكر على المذهب المادّيّ


(1) راجع الوسيط الجزء 1: الفقرة 4، والجزء 8: الفقرة 98.

149

للالتزام انتشاره ومسايرته للتطوّر القانونيّ الحديث، ولكنّنا نقول: إنّ هذا لا يؤدّي إلى هدم التمييز بين الحقّ العينيّ والحقّ الشخصيّ، فيبقى الفارق جوهريّاً بين الحقّين حتى إذا نظرنا إليهما من حيث متعلّق الحقّ وهو أنّ الدائن يمارس في الحقّ العينيّ سلطته على متعلّق الحقّ مباشرة دون وسيط بينهما، بخلاف الحقّ الشخصيّ، فليس للدائن فيه إلّا سلطة غير مباشرة على متعلّق الحقّ، ولا يستعمل هذه السلطة إلّا بوساطة المدين.

ورغم ما يتراءى من وضوح الفرق بين الحقّ العينيّ والحقّ الشخصيّ قد يقع نوع من الخلط أو التقارب بينهما من قبيل ما يسمّى عندهم بالالتزام العينيّ(1).

ووجه هذه التسمية هو أنّ كلمة (الالتزام) تشير إلى جانب شخصيّة الحقّ، لأنّ الالتزام هو العنوان المضايف للحقّ الشخصيّ، فكلّ حقّ شخصيّ بالقياس إلى الدائن حقّ، وبالقياس إلى المدين التزام. وكلمة (العين) تشير إلى علاقة هذا الحقّ بعين معيّنة، وهذا في الموارد التي يكون الالتزام الثابت على المدين التزاماً بعمل للدائن يجب إيقاعه بلحاظ عين مملوكة للمدين، من قبيل ما افترضوه من أنّ كلّ مالك يجبر جاره على وضع حدود لأملاكهما المتلاصقة، وتكون نفقات التحديد شركة بينهما.

ومثل هذا الالتزام يوافق الالتزام الشخصيّ من حيث إنّه يجبر مديناً معيّناً نحو دائن معيّن على أداء عمل معيّن، لكنّه يوافق الحقّ العينيّ في أنّه يتركّز الالتزام العينيّ في عين معيّنة بالذات، وأنّه يدور مع ملكيّة هذه العين أينما دارت، فلو انتقلت الأرض المجاورة مثلا إلى شخص آخر تحوّل الالتزام بوضع الحدّ إلى


(1) راجع الوسيط 8: الفقرة 100 وآخر الفقرة 99.

150

ذاك الشخص، وأنّ المدين يستطيع أن يتخلّص من التزامه بتركه العين أو التخلّي عنها.

 

إلحاق بعض الحقوق إلى العيني أو الشخصي:

ثمّ إنّ الدكتور عبد الرزاق السنهوريّ ذكر: أنّ الشفعة ليست حقّاً وأنّ الشفيع إنّما يطالب بملكيّة العقار المشفوع فيه، فهو لا يطالب بالشفعة، وإنّما يطالب بالملكيّة، وقد كان اعتبار الشفعة حقّاً هو الذي حيّر بعض الفقهاء ودفعهم إلى التساؤل: هل الشفعة حقّ عينيّ أو حقّ شخصيّ؟ والواقع أنّها ليست بحقّ عينيّ ولا بحقّ شخصيّ، وإنّما هي كالعقد سبب من أسباب كسب الملكيّة، وإذا كانت المناقشة لا تجوز في اعتبار العقد حقّاً عينيّاً أو حقّاً شخصيّاً كذلك لا تجوز المناقشة في اعتبار الشفعة هذا أو ذاك(1).

وذكر أيضاً: كثيراً مّا يناقش الفقهاء هل الشفعة حقّ عينيّ أو هي شيء غير ذلك؟ كما يتناقشون في طبيعة الحيازة وهل هي حقّ عينيّ؟ ونحن لا نتردّد في الإجابة على هذه المسائل بما قدّمناه، فلا الشفعة ولا الحيازة حقّ عينيّ أو شخصيّ، بل هما واقعتان قانونيّتان تدخلان في أسباب كسب الملكيّة، فهما إذن ليستا بحقوق، بل هما مصدر للحقوق، ولا يصحّ أن يقال عن أيٍّ منهما إنّه حقّ عينيّ أو حقّ شخصيّ بالقدر الذي لا يصحّ أن يقال به إنّ العقد ـ وهو أيضاً مصدر للحقوق ـ حقّ عينيّ أو حقّ شخصيّ. والأهمّية العمليّة لعدم اعتبار الشفعة حقّاً أنّه لا يجوز لدائني الشفيع أن يستعملوا الشفعة باسم مدينهم(2).


(1) انظر الوسيط 8: الفقرة 105.

(2) الوسيط 1: الفقرة 33، الهامش.

151

أقول: لا إشكال في أنّ الشفعة تختلف عن العقد في أن العاقد لا يعقد رغم أنف الطرف الآخر، بل يعقد برضاه، بخلاف الشفيع الذي يطالب ببطلان البيع رغم البائع. وكذلك الشفعة تختلف عن العقد وعن الحيازة في أنّ ممارسة العقد أو الحيازة جائزة لكلّ أحد بخلاف الشفعة التي لا تكون إلّا للشريك، فلو فرضت الشفعة حقّاً عينيّاً أو شخصيّاً لا ينقض بالعقد أو الحيازة. وأمّا أنّ الشفيع يطالب بملكيّة العقار لا بالشفعة فيرد عليه:

أوّلا: أنّ الشفيع لا يطالب بملكيّة العقار وإنّما يطالب بالجامع بين ملكيّة العقار ورجوعه بالفسخ إلى البائع، ومن هنا كان وسطاً بين الحقّ العينيّ والحقّ الشخصيّ؛ لأنّ الفسخ عمل يلزم به البائع وتملّك العقار أمرٌ متعلّق بالعين.

وثانياً: أنّه لو كان الشفيع يطالب بملكيّة العقار لكانت الشفعة عبارة عن حقٍّ أن يمتلك لا أنّها تخرج عن كونها حقّاً، ولا ينقض بالعقد أو الحيازة، لما عرفت من أنّهما لا يختصّان بشخص دون شخص، بخلاف حقّ الشفعة.

وذكر السنهوريّ ـ بعد تثبيته لعدم كون الشفعة حقّاً ـ: والذي ضلّل الناس في أمر الشفعة هو أنّها تجعل الشفيع بالنسبة إلى العين المشفوع فيها في منزلة مَن له الحقّ في أنْ يمتلكها، وهذه منزلة وسط بين مجرّد الرخصة في التملّك حيث يكون الشخص أجنبيّاً عن الشيء، وحقّ الملكيّة الكامل حيث يكون للشخص حقّ عينيّ في الشيء. ونظير ذلك شخص صدر له إيجاب البيع، فهو أيضاً في منزلة وسطى بين من له مجرّد الرخصة في الشراء قبل صدور الإيجاب وبين المشتري الذي أصبح مالكاً عند تمام البيع(1).


(1) الوسيط الجزء 1، الفقرة 33، الهامش.

152

أقول: إنّ الفرق بين الشفعة وقبول القابل بعد صدور الإيجاب هو أنّللموجب أن يرجع من إيجابه قبل قبول القابل، وللأجنبيّ أن يتّفق مع الموجب ويشتري منه العين قبل قبول القابل، ولكنّ الشفيع ليس لأحد أن يزاحمه في إعمال حقّه.

وأمّا ما ذكره من أنّه لا يجوز لدائني الشفيع أن يستعملوا الشفعة باسم مدينهم فلدى إرادة حمله على معنىً معقول ينبغي أن يكون إشارة إلى شرط من شروط المعنى المصطلح عليه بالحقّ الماليّ، وهو أن يكون الحقّ الماليّ قابلا للانتقال على الأقلّ إلى الدائنين، بمعنى أن يتمكّنوا من الاستفادة الماليّة من حقّ مدينهم، كما هو حاصل في حقّ الرهن، فمن حقّ دائني المرتهن لدى تفليسه الاستفادة من العين المرهونة. وليس الأمر كذلك في الشفعة أو خيار الفسخ، فإنّ فرض هذا الشرط في معنى الحقّ المالي صحّ ما يقوله الدكتور السنهوريّ من أنّ الشفعة ليست حقّاً عينيّاً ولا حقّاً شخصيّاً.

هذا كلّ ما أردنا بيانه هنا لتوضيح مصطلح الحقّ العينيّ والشخصيّ في الفقه الغربيّ.

 

ثمرات الفرق بين الحقّ العيني والشخصي:

أمّا الثمرات التي ترتّب على تقسيم الحقّ إلى العينيّ والشخصيّ فلعلّ من أهمّها ما يلي:

1 ـ لصاحب الحقّ العيني تتبّع العين في حقّه أينما انتقلت، وذلك إمّا بمعنى أنّ العين متى ما تنتقل من حيازة شخص إلى حيازة شخص آخر يكون لصاحب الحقّ تتبّع العين أينما كانت. فمالك العين مثلا له أن يقيم الدعوى على اليد الأخيرة لدى تعاقب أيد متعدّدة على العين المغصوبة، وله أن يفرض سيطرته على

153

العين وإن كان صاحب اليد الأخيرة يتضرّر بذلك؛ لأنّه اشتراها من صاحب اليد السابقة بثمن مّا باعتقاد كونه مالكاً لها. نعم، لصاحب اليد الأخيرة الرجوع إلى من قبله، وهكذا إلى أن يستقرّ الضمان على الغاصب.

وإمّا بمعنى أنّ العين متى ما تنتقل من ملكيّة شخص إلى ملكيّة شخص آخر فصاحب الحقّ يتتبّعها بحقّه. فالعين المرهونة مثلا إذا انتقلت من المالك الأوّل إلى أيّ مالك آخر كان للمرتهن حقّ افتراضه وثيقة لدَينه وحقّ استيفاء دَينه منه، وتبدّل المالك مهما تكرّر لا يؤثّر على ذلك، بينما لا يتصوّر التتبّع في الحقّ الشخصيّ.

2 ـ أنّ لصاحب الحقّ العينيّ أن يتقدّم على جميع الدائنين الشخصيّين في تقاضي حقّه من الشيء، فالمرتهن مثلا يتقدّم في استيفاء حقّه من العين على الغرماء الشخصيّين، ولا يكون اُسوة الغرماء(1).

والواقع أنّنا إن قصدنا بالثمرة الأثر الشرعيّ المتفرّع على الفرق بين الحقّين فالمفروض أن تكون الثمرة من قبيل الثمرة الثانية دون الاُولى، فإنّ الاُولى لا تعدو أن تكون فارقاً موضوعيّاً بين الحقّين لا ثمرة شرعيّة مترتّبة على الفرق بينهما، فمتعلّق الحقّ حينما يكون عيناً خارجيّة فهذه العين تقبل الانتقال خارجاً من حيازة إلى اُخرى، أو أنّ ملكيّة هذه العين تنتقل من شخص لآخر، والحقّ يبقى ملتصقاً بها. أمّا متعلّق الحقّ الشخصيّ فقوامه بنفس الحقّ، ولا وجود له خارجيّ منفصلا عن عالم الحقّ والالتزام كي يفترض تنقّله من حيازة إلى حيازة، أو من ملكيّة إلى ملكيّة كي نرى هل يتبعه الحقّ أو لا يتبعه.


(1) راجع بشأن آثار الحقّين الوسيط 1: الفقرة 6، و 8: الفقرة 115 - 120، والفقه الإسلاميّ في ثوبه الجديد 3: الفقرة 12.

154

وأمّا إن قصدنا بالثمرة مطلق الفارق المبرّر لتقسيم الحقّ بنكتة تنظيم أبواب الفقه وترتيبها فلا بأس بذكر الثمرات التي تكون من قبيل الثمرة الاُولى.

ونقل الاُستاذ مصطفى الزرقاء(1) عن كتاب «نظرية العقد» للدكتور السنهوريّ قوله:

إنّ الشريعة الإسلاميّة لا يستشعر فيها بهذا التمييز بين الحقّ العينيّ والشخصيّ إلّا في بعض عبارات تأتي عرضاً في موضوعات مختلفة ميّز فيها فقهاء المسلمين بين حقّ يتعلّق بالعين وحقّ لا يتعلّق بها، ولكنّه تمييز غير واضح، ولم يعقّب عليه الفقهاء تعقيباً يتّفق مع أهمّـيّته، ولم تصغ منه نظريّة ممهّدة كما فعلت في النظريات الاُخرى للفقه الإسلامي وإن كان الفقهاء قد رتّبوا لحقّ الرهن مثلا حقّ التقدّم ونوعاً من حقّ التتبّع.

وأجاب على ذلك الاُستاذ مصطفى الزرقاء بقوله:

أمّا أنّ فقهاء المسلمين لم يصوغوا نظريّة ممهّدة مستقلّة للتمييز بين الحقّ الشخصيّ والحقّ العينيّ فنعم، وهذا راجع إلى اختلاف مبنى الترتيب والصياغة بين الفقه الإسلاميّ والفقه الأجنبيّ.

فالفقه الأجنبيّ يقوم ترتيبه على أساس تقسيم أحكامه إلى زمرتين منفصلتين:

1 ـ زمرة أحكام الحقوق الشخصيّة، وتشمل على النظريّة العامّة للالتزامات ثمّ أحكام العقود المسمّـاة.

2 ـ زمرة أحكام الحقوق العينيّة، وتسمّى نظريّة الأموال، ومن ثمّ برز للنظر هذا التمييز بين الحقّين العينيّ والشخصيّ في الفقه الأجنبيّ والقوانين المصوغة منه، لأنّ هذا التمييز هو أساس ترتيب الفقه الأجنبيّ كلّه.


(1) في كتاب الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد 3: الفقرة 15.

155

أمّا الفقه الإسلاميّ فإنّ ترتيبه وصياغته يقومان على أساس سرد مصادر الحقوق والالتزامات وبيان أحكامها ونتائجها في كلّ مصدر بحسب أحواله، فلم يبق مجال لأن يظهر تمييز فقهاء الفقه الإسلاميّ بين الحقّين العينيّ والشخصيّ إلّا في فروع الأحكام المتفرّقة لمن يتتبّعها.

وإذا كان فقهاؤنا لم يتّخذوا هذا التمييز بين نوعي الحقّ أساساً لترتيب فقههم ـ كما فعل علماء القانون الأجنبيّ ـ فليس في ذلك أبداً دلالة على عدم تمييز فقهائنا بين نوعي الحقّ وطبيعتهما تمييزاً ذاتيّاً، إذ العبرة في هذا التمييز لفروع الأحكام لا للترتيب.

وهذا ممّا دعانا إلى صياغة فقهنا على غرار نظريّة الالتزامات القانونيّة.

والواقع أنّ فقهاءنا قد ميّزوا بين الحقّين في جميع المسائل التي يقتضي هذا التمييز فيها اختلاف الأحكام، ولهم في ذلك أنظار دقيقة جدّاً.

فمن ذلك الأمثلة التي تقّدمت(1) ومن ذلك أيضاً تصريح فقهائنا بأنّ المبيع المعيّن إذا استحقّ من يد المشتري ينتقض عقد البيع السابق فلا يكلّف البائع إعطاء المشتري مثل المبيع الذي استحقّ من يده، بل يستردّ المشتري ما دفع من الثمن، لأنّ حقّ المشتري عينيّ متعلّق بعين المبيع، فباستحقاق المبيع استحال تنفيذ البيع، فيبطل.

أمّا إذا استحقّ الثمن من يد البائع فلا ينتقض البيع، ولا يستردّ البائع المبيع وإن كان قائماً، وإنّما يرجع على المشتري بمثل الثمن المستحقّ، لإنّ أصل الثمن حقّ شخصيّ للبائع في ذمّة المشتري(2)، فإذا وفّاه إيّاه بمبلغ معيّن فاستحقّ هذا


(1) يشير بذلك إلى أمثلة ذكرها في الفقرة 12 من كتابه.

(2) ينظر إلى الفرض الغالب في الخارج من كون الثمن كلّيّاً.

156

المبلغ من يد البائع تبيّن عدم صحّة وفاء الثمن، فيوفيه المشتري مجدّداً بمبلغ آخر.

ومن ذلك أيضاً ما صرّحوا به في بحث الحقوق التي تتعلّق بالتركة وترتيب استيفائها، فقد قالوا: إنّ الحقوق منها ما يتعلّق بعين التركة كالدَين المتعلّق بالمرهون والمأجور(1)، وأرش جناية العبد الجاني في حياة مولاه، والمبيع المحبوس بالثمن(2)، والعبد المأذون بالتجارة إذا لحقته ديون ثمّ مات المولى ولا مال له سوى هذا العبد(3).

ومنها ما يتعلّق بماليّة التركة كالديون العاديّة التي على الميّت.

فالنوع الأوّل يقدّم استيفاؤه على نفقات التكفين إلّا إذا كان الحقّ قد تعلّق بالعين بعد صيرورتها تركة كالعين الموصى بها، فإنّ تنفيذ الوصيّة بها عندئذ يؤخّر عن التكفين.

وأمّا النوع الثاني فإنّ التكفين يقدّم عليه مطلقاً....

والعلّة هي أنّ هذا النوع الثاني حقوق شخصيّة على الميّت لا تتعلّق بعين معيّنة من التركة ليكون لاستيفائها امتياز ورجحان...»(4).

أقول ـ بعد ترك البحث عن كلّ فرع من الفروع التي أشار إليها ـ إنّ ما ذكره من تمييز الفقه الإسلاميّ تمييزاً دقيقاً بين الحقّ العينيّ والحقّ الشخصيّ صحيح.


(1) يشير إلى دعوى أنّ المستأجر من حقّه أن يستوفي دينه من منفعة العين المأجورة على تقدير ما ذهب إليه الفقه الحنفيّ من انفساخ الإجارة بموت أحد المتعاقدين.

(2) يشير إلى الرأي القائل بثبوت حقّ الفسخ للبايع عند عدم تسليم الثمن وهو حقّ عينيّ متعلّق بعين المبيع.

(3) يعني بناءً على تعلّق الديون عندئذ بنفس العين وهي العبد.

(4) الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد 3: الفقرة 15.