798

وهذه الخطوط هي كما يلي:

1 ـ الحاجة إلى الارتباط بالمطلق.

2 ـ الحاجة إلى الموضوعية في القصد وتجاوز الذات.

3 ـ الحاجة إلى الشعور الداخلي بالمسؤولية كضمان للتنفيذ.

وإليكم تفصيل هذه الخطوط:

1 ـ الحاجة إلى الارتباط بالمطلق:

نظام العبادات طريقة في تنظيم المظهر العملي لعلاقة الإنسان بربّه، ولهذا لا ينفصل عند تقويمه عن تقويم هذه العلاقة بالذات ودورها في حياة الإنسان، ومن هنا يترابط السؤالان التاليان:

أولا: ما هي القيمة التي تحقّقها علاقة الإنسان بربّه لهذا الإنسان في مسيرته الحضارية؟ وهل هي قيمة ثابتة تعالج حاجةً ثابتةً في هذه المسيرة، أو قيمةً مرحليةً ترتبط بحاجات موقوتة أو مشاكل محدودة وتفقد أهمّيتها بانتهاء المرحلة التي تحدّد تلك الحاجات والمشاكل؟

ثانياً: ما هو الدور الذي تمارسه العبادات بالنسبة إلى تلك العلاقة ومدى أهمّيتها بوصفها تكريساً عملياً لعلاقة الإنسان بالله؟

وفي ما يأتي موجز من التوضيح اللازم في ما يتعلق بهذين السؤالين.

الارتباط بالمطلق مشكلة ذات حدّين:

قد يجد الملاحظ ـ وهو يفتّش الأدوار المختلفة لقصّة الحضارة على مسرح التأريخ ـ أنّ المشاكل متنوّعة، والهموم متباينة في صيغتها المطروحة في الحياة اليومية، ولكنّنا إذا تجاوزنا هذه الصيغ ونَفَذنا إلى عمق المشكلة وجوهرها

799

استطعنا أن نحصل ـ من خلال كثير من تلك الصيغ اليومية المتنوّعة ـ على مشكلة رئيسية ثابتة ذاتِ حدّين أو قطبين متقابلين يعاني الإنسان منهما في تحرّكه الحضاريّ على مرّ التأريخ، وهي من زاوية تعبّر عن مشكلة الضياع واللا انتماء، وهذا يمثل الجانب السلبي من المشكلة. ومن زاوية اُخرى تعبّر عن مشكلة الغلوّ في الانتماء والانتساب؛ بتحويل الحقائق النسبية التي ينتمي إليها إلى مطلق، وهذا يمثّل الجانب الإيجابي من المشكلة.

وقد أطلقت الشريعة الخاتمة على المشكلة الاُولى اسم « الإلحاد » باعتباره المثل الواضح لها، وعلى المشكلة الثانية اسم « الوثنية والشرك » باعتباره المثل الواضح لها أيضاً. ونضال الإسلام المستمرّ ضدّ الإلحاد والشرك هو في حقيقته الحضارية نضال ضدّ المشكلتين بكامل بعديهما التأريخيّين.

وتلتقي المشكلتان في نقطة واحدة أساسية، وهي: إعاقة حركة الإنسان في تطوّره عن الاستمرار الخلاّق المبدع الصالح، لأنّ مشكلة الضياع تعني بالنسبة إلى الإنسان أنّه صيرورة مستمرّة تائهة لا تنتمي إلى مطلق يسند إليه الإنسان نفسه في مسيرته الشاقّة الطويلة المدى، ويستمدّ من إطلاقه وشموله العون والمدّ والرؤية الواضحة للهدف، ويربط من خلال ذلك المطلق حركته بالكون، بالوجود كلّه، بالأزل والأبد، ويحدّد موقعه منه، وعلاقته بالإطار الكوني الشامل.

فالتحرّك الضائع بدون مطلق تحرّك عشوائي كريشة في مهبّ الريح، تنفعل بالعوامل من حولها ولا تؤثّر فيها. وما من إبداع وعطاء في مسيرة الإنسان الكبرى على مرّ التاريخ إلّا وهو مرتبط بالاستناد إلى مطلق والالتحام معه في سير هادف.

غير أنّ هذا الارتباط نفسه يواجه من ناحية اُخرى الجانب الآخر من المشكلة، أي مشكلة الغلوّ في الانتماء بتحويل النسبي إلى مطلق، وهي مشكلة

800

تواجه الإنسان باستمرار، إذ ينسج ولاءه لقضية لكي يمدّه هذا الولاء بالقدرة على الحركة ومواصلة السير، إلّا أنّ هذا الولاء يتجمّد بالتدريج ويتجرّد عن ظروفه النسبية التي كان صحيحاً ضمنها، وينتزع الذهن البشريّ منه مطلقاً لاحدّ له للاستجابة إلى مطالبه، وبالتعبير الديني يتحوّل إلى إله يعبد بدلا عن حاجة يُستجاب لإشباعها.

وحينما يتحوّل النسبي إلى مطلق إلى إله من هذا القبيل يصبح سبباً في تطويق حركة الإنسان وتجميد قدراتها على التطوّر والإبداع، وإقعاد الإنسان عن ممارسة دوره الطبيعي المفتوح في المسيرة، ﴿لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مخْذُوْلا﴾(1).

وهذه حقيقة صادقة على كلّ الآلهة التي صنعها الإنسان عبر التأريخ، سواء ما كان قد صنعه في المرحلة الوثنية من العبادة، أو في المراحل التالية، فمن القبيلة إلى العلم نجد سلسلةً من الآلهة التي أعاقت الإنسان بتأليهها، والتعامل معها كمطلق عن التقدّم الصالح.

نعم، من القبيلة التي كان الإنسان البدويّ يمنحها ولاءه باعتبارها حاجةً واقعيةً بحكم ظروف حياته الخاصّة، ثمّ غلا في ذلك، فتحوّلت لديه إلى مطلق لا يبصر شيئاً إلّا من خلالها، وأصبحت بذلك معيقةً له عن التقدم.

إلى العلم الذي منحه الإنسان الحديث ـ بحقٍّ ـ ولاءه؛ لأنّه شقّ له طريق السيطرة على الطبيعة، ولكنّه غلا أحياناًفي هذا الولاء فتحوّل إلى ولاء مطلق تجاوز به حدوده في خِضَمّ الافتتان به، وانتزع الإنسان المفتون بالعلم منه مطلقاً يعبده، ويقدم له فروض الطاعة والولاء، ويرفض من أجله كلّ القيم والحقائق التي


(1) الإسراء: 22.
801

لا يمكن قياسها بالأمتار أو رؤيتها بالمجهر.

فكلّ محدود ونسبيّ إذا نسج الإنسان منه في مرحلة ما مطلقاً يرتبط به على هذا الأساس يصبح في مرحلة رشد ذهنيّ جديد قيداً على الذهن الذي صنعه بحكم كونه محدوداً ونسبياً.

فلابدّ للمسيرة الإنسانية من مطلق.

ولابدّ أن يكون مطلقاً حقيقياً يستطيع أن يستوعب المسيرة الإنسانية ويهديها سواء السبيل مهما تقدّمت وامتدّت على خطّها الطويل، ويمحو من طريقها كلّ الآلهة الّذينَ يطوّقون المسيرة ويعيقونها.

وبهذا تعالج المشكلة بقطبيها معاً.

الإيمان بالله هو العلاج:

وهذا العلاج يتمثّل في ما قدّمته السماء إلى الأرض من عقيدة « الايمان بالله »، بوصفه المطلق الذي يمكن أن يربط الإنسان المحدود مسيرته به، دون أن يسبّبَ له أيّ تناقض على الطريق الطويل.

فإلايمان بالله يعالج الجانب السلبي من المشكلة، ويرفض الضياع والإلحاد واللاانتماء؛ إذ يضيع الإنسان في موضع المسؤولية، وينيط بحركته وتدبيره الكون، ويجعله خليفة الله في الأرض. والخلافة تستبطن المسؤولية، والمسؤولية تضع الإنسان بين قطبين: بين مستخلِف يكون الإنسان مسؤولا أمامه، وجزاء يتلقّاه تبعاً لتصرفه، بين الله والمعاد، بين الأزل والأبد، وهو يتحرّك في هذا المسار تحرّكاً مسؤولا هادفاً.

والإيمان بالله يعالج الجانب الإيجابي من المشكلة (مشكلة الغلوّ في الانتماء التي تفرض التحدّد على الإنسان وتشكّل عائقاً عن اطّراد مسيرته)؛

802

وذلك على الوجه التالي:

أوّلا: أنّ هذا الجانب من المشكلة كان ينشأ من تحويل المحدود والنسبي إلى مطلق خلال عملية تصعيد ذهني، وتجريد للنسبي من ظروفه وحدوده. وأمّا المطلق الذي يقدّمه الإيمان بالله للإنسان فهو لم يكن من نسيج مرحلة من مراحل الذهن الإنساني ليصبح في مرحلة رشد ذهنيّ جديد قيداً على الذهن الذي صنعه. ولم يكن وليد حاجة محدودة لفرد أو لفئة ليتحوّل بانتصابه مطلقاً إلى سلاح بيد الفرد أو الفئة لضمان استمرار مصالحها غير المشروعة.

فالله سبحانه وتعالى مطلق لا حدود له، ويستوعب بصفاته الثبوتية كلّ المُثل العليا للإنسان الخليفة على الأرض: من إدراك، وعلم، وقدرة، وقوة، وعدل، وغنى.

وهذا يعني أنّ الطريق إليه لا حدّ له، فالسير نحوه يفرض التحرّك ـ باستمرار وتدرّج ـ النسبي نحو المطلق بدون توقّف، ﴿ يا أيُّهَا الاِنْسَانُ إنَّكَ كادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ﴾(1). ويعطي لهذا التحرّك مُثله العليا المنتزعة من الإدراك والعلم والقدرة والعدل، وغيرها من صفات ذلك المطلق الذي تكدح المسيرة نحوه. فالسير نحو مطلق كلّه علم، وكلّه قدرة، وكلّه عدل، وكلّه غِنىً يعني: أن تكون المسيرة الإنسانية كفاحاً متواصلا باستمرار ضدّ كلّ جهل وعجز وظلم وفقر.

وما دامت هذه هي أهداف المسيرة المرتبطة بهذا المطلق فهي إذن ليست تكريساً للإله، وإنّما هي جهاد مستمرّ من أجل الإنسان وكرامة الإنسان وتحقيق تلك المُثل العليا له، ﴿ ومَنْ جَاهَدَ فَإنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ


(1) الانشقاق: 6.
803

الْعَالَمِينَ﴾(1)، ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإنَّما يَضِلُّ عَلَيْها﴾(2).

وعلى العكس من ذلك المطلَقات الوهمية والآلهة المزيفة، فإنّها لا يمكن أن تستوعب المسيرة بكلّ تطلّعاتها؛ لأنّ هذه المطلقات المصطنعة وليدة ذهن الإنسان العاجز، أو حاجة الإنسان الفقير، أو ظلم الإنسان الظالم، فهي مرتبطة عضوياً بالجهل والعجز والظلم، ولا يمكن أن تبارك كفاح الإنسان المستمرّ ضدّها.

ثانياً: أنّ الارتباط بالله تعالى بوصفه المطلق الذي يستوعب تطلّعات المسيرة الإنسانية كلّها يعني في الوقت نفسه رفض كلّ تلك المطلقات الوهمية، التي كانت تشكّل ظاهرة الغلوّ في الانتماء، وخوض حرب مستمرّة ونضال دائم ضدّ كلّ ألوان الوثنية والتأليه المصطنع. وبهذا يتحرّر الإنسان من سراب تلك المطلقات الكاذبة، التي تقف حاجزاً دون سيره نحو الله، وتزوّر هدفه وتطوّق مسيرته.

﴿وَالّذِينَ كَفَرُوا أعْمَالُـهُمْ كَسَرَاب بِقِيعَة يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ...﴾(3).

﴿ا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونهِ إلّا أسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان...﴾(4).

﴿أأرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أمِ اللهُ الوَاحِدُ الْقَهّارُ﴾(5).

 


(1) العنكبوت: 6.
(2) الزمر: 41.
(3) النور: 39.
(4) يوسف: 40.
(5) يوسف: 39.
804

﴿ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ وَالّذِينَ تَدْعُون مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلكُونَ مِنْقِطْمِير﴾(1).

ونحن إذا لاحظنا الشعار الرئيسي الذي طرحته السماء بهذا الصدد: « لا إلَه إلّا الله » نجد أنّها قرنت فيه بين شدّ المسيرة الإنسانية إلى المطلق الحقّ ورفض كلّ مطلق مصطنع.

وجاء تأريخ المسيرة في واقع الحياة على مرّ الزمن ليؤكّد الارتباط العضويّ بين هذا الرفض وذلك الشدّ الوثيق الواعي إلى الله تعالى، فبقدر ما يبتعد الإنسان عن الإله الحقّ ينغمس في متاهات الآلهة والأرباب المتفرّقين. فالرفض والإثبات المندمجان في « لا إلَه إلّا الله » هما وجهان لحقيقة واحدة، وهي حقيقة لا تستغني عنها المسيرة الإنسانية على مدى خطّها الطويل؛ لأنّها الحقيقة الجديرة بأن تُنقِذ المسيرة من الضياع، وتساعد على تفجير كلّ طاقاتها المبدعة، وتحرّرها من كلّ مطلق كاذب معيق.

العبادات هي التعبير العملي:

وكما ولد الإنسان وهو يحمل كلّ إمكانات التجربة على مسرح الحياة وكلّ بذور نجاحها من رشد وفاعلية وتكيّف كذلك ولد مشدوداً بطبيعته إلى المطلق؛ لأنّ علاقته بالمطلق أحد مقوّمات نجاحه وتغلّبه على مشاكله في مسيرته الحضارية كما رأينا.

ولا توجد تجربة أكثر امتداداً وأرحب شمولا وأوسع مغزىً من تجربة الإيمان في حياة الإنسان، الذي كان ظاهرةً ملازمةً للإنسان منذ أبعد العصور وفي


(1) فاطر: 13.
805

كلّ مراحل التأريخ. فإنّ هذا التلازم الاجتماعي المستمرّ يبرهن ـ تجريبياً ـ علىأن النزوع إلى المطلق والتطلّع اليه وراء الحدود التي يعيشها الإنسان اتّجاه أصيل في الإنسان، مهما اختلفت أشكال هذا النزوع وتنوّعت طرائقه ودرجات وعيه.

ولكنّ الإيمان كغريزة لا يكفي ضماناً لتحقيق الارتباط بالمطلق بصيغته الصالحة؛ لأنّ ذلك يرتبط ـ في الحقيقة ـ بطريقة إشباع هذه الغريزة واُسلوب الاستفادة منها، كما هي الحال في كلّ غريزة اُخرى، فإنّ التصرّف السليم في إشباعها على نحو مواز لسائر الغرائز والميول الاُخرى ومنسجم معها هو الذي يكفل المصلحة النهائية للإنسان. كما أنّ السلوك وفقاً لغريزة أو ضدّها هو الذي ينمّي تلك الغريزة ويعمّقها أو يضمرها ويخنقها. فبذور الرحمة والشفقة تموت في نفس الإنسان من خلال سلوك سلبي، وتنمو في نفسه من خلال التعاطف العملي المستمرّ مع البائسين والمظلومين والفقراء.

ومن هنا كان لابدّ للإيمان بالله والشعور العميق بالتطلّع نحو الغيب والانشداد إلى المطلق لابدّ لذلك من توجيه يحدّد طريقة إشباع هذا الشعور، ومن سلوك يعمّقه ويرسّخه على نحو يتناسب مع سائر المشاعر الأصيلة في الإنسان.

وبدون توجيه قد ينتكس هذا الشعور ويُمنى بألوان الانحراف، كما وقع بالنسبة إلى الشعور الديني غير الموجّه في أكثر مراحل التأريخ.

وبدون سلوك معمّق قد يضمر هذا الشعور، ولا يعود الارتباط بالمطلق حقيقةً فاعلةً في حياة الإنسان، وقادرةً على تفجير طاقاته الصالحة.

والدين الذي طرح شعار « لا إلَه إلّا الله » ودمج فيه بين الرفض والإثبات معاً هو الموجّه.

والعبادات هي التي تقوم بدور التعميق لذلك الشعور؛ لأنّها تعبير عملّي وتطبيقي لغريزة الإيمان، وبها تنمو هذه الغريزة وتترسّخ في حياة الإنسان.

ونلاحظ أنّ العبادات الرشيدة بوصفها تعبيراً عملياً عن الارتباط بالمطلق

806

يندمج فيها عملياً الإثبات والرفض معاً، فهي تأكيد مستمرّ من الإنسان علىالارتباط بالله تعالى، وعلى رفض أيّ مطلق آخر من المطلقات المصطنعة. فالمصلّي حين يبدأ صلاته بـ « الله أكبر » يؤكّد هذا الرفض، وحين يقيم في كلّ صلاة نبيّه بأنّه عبده ورسوله يؤكّد هذا الرفض، وحين يُمسِك عن الطيّبات ويصوم حتّى عن ضرورات الحياة من أجل الله متحدّياً الشهوات وسلطانها يؤكّد هذا الرفض.

وقد نجحت هذه العبادات في المجال التطبيقي في تربية أجيال من المؤمنين على يد النبي (صلى الله عليه وآله) والقادة الأبرار من بعده، الّذين جسّدت صلاتهم في نفوسهم رفضَ كلّ قوى الشرّ وهوانها، وتضاءلت أمام مسيرتهم مطلقات كِسرى وقَيصر، وكلّ مطلقات الوهم الإنساني المحدود.

على هذا الضوء نعرف أنّ العبادة ضرورة ثابتة في حياة الإنسان ومسيرته الحضارية؛ إذ لا مسيرةَ بدون مطلق تنشدّ إليه وتستمدّ منه مُثلها، ولا مطلقَ يستطيع أن يستوعب المسيرة على امتدادها الطويل سوى المطلق الحقّ سبحانه، وما سواه من مطلقات مصطنعة يشكّل حتماً بصورة واُخرى عائقاً عن نموّ المسيرة. فالارتباط بالمطلق الحقّ إذن حاجة ثابتة، ورفض غيره من المطلقات المصطنعة حاجة ثابتة أيضاً، ولا ارتباط بالمطلق الحقّ بدون تعبير عمليّ عن هذا الارتباط يؤكّده ويرسّخه باستمرار، وهذا التعبير العملي هو العبادة، فالعبادة إذن حاجة ثابتة.

2 ـ الموضوعية في القصد وتجاوز الذات:

في كلّ مرحلة من مراحل الحضارة الإنسانية، وفي كلّ فترة من حياة الإنسان يواجه الناس مصالح كثيرةً يحتاج تحقيقها إلى عمل وسعيٍّ بدرجة

807

واُخرى، ومهما اختلفت نوعية هذه المصالح وطريقة تحقيقها من عصر إلى عصر ومن فترة إلى اُخرى فهي دائماً بالإمكان تقسيمها إلى نوعين من المصالح:

أحدهما: مصالح تعود مكاسبها وإيجابيّاتها المادية إلى نفس الفرد الذي يتوقّف تحقيق تلك المصلحة على عمله وسعيه.

والآخر: مصالح تعود مكاسبها إلى غير العامل المباشر، أو إلى الجماعة الذين ينتسب اليهم هذا العامل. ويدخل في نطاق النوع الثاني كلّ ألوان العمل التي تنشد هدفاً أكبرَ من وجود العامل نفسه، فإنّ كلّ هدف كبير لا يمكن عادةً أن يتحقّق إلّا عن طريق تظافر جهود وأعمال على مدىً طويل.

والنوع الأوّل من المصالح يضمن الدافع الذاتي لدى الفرد ـ في الغالب ـ توفيره والعمل في سبيله، فما دام العامل هو الذي يقطف ثمار المصلحة وينعم بها مباشرةً فمن الطبيعي أن يتواجد لديه القصد اليها والدافع للعمل من أجلها.

وأمّا النوع الثاني من المصالح فلا يكفي الدافع الشخصي لضمان تلك المصالح؛ لأنّ المصالح هنا لا تخصّ الفرد العامل، وكثيراً ما تكون نسبة ما يصيبه من جهد وعناء أكبر كثيراً من نسبة ما يصيبه من تلك المصلحة الكبيرة.

ومن هنا كان الإنسان بحاجة إلى تربية على الموضوعية في القصد وتجاوز للذات في الدوافع، أي على أن يعمل من أجل غيره من أجل الجماعة.

وبتعبير آخر: من أجل هدف أكبر من وجوده ومصالحه المادية الخاصة. وهذه تربية ضرورية لإنسان عصر الذرّة والكهرباء، كما هي ضرورية للإنسان الذي كان يحارب بالسيف ويسافر على البعير على السواء؛ لأنّهما معاً يواجهان هموم البناء والأهداف الكبيرة، والمواقف التي تتطلّب تناسي الذات والعمل من أجل الآخرين، وبذر البذور التي قد لا يشهد الباذر ثمارها. فلابدّ إذن من تربية كلّ فرد على أن يؤدّيَ قسطاً من جهده وعمله ـ لا من أجل ذاته ومصالحها المادية

808

الخاصّة ـ ليكون قادراً على العطاء، وعلى الإيثار وعلى القصد الموضوعيالنزيه.

والعبادات تقوم بدور كبير في هذه التربية الضرورية؛ لأنّها ـ كما مرّ بنا ـ أعمال يقوم بها الإنسان من أجل الله سبحانه وتعالى، ولا تصحّ إذا أدّاها العابد من أجل مصلحة من مصالحه الخاصّة، ولا تسوغ إذا استهدف من ورائها مجداً شخصياً وثناءً اجتماعياً وتكريساً لذاته في محيطه وبيئته، بل تصبح عملا محرّماً يعاقب عليه هذا العابد، كلّ ذلك من أجل أن يجرّب الإنسان من خلال العبادة القصد الموضوعي، بكلّ ما في القصد الموضوعي من نزاهة وإخلاص وإحساس بالمسؤولية، فيأتي العابد بعبادته من أجل الله سبحانه وفي سبيله بإخلاص وصدق.

وسبيل الله هو التعبير التجريدي عن السبيل لخدمة الإنسان؛ لأنّ كلّ عمل من أجل الله فإنّما هو من أجل عباد الله؛ لأنّ الله هو الغني عن عباده، ولمّا كان الإله الحقّ المطلق فوق أيّ حدٍّ وتخصيص لا قرابة له لفئة ولا تحيّز له إلى جهة كان سبيله دائماً يعادل من الوجهة العملية سبيل الإنسانية جمعاء. فالعمل في سبيل الله ومن أجل الله هو العمل من أجل الناس ولخير الناس جميعاً، وتدريب نفسي وروحي مستمّر على ذلك.

وكلّما جاء سبيل الله في الشريعة أمكن أن يعني ذلك تماماً سبيل الناس أجمعين. وقد جعل الإسلام سبيل الله أحد مصارف الزكاة، وأراد به الإنفاق لخير الإنسانية ومصلحتها. وحثّ على القتال في سبيل المستضعفين من بني الإنسان، وسمّـاه قتالا في سبيل الله، ﴿ وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُوْنَ في سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ... ﴾(1).

 


(1) النساء: 75.
809

وإذا عرفنا ـ إلى جانب ذلك ـ أنّ العبادة تتطلّب جهوداً مختلفةً منالإنسان، فأحياناً تفرض عليه جهداً جسدياً فحسب كما في الصلاة، وأحياناً جهداً نفسياً كما في الصيام، وثالثةً جهداً مالياً كما في الزكاة، ورابعةً جهداً غالياً على مستوى التضحية بالنفس أو المخاطرة بها كما في الجهاد.

إذا عرفنا ذلك استطعنا أن نستنتج عمق وسعة التدريب الروحي والنفسي الذي يمارسه الإنسان من خلال العبادات المتنوّعة: على القصد الموضوعي، وعلى البذل والعطاء، وعلى العمل من أجل هدف أكبر في كلّ الحقول المختلفة للجهد البشري.

وعلى هذا الأساس نجد الفرق الشاسع بين إنسان نشأ على بذل الجهد من أجل الله وتربّى على أن يعمل بدون انتظار التعويض على ساحة العمل، وبين إنسان نشأ على أن يقيس العمل دائماً بمدى مايحقّقه من مصلحة، ويقوّمه على أساس ما يعود به عليه من منفعة، ولا يفهم من هذا القياس والتقويم إلّا لغة الأرقام وأسعار السوق، فإنّ شخصاً من هذا القبيل لن يكون في الأغلب إلّا تاجراً في ممارساته الاجتماعية مهما كان ميدانها ونوعها.

واهتماماً من الإسلام بالتربية على القصد الموضوعي ربط دائماً بين قيمة العمل ودوافعه، وفصلها عن نتائجه. فليست قيمة العمل في الإسلام بما يحقّقه من نتائج ومكاسب وخير للعامل أو للناس أجمعين، بل بما ينشأ العمل عنه من دوافع ومدى نظافتها وموضوعيّتها وتجاوزها للذات.

فمن يتوصّل إلى اكتشاف دواءِ مرض خطير وينقذ بذلك الملايين من المرضى لا تقدَّر قيمة هذا العمل عند الله سبحانه وتعالى بحجم نتائجه وعدد من أنقذهم من الموت، بل بالأحاسيس والمشاعر والرغبات التي شكّلت لدى ذلك المكتشف الدافع إلى بذل الجهد من أجل ذلك الاكتشاف، فإن كان لم يعمل

810

ولم يبذل جهده إلّا من أجل أن يحصل على امتياز يُتيح له أن يبيعه ويربح الملايين فعمله هذا يساوي في التقويم الربّاني أيّ عمل تجاريٍّ بحت؛ لأنّ المنطق الذاتي للدوافع الشخصية كما قد يدفعه إلى اكتشاف دواء مرض خطير يدفعه أيضاً بنفس الدرجة إلى اكتشاف وسائل الدمار إذا وجد سوقاً تشتري منه هذه الوسائل.

وإنّما يعتبر العمل فاضلا ونبيلا إذا تجاوزت دوافعه الذات وكان في سبيل الله، وفي سبيل عباد الله، وبقدر ما يتجاوز الذات ويدخل سبيل الله وعباده في تكوينه يسمو العمل وترتفع قيمته.

3 ـ الشعور الداخلي بالمسؤولية:

إذا لاحظنا الإنسانية في أيّ فترة من تأريخها نجد أنّها تتّبع نظاماً معيّناً في حياتها، وطريقةً محدّدة في توزيع الحقوق والواجبات بين الناس، وأنّها بقدر ما يتوفّر لديها من ضمانات لالتزام الأفراد بهذا النظام وتطبيقه تكون أقرب إلى الاستقرار وتحقيق الأهداف العامّة المتوخّاة من ذلك النظام.

وهذه حقيقة تصدق على المستقبل والماضي على السواء؛ لأنّها من الحقائق الثابتة في المسيرة الحضارية للإنسان على مداها الطويل.

والضمانات منها ما هو موضوعي، كالعقوبات التي تضعها الجماعة تأديباً للفرد الذي يتجاوز حدوده. ومنها ما هو ذاتي، وهو الشعور الداخلي للإنسان بالمسؤولية تجاه التزاماته الاجتماعية وما تفرضه الجماعة عليه من واجبات، وتحدّد له من حقوق.

وعلى الرغم من أنّ الضمانات الموضوعية لها دور كبير في السيطرة على سلوك الأفراد وضبطه فإنّها لا تكفي في أحايين كثيرة بمفردها ما لم يكن إلى جانبها ضمان ذاتي ينبثق عن الشعور الداخلي للإنسان بالمسؤولية؛ لأنّ الرقابة

811

الموضوعية للفرد مهما كانت دقيقةً وشاملةً لا يمكن عادةً أن تضمن الإحاطة بكلّ شيء واستيعاب كلّ واقعة.

والشعورالداخلي بالمسؤولية يحتاج ـ لكي يكون واقعاً عملياً حيّاً في حياة الإنسان ـ إلى إيمانه برقابة لا يعزب عن علمها مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء، وإلى مِران عمليّ ينمو من خلاله هذا الشعور ويترسّخ بموجبه الإحساس بتلك الرقابة الشاملة.

والرقابة التي لا يعزب عن علمها مثقال ذرّة تتواجد في حياة الإنسان نتيجةً لارتباطه بالمطلق الحقّ العليم القدير الذي أحاط علمه بكلّ شيء، فإنّ هذا الارتباط بنفسه يوفّر للإنسان هذه الرقابة، ويهّيىء بذلك إمكانية نشوء الشعور الداخليّ بالمسؤولية.

والمِران العملي الذي ينمو من خلاله هذا الشعور الداخليّ بالمسؤولية يتحقّق عن طريق الممارسات العبادية؛ لأنّ العبادة واجب غيبي، ونقصد بكونها واجباً غيبياً: أنّ ضبطها بالمراقبة من خارج أمر مستحيل، فلا يمكن أن تنجح أيّ إجراءات خارجية لغرض الإتيان بها؛ لأنّها متقوّمة بالقصد النفسي والربط الروحي للعمل بالله، وهذا أمر لا يدخل في حساب الرقابة الموضوعية من خارج، ولا يمكن لأيّ إجراء قانونيّ أن يكفل تحقيقه. وإنّما الرقابة الوحيدة الممكنة في هذا المجال هي الرقابة الناتجة عن الارتباط بالمطلق بالغيب، الذي لا يعزب عن علمه شيء. والضمان الوحيد الممكن عن هذا الصعيد هو الشعور الداخلي بالمسؤولية.

وهذا يعني أنّ الإنسان الذي يمارس العبادة يباشر واجباً يختلف عن أيّ واجب أو مشروع اجتماعيّ آخر، فحين يقترض ويوفي الدين، أو حين يعقد صفقةً وينفّذ شروطها، وحين يستعير مالا من غيره ثمّ يعيده إليه يباشر بذلك واجباً

812

يدخل في نطاق الرقابة الاجتماعية رصده، وبهذا قد يدخل بشكل آخر التحسّب لردّ الفعل الاجتماعي على التخلّف عن أدائه في اتّخاذ الإنسان قراراً بالقيام به.

وأمّا الواجب العباديّ الغيبي الذي لا يعلم مدى مدلوله النفسي إلّا الله سبحانه وتعالى فهو نتيجة للشعور الداخلي بالمسؤولية، ومن خلال الممارسات العبادية ينمو هذا الشعور الداخلي ويعتاد الإنسان على التصرّف بموجبه، وبهذا الشعور يوجد المواطن الصالح، إذ لا يكفي في المواطنة الصالحة أن لا يتخلّف الإنسان عن أداء حقوق الآخرين المشروعة؛ خوفاً من ردّ الفعل الاجتماعي على هذا التخلّف، وإنّما تتحقّق المواطنة الصالحة بأن لا يتخلّف الإنسان عن ذلك بدافع من الشعور الداخلي بالمسؤولية.

وذلك لأنّ الخوف من ردّ الفعل الاجتماعي على التخلّف لو كان وحده هو الأساس لالتزامات المواطنة الصالحة في المجتمع الصالح لأمكن التهرّب من تلك الواجبات في حالات كثيرة حينما يكون بإمكان الفرد أن يخفي تخلّفه، أو يفسّره تفسيراً كاذباً، أو يحمي نفسه من ردّ الفعل الاجتماعي بشكل وآخر، فلا يوجد في هذه الحالات ضمان سوى الشعور الداخلي بالمسؤولية.

ونلاحظ أنّ المرجّح غالباً في العبادات المستحبّة أداؤها سرّاً وبطريقة غير علنية، وهناك عبادات سرّية بطبيعتها، كالصيام فإنّه كَفٌّ نفسيٌّ لا يمكن ضبطه من خارج، وتوجد عبادات اختير لها جوّ من السرّية والابتعاد عن المسرح العامّ، كنافلة الليل (صلاة الليل) التي يُطلب أداؤها بعد نصف الليل، وكلّ ذلك من أجل تعميق الجانب الغيبي من العبادة وربطها أكثر فأكثر بالشعور الداخلي بالمسؤولية. وهكذا يترسّخ هذا الشعور من خلال الممارسات العبادية، ويألف الإنسان العمل على أساسه، ويشكّل ضماناً قوياً لالتزام الفرد الصالح بما عليه من حقوق وواجبات.

813

نظرة عامّة في العبادات

2

ملامح عامّة للعبادات

 

 

○   1 ـ الغيبيّة في تفاصيل العبادة.

○   2 ـ الشمول في العبادة.

○   3 ـ الجانب الحسّي في العبادة.

○   4 ـ الجانب الاجتماعي في العبادة.

 

 

815

إذا لاحظنا العبادات التي مرّت بنا في هذا الكتاب بنظرة شاملة، وقارنّا بينها يمكن أن نستخلص بعض الملامح العامّة في تلك العبادات، ونذكر في ما يلي جملةً من تلك الملامح العامّة.

1 ـ الغيبية في تفاصيل العبادة:

عرفنا في ما سبق الدور المهمّ الذي تؤدّيه العبادة ككلٍّ في حياة الإنسان، وأنّها تعبّر عن حاجة ثابتة في مسيرته الحضارية.

ومن ناحية اُخرى إذا أخذنا التفاصيل التي تتميّز بها كلّ عبادة وآدابها بالدرس والتحليل فكثيراً ما نستطيع على ضوء تقدم العلم الحديث أن نتعرّف على الحِكَم والأسرار التي يعبّر عنها التشريع الإسلامي بهذا الشأن واستطاع العلم الحديث أن يكشف عنها.

وقد جاء هذا التطابق الرائع بين معطيات العلم الحديث وكثير من تفصيلات الشريعة وما قرّرته من أحكام وآداب دعماً باهراً لموقف الشريعة، وتأكيداً راسخاً على أنّها ربّانية.

ولكن على الرغم من ذلك نواجه في كثير من الحالات نقاطاً غيبيةً في

816

العبادة، أي جملة من التفاصيل لا يمكن للإنسان الممارس للعبادة أن يعي سرّها ويفسّرها تفسيراً مادّياً محسوساً، فلماذا صارت صلاة المغرب ثلاث ركعات وصلاة الظهر أكثر من ذلك ؟، ولماذا اشتملت كلّ ركعة على ركوع واحد لا ركوعين، وعلى سجدتين لا سجدة واحدة ؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي يمكن أن تُطرح من هذا القبيل.

ونسمّي هذا الجانب الذي لا يمكن تفسيره من العبادة بالجانب الغيبي منها. ونحن نجد هذا الجانب بشكل وآخر في أكثر العبادات التي جاءت بها الشريعة، ومن هنا يمكن اعتبار الغيبية بالمعنى الذي ذكرناه ظاهرةً عامّةً في العبادات ومن ملامحها المشتركة.

وهذه الغيبية مرتبطة بالعبادات ودورها المفروض ارتباطاً عضوياً؛ ذلك لأنّ دور العبادات ـ كما عرفنا سابقاً ـ هو تأكيد الإيمان والارتباط بالمطلق وترسيخه عملياً.

وكلّما كان عنصر الانقياد والاستسلام في العبادة أكبر كان أثرها في تعميق الربط بين العابد وربّه أقوى، فاذا كان العمل الذي يمارسه العابد مفهوماً بكلّ أبعاده، واضح الحكمة والمصلحة في كلّ تفاصيله تضاءل فيه عنصر الاستسلام والانقياد، وطغت عليه دوافع المصلحة والمنفعة، ولم يعدْ عبادةً لله بقدر ما هو عمل نافع يمارسه العابد لكي ينتفع به ويستفيد من آثاره.

فكما تُنمّي وترسّخ روح الطاعة والارتباط في نفس الجنديّ خلال التدريب العسكري؛ بتوجيه أوامر اليه وتكليفه بأن يمتثلها تعبّداً وبدون مناقشة كذلك يُنَمّي ويرسّخ شعور الإنسان العابد بالارتباط بربّه بتكليفه بأن يمارس هذه العبادات بجوانبها الغيبية انقياداً واستسلاماً.

فالانقياد والاستسلام يتطلّب افتراض جانب غيبي، ومحاولة التساؤل عن

817

هذا الجانب الغيبي من العبادة والمطالبة بتفسيره وتحديد المصلحة فيه يعني تفريغ العبادة من حقيقتها، كتعبير عمليّ عن الاستسلام والانقياد، وقياسها بمقاييس المصلحة والمنفعة كأيّ عمل آخر.

ونلاحظ أنّ هذه الغيبية لا أثر لها تقريباً في العبادات التي تمثّل مصلحةً اجتماعيةً كبيرة، تتعارض مع مصلحة الإنسان ـ العابد ـ الشخصية، كما في الجهاد الذي يمثّل مصلحةً اجتماعيةً كبيرةً تتعارض مع حرص الإنسان المجاهد على حياته ودمه، وكما في الزكاة التي تمثّل مصلحةً اجتماعيةً كبيرةً تتعارض مع حرص الإنسان المزكّي على ماله وثروته. فإنّ عملية الجهاد مفهومة للمجاهد تماماً، وعملية الزكاة مفهومة عموماً للمزكّي، ولا يفقد الجهاد والزكاة بذلك شيئاً من عنصر الاستسلام والانقياد؛ لأنّ صعوبة التضحية بالنفس وبالمال هي التي تجعل من إقدام الإنسان على عبادة يضحّي فيها بنفسه أو ماله، استسلاماً وانقياداً بدرجة كبيرة جداً.

إضافةً إلى أنّ الجهاد والزكاة وما يشبههما من العبادات لا يراد بها الجانب التربويّ للفرد فحسب، بل تحقيق المصالح الاجتماعية التي تتكفّل بها تلك العبادات، وعلى هذا الأساس نلاحظ أن الغيبية إنّما تبرز أكثر فأكثر في العبادات التي يغلب عليها الجانب التربويّ للفرد، كالصلاة والصيام.

وهكذا نستخلص: أنّ الغيبية في العبادة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بدورها التربويّ في شدّ الفرد إلى ربّه وترسيخ صلته بمطلقه.

2 ـ الشمول في العبادة:

حين نلاحظ العبادات المختلفة في الإسلام نجد فيها عنصر الشمول لجوانب الحياة المتنوّعة، فلم تختص العبادات بأشكال معيّنة من الشعائر،

818

ولم تقتصر على الأعمال التي تجسّد مظاهر التعظيم لله سبحانه وتعالى فقط،كالركوع والسجود والذكر والدعاء، بل امتدّت إلى كلّ قطاعات النشاط الإنساني.

فالجهاد عبادة وهو نشاط اجتماعي، والزكاة عبادة وهي نشاط اجتماعي مالي، والخمس عبادة وهو نشاط اجتماعي مالي أيضاً، والصيام عبادة وهو نظام غذائي، والوضوء والغسل عبادتان، وهما لونان من تنظيف الجسد.

وهذا الشمول في العبادة يعبّر عن اتّجاه عامٍّ في التربية الإسلامية يستهدف أن يربط الإنسان في كلّ أعماله ونشاطاته بالله تعالى، ويحوّل كلّ ما يقوم به من جهد صالح إلى عبادة مهما كان حقله ونوعه، ومن أجل إيجاد الأساس الثابت لهذا الاتّجاه وُزّعت العبادات الثابتة على الحقول المختلفة للنشاط الإنساني، تمهيداً إلى تمرين الإنسان على أن يسبغ روح العبادة على كلّ نشاطاته الصالحة، وروح المسجد على مكان عمله في المزرع أو المصنع أو المَتْجَر أو المكتب ما دام يعمل عملا صالحاً من أجل الله سبحانه وتعالى.

وفي ذلك تختلف الشريعة الإسلامية عن اتّجاهين دينيّين آخرين، وهما:

أولا: الاتّجاه إلى الفصل بين العبادة والحياة.

وثانياً: الاتّجاه إلى حصر الحياة في إطار ضيّق من العبادة، كما يفعل المترهّبون والمتصوّفون.

أمّا الاتّجاه الأول الذي يفصل بين العبادة والحياة فيدَع العبادة للأماكن الخاصّة المقرّر لها، ويطالب الإنسان بأن يتواجد في تلك الأماكن ليؤدّي لله حقّه ويتعبّد بين يديه، حتّى إذا خرج منها إلى سائر حقول الحياة ودّعَ العبادة وانصرف إلى شؤون دنياه إلى حين الرجوع ثانيةً إلى تلك الأماكن الشريفة.

وهذه الثنائية بين العبادة ونشاطات الحياة المختلفة تشلّ العبادة وتعطّل

819

دورها التربويّ البنّاء في تطوير دوافع الإنسان وجعلها موضوعية، وتمكينه من أن يتجاوز ذاته ومصالحه الضيّقة في مختلف مجالات العمل. والله سبحانه وتعالى لم يركّز على أن يُعبَد من أجل تكريس ذاته ـ وهو الغني عن عباده ـ لكي يكتفي منهم بعبادة من هذا القبيل، ولم ينصب نفسه هدفاً وغايةً للمسيرة الإنسانية لكي يُطأطئ الإنسان رأسه بين يديه في مجال عبادته وكفى، وإنّما أراد بهذه العبادة أن يبني الإنسان الصالح القادر على أن يتجاوز ذاته ويساهم في المسيرة بدور أكبر، ولا يتمّ التحقيق الأمثل لذلك إلّا إذا امتدّت روح العبادة تدريجاً إلى نشاطات الحياة الاُخرى؛ لأنّ امتدادها يعني ـ كما عرفنا ـ امتداد الموضوعية في القصد والشعور الداخلي بالمسؤولية في التصرّف، والقدرة على تجاوز الذات وانسجام الإنسان مع إطاره الكونيّ الشامل مع الأزل والأبد اللذَينِ يحيطان به.

ومن هنا جاءت الشريعة ووزّعت العبادات على مختلف حقول الحياة، وحثّت على الممارسة العبادية في كلّ تصرّف صالح، وأفهمت الإنسان بأنّ الفارق بين المسجد ـ الذي هو بيت الله ـ وبين بيت الإنسان ليس بنوعية البناء أو الشعار، وإنّما استحقّ المسجد أن يكون بيت الله؛ لأنّه الساحة التي يمارس عليها الإنسان عملا يتجاوز فيه ذاته، ويقصد به هدفاً أكبر من منطق المنافع المادية المحدودة، وأنّ هذه الساحة ينبغي أن تمتدّ وتشمل كلّ مسرح الحياة. وكلّ ساحة يعمل عليها الإنسان عملا يتجاوز فيه ذاته ويقصد به ربّه والناس أجمعين فهي تحمل روح المسجد.

وأمّا الاتّجاه الثاني الذي يحصر الحياة في إطار ضيّق من العبادة فقد حاول أن يحصر الإنسان في المسجد، بدلا عن أن يمدّد معنى المسجد ليشمل كلّ الساحة التي تشهد عملا صالحاً لإنسان.

820

ويؤمن هذا الاتّجاه بأنّ الإنسان يعيش تناقضاً داخلياً بين روحه وجسده، ولا يتكامل في أحد هذين الجانبين إلّا على حساب الجانب الآخر. فلكي ينمو ويزكو روحياً يجب أن يُحرّم جسده من الطيبات، ويقلّص وجوده على مسرح الحياة، ويمارس صراعاً مستمرّاً ضدّ رغباته وتطلّعاته إلى مختلف ميادين الحياة؛ حتّى يتمّ له الانتصار عليها جميعاً عن طريق الكفّ المستمرّ والحرمان الطويل، والممارسات العبادية المحددة.

والشريعة الإسلامية ترفض هذا الاتّجاه أيضاً؛ لأنّها تريد العبادات من أجل الحياة، فلا يمكن أن تصادر الحياة من أجل العبادات. وهي في الوقت نفسه تحرص على أن يسكب الإنسان الصالح روح العبادة في كلّ تصرّفاته ونشاطاته، ولكن لا بمعنى أنّه يكفّ عن النشاطات المتعدّدة في الحياة ويحصر نفسه بين جدران المعبد، بل بمعنى أن يحوّل تلك النشاطات إلى عبادات. فالمسجد منطلق للإنسان الصالح في سلوكه اليومي، وليس محدّداً لهذا السلوك، وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله)لأبي ذر: « إن استطعت أن لا تأكل ولا تشرب إلّا لله فافعل »(1).

وهكذا تكون العبادة من أجل الحياة، ويقدّر نجاحها التربويّ والديني بمدى امتدادها مضموناً وروحاً إلى شتّى مجالات الحياة.

 

3 ـ الجانب الحسّي في العبادة:

 

إدراك الإنسان ليس مجرّد إحساس فحسب، وليس مجرّد تفكير عقليّ


(1) ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في وصاياه لأبي ذرّ: « يا أبا ذرّ ليكن لك في كلّ شيء نيّة حتى في النوم والأكل». بحار الأنوار 74: 84، الباب 4 من كتاب الروضة، الحديث 3.
821

وتجريديٍّ فحسب، بل هو مزاج من عقل وحسٍّ من تجريد وتشخيص. وحينما يراد من العبادة أن تؤدّي دورها على نحو يتفاعل معها الإنسان تفاعلا كاملا وتنسجم مع شخصيته المؤلّفة من عقل وحسٍّ ينبغي أن تشتمل العبادة نفسها على جانب حسّيّ وجانب عقليّ تجريدي؛ لكي تتطابق العبادة مع شخصية العابد، ويعيش العابد في ممارسته العبادية ارتباطه بالمطلق بكلّ وجوده.

ومن هنا كانت النية والمحتوى النفسي للعبادة يمثّل دائماً جانبها العقلي التجريدي، إذ تشدّ الإنسان العابد إلى المطلق الحقّ سبحانه وتعالى، وكانت هناك معالم اُخرى في العبادة تمثّل جانبها الحسّي.

فالقبلة التي يجب على كلّ مصلٍّ أن يستقبلها في صلاته، والبيت الحرام الذي يؤمُّه الحاجّ والمعتمر ويطوف به، والصفا والمروة اللذَانِ يُسعَى بينهما، وجمرة العقبة التي يرميها بالحُصَيّات، والمسجد الذي خُصّصَ مكاناً للاعتكاف يمارس فيه المعتكف عبادته كلّ هذه الأشياء معالم حسّية ربطت بها العبادة، فلا صلاة إلّا إلى القبلة(1)، ولا طواف إلّا بالبيت الحرام، وهكذا، وذلك من أجل إشباع الجانب الحسّي في الإنسان العابد وإعطائه حقّه ونصيبه من العبادة.

وهذا هو الاتّجاه الوسط في تنظيم العبادة وصياغتها وفقاً لفطرة الإنسان وتركيبه العقلي الحسّي الخاصّ.

ويقابله اتّجاهان آخران:

أحدهما يفرّط في عقلَنَة الإنسان ـ إن صحّ التعبير ـ فيتعامل معه كفكر مجرّد، ويشجب كلّ التجسيدات الحسّية في مجال العبادة، فما دام المطلق الحقّ


(1) وسائل الشيعة 3: 227، الباب 9 من أبواب القبلة، الحديث 2.
822

سبحانه لا يحدّه مكان ولا زمان، ولا يمثّله نَصب ولا تمثال فيجب أن تكون عبادته قائمةً على هذا الأساس، وبالطريقة التي يمكن للفكر النسبّي للإنسان أن يناجي بها الحقيقة المطلقة.

وهذا الاتّجاه لا تقرّه الشريعة الإسلامية، فإنّها على الرغم من اهتمامها بالجوانب الفكرية ـ حتّى جاء في الحديث أنّ « تفكير ساعة أفضل من عبادة سنة »(1) ـ تؤمن بأنّ التفكير الخاشع المتعبّد مهما كان عميقاً لا يملأ نفس الإنسان، ولا يُعبّئ كلّ فراغه، ولا يشدّه إلى الحقيقة المطلقة بكلّ وجوده؛ لأنّ الإنسان ليس فكراً بحتاً.

ومن هذا المنطلق الواقعيّ الموضوعي صُمّمت العبادات في الإسلام على أساس عقليّ وحسّيّ معاً، فالمصلّي في صلاته يمارس بنيّته تعبّداً فكرياً، وينزّه ربّه عن أيّ حدٍّ ومقايسة ومشابهة؛ وذلك حين يفتتح صلاته قائلا: « اللهُ أكبر »، ولكنّه في نفس الوقت يتّخذ من الكعبة الشريفة شعاراً ربّانياً يتوجّه إليه بأحاسِيسه وحركاته؛ لكي يعيش العبادة فكراً وحسّاً، منطقاً وعاطفة، وتجريداً ووجداناً.

والاتّجاه الآخر يفرّط في الجانب الحسّي، ويحوّل الشعار إلى مدلول، والإشارة إلى واقع، فيجعل العبادة لهذا الرمز بدلا عن مدلوله، والاتّجاه إلى الإشارة بدلا عن الواقع الذي تشير إليه، وبهذا ينغمس الإنسان العابد بشكل وآخر في الشرك والوثنية.

وهذا الاتّجاه يقضي على روح العبادة نهائياً، ويعطّلها بوصفها أداةً



(1) بحار الأنوار 6: 133، عن مصباح الشريعة، باختلاف في اللفظ.