287

اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض». ومن الطريف ما ورد في إحداهما: أنّه سُئل زيد بن أرقم من بعد ما روى الرواية: (من أهل بيته نساؤه؟!) قال: «لا اَيم الله، إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثمّ يطلّقها فترجع إلى أبيها وقومها، وأهل بيته(صلى الله عليه وآله) أهله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده».

وتؤيّد هذه الروايات روايات: «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح: من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق» وهي أيضاً مستفيضة(1).

وطريقة الاستدلال بهذه الروايات هي عين طريقة الاستدلال بآيات القربى المشار إليها، أي أنّنا نقول: إنّ مقتضى الجمع بين روايات حصر السبيل إلى الله في أهل البيت وروايات أنّ الأئمّة اثناعشر هو: أنّ أئمّة الحقّ متّصفون بكونهم من أهل البيت(عليهم السلام)، وأنّ عددهم اثناعشر، ولا يوجد اثناعشر موصوفون بكونهم من أهل البيت إلّا من قالت الشيعة بإمامتهم.

وبهذا العرض اتّضح أنّ روايات حصر الأئمّة في اثني عشر بمجموعها الواردة لدى الشيعة والسنّة فوق حدّ الإحصاء والتواتر.

 

الروايات التي قد توهم أنّ الأئمّة ثلاثة عشر ومناقشتها:

توجد في مقابل ما عرفناه من روايات الحصر في اثني عشر ـ التي هي فوق حد الإحصاء ـ أخبار آحاد نادرة قد تُوهم أنّ الأئمّة ثلاثة عشر، وهي خمس روايات واردة في الكافي(2)، نذكرها مع الردّ عليها:

 


(1) راجع بهذا الصدد البحار 23: 119 ـ 125، وينابيع المودّة 1: 93 ـ 95.

(2) الكافي 1: 531 ـ 534، الباب 126 من كتاب الحجّة الحديث 7 و 8 و 9 و 17 و 18، وكُرّر الحديث السابع بشيء من الفرق في السند تحت رقم 14.

288

أوّلاً: ـ الحديث السابع من الباب ـ عن محمّد بن يحيي، عن عبدالله بن محمّد الخشّاب ـ ولا ذكر له في كتب الرجال ـ عن ابن سماعة، عن عليّ بن الحسن بن رباط، عن ابن اُذينة، عن زرارة قال: «سمعت أبا جعفر(عليه السلام) يقول: الاثناعشر الإمام من آل محمّد(عليهم السلام) كلّهم محدّث من ولد رسول الله(صلى الله عليه وآله) ومن ولد عليّ، ورسول الله وعليّ(عليه السلام) هما الوالدان».

ولا يخفى أنّ ظاهر العبارة ليس هو إرادة أنّ الأئمّة اثناعشر كما أراد البعض تفسيرها بذلك، وإنّما ظاهرها أنّهم اثناعشر، وأنّهم من ولد رسول الله(صلى الله عليه وآله)وعليّ، فكأنّ عليّاً(عليه السلام)كرسول الله(صلى الله عليه وآله) خارج من دائرة الأئمّة، وهو ورسول الله(صلى الله عليه وآله)والدان للأئمّة.

وقد حمله المجلسي(رحمه الله) في مرآة العقول(1) على التغليب، أي بما أنّ أكثرهم ما عدا واحداً من ولد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وعليّ(عليه السلام) عبّر عنهم بتعبير: «كلّهم محدّث من ولد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وعليّ».

وهذا الحديث روي مرّة اُخرى في الكافي تحت رقم ( 14 ) عن أبي علي الأشعري، عن الحسن بن عبيدالله ـ ولعلّ الصحيح: الحسين بن عبيدالله ـ عن الحسن بن موسى الخشّاب(2)، عن عليّ بن سماعة، عن عليّ بن الحسن بن رباط، عن ابن اُذينة عن زرارة، قال: «سمعت أبا جعفر(عليه السلام)يقول: الاثنا عشر الإمام من آل محمّد كلّهم محدّث من ولد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وولد عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)فرسول الله(صلى الله عليه وآله)وعليّ(عليه السلام) هما الوالدان».


(1) مرآة العقول 6: 223.

(2) قال النجاشي عنه: (من وجوه أصحابنا مشهور كثير العلم والحديث).

289

وقال السيّد نذير الحسني(1): نقل المفيد هذه الرواية ـ في كتاب الإرشاد ج 2 ص 347 ـ بهذا الشكل: «الاثناعشر الأئمّة من آل محمّد كلّهم محدّث: علي بن أبي طالب(عليه السلام) وأحد عشر من ولده، ورسول الله وعليّ هما الوالدان».

وقال الصدوق(رحمه الله) في الخصال وفي العيون: حدّثنا محمّد بن علي ماجيلويه رضي الله عنه قال: حدّثنا محمّد بن يعقوب الكليني قال: حدّثنا أبو علي الأشعري عن الحسين بن عبيدالله، عن الحسن بن موسى الخشّاب، عن علي بن سماعة، عن عليّ بن الحسن بن رباط، عن أبيه، عن ابن اُذنية، عن زرارة بن أعين قال: سمعت أباجعفر(عليه السلام) يقول: «اثناعشر إماماً من آل محمّد(عليهم السلام)كلّهم محدثون بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)وعلي بن أبي طالب(عليه السلام) منهم»(2). إذن هذا يؤيّد نسخة الكافي الواصلة للشيخ المفيد(قدس سره).

ثانياً: ـ الحديث الثامن من الباب ـ عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن مسعدة بن زياد، عن أبي عبدالله، ومحمّد بن الحسين، عن إبراهيم عن أبي يحيى المدائني، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري في حديث طويل جاء فيه: قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنّ لهذه الاُمّة اثني عشر إماماً هدىً من ذريّة نبيّها، وهم منّي».

قال السيّد البدري في كتاب شبهات وردود(3): (وقد روى مضمون هذا الخبر النعماني في كتاب الغيبة، والصدوق في إكمال الدين: أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام)


(1) الدفاع عن التشيّع: 384 ـ 385.

(2) الخصال: 480، الباب 12، الحديث 49، وراجع عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 56 ـ 57، الباب 6، الحديث 24.

(3) شبهات وردود: 94.

290

قال: «إنّ لهذه الاُمّة اثني عشر إمام هدى وهم منّي» بدون «من ذرّية نبيّها») وبه يرتفع التشويش في العبارة.

ثالثاً: ـ الحديث التاسع من الباب ـ عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن ابن محبوب، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر(عليه السلام)، عن جابر ابن عبدالله الأنصاري قال: «دخلت على فاطمة(عليها السلام) وبين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء من ولدها، فعددت اثني عشر آخرهم القائم(عليه السلام)، ثلاثة منهم محمّد وثلاثة منهم عليّ». فقوله: «من ولدها» يوهم أنّه من ولدها اثناعشر، فاذا اُضيفوا إلى عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) كانوا ثلاثة عشر.

ولو تمّت النسخة لحُملت على التغليب كما مضى، ولكن الشأن في تماميّة النسخة؛ لأنّ الصدوق(رحمه الله) روى الرواية نفسها بالسند نفسه من دون هذا التشويش حيث قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار رضي الله عنه قال: حدّثني أبي عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن الحسن بن محبوب، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر(عليه السلام)، عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: «دخلت على فاطمة(عليها السلام) وبين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء، فعددت اثني عشر آخرهم القائم، ثلاثة منهم محمّد وأربعة منهم علي(عليهم السلام)»(1).

وروى أيضاً: حدّثنا الحسين بن أحمد بن إدريس رضي الله عنه قال: حدّثنا أبي عن أحمد بن محمّد بن عيسى وإبراهيم بن هاشم جميعاً عن الحسن بن محبوب، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر(عليه السلام)، عن جابر بن عبدالله الأنصاري وذكر النصّ نفسه(2).

 


(1) كمال الدين: 311 ـ 312، الباب 28، الحديث 3.

(2) المصدر السابق: 313، الحديث 4.

291

وذكر السند الثاني وبالنصّ نفسه أيضاً في عيون أخبار الرضا(1).

رابعاً: ـ الحديث السابع عشر من الباب ـ عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن أحمد، عن محمّد بن الحسين، عن أبي سعيد العصفر(2)، عن عمرو بن ثابت، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): إنّي واثني عشر من ولدي وأنت يا عليّ زرّ الأرض، يعني أوتادها وجبالها، بنا أوتد الله الأرض أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الاثناعشر من ولدي ساخت الأرض بأهلها ولم يُنظروا».

وهنا ذكر المجلسي(قدس سره) في مرآة العقول(3) احتمال أن يكون المقصود بــ«اثني عشر» فاطمة وأحد عشر من ولدها؛ إذ لم يذكر في هذا الحديث كونهم أئمّة، وإنّما ذكر كونهم رزّ الأرض ـ من: رزّ الباب، أي أصلح عليه الرزّة، وهي حديدة يدخل فيها القفل. ورزّ الشيء في الشيء: أثبته ـ أو زرّ الأرض بتقديم الزاي وكسره، من زِرّ الدين، يعني: قوامه باعتبار أنّ الزِرّ عظم صغير تحت القلب وهو قوامه.

وقال المجلسي(قدس سره): (روى الشيخ في كتاب الغيبة بسند آخر عن عمرو بن ثابت، عن أبي الجارود مثله، وفيه: «إنّي وأحد عشر من ولدي» وهو أظهر)(4).

خامساً: ـ الحديث الثامن عشر من الباب بالإسناد نفسه ـ عن أبي سعيد رفعه عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): من ولدي اثناعشر نقيباً نجباء محدّثون مفهّمون، آخرهم القائم بالحقّ، يملأها عدلاً كما ملئت جوراً».


(1) عيون أخبار الرضا(عليه السلام): 47، الباب 6، الحديث 7.

(2) في الكافي: العصفوري، والظاهر أنّه خطأ من الناسخ.

(3) مرآة العقول 6: 232.

(4) المصدر السابق.

292

وهنا جعل المجلسي(رحمه الله) في مرآة العقول(1) احتمال كون المقصود فاطمة وأحد عشر من ولدها بعيداً؛ باعتبار أنّ كلمة النقيب تقترب من معنى كلمة الإمام، ولكن يأتي هنا بوضوح الاحتمال الآخر وهو احتمال التغليب.

وعلى أيّة حال فلنغضّ النظر عن التوجيهات الماضية ونقول: لو تمّ بعض هذه الأخبار لكان خبراً واحداً نادراً في مقابل ما مضى من أخبار الاثني عشر التي كانت فوق حدّ الإحصاء.

والحديث عن إمامة الأئمّة(عليهم السلام) طويل، وقد رمت هنا الاختصار الكثير، وإنّي اُحوّل أنظار القرّاء الكرام إلى مطالعة الكتب الطوال.

 

 

 

* * *


(1) المصدر السابق: 233.

293

 

 

 

 

 

ظهور دولة العدل في آخر الزمان

 

نتحدّث مختصراً حول ظهور دولة العدل في آخر الزمان التي يملأ الله بها الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، فنقول: إنّ القرآن الكريم صريح في ذلك:

قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون﴾(1)، وقال عزّ وجلّ: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون﴾(2).

فهي آية واحدة نزلت مرّتين: مرّة في سورة التوبة، واُخرى في سورة الصفّ، تصرّح بأنّ الله تعالى سيُظهر هذا الدين على الدين كلّه رغم المشركين. ومن الطريف أنّها في كلا الموردين وقعت بعد آية تتكلّم عن إرادة القوم إطفاء نور الله بأفواههم، ولكنّ الله يريد تتميم النور، مع فرق بسيط في التعبير بين الموردين في هذه الآية ومن دون أيّ فرق بينهما في الآية التي هي محل الشاهد، ولا إشكال ولا ريب في أنّ إظهار دين الإسلام على كلّ الأديان وفي جميع أرجاء الأرض لم يتمّ حتّى الآن، فهذا إخبار قطعيّ عن وقوع ذلك في


(1) س 9 التوبة، الآية: 32 ـ 33.

(2) س 61 الصف، الآية: 8 ـ 9.

294

آخر الزمان بمشيئة الله عزّ وجلّ.

ويمكن عطف آية ثالثة على هاتين الآيتين وهي قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً﴾(1).

وقد تعطف على الآيات المباركات آية رابعة وهي قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الاَْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون﴾(2).

والاستشهاد بها يتوقّف على استظهار أنّ المقصود بإرث العباد الصالحين للأرض إرثهم لها في هذه الدنيا لا في الآخرة، ولو بقرينة: أنّ الأرض في عالم الآخرة ستكون أرضاً اُخرى غير هذه الأرض بدليل قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَات﴾(3).

أمّا الآيات الاُولى فتبدو صريحة في النظر إلى دار الدنيا؛ لأنّ صدر الآية وهو قوله: ﴿أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾ لا إشكال في كونه راجعاً إلى هذه الدنيا، فكذلك تكملته بقوله: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّه﴾، بل إنّ غلبة دين على دين لا يتصوّر لها معنى في عالم الجزاء، وإنّما يتجلّى معناها في عالم محاربة الأديان وفعّاليّتها وهو هذه الدنيا.

بقي في المقام أمر واحد نشير إليه، وهو أنّ الروايات عندنا بالنسبة لما بعد عصر ظهور الحجّة عجّل الله تعالى فرجه منقسمة إلى ثلاث طوائف في أنّه هل تبدأ بعد ذلك رجعة الأئمّة من جديد واحداً بعد آخر؟ أو يخلفهم مهديّون ـ على حدّ تعبير بعض الروايات ـ من أولادهم؟ أو يطول عمر الحجّة(عليه السلام) إلى ما قبل القيامة بأربعين يوماً؟ والله أعلم حيث يجعل رسالته.

 

 


(1) س 48 الفتح، الآية: 28.

(2) س 21 الأنبياء، الآية: 105.

(3) س 14 إبراهيم، الآية: 48.

295

الفصل الرابع

 

 

 

البرزخ

 

 

○ الموت.

○ تجرّد النفس ومغايرتها للجسم.

○ بقاء النفس بعد الموت.

○ مصير النفس في البرزخ بين الموت والبعث.

○ فلسفة البرزخ.

○ ختم الكلام.

 

 

297

 

 

 

 

 

المـوت

 

﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاُْخْرَى إِلَى أَجَل مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَات لِّقَوْم يَتَفَكَّرُون﴾(1).

قيل لمولانا الباقر(عليه السلام) ما الموت؟ قال(عليه السلام): «هو النوم الذي يأتيكم كلّ ليلة، إلّا أنّه طويل مدّته لا ينتبه منه إلّا يوم القيامة، فمن رأى في نومه من أصناف الفرح ما لا يقادر قدره، ومن أصناف الأهوال ما لا يقادر قدره، فكيف حال فرح في النوم ووجل فيه، هذا هو الموت فاستعدّوا له»(2).

وعن مولانا الباقر(عليه السلام) أيضاً قال: «ما من أحد ينام إلّا عرجت نفسه إلى السماء وبقيت روحه في بدنه، وصار بينهما سبب كشعاع الشمس، فإذا أذن الله في قبض الأرواح أجابت الروح النفس، وإذا أذن الله في ردّ الروح أجابت النفس الروح، وهو قوله سبحانه: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا...﴾فمهما رأت في ملكوت السماوات فهو ممّا له تأويل، وما رأت في ما بين السماء والأرض


(1) س 39 الزمر، الآية: 42.

(2) البحار 6: 155.

298

فهو ما يخيّله الشيطان ولا تأويل له»(1).

الرواية الثانية التي تلوناها عليك تفصل بين مصطلح النفس ومصطلح الروح، فكأنّ الروح قصد بها ما قد يسمّى بالروح النباتية أو بالروح الحيوانية، وبها تتمّ تغذية البدن ونموّه، والروح بهذا المعنى لا تنفصل عن البدن بمجرّد النوم؛ ولذا ترى النائم يتغذّى جسمه بالطعام الذي دخل معدته قبل النوم وينمو جسمه، وتنقسم قوّة الطعام وتتوزّع على جميع أجزاء بدنه كما يتمّ ذلك في يقظته، وكذلك أثر الدواء الذي دخل المعدة أو العضلة أو الوريد يعمل عمله في النوم كما يعمل في اليقظة، ودوران الدم يبقى ساري المفعول في النوم، في حين أنّ الموت يفصل بين البدن وبين كلّ هذه الاُمور.

أمّا النفس فهي التي تنفصل عن البدن في حالة النوم، واشتراك النوم مع الموت يكون في ذلك، فلئن كان مركز تدبير الجسم من ناحية النموّ والتغذّي هي الروح والتي هي أمر مشترك بين الإنسان والحيوان والنبات فمركز الإرادة والعواطف والعلم هي النفس؛ ولذا ترى أنّ هذه الاُمور كلّها تنفصل عن الجسم بالنوم كما تنفصل بالموت.

والفهم الظاهري لنا عن الموت أنّه عبارة عن مجرّد الانفصال بين البدن والنفس أو الروح؛ ولهذا يرى الإنسان العادي أو الساذج أنّ الموت أمر عدمي، ولكنّ القرآن يصرّح بكونه أمراً وجودياً، وذلك في قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور﴾(2). ولعلّ خير تعبير يوضّح لأفهامنا القاصرة معنى وجودية الموت بالمقدار الذي يتحمّله عقلنا قوله


(1) مجمع البيان في تفسيره في ذيل الآية الشريفة.

(2) س 67 الملك، الآية: 2.

299

تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاُْخْرَى﴾، فكأنّ الجانب العدمي للموت عبارة عن القضاء على الروح النباتية في الجسم، ولكن الجانب الوجودي له عبارة عن توفّي الله تعالى للنفس، وليس هذا قضاءً على النفس أو إعداماً لها، بل قبضه سبحانه وتعالى إيّاها هو أمر وجودي.

ولا تنافي بين نسبة التوفّي ـ وهو الأخذ أو الأخذ التامّ الكامل ـ إلى الله تعالى تارة كقوله عزّ وجلّ: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾، وإلى ملك الموت اُخرى كقوله: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾(1)، وإلى الملائكة ثالثة كقوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾(2)، ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِين﴾(3)، ﴿وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُون﴾(4)، ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُم﴾(5)، فإنّ ملك الموت رسول الله سبحانه وتعالى، والملائكة رسل ملك الموت وأعوانه.

ولا فرق في هذه النتيجة ـ وهي اشتمال الموت على ما يشتمل عليه النوم أيضاً من الجانب الوجودي، وهو توفّي الله سبحانه وتعالى وقبضه للنفس إليه ـ بين أن نختار أيّ الوجهتين في أصل ائتلاف النفس مع البدن، فإنّ هناك وجهتي نظر في تصوير ائتلافهما ـ بعد وضوح أنّه ليست نسبة النفس إلى البدن كنسبة


(1) ﴿وَقَالُوا ءَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الاَْرْضِ ءَإِنَّا لَفِي خَلْق جَدِيد بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُون﴾ س 32 السجدة، الآية: 10 ـ 11.

(2) س 47 محمّد، الآية: 27.

(3) س 16 النحل، الآية: 32.

(4) س 6 الأنعام، الآية: 61.

(5) س 6 الأنعام، الآية: 93.

300

سائق العربة إلى العربة أو نسبة الهواء إلى الجلد، فالإخراج في قوله تعالى: ﴿أَخْرِجُوا أَنفُسَكُم﴾ لا يقصد به إلّا الفصل الذي يختلف معناه باختلاف فرض تصوير الوصل وبمناسبته ـ:

فالتصوير الأوّل: هو التصوير القائل بأنّ الله تعالى قد خلق النفس الإنسانية منفصلة عن البدن، ثُمّ جعل البدن تحت سلطانها، فالنفس هي التي تحمل البدن وليس العكس. وتشهد لذلك روايات أنّ الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام(1). وتشهد لذلك شهادة الذين يدّعون امتلاك الموت الإرادي ويرون أحياناً أجسادهم منفصلة عن أنفسهم، والله العالم بحقيقة الحال.

والتصوير الثاني: هو التصوير القائل بأنّ امتلاك الإنسان للنفس ليس إلّا تطوّراً جديداً له بحسب التكامل الذي يتمّ له بقدرة الله في الرحم خلال ما يسمّى بمرحلة ولوج الروح والمعبّر عنها في القرآن بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين﴾(2).

وقد اختار الشيخ السبحاني ـ حفظه الله ـ التصوير الثاني مستدلاًّ بهذه الآية المباركة التي عبّرت عن مرحلة ما يسمّى بنفخ الروح بـ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَر﴾، أي أنشأنا الإنسان خلقاً جديداً، فلم يفترض أنّ النفس كانت مخلوقة من قبل وسلّطت على البدن بل افترض أنّ إنشاءه ـ وهو يعني إيجاده ـ كان بعد تكامل النطفة ضمن المراحل السابقة التي أشارت إليها الآية المباركة(3).

 


(1) راجع البحار 61، الباب 43 من كتاب السماء والعالم.

(2) ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاِْنسَانَ مِن سُلاَلَة مِّن طِين * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَار مَّكِين * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين﴾. س 23 المؤمنون، الآية: 12 ـ 14.

(3) راجع منشور جاويد 4: 217 ـ 218.

301

أقول: وقد تشهد لذلك آية الذرّ: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين﴾(1)؛ إذ لو كانت الأرواح في عالم الذرّ مخلوقة قبل الأبدان لما قال: أخذهم من ظهور بني آدم بل ولا من ظهر آدم(عليه السلام)، فيبدو أنّ المقصود هو الأخذ من ظهور الآباء وهو أخذ تدريجي بتدرّج خلق الأفراد، فكأنّ كلّ أحد يؤخذ منه الميثاق في بداية وجوده، وهو بأحد شكلين:

إمّا بأخذ الميثاق الصريح الذي بقي أثره فينا على الرغم من نسياننا إيّاه، وذلك الأثر هو فطرية التوحيد، فكان ذلك كافياً في إتمام الحجة علينا، ولم تلزم لغوية أخذ الميثاق.

وإمّا بأن يكون معنى أخذ الميثاق هو جعل التوحيد في الفطرة ابتداءً.

وعلى أيّة حال فكلا هذين المسلكين في تصوير الائتلاف بين الروح والبدن ـ المختلف فيه بين أصحابنا من قديم الأيام ـ مشتركان في نهاية تواجُدنا في هذه الدنيا، وهو أنّ الله تعالى يقبض الروح أو النفس كما يقبضها في عالم النوم بفرق أنّه مع الموت يقترن ذلك بانتهاء الحياة النباتية التي هي مصبّ النموّ والتغذّي وتوليد المثل ـ وأقصد بذلك توليد أمثال الخلايا المستهلكة ـ ومع النوم لا يوجد شيء من هذا القبيل.

وبعد أن أشارت الآية المباركة التي بدأنا بها الحديث إلى هذا الأمر خُتمت بقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَات لِّقَوْم يَتَفَكَّرُون﴾، ولعلّ ﴿ذَلِكَ﴾ يشير إلى آيات النفس التي تظهر بواسطة النوم.

وملخّص ما نفهمه بفهمنا القاصر أنّ المادّيين الذين غفلوا عن الإحساس


(1) س 7 الأعراف، الآية: 172.

302

بالنفس الذي هو إحساس لا غبار عليه ـ كما يتجلّى ذلك ضمن بيان بعض البراهين العقلية التي سوف نشير إليها إن شاء الله ـ كأنّ السبب في غفلتهم كان عبارة عن أنّ الإحساسات الظاهرية الخمسة المعروفة للإنسان ـ من الشمّ والسمع والذوق والرؤية واللمس ـ إنّما تحصل له بسبب الحواسّ الخمس التي كلّها مادّيّة وجسمانية، وهي: الأنف والاُذن واللسان والعين والجسد، فأدّى ذلك إلى أن غابت عنهم النفس البشرية التي هي فوق المادّة، وتخيّلوا أنّ الإنسان عبارة عن هذه البشرة وهذا الجسم، وأن لا شيء غير المادّة، ولكن النوم الذي سلّطه الله على العباد كاف لرفع هذا الغبش عن البصائر لمن هو ذو بصيرة؛ لأنّ الحواسّ الخمس التي أوجبت الخلط في الذهن والغفلة عن النفس المجرّدة كلّها متعطّلة في حالة النوم، ومع ذلك يكون للنائم نوع إحساس وشعور في عالم الرؤيا حتّى ولو فرض وهماً بحتاً؛ فلعدم وجود ما أوجب الغفلة عن تجرّد النفس، قد يعي الإنسان بسبب ما رآه في عالم النوم من رؤىً قد يستذكرها مفصّلاً ويدركها وجدانه الذي يحسّ بالنفس المجرّدة، أضف إلى ذلك الرؤى الصادقة بالذات التي ينحصر تفسيرها بالارتباط الغيبي المجرّد عن المادّة بمستقبل آت أو بحال غائب عن الإحساس.

فهذا شيء من آيات النفس البشرية في عالم الرؤيا التي قد يشير إليها قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَات لِّقَوْم يَتَفَكَّرُون﴾.

 

* * *

 

303

 

تجرّد النفس ومغايرتها للجسم

 

إنّ النفس مجرّدة عن المادّة ومغايرة للجسم، والدليل على ذلك زائدا على ما عرفته من الدليل النقلي القطعي في القرآن، وما عرفته من دلالة الرؤى الصادقة، مجموعة من الأدلة العقلية نشير فيما يلي إلى بعضها:

 

الأوّل ـ وحدة الأنا:

فقد ثبت علميّاً أنّ خلايا الجسم تتبدّل تماماً خلال سبع سنين تقريباً، فالذي عمّر سبعين سنة قد تبدّل بكلّ خلاياه عشر مرّات تبدّلاً تامّاً، فكيف لو فرضنا أحداً عمّر آلاف السنين، ومع ذلك يحسّ بوجدانه بوحدة الأنا من أوّل عمره إلى آخره، وليس هذا إلّا عبارة عن الإحساس الوجداني بالنفس المجرّدة عن المادّة.

ولا ينافي ذلك ما ثبت علمياً أيضا من أنّه لو هلك قسم من المخّ بحادث اصطدام ونحوه لم يعوّض بنموّ الباقي في المستقبل؛ فإنّ هذا ليس إلّا من قبيل أنّ من قطعت يده لا يعوّض بيد جديدة بنموّ أو تبدل باقي خلاياه الجسمية، فتوليد كلّ خليّة من خلايا المخّ لمثلها لا يكون إلّا بتدريج لا يتخلّله فراغ. أمّا لو فرغ المخ عن قسم من أقسامه باصطدام أو إقصاء جراحي مثلاً فخلاياه الاُخرى لا تملأ فراغ الخلايا التي اُقصيت؛ لأنّ كلّ خلية من خلايا المخ إنّما تنتج مثلها وفي محلّها بالتبادل التدريجي، وما تلف لم يكن كالباقي ولا في محلّ الباقي، فالحقيقتان العلميتان ليستا متعارضتين إطلاقاً، إذن لا شك ـ انطلاقاً من منطق العلم الحديث ـ في أنّ جميع الخلايا المادّية في الجسم

304

تتحوّل وتتبدّل بالتدريج، في حين أنّ الإحساس بوحدة الأنا إحساس وجداني لا يقبل الشك، ولهذا نرى أنّ من قطعت يده أو رجله مثلاً لم ينقص عنده شيء من الأنا إطلاقا، في حين أنّه نقص شيء من جسمه، وممّا كان يحمل الروح النباتية والنموّ والتغذّي وتوليد المثل من الخلايا. وممّا يوُضّح إدراك الإنسان بوجدانه وحدة الأنا بالرغم من تبدّل المادّة الجسمية عنده بمرّات عديدة هو أنّ الإنسان يُدين بوجدانه الخائن والمجرم حتّى بعد مضيّ مئة سنة أو أكثر أو أقلّ على زمان الخيانة والجريمة، ويحكم عليه بحقّ القصاص والمجازاة، وهذا لا يكون إلّا بسبب إدراك الوجدان لوحدة النفس، ولولا النفس لم يكن معنى للحكم بحقّ القصاص والمجازاة بعد تبدل الجسم بكامل خلاياه لمرّات عديدة، فيجب علينا إمّا أن ننكر كلّ الوجدانيات ونصبح مجرّد شكّاكين سوفسطائيّين، أو نعترف باستقلال الأنا عن كامل البدن.

 

الثاني ـ تجرّد العلم والعواطف والإرادة:

نحن نحسّ بالوجدان بتجرّد علمنا وإرادتنا وعواطفنا كالحبّ والبغض، ولا ينافي ذلك تلازماً بين هذه الاُمور ونقوش أو تموّجات أو نحو ذلك في المخّ المادّي نتيجةً للتفاعل الموجود بين النفس والجسم مادامت العلاقة بينهما موجودة والارتباط بينهما محفوظاً، فتلك التبدّلات المخّية إمّا هي مقدّمات لتحقّق العلم والعواطف والإرادة في النفس، وإمّا هي نتائج لتلك، ولا ينافي ذلك تجرّد العلم والعواطف والإرادة، وعندئذ نقول: من الواضح أنّ هذه الاُمور بحاجة إلى مصبّ مجرّد، ولا يمكن أن يكون مصبّها الجسم الذي لا مسانخة بينه وبينها، وهذا ما يجعلنا نجد بوضوح نفسنا المجرّدة عن الموادّ، وأعني بذلك الأنا.

 

305

الثالث ـ استحالة انطباق الكبير على الصغير:

لو رأينا أرضاً زاهرة تضمّ آلاف الأمتار بأشجارها ونباتاتها وأوراقها وأزهارها وفواكهها وطيورها، وأغصان الأشجار وروائع الأوراد والثمار وغرف شاهقات ومسابح صافية، فنحن نحسّ بوجداننا بحضور مساحة هندسيّة لدينا وبأحجام معينة وسعة طريفة محدّدة، وليس هذا عبارة عن الإحساس بالعين المادّية للمساحة الخارجة عن نفوسنا، والكائنة في محل منفصل عنّا بفاصل أمتار أو أكثر؛ إذ قد بطلت لدى العلماء نظريّة حصول الرؤية بخروج أشعة من العين ووقوعها على المرئيات الخارجية، وكيف يكون إدراكنا للمرئيات عبارة عن الإدراك المباشر للواقع والحقيقة في حين أنّ الرؤية قد تنفصل عن زمان وجود المرئي، كما في نجم تفتّت وانتهى ثُمّ وصلنا شعاعه الذي تحرّك عنه إلينا بعد آلاف السنين ممّا يبرهن على أنّ عملية الرؤية ليست مجرّد اتّصال بين الأشعة الصادرة من العين وبين الجسم الخارجي، بل هي وصول أشعة الجسم الخارجي إلى العين ولو بعد انعدام المرئي بآلاف السنين، وعليه فعملية الرؤية بقدر ما هي قضيّة مادّية هي انطباع لأشعّة المرئي في الجهاز العصبيّ المادّي الخاصّ بالباصرة المادّية، وهي صغيرة إلى حدّ يمكن انطباقها على عدسة العين أو على الجهاز العصبي أو على المخّ، ويستحيل أن تمتلك سعة الجسم الخارجي أو المساحة الخارجية وحجمها؛ لاستحالة انطباق الكبير على الصغير، أمّا المدرَك لنا في وقت الرؤية والمتمتّع بالحجم الهندسي والمساحة الواسعة المناسبة للعين المرئية فليس إلّا أمراً مجرّداً عن المادّة، ومنطبعاً في محلّ غير مادّي وهي النفس، كي لا يلزم انطباق الكبير المادّي على

306

الصغير المادّي(1)، ثُمّ تبقى الصورة الفكرية الموسّعة عن تلك المناظر بعد إغماض العين عنها مدّة في الذهن بقدر ما تسمح لها الذاكرة، وهي ما زالت صورة مجرّدة بدليل سعتها الهندسية، وأيضا تحتاج إلى محلّ غير مادّي كي تكون متركّزة ومستوطنة فيه، وليس ذلك إلّا النفس البشريّة أيضاً.

والخلاصة أنّنا من حقّنا أن نتساءل عن موطن ارتكاز هذا الشكل الواسع ذي الأبعاد الهندسيّة الفسيحة، فهل يعقل أن يكون في محلّ مادّي ضيّق؟ وهل هذه الصورة عبارة عن نقوش أو تغيّرات ضئيلة ضيّقة في المخّ أو العصب أو العدسة مثلا؟ أم كيف انطبق أمر مادّي واسع على مكان مادّي ضيّق؟! أفلا يعني هذا أنّ صورة هندسيّة واسعة مجرّدة من المادّة تمركزت في نفس غير مادّيّة، وفي ذهننا البشري الفارغ عن الضيق المادّي، أو قل: في الأنا المجرّد؟! وهكذا نجد مرّة اُخرى الأنا المستقلّ عن المادّة وهي النفس الإنسانية حقّاً.

نكتفي بذكر هذا المقدار من الأدلّة العقليّة على تجرّد النفس وإن كان البحث الفلسفي في ذلك أوسع ممّا ذكرناه بكثير.

 

 

* * *

 


(1) راجع آخر كتاب فلسفتنا، بحث الإدراك في مفهومه الفلسفي.

307

 

بقاء النفس بعد الموت

 

يقع البحث عن أنّ موت الجسم بمعنى فناء الروح النباتية فيه ممّا يوجب فساده وتعفّنه وتفسّخه، هل يوجب فناء تلك النفس، أو أنّها تبقى حيّة بعد موت الجسم؟

القرآن صريح في الثاني كما مضى من قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الاَْنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا...﴾(1)، والمفروض بنا حين نتحدث عمّا بعد الموت أنّنا فرغنا عن إثبات التوحيد والنبوّة والقرآن.

والاعتبار العقلي أيضا يدعم بقاء النفس؛ لأنّ الله تعالى خلق الغرائز الأصيلة في الإنسان لتسييره في الطريق الذي اُريد له، أو للتوفيق بين غرائزه وبين ما اُريد له. فمثلاً من الغرائز الأصيلة في الإنسان: شهوة الأكل والشرب لتسييره إلى حفظ بقائه بهما، وشهوة الجنس الملحّة لتسييره إلى ما اُريد له من التوالد وحفظ جنسه من الانقراض ما دامت الدنيا باقية؛ ولعلّ أشدّ الغرائز الأصيلة على الإطلاق في الإنسان ـ أو من أشدّها ـ هي غريزة حبّ البقاء، فلولا أنّ الإنسان خلق للبقاء لا للفناء لما اُودعت فيه هذه الغريزة.

أضف إلى ذلك دليلاً آخر على البقاء وهو مجموع حكم العقل بضرورة عالم الآخرة والجزاء من ناحية، وحكمه باستحالة إعادة المعدوم من ناحية اُخرى، فلو فرضنا فناء النفس بموت البدن وبانعدام الروح النباتية فيه ـ وهي روح النموّ وتوالد الخلايا والتغذّي ـ لما أمكن إرجاعها، ولو لم يمكن إرجاعها استحال له


(1) س 39 الزمر، الآية: 42.

308

الدخول في الآخرة، واستحالة ذلك توجب محذورين عقليين يبدو من القرآن الكريم الإصرار على التنبيه عليهما:

المحذور الأوّل: أن يكون خلق الإنسان عبثاً؛ فإنّ المفروض بنا أنّنا قد فرغنا من إثبات وجود الله وعلمه وحكمته، وعندئذ نقول: كلّ من تقدّم في السنّ في هذه الدنيا يعلم بالتجربة أنّ الحياة الدنيا ـ وبغضّ النظر عن عالم الآخرة ـ إن هي إلّا مجموعة آمال تتبخَّر، وآلام تغلب على اللذائذ، وفجائع تؤلم القلب وشيء من اللهو واللعب:﴿وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور﴾(1).

ولو قايس كلّ واحد منّا في ساعة وفاته بين أن يكون لم يولد ولم يمض عليه كلّ ما مضى، أو يكون قد ولد ومضى عليه كلّ ما كان وها هو الآن يفنى وينعدم وينهدم كلّ ما بنى وقد تحطّمت أكثر آماله، وسيبقى أولاده يعانون في حياتهم شبيها بما عانى هو، وينتهون إلى ما انتهى إليه هو وافترضنا عدم الإيمان بعالم آخر، لرجّح أغلب الناس ـ إن لم يكن جميعهم ـ الأوّل على الثاني ولو كانوا في ملكهم كسليمان بن داود، فكيف بالناس الاعتياديين والمحرومين الذين أدركوا بالحسّ والوجدان وبشكل واسع مغزى كلمة ﴿فَتَشْقَى﴾(2) التي أوحاها الله تعالى في أوّل يوم إلى أبينا آدم؟! أفلا يعني كلّ هذا أنّ خلقنا في أوّل يوم كان عبثاً؟

ولو طالعنا حياة حيوان قصير العمر يلتهي بتنفّس أيام وانتاج عدد من بني جنسه ثُمّ يموت وينعدم ألا نحسّ بتفاهة حياته ودناءة عالَمه؟ أو ليست حياتنا


(1) س 3 آل عمران، الآية: 185.

(2) إشارة إلي قوله تعالى: ﴿فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾. س 20 طه، الآية: 117.

309

كحياته بفرق امتداد في الزمن مئة مرّة مثلاً، وما هو بمزحزحنا من الفناء أن نعمّر ألف سنة، وبفرق أنّ آلامنا تفوق آلامه بكرّات المرّات؟ أفلا ترى أنّ هذا العبث لا ينتهي إلّا بأن يجد الإنسان طعم الحياة الحقيقية في عالم الآخرة، ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الاْخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون﴾(1)؟

ثُمّ إنّ الإنسان هو أرقى موجود سخّرت له السماوات والأرض والأفلاك والأملاك والهواء والطيور والحيتان والبهائم والطاقات وسائر النعم، ومع كلّ هذا نرى أنّ الشقاء والتعب لا ينفصلان عن أحد في الغالبية العظمى ـ على الأقل ـ إن لم يكن في الكلّ، فهل كان كلّ هذا عبثاً ولعباً من المولى سبحانه وتعالى؟!

وتنبيه القرآن الكريم على هذا الوجه قد ورد متكرّراً كقوله تعالى:

1 ـ ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُون﴾(2). اُنظر كيف ربط الله سبحانه وتعالى نفي العبث بالرجوع إليه، يعني لولا المعاد لكان خلقكم عبثاً، بل وردت هذه الآية في أعقاب آيات الجزاء من الثواب والعقاب حيث قال تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ


(1) س 29 العنكبوت، الآية: 64.

(2) س 23 المؤمنون، الآية: 115.

310

سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ * قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الاَْرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْم فَاسْأَل الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾(1).

2 ـ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُون﴾(2).

3 ـ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيل﴾(3).

وفي هذه الآية ترى أيضا أنه أعقب ذكر خلق السماوات والأرض بالحق لا باللعب بالتذكير بالمعاد.

4 ـ﴿أَيَحْسَبُ الاِْنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاُْنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِر عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾(4).

وفي هذه الآيات أعقب الله تعالى نفي ترك الإنسان سدىً بذكر القيامة من ناحية، وجعل كلّ هذا تعقيباً على ذكر الموت وأنّ الموت رجوع إلى الله تعالى من ناحية اُخرى؛ حيث قال سبحانه قبل هذه الآيات: ﴿كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ *


(1) س 23 المؤمنون، الآية: 101 ـ 115.

(2) س 21 الأنبياء، الآية: 16 ـ 18.

(3) س 15 الحجر، الآية: 85.

(4) س 75 القيامة، الآية: 36 ـ 40.

311

وَقِيلَ مَنْ رَاق * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذ الْمَسَاقُ * فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى * وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * أَيَحْسَبُ الاِْنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى﴾(1).

5 ـ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً﴾(2).

6 ـ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾(3).

7 ـ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الليْلِ وَالنَّهَارِ لآيَات لاُِّوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾(4).

وقد ورد في الحديث عن محمّد بن عمارة عن أبيه قال: سألت الصادق جعفر بن محمّد(عليه السلام)فقلت له: لِمَ خلق الله الخلق؟ فقال: «إنّ الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقه عبثاً ولم يتركهم سدىً، بل خلقهم لإظهار قدرته، وليكلّفهم طاعته فيستوجبوا بذلك رضوانه، وما خلقهم ليجلب منهم منفعة ولا ليدفع بهم مضرّة، بل خلقهم لينفعهم ويوصلهم إلى نعيم الأبد»(5).

وورد أيضاً في الحديث: «قال رجل لجعفر بن محمّد(عليه السلام): يا أباعبدالله، إنّا خلقنا للعجب! قال: وما ذاك الله أنت(6)؟ قال: خلقنا للفناء؟ فقال: مه يا ابن أخ خلقنا للبقاء، وكيف تفنى جنّة لا تبيد ونار لا تخمد؟! ولكن قل إنّما نتحوّل من


(1) س 75 القيامة، الآية: 26 ـ 36.

(2) س 38 ص، الآية: 27.

(3) س 44 الدخان، الآية: 38 ـ 40.

(4) س 3 آل عمران، الآية: 190 ـ 191.

(5) البحار 5: 313، الباب 15 من أبواب العدل، الحديث 2.

(6) الظاهر أن الصحيح: لله أنت.