275

والمفسدة والمحبوبيّة والمبغوضيّة. ولا تلازم بين محبوبيّة الفعل عند المولى وحسنه، ولا بين مبغوضيّته لديه وقبحه.

فقد يكون الفعل محبوباً للمولى؛ لما يشتمل عليه من مصالح كثيرة، لكنّه يقبح صدوره عن العبد؛ لكونه تجرّياً منه على المولى بسبب تشخيصه الخاطئ، وقد يكون مبغوضاً للمولى؛ لما يشتمل عليه من مفاسد كثيرة، ولكن يحسن صدوره عن العبد؛ لكونه انقياداً منه للمولى باعتبار ما وصله من الحكم الخاطئ.

 

مع القائلين بالقبح الفاعلىّ

وأمّا الجهة الثانية: وهي الكلام في كون قبح التجرّي فعليّاً أو فاعليّاً، فقد ذكر المحقّق النائينىّ(رحمه الله) (على ما في تقرير المحقّق الكاظمىّ): أنّ التجرّي قبيح بقبح فاعلىّ لا بقبح فعلي؛ فإنّ الفعل بنفسه ليس قبيحاً، وإنّما القبيح صدوره عن هذا الشخص.

وأمّا ما يستفاد من أجود التقريرات من تفسير القبح الفاعليّ بكشف الفعل عن سوء سريرة العبد، فهو يناسب إنكار قبح التجرّي رأساً كما صدر عن الشيخ الأعظم(قدس سره).

والتحقيق: أنّ افتراض كون الفعل غير قبيح، وإنّما القبيح هو صدوره عن هذا الشخص، إن قصد به أنّ هذا الفعل بعنوانه الأوّليّ ليس قبيحاً، وإنّما أصبح قبيحاً باعتبار صدوره عمّن اعتقد حرمته، فهذا عبارة اُخرى عن أنّ قبح هذا الفعل إنّما هو بعنوانه الثانوىّ، وهو التجرّي، لا بعنوانه الأوّليّ. وهذا ممّا لا غبار عليه، إلّا أنّ هذا ليس تصويراً لقبح فاعلىّ في قبال القبح الفعلىّ.

وإن اُريد بذلك أنّ القبيح ليس هو ذات الفعل، بل النسبة الثابتة بينه وبين الفاعل، ورد عليه ما حقّقنا في محلّه: من أنّ النسبة بين الفعل والفاعل والعلّة والمعلول ليست أمراً ثابتاً في الخارج، وإلّا لزم التسلسل، وإنّما هي أمر تصوّرىّ يرجع إلى تضييق المفهوم وتحصيصه، وأمّا في الخارج فليس هناك وجود ثالث غير وجود العلّة والمعلول أو الفعل والفاعل.

نعم، بالإمكان أن يقال ـ مع الاعتراف بأنّ القبيح دائماً هو الفعل ـ: إنّ مصدر القبح ومصبّه تارة يكون ذات الفعل بوصفه موجوداً من الموجودات تترتّب عليه آثار معيّنة

276

سيّئة، واُخرى يكون هذا الفعل بوصفه صادراً عن الإنسان لا بذاته بغضّ النظر عن حيثيّة الصدور.

والتفكيك بينهما أمر معقول، فمثلاً: كنس الشوارع بما هو هو حسن، وليس قبيحاً؛ إذ تترتّب عليه نظافة الشوارع، ولكن لو صدر عن شخصيّة محترمة لها مقام مخصوص، كان قبيحاً. فالأوّل هو القبح الفعلىّ، والثاني هو القبح الفاعلىّ.

وهذا الكلام يتوقّف تصويره على إرجاع باب الحسن والقبح إلى باب المصلحة والمفسدة.

أمّا بناءً على ما هو صحيح: من كونهما أمرين واقعيّين مدركين بالعقل العملىّ، وغير راجعين إلى باب المصلحة والمفسدة، فمصبّهما ـ دائماً ـ هو الفعل بلحاظ الصدور عن الفاعل المختار، لا ذات الفعل بغضّ النظر عن حيثيّة الصدور؛ فإنّ الفعل بغضّ النظر عن نسبته إلى الفاعل المختار لا يتّصف بالقبح أبداً، فقتل المؤمن الصادر عن الكهرباء ـ مثلاً ـ ليس قبيحاً، وإنّما يتّصف الفعل بالقبح باعتبار نسبته إلى الفاعل المختار.

نعم، قد يكون مطلق صدوره عن الفاعل المختار لا ضير فيه، وإنّما يصبح قبيحاً بعنوان مخصوص كعنوان التجرّي. وهذا هو الذي قلنا: إنّه راجع إلى كون القبح بعنوان ثانوىّ، لا إلى تصوير قبح فاعلىّ في مقابل القبح الفعلىّ. وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه:

أوّلاً: أنّ التقريب الموجود في تقرير المحقّق الكاظمىّ(رحمه الله) لتصوير قبح فاعلىّ في مقابل القبح الفعلىّ غير مقبول.

وثانياً: أنّ قبح الفعل لا يعقل تقسيمه إلى قبح فعلىّ بلحاظ ذات الفعل، وقبح فاعلىّ بلحاظ الصدور، إلّا بناءً على إرجاع باب الحسن والقبح إلى المصلحة والمفسدة، وإلّا فالقبح ـ دائماً ـ يكون بلحاظ الصدور.

بل نقول: إنّه حتّى بناءً على إرجاع ذلك إلى باب المصلحة والمفسدة لا يصحّ فرض كون القبح تارة فعليّاً واُخرى فاعليّاً (1).


(1) كأنّ مقصوده(رحمه الله) من فرض رجوع الحسن والقبح إلى باب المصلحة والمفسدة فرضهما مجعولين من قبل العقلاء بلحاظ المصلحة والمفسدة، وعندئذ يقال: إنّ تقسيم القبح إلى الفعلىّ والفاعلىّ غير صحيح حتّى بناءً على كونه جعليّاً؛ لأنّنا بما نحن عقلاء لا نشكّ في أنّ العقلاء لم يجعلوا قبحاً للفعل بغضّ النظر عن صدوره عن الفاعل المختار، وجعل العقلاء للحسن والقبح كان بحكمة الدفع والزجر، وكان خاصّاً بالصدور عن الفاعل المختار.

277

 

استحقاق المتجرّي للعقاب

 

المقام الثالث: استحقاق المتجرّي للعقاب وعدمه. والصحيح: هو استحقاق المتجرّي للعقاب كما يتّضح بالجمع بين أمرين مضى منّا بيانهما:

أحدهما: ما مضى من أنّ منجّزيّة القطع من الاُمور الواقعيّة المستكشفة بحكم العقل المدرك لحقّ المولويّة.

والثاني: ما بيّناه من أنّ التجرّي والمعصية متساويان في مخالفة حقّ المولى الذي هو عبارة عن حقّ الاحترام، فكلاهما في رتبة واحدة في مستوى الهتك وترك الاحترام(1)


(1) والواقع: أنّ استحقاق المتجرّي للعقاب وعدمه يترتّب على ما هو المختار في قبح الفعل المتجرّى به الذي مضى البحث عنه، فإن كان المبنى هو عدم القبح بمقتضى القواعد الأوّليّة، فمن الواضح أنّه لا مورد لاستحقاق العقاب بمقتضى تلك القواعد. ومن الغريب ما ذهب إليه صاحب الكفاية(رحمه الله): من الجمع بين إنكار قبح التجرّي والإيمان باستحقاق المتجرّي للعقاب، فهو يرى أنّ نفس سوء السريرة عند إبرازه بمبرز عملىّ يوجب استحقاق العقاب وإن كان قبل الإبراز لا يوجب إلّا اللوم، غفلة منه عن أنّ هذا يكشف عن قبح ذاك الإبراز.

وعلى أىّ حال، فلتبسيط الكلام شيئاً ما في مسألة استحقاق المتجرّي للعقاب نشير إلى عدّة مبان في قبح التجرّي:

المبنى الأوّل: أن يقال: إنّ حقّ المولى مرتبط بواقع التكليف، فلو لا التكليف لما كان له حقّ الامتثال، إذن فالمتجرّي لم يخالف حقّاً من حقوق المولى؛ فإنّ حقّ المولى عبارة عن حقّ تحقيق الغرض الذي كلّفنا به، وفي مورد التجرّي لا يوجد غرض كذلك، ولكن على رغم هذا نقول بقبح التجرّي على أساس أنّ القبح العقلىّ يدور مدار اعتقاد الفاعل بموضوع الحقّ ولو خطأً على رغم من أنّ فعليّة الحقّ تختصّ بفرض وصول موضوع الحقّ وصولاً مطابقاً للواقع.

وبناءً على هذا المبنى يثبت القبح، ولكن لا يثبت العقاب؛ لأنّ استحقاق العقاب إنّما يترتّب عقلاً على مخالفة حقّ من يعاقب، أمّا مجرّد القبح العقلىّ من دون مخالفة حقّ، فلا يوجب عدا استحقاق اللوم.

المبنى الثاني: أن نحصر القبح بدائرة مخالفة الحقّ واقعاً، ونوسع دائرة حقّ المولى بأن يقال: إنّ حقّ المولى عبارة عن حقّ الاحترام وعدم الهتك، ونسبة ذلك إلى موارد المعصية والتجرّي على حدّ سواء. وهذا هو مختار اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، ويترتّب على ذلك استحقاق العقاب على الفعل المتجرّى به.

المبنى الثالث: ما اخترناه من أنّه يوجد بالنسبة إلى المولى حقّان: حقّ تحصيل الغرض الذي كلّفنا به، وحقّ الاحترام. والحقّ الأوّل خاصّ بمورد المصادفة للواقع، والحقّ الثاني يعمّ موارد التجرّي، ويترتّب على ذلك استحقاق المتجرّي للعقاب بمستوىً أخفّ من العاصي على رغم تساوي التجرّي والمعصية في القبح بناءً

278

أمّا بناءً على عدم كون حقّ الطاعة أمراً واقعيّاً يدركه العقل، بل هو حكم عقلائىّ ـ كما عليه مشهور الفلاسفة، والمحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله)، وخلافاً لما عليه مشهور الاُصوليّين ـ فيشكل القول باستحقاق المتجرّي للعقاب؛ لأنّ المفروض أنّ استحقاقه للعقاب ليس ذاتيّاً، وإنّما هو بجعل الشارع، وجعل الشارع ليس بملاك التشفّي، وإنّما هو بملاك التحريك باعتبار أنّ غالبيّة الناس لا يعبدون الله بمجرّد جعل الحكم، ومن دون فرض خوف وطمع، فالله تعالى خلق الجنّة والنار، ووضع الثواب والعقاب تتميماً لتحريك العباد نحو الطاعة وترك المعصية.

والمتجرّي إذا كان الحكم قد تنجّز عليه بالقطع لا بغيره من المنجّزات، فلا فائدة بشأنه في جعل العقاب عليه؛ إذ هو لا يحتمل كونه متجرّياً، ويقطع بكونه عاصياً، ولا مجال لجعل عقاب آخر على الجامع بين العصيان والتجرّي؛ إذ يكفي عن هذا الجعل جعل ذاك العقاب على خصوص العاصي. ولا فرق بالنسبة إلى المولى بين هذا الجعل وجعل العقاب على الجامع، وبعد فرض عدم التشفّي في حقّه يختار المولى جعل العقاب على خصوص العاصي؛ لأنّ جعله على الجامع يستلزم أن يشوي لحم هذا المتجرّي في نار جهنّم بلا وجه.

هذا. مضافاً إلى أنّه لا دليل إثباتاً على استحقاق المتجرّي للعقاب بناءً على هذا المبنى.

وعلى أىّ حال، فقد ظهر أنّ الصحيح ـ على مبنانا من ذاتيّة الاستحقاق ـ: هو استحقاق المتجرّي للعقاب، بلا حاجة إلى ما تشبّثوا به من الوجوه لإثبات ذلك مع بطلانها في نفسها، وتلك الوجوه مايلي:

 


على أنّ القبح يتبع اعتقاد الفاعل ولو خطأً.

المبنى الرابع: افتراض أنّ حقّ الامتثال ليس إلّا حقّاً عقلائيّاً لا عقليّاً، وبالتالي استحقاق العقاب ليس أمراً واقعيّاً يكشف عنه العقل، بل أمر يثبت بجعل العقلاء، أو بجعل الشارع.

وعلى هذا، فلا يمكن إثبات الاستحقاق في مورد التجرّي ببرهان أو وجدان، فمن المحتمل اختصاص جعل العقاب بفرض المعصية، والاقتصار في رادعيّة العقاب بالنسبة إلى موارد التجرّي على وصول الحكم إليه ولو خطأً، بل لو كان الحكم إليه بالقطع لا بغيره من المنجّزات، فجعل العقاب على التجرّي لا توجد فيه رادعيّة إضافيّة، وبالتالي ربّما لايبقى داع لجعل العقاب كما هو مشروح في المتن.

279

إنّ المحقّق النائينىّ(رحمه الله) نقل على ما في أجود التقريرات برهاناً عن السيّد الشيرازىّ الكبير(قدس سره) على استحقاق المتجرّي للعقاب مؤتلفاً من مقدّمات أربع، ولكن الاُوليين منها في الحقيقة غير مرتبطتين بما نحن فيه، وكلّ واحدة من الاُخريين لو تمّت لكانت وجهاً مستقلّاً لإثبات المطلوب. وهناك وجه آخر نقل في الرسائل وغيره، فهذه وجوه ثلاثة:

الأوّل: ما جعله في أجود التقريرات مقدّمة ثالثة لذاك البرهان، وهو: أنّ تمام الموضوع لحكم العقل بوجوب الطاعة وحرمة المعصية هو العلم الثابت في فرض التجرّي ـ أيضاً ـ بلا دخل لفرض المصادفة للواقع في ذلك، وإلّا للزم سدّ باب حكم العقل بوجوب الطاعة وحرمة المعصية نهائيّاً؛ إذ مصادفة القطع للواقع غير محرزة، فقد يصادف وربّما لا يصادف.

وأجاب المحقّق النائينىّ(رحمه الله) عن ذلك بأنّه صحيح أنّ العلم تمام الموضوع لحكم العقل بوجوب الطاعة وحرمة المعصية، ولكن الثابت في فرض التجرّي هو الجهل المركّب، وليس العلم.

أقول: ليس الكلام في تفسير كلمة (العلم)، وما هو المفهوم منه عرفاً كي يقال: إنّ الجهل المركّب علم، أو لا؟ وإنّما الكلام في أنّ أخذ المصادفة في موضوع حكم العقل معقول، أو غير معقول لعدم إحراز المصادفة؟ فلو تمّ القول بعدم معقوليّته، لزم كون الموضوع لحكم العقل هو الجامع بين العلم المطابق والجهل المركّب سواء سمّي الجهل المركّب علماً أو لا. والعمدة في ردّ هذا البرهان هي: إنّ مصادفة القطع محرزة بنفس القطع؛ فإنّ القاطع لا يحتمل خطأ قطعه، وإنّما يطرأ له هذا الاحتمال بالنسبة إلى قطع غيره، وبالنسبة إلى قطع نفسه ـ أيضاً ـ في غير حالة قطعه.

الثاني: ما جعله في أجود التقريرات مقدّمة رابعة لذاك البرهان، وهو: أنّ ما يوجب استحقاق العقاب هو القبح الفاعلىّ لا القبح الفعلىّ، وهو موجود في فرض التجرّي. والدليل على كون ملاك استحقاق العقاب هو القبح الفاعلىّ لا الفعلىّ: أنّه لو كان الملاك هو القبح الفعلىّ للزم ثبوت العقاب في موارد الجهل والشكّ؛ لأنّ القبح الفعلىّ للحرام لا يرتفع بالشكّ والجهل.

وأجاب المحقّق النائينىّ(رحمه الله) عن ذلك بأنّ ملاك استحقاق العقاب هو القبح الفاعلىّ

280

الناشئ من القبح الفعلىّ، أو قل: إنّ ملاك الاستحقاق ليس أحد القبحين، بل مجموعهما.

ويظهر ما في هذا الوجه مع جوابه من كلماتنا السابقة؛ فإنّ ذلك كلّه متفرّع على تصوير قبحين: قبح فعلىّ، وقبح فاعلىّ، وتخيّل رجوع باب الحسن والقبح إلى باب المصلحة والمفسدة، وقد عرفت أنّ القبح ليس إلّا قسماً واحداً، وهو متعلّق بالفعل بما هو مضاف إلى الفاعل، وأنّ باب الحسن والقبح غير باب المصلحة والمفسدة، وأنّ ثبوت القبح في فرض الشكّ والجهل المعذّر غير معقول. وقد عرفت ـ أيضاً ـ أنّ القبح الكامن في المعصية عبارة عن قبح مخالفة حقّ المولى، وثابت عند المعصية والتجرّي معاً.

الثالث: أنّا لو فرضنا شخصين شرب كلّ منهما مائعاً باعتقاد الخمريّة، فصادف قطع أحدهما الواقع دون الآخر، فإن قيل: إنّه يعاقب كلاهما، فهو المطلوب، وإن قيل: إنّه يعاقب من صادف قطعه الواقع فقط، لزم إناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن القدرة، وهو المصادفة؛ فإنّ الخطأ والمصادفة لو كانا باختيار الإنسان، لما أخطأ أحد.

والجواب: أنّ فرض اختصاص العقاب بمن صادف قطعه الواقع لا يستلزم استناد العقاب إلى ما هو خارج عن الاختيار، وتوضيح ذلك:

أنّ هذا الشخص إنّما يعاقب على سدّ باب واحد من أبواب العدم، وهو العدم الناشئ عن عدم إرادته لشرب الخمر، وهو تحت اختياره قطعاً.

نعم، المتجرّي ـ عند من لايرى عقابه ـ إنّما لايعاقب لانفتاح باب من أبواب العدم عليه ولو بلااختيار، كالعدم الناشئ من الخطأ في قطعه.

وما أكثر من ينجو من استحقاق العقاب بسبب انفتاح باب من أبواب العدم عليه خارج عن اختياره، كالعدم الناشئ من عدم وجود الخمر في الخارج، أو من عدم قدرته على الشرب؛ لمرض يمنعه عن التحرّك نحو الخمر وأخذه، أو عدم قدرته على شرائه ونحو ذلك، ولابأس بذلك(1).


(1) العقاب إنّما هو على المعصية لاعلى سدّه لباب من أبواب عدم المعصية. ولعلّ هناك مسامحة في التعبير من قبل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): بأن يكون المقصود بيان أنّ ما صدر عنه وعليه العقاب هو العصيان الاختيارىّ ولو باختياريّة سدّ باب واحد من أبواب عدمه.

281

 

تنبيهات

 

وينبغي التنبيه على اُمور:

الأوّل: قد عرفت أنّ التجرّي لا يختصّ بفرض القطع، بل يثبت عند التنجّز بمنجّز آخر، ونقول هنا: إنّه وقع الإشكال في ذلك في صورة واحدة، وهي ما لو شرب ما تنجّزت خمريّته ـ مثلاً ـ برجاء عدم كونه خمراً. فقد يقال بعدم كون هذا تجرّيّاً؛ لأنّ المفروض اعتناؤه بالمولى وعدم شربه لذلك إلّا برجاء عدم المصادفة.

ولكن التحقيق ثبوت التجرّي في هذا الفرض أيضاً؛ إذ المفروض أنّه يعلم بتنجّز حرمة شرب الخمر عليه بجميع حصصه التي منها هذه الحصّة، وهي الشرب برجاء عدم الخمريّة، وعلى رغم علمه بذلك ارتكب هذه الحصّة. ولا ينبغي الشكّ في أنّ هذا نوع إهانة للمولى، وجرأة عليه، وخروج عن رسوم العبوديّة، ومخالفة لحقّ المولويّة، وعنوان الرجاء ليس مؤمّناً.

ومن ثبت له مؤمّن من قطع أو غيره كأمارة أو أصل شرعىّ أو عقلىّ، لم يكن فعله تجرّياً بلاإشكال، إلّا في صورة واحدة وقع الإشكال فيها، وهي ما لو شرب ما تنجّز عدم خمريّته ـ مثلاً ـ برجاء كونه خمراً. فقد أفاد المحقّق النائينىّ(رحمه الله): أنّ هذا داخل في التجرّي، ويترتّب عليه حكمه.

لكن التحقيق خلاف ذلك، توضيحه: أنّ هذا الشخص تارة يشرب المائع برجاء خمريّته اعتماداً على المؤمّن، ولا منافاة بين هذا الرجاء وهذا الاعتماد، ومعنى ذلك: أنّه لو لم يكن مأموناً من ناحية الحكم الشرعىّ، لما كان يشربه، ولو كان عالماً بعدم خمريّته، لما كان يشربه أيضاً، فهو يحبّ أن يشرب الخمر مع المؤمّن من ناحية الحكم الشرعىّ؛ ليعرف طعم الخمر ـ مثلاً ـ من دون الابتلاء بتبعات الحرمة. وفي هذا الفرض لا ينبغي الإشكال في عدم صدور التجرّي عنه مادام معتمداً في فعله على ما هو مؤمّن من الحكم الإلزامىّ للشرع.

282

واُخرى يفترض شربه للمائع برجاء خمريّته بلا اعتماد على المؤمّن بحيث لولا المؤمّن لكان يشربه أيضاً، ولكنّه على أىّ حال عالم بكونه مأذوناً في عمله، وكون عمله مقترناً بالمعذّر. فأيضاً لا ينبغي الإشكال في أنّ عمله ليس تجرّياً منه؛ إذ لم يعمل إلّا ما علم بالإذن فيه. وإنّما الفرق بين هذه الصورة والصورة السابقة: أنّ في هذه الصورة يثبت التجرّي في حقّه بحسب أمر نفسانىّ، وهو استقلال إرادته عن مولاه، وعدم اهتمامه بأحكامه، لكن هذا النوع من التجرّي لا يختصّ بفرض الشرب، بل يثبت بشأن من لا يعتني بحكم مولاه، ولا يهتمّ بكون فعله مخالفاً لحكم مولاه سواء صدر عنه في الخارج ما يحتمل كونه خلاف حكم المولى على رغم المؤمّن، أو لا. فإن قلنا بثبوت استحقاق العقاب على مثل هذا التجرّي، فهو ثابت حتّى مع فرض عدم شربه لهذا المائع، إذن فشربه لهذا المائع المشمول للمؤمّن ليست فيه على أىّ حال نكتة إضافيّة ـ على فرض عدم الشرب ـ توجب استحقاق العقاب(1).

الثاني: اشتهر بينهم الخلط بين الحسن والقبح ومبادئ الأحكام من المصالح والمفاسد

والحبّ والبغض، ومن هنا ذهب صاحب الفصول(رحمه الله) إلى القول بوقوع الكسر والانكسار بين جهة التجرّي وجهة الواقع، وتقديم ما هو غالب منهما؛ لثبوت المنافاة بينهما.

وأفاد المحقّق العراقىّ(قدس سره) وجهاً لدفع المنافاة بين قبح التجرّي والحكم الواقعىّ، وهو: أنّ التجرّي عنوان ينتزع من الفعل في رتبة الامتثال والعصيان المتأخّرة عن الجهة الواقعيّة. فجهة التجرّي مع الجهة الواقعيّة ليستا في رتبة واحدة حتّى تقع المنافاة بينهما.

وبنفس هذا الجواب أعني تعدّد الرتبة جمع(قدس سره) بين الحكم الظاهريّ والحكم الواقعىّ.

وسيأتي ـ إن شاء الله ـ في مبحث الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ ما في هذا


(1) نعم، لو شرب هذا المائع برجاء الحرمة لا بمجرّد رجاء الخمريّة، فلا يبعد أن يقال بكون هذا نوعاً من الهتك للمولى، فلا ينفعه المؤمّن في المقام.

283

الكلام صغرىً وكبرىً.

ونقول هنا: إنّه لو سلّمت الصغرى وهي تعدّد الرتبة، فإنّما هو في المقام بين قبح التجرّي والحرمة المتخيّلة، لا بين قبح التجرّي والوجوب الواقعىّ، إذن فلو سلّمت الكبرى وهي كفاية تعدّد الرتبة في دفع المنافاة، لم تنطبق على المقام؛ لأنّ المنافاة إنّما هي بحسب الفرض بين قبح التجرّي والوجوب الواقعىّ، في حين تعدّد الرتبة إنّما هو بين القبح وحكم آخر، وهو الحرمة لا الوجوب(1).

والتحقيق في المقام ما ظهر ممّا سبق: من أنّ باب الحسن والقبح غير باب مبادئ الأحكام. والخلط بينهما موقوف على القول بكون الحسن والقبح مجعولين عقلائيّين بحسب المصالح والمفاسد. وقد مضى أنّ المولى الحقيقىّ يكون حسن طاعته وقبح معصيته ذاتيّين. فقد اتّضح أنّه لا مجال لفرض التنافي بين قبح التجرّي وجهة الواقع كي يفترض وقوع الكسر والانكسار بينهما(2).

نعم، عدم المنافاة الذي وضّحناه هنا إنّما هو بين الوجوب الواقعىّ ـ مثلاً ـ وقبح التجرّي، وليس بين الوجوب الواقعىّ وتنجّز الحرمة بقطع أو أمارة أو غيرهما، فيمكن دعوى المنافاة بين الحكم الواقعىّ وهذا التنجّز سواء قلنا بقبح التجرّي أو أنكرنا قبحه، والكلام في هذه المنافاة مربوط ببحث الجمع بين الحكم الواقعىّ والظاهرىّ، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ أنّ الطرق المتعارفة للجمع بينهما لا تتكفّل إلّا الجمع بين الإلزام والترخيص: بأن يكون أحد الحكمين إلزاماً والآخر ترخيصاً دون ما إذا فرض أحدهما إيجاباً والآخر تحريماً.

وعلى أىّ حال، فتحقيق الكلام في ذلك مربوط بذاك البحث. وإنّما كان المقصود هنا


(1) يحتمل أن لايكون نظر الشيخ العراقيّ(رحمه الله) إلى تعدّد الرتبة، بل إلى تعدّد العنوان مع مبنى عدم سراية الحكم أو الحبّ والبغض من العنوان إلى المعنون. راجع فوائد الاُصول ج 3 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم ص 54 مع ص 42 وتعليق المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في الموردين.

(2) قد يقال: إنّ الحسن والقبح يصلحان ملاكين للأحكام، فمعنى كون الأحكام تابعة للمصالحوالمفاسد ـ لاللحسن والقبح ـ إنّما هو: أنّ المصالح والمفاسد تكفي في انبعاث مبدأ الحكم في نفس المولى، لا أنّ الحسن والقبح لا يصلحان لذلك، وعليه فقد يقع الكسر والانكسار في طرف الحكم (لا في طرف حرمة التجرّي) بين قبح التجرّي ومصلحة الفعل.

وحلّ ذلك يكون بالجمع المختار فيما بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ الذي سيتضح في محلّه إن شاء الله.

284

الإشارة إلى أنّ ما ادّعيناه في المقام كان هو عدم المنافاة بين الوجوب الواقعىّ وقبح التجرّي، وذلك لا ينافي فرض التنافي بين الوجوب الواقعيّ وتنجّز الحرمة. فلو سلّم هذا التنافي، وقد أثبتنا قبح التجرّي، تعيّن القول بارتفاع الوجوب الواقعىّ.

الثالث: ذكر المحقّق العراقىّ(رحمه الله) ثمرة لقبح التجرّي وعدمه، وهي: إنّه لو قامت الأمارة على حرمة صلاة الجمعة مثلاً، ومع ذلك صلّى المكلّف صلاة الجمعة برجاء كونها واجبة؛ لأنّه لم يكن قاطعاً بعدم الوجوب وإن تنجّزت عليه الحرمة، ثُمّ انكشف كونها واجبة، فبناءً على قبح التجرّي بطلت صلاته؛ لعدم صلاحيّتها للمقرّبيّة؛ لأنّ التقرّب إلى المولى بما هو قبيح غير ممكن، وبناءً على عدم قبحه صحّت صلاته؛ إذ لا قبح فيها يسقطها عن صلاحيّتها للمقرّبيّة.

أقول: الكلام تارة يقع في التوصّليّات، واُخرى في التعبّديّات:

أمّا التوصّليّات فلا تكون الصحّة والبطلان فيها مترتّبة على قبح التجرّي وعدمه، بل تكون مترتّبة على أن يستفاد من الدليل ثبوت ملاك هذا الواجب أو المستحبّ التوصّلىّ وعدمه، فعلى الأوّل يصحّ مطلقاً، وعلى الثاني لا يصحّ مطلقاً.

وأمّا التعبّديّات فالمتّجه فيها هو البطلان مطلقاً. أمّا على قبح التجرّي فواضح؛ إذ لا يكون ظلم المولى مقرّباً للعبد إلى المولى، وأمّا بناءً على عدم قبحه، فمن الممكن فرض صلاحيّتها للمقرّبيّة، كما إذا كان الدليل مثبتاً للملاك حتّى في فرض التجرّي، لكن العبادة لا يكفي في صحّتها صلاحيّتها للمقرّبيّة، بل تكون صحّتها مشروطة ـ أيضاً ـ بكون حركة العبد نحوها ناشئة من ناحية المولى، فإذا وجد الشرط الأوّل وهو صلاحيّة المقرّبيّة دون الثاني وهو الداعي الإلهىّ كما في السلام على المؤمن لا بداع إلهىّ، لم تكن عبادة. وكذا العكس كما لو أتى العبد بفعل بداعي القربة باعتقاد كونه مطلوباً للمولى، فتبيّن خلافه. ومن صلّى صلاة الجمعة ـ مثلاً ـ على رغم علمه بتنجّز حرمتها عليه، لا يكون متحرّكاً من ناحية المولى وبداع إلهىّ وإن فرض عدم قبح التجرّي؛ إذ هو يحتمل كون الإتيان بهذا الفعل ظلماً للمولى، ولا يحتمل كون تركه ظلماً له، فكيف يعقل إتيانه بداعي المولى؟!

285

نعم، في التجرّي بالنسبة إلى المولى العرفىّ الذي تنجّز حكم له على العبد مع احتمال أن يكون صلاح المولى في خلافه يعقل تحرّك العبد نحو الخلاف بداعي المولى(1).

 

 


(1) وفي ختام البحث عن التجرّي لا بأس بالإشارة إلى بحث الانقياد، وتوضيح فارق فنّيّ بين البابين فنقول:

إنّ من انقاد لأمر وصله بأىّ مرتبة من مراتب الوصول ولو غير منجّزة ـ بخلاف باب التجرّي الذي كان يشترط فيه التنجّز ـ فاستحقاقه للمدح على حسن السريرة لا إشكال فيه، كما لم يكن إشكال في استحقاق المتجرّي للذمّ على سوء السريرة حتّى عند المنكر لقبح التجرّي.

ونحن كما آمنّا في باب التجرّي بثبوت القبح، ودوران الذمّ مدار وصول موضوع الحقّ ولو خطأً، كذلك نقول في المقام بثبوت الحسن، واستحقاق المدح لمجرّد وصول موضوع الحقّ. ولو فرضنا تنزّلاً كون الحسن والقبح مشروطين بمطابقة الوصول للواقع، قلنا: قد ذكرنا في باب التجرّي أنّ أحد الحقّين للمولى هو حقّ الاحترام، وقد حصل بهذا الانقياد احترام المولى.

أمّا استحقاق الثواب، فلو قصد به وجوبه على الله تعالى كدين يطلبه الدائن أو أجرة يطلبها الأجير، فنحن لا نؤمن بذلك حتّى في الطاعة الحقيقيّة فكيف بالانقياد؛ فليس الثواب من الله تعالى إلّا فضلاً منه ورأفة ورحمة؛ لأنّ الوفاء بالحقّ لا يوجب شيئاً على ذي الحقّ، وليس حال الوفاء بالحقّ حال مخالفة الحقّ التي تثبت لذي الحقّ حقّ المجازاة.

ولو قصد به مجرّد حسن مثوبته، وأنّ هذا العبد أهل لأن يثاب، قلنا: إنّ هذا لا يدور مدار الوفاء بالحقّ واقعاً كما كان العقاب يدور مدار مخالفة الحقّ واقعاً، وإنّما يدور مدار الوفاء بما وصله ولو خطأً، إذن فحتّى لو قلنا في باب التجرّي بعدم استحقاقه للعقاب؛ لأنّ حقّ المولى عبارة عن حقّ عدم تفويت الفرض ولم يخالفه المتجرّي، أو قلنا ـ كما هو المختار ـ: إنّ عقاب المتجرّي أخفّ من عقاب العاصي؛ لأنّه خالف أحد الحقّين بخلاف العاصي الذي خالف كليهما، نقول هنا: بأنّ المنقاد المطابق فهمه للواقع مع المنقاد الذي أخطأ سيّان في استحقاق الثواب. وهذا هو الفارق الفنّىّ بين البابين الذي أردنا الإشارة إليه.

هذا. ولعلّه حينما يكون الوصول بشكل غير منجّز يكون استحقاق الثواب آكد؛ فإنّ من يتحرّك بوصول غير منجّز هو خير ممّن لا يتحرّك إلّا بالوصول المنجّز.

287

بحث القطع

4

 

 

أقسام القطع

 

 

○ أقسام القطع الموضوعىّ.

○ قيام الأمارات والاُصول مقام القطع.

○ تقسيم القطع الموضوعىّ بلحاظ متعلّقه.

○ خاتمة في أقسام الظنّ.

 

 

 

289

 

 

 

 

قسّم القطع إلى قسمين: طريقىّ، وموضوعىّ، فالأوّل ما كان الحكم ثابتاً بقطع النظر عنه سواء كان متعلّقاً بنفس الحكم كما في القطع بحرمة شرب الخمر، أو كان متعلّقاً بموضوعه كما في القطع بخمريّة هذا المائع مع كون الحكم ثابتاً للخمر الواقعىّ بلادخل القطع فيه، والثاني ما كان دخيلاً في الحكم، كما لو أوجب المولى إكرام معلوم العدالة، فأصبح العلم بالعدالة دخيلاً في وجوب الإكرام. وقد يكون قطع واحد طريقيّاً وموضوعيّاً بلحاظ حكمين، كما لو جعل القطع بخمريّة مائع ـ الذي يعتبر بلحاظ حرمة الشرب طريقيّاً ـ موضوعاً لوجوب الخروج من المكان الذي يوجد فيه ذاك المائع.

وما ذكرناه من انقسام القطع إلى طريقىّ وموضوعىّ ممّا لا إشكال فيه، ولكن يقع الكلام والإشكال في جهات:

 

أقسام القطع الموضوعيّ

 

الجهة الاُولى: في انقسام القطع الموضوعىّ إلى أقسام أربعة كما في كلام الشيخ الأعظم والمحقّق الخراسانىّ(قدس سرهما). ووجه التقسيم: أنّ القطع تارة يؤخذ موضوعاً لحكم الشرع بما هو صفة لشخص مع قطع النظر عن كاشفيّته عن متعلّقه، واُخرى يؤخذ موضوعاً له بما هو كاشف وطريق إلى متعلّقه. وعلى كلا الفرضين تارة يكون تمام الموضوع بلا دخل متعلّقه في الحكم، فيكون الحكم ثابتاً حتّى مع فرض خطئه، واُخرى يكون الموضوع مركّباً منه ومن متعلّقه، فلا حكم في فرض الخطأ.

وقد اُورد على هذا التقسيم: أنّ كاشفيّة القطع هي عين القطع، وليست صفة زائدة على ذات القطع كثقل الجسم ـ مثلاً ـ الذي هو صفة للجسم، وليس عين الجسم، فلا معنىً لأخذ القطع موضوعاً للحكم تارة بلحاظ كاشفيّته، واُخرى بقطع النظر عن كاشفيّته وبما هو

290

صفة من الصفات؛ فإنّ هذا يساوق فرض أخذ القطع موضوعاً للحكم بقطع النظر عن نفسه تارة وبالنظر إلى نفسه اُخرى، وأخذ الشيء بقطع النظر عن نفسه لا معنىً له، وليس من قبيل أخذ الجسم موضوعاً لحكم تارة بلحاظ ثقله، واُخرى بقطع النظر عن ثقله.

وكأنّ المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) تصدّى لتوضيح هذا التقسيم بنحو لا يرد عليه هذا الإشكال، فقال: «إنّ القطع لمّا كان من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة؛ ولذا كان العلم نوراً لنفسه ونوراً لغيره، صحّ أن يؤخذ فيه بما هو صفة خاصّة وحالة مخصوصة بإلغاء جهة كشفه، أو اعتبار خصوصيّة اُخرى فيه معها...».

فكأنّه يشير في صدر كلامه بقوله: «إنّ القطع من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة» إلى أنّ القطع لو كان من الصفات الانتزاعيّة كالفوقيّة والتحتيّة، والاُبوّة والبنوّة، ونحو ذلك ممّا تكون هويّتها عين انتزاعها وإضافتها، لصحّ القول: إنّه لا معنىً لافتراضه موضوعاً تارة بلحاظ هذه الإضافة والانتزاع، واُخرى بلحاظ آخر، لكن الواقع: أنّه من الصفات المتأصّلة في المحلّ بذاتها وبغضّ النظر عن انتزاع من هذا القبيل، فحاله من هذه الناحية حال اللون مثلاً، ولكنّه يختلف عنه من ناحية أنّه ـ إضافة إلى حاجته إلى محلّ يتأصّل فيه ـ يكون بحاجة إلى طرف يضاف إليه وهو المعلوم، فحاله حال الحبّ والبغض ونحو ذلك ممّا هو من الصفات التي هي حقيقيّة وغير انتزاعيّة من ناحية، وذات إضافة من ناحية اُخرى. فتارة يؤخذ القطع موضوعاً بما له من إضافة، أي: بحيثيّة إضافته إلى المعلوم، وهذا هو القطع الموضوعىّ الطريقىّ لوحظ فيه جانب من جانبي القطع، وهو جانب إضافته إلى المعلوم، واُخرى يؤخذ موضوعاً بلحاظ جانبه الآخر، وهو كونه صفة متأصّلة في شخصيّة القاطع، وهذا هو القطع الموضوعىّ الصفتىّ.

هذا. وكلام المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) مشتمل على تعبيرين بالإمكان أن يصاغ من كلّ منهما جواب مستقلّ عن الإشكال: أحدهما التعبير بأنّ القطع من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة، وقدعرفت كيفيّة صياغة الجواب من هذا التعبير، والثاني قوله: «ولذا كان العلم نوراً لنفسه، ونوراً لغيره» فبالإمكان صياغة جواب مستقلّ من هذا التعبير؛ لتصحيح

291

تقسيم القطع الموضوعىّ إلى الطريقىّ والصفتىّ (1).

وذلك بأن يقال: إنّ العلم ـ كما اشتهر عند الفلاسفة ـ نور في نفسه، ونور لغيره، فالعلم له جنبتان نوريّتان: نوريّة ذاتيّة، ونوريّة لغيره. فتارة يؤخذ موضوعاً بلحاظ نوريّته الاُولى، واُخرى بلحاظ نوريّته الثانية. فالأوّل هو الموضوعىّ الصفتىّ، والثاني هو الموضوعىّ الطريقىّ.

ويرد على هذا البيان: أنّ مقصود الفلاسفة من كون العلم نوراً في نفسه: كونه نفس النور، أي: الظهور.

وبتعبير آخر حضور باقي الأشياء في النفس ليس بذاتها، بل بواسطة العلم بها الموجد لصورتها في النفس، في حين أنّ العلم لا يحتاج حضوره في النفس إلى تعلّق العلم به؛ لأنّه بنفسه من موجودات عالم النفس المجرّدة كالحبّ والبغض والإرادة وغير ذلك.

وعليه نقول: لو اُخذ العلم موضوعاً للحكم بما هو فرد لطبيعىّ الحاضر في النفس ومن هذه الحيثيّة ـ وغُضَّ النظر عن خصوصيّة كاشفيّته لغيره ـ فما أكثر الاُمور الحاضرة للنفس كالحبّ والبغض وغيرهما، فيكون الموضوع في الحقيقة مطلق ما هو الحاضر في النفس ومن موجودات عالم النفس المجرّدة، وهذا خلاف الفرض. ولو اُخذ العلم موضوعاً بلحاظ نوريّته لغيره وكاشفيّته، فهذا هو القطع الموضوعىّ الطريقىّ، ولم نتعقّل قسمين للقطع الموضوعىّ(2). هذا هو تعليقنا على الصياغة الثانية.

 


(1) وإن كان ظاهر عبارته(قدس سره) أنّه يقصد بالتعبير الثاني التوضيح والتأكيد لنفس ما ذكره في صدر الكلام، فكأنّه يقول: إنّ العلم بنفسه نور متأصّل في النفس، وله إضافة إلى المعلوم باعتباره نوراً لغيره.

(2) جاء في ذيل عبارة الكفاية قوله: «صحّ أن يؤخذ فيه بما هو صفة خاصّة وحالة مخصوصة بإلغاء جهة كشفه، أو اعتبار خصوصيّة اُخرى فيه معها». وهذا يعني: أنّ صفتيّة القطع الموضوعىّ تتصوّر في نظر صاحب الكفاية باُسلوبين:

أحدهما: إلغاء جهة الكشف، والاقتصار على الجانب الآخر الموجود في القطع.

وهذا يرد عليه إشكال اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): من أنّه لو اقتصر على الجانب الآخر وهو نوريّته لنفسه ـ وهي بمعنى كونه من موجودات عالم النفس المجرّدة الحاضرة بذاتها لدى النفس ـ لزم ترتّب الحكم على مثل الحبّ والبغض أيضاً، وهذا خلف.

292

أمّا الصياغة الاُولى المستفادة من صدر كلام صاحب الكفاية، فيرد عليها: أنّ إضافة العلم إلى المعلوم إن قصد بها إضافته إلى المعلوم بالذات، وهو الصورة الحاصلة لدى النفس، فهي إضافة إشراقيّة كإضافة الوجود إلى الماهيّة، لا إضافة مقوليّة التي هي عبارة عن النسبة المتكرّرة بين شيئين متباينين خارجاً كالأبوّة والبنوّة والفوقيّة والتحتيّة، والإضافة الإشراقيّة ليست إضافة بين شيئين متباينين إلّا بالتحليل، وهي عين ظهور المضاف إليه وإشراقه، إذن فهذه الإضافة هنا عين الانكشاف والعلم، وليست شيئاً آخر وراءه كي يقسّم العلم الموضوعيّ بلحاظه إلى قسمين: تارة بأخذه بعين الاعتبار، واُخرى بغضّ النظر عنه.

وإن قصد بها الإضافة إلى المعلوم بالعرض التي هي إضافة مجازيّة، فهذه كانت إضافة بين أمرين متباينين خارجاً وليست إشراقاً، ولكن ليس كلّ علم مشتملاً على هذه الإضافة؛ إذ ربّما لا يكون هناك معلوم بالعرض أصلاً كما في موارد الخطأ، فلا يتمّ تقسيم العلم الموضوعىّ بلحاظه إلى قسمين، إلّا في خصوص العلم المصادف للواقع. فهذا التقسيم إنّما هو يتعقّل على مبنى المحقّق النائينىّ(رحمه الله) القائل: إنّ العلم الموضوعىّ الطريقىّ


وثانيهما: عدم قصر النظر على جهة الكشف، فجهة الكشف ملحوظة، ولكن الجهة الاُخرى ملحوظة أيضاً، وهذا يكفي في أن يتّضح عدم قيام الأمارات والاُصول مقامه؛ فإنّ الدافع إلى هذا التقسيم في الحقيقة هو: أنّ قيام الأمارات والاُصول مقام الموضوعىّ الصفتىّ بدليل الحجّيّة غير معقول، في حين هناك مجال للبحث عن قيامها مقام الموضوعىّ الطريقىّ بنفس دليل الحجّيّة بدعوى أنّ دليل الحجّيّة قد أعطاها طريقيّة، والعلم إنّما كان موضوعاً بنكتة طريقيّته، ونفس النكتة موجودة في الحجج الشرعيّة. وهذا الفارق كما ترى لا يتوقّف على فرض إلغاء جهة الكشف في الموضوعىّ الصفتىّ، بل يكفي فيه دخل جهة اُخرى غير الكشف في الحكم ولو إضافة إلى الكشف؛ فإنّ دليل الحجّيّة بما هو لا يفي بتأمين تلك الجهة الاُخرى.

ويرد على هذا البيان: أنّ نوريّة العلم لنفسه، أو قل: حضوره لدى النفس ليس أمراً وراء كاشفيّته، بل هو متمّم للكاشفيّة؛ فإنّ العلم إنّما يجعل الاُمور الاُخرى حاضرة لدى النفس بالعرض وبالصور، ومنكشفة لديها باعتبار حضوره هو بالذات لدى النفس. فلحاظ هذا الجانب لا يعني لحاظ أمر آخر غير الكاشفيّة مضافاً إلى الكاشفيّة كي يترتّب على ذلك وضوح عدم قيام الحجج الاُخرى مقامه ـ مثلاً ـ ولو في خصوص ما لو لم تكن تلك الحجّة من المعلومات الحضوريّة لدى النفس كالظنّ ـ مثلاً ـ الذي هو كالعلم في كونه من المعلومات الحاضرة لدى النفس.

293

يجب أن يكون ـ دائماً ـ جزء الموضوع، أي: إنّ الواقع ـ أيضاً ـ دخيل في الحكم في موارد العلم الموضوعىّ الطريقىّ دائماً، في حين لا يقول بذلك صاحب الكفاية(رحمه الله). على أنّ لازم هذا البيان كون ظاهر دليل موضوعيّة العلم ـ لولا القرينة ـ هو الصفتيّة؛ لأنّ الطريقيّة تعني رفع اليد عن إطلاق الدليل لصورة الخطأ، إذن فمقتضى الإطلاق هو حمله على الصفتيّة الثابتة في كلا قسمي العلم، على عكس ما ذكره الشيخ الأعظم وصاحب الكفاية في تعليقته على الرسائل: من أنّ مقتضى الظهور الأوّليّ لدليل موضوعيّة العلم هو الطريقيّة(1).

هذا. ولنا وجهان في تصوير تقسيم القطع الموضوعىّ إلى الصفتىّ والطريقىّ مع التحفّظ على انقسام كلّ منهما إلى كونه جزء الموضوع وتمامه: الأوّل منهما عرفىّ، والثاني بحاجة إلى تدقيق عقلىّ:

أمّا التصوير العرفىّ فهو: أن يقال: صحيح أنّ العلم بنفسه انكشاف، ولكن له ملازمات


(1) أقول: لم أر في تعليقة المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) ما يدلّ على دعوى ظهور دليل الموضوعيّة في الطريقيّة، كما لم أر في الرسائل ما يدلّ على ذلك، عدا أنّه ذكر(رحمه الله) في فرض موضوعيّة الظنّ أنّ الغالب في الظنّ الموضوعىّ كونه موضوعاً بما له من الكشف لا بما هو صفة. فلعلّه(رحمه الله)ينظر إلى هذه العبارة في دعوى ذهاب الشيخ إلى أنّ ظاهر دليل الموضوعيّة هو الكاشفيّة، ولعلّه ينظر فيما نسبه إلى تعليقة المحقّق الخراسانيّ إلى إمضاء التعليقة لهذه العبارة بعدم التعليق عليها.

وعلى أىّ حال، فقد يقال بإمكان دفع كلا إشكاليه(رحمه الله) في الجملة: بأن يفترض أنّ المقصود بالإضافة هي إضافة العلم إلى المعلوم بالذات؛ إذ نقول ـ حينئذ ـ: إنّ الإشكال إنّما يتّجه لو أردنا تقسيم العلم الموضوعىّ إلى الصفتىّ والطريقىّ عن طريق افتراض أنّه تارة يؤخذ في الموضوع جانب الطريقيّة، واُخرى يغضّ النظر عن ذلك، فيقال ـ مثلاً ـ: إنّ الطريقيّة التي هي عبارة عن الإضافة الإشراقيّة ليست شيئاً إضافيّاً إلى العلم كي يمكن غضّ النظر عنها. ولكن هناك اُسلوب آخر لصاحب الكفاية للتقسيم كما مضى: وهو أن نفترض أنّ جانب الطريقيّة والإضافة الإشراقيّة دائماً ملحوظ، لكن تارة نلحظ مع ذلك جانب تأصّله في نفسه وإضافته إلى النفس إضافة اللون إلى الجسم والعرض إلى المحلّ، وبهذا يكون صفة خاصّة من الصفات لا وجه لقيام الحجج الشرعيّة مقامه، ولو في خصوص غير ما لو كانت تلك الحجّة صفة خاصّة للنفس ـ أيضاً ـ كالظنّ، واُخرى نقصر النظر إلى حيثيّة الإضافة الإشراقيّة، وهذا هو الصفتىّ الطريقىّ.

ويرد عليه سنخ ما مضى: من أنّ كون العلم صفة متأصّلة في النفس ـ أيضاً ـ عبارة اُخرى عن انكشاف المعلوم لدى النفس. وليست التجزئة إلى جانب الإضافة وجانب كونه صفة حقيقيّة للنفس عدا تحليل عقلىّ لنفس الانكشاف، فيعود القول: إنّ العلم ليس عدا محض الانكشاف، فلا معنىً لأخذه تارة بلحاظ الكشف، واُخرى بلحاظ الانكشاف.

294

في الخارج وجوديّة، أو عدميّة، كخلاص النفس من عذاب التردّد، ووجدانها لبرد اليقين، وصيرورتها مطمئنّة ساكنة وغير ذلك. فتارة يؤخذ العلم موضوعاً بما هو انكشاف مع قطع النظر عن ملازماته، وهذا هو العلم الموضوعىّ الطريقىّ، واُخرى يكون بعض ملازماته دخيلاً في الحكم مع الانكشاف أو بدلاً منه، وهذا هو الصفتىّ. وكلّ منهما يمكن أخذه تمام الموضوع أو جزءه، وظاهر دليل موضوعيّة العلم ـ لولا القرينة ـ هو الطريقيّة لا الصفتيّة؛ لأنّ دخل شيء آخر ـ غير الانكشاف بدلا منه أو منضمّاً إليه ـ خلاف ظاهر الدليل الذي جعل الموضوع هو العلم، وهو في حقيقته عبارة عن الانكشاف لا الملازمات.

وهذا الوجه مأخوذ من تمثيل الشيخ الأعظم(قدس سره) للقطع الصفتىّ بما لو نذر التصدّق في كلّ يوم ما دام متيقّناً بحياة ولده، فإنّ غرض الناذر عادة فيما يحرص عليه من كونه متيقّناً وقاطعاً بحياة ولده هو سكون نفسه واطمئنان خاطره.

ولو وجد في مورد ما ما دلّ على أخذ العلم موضوعاً على وجه الصفتيّة ـ وإن كنّا لم نجد ذلك إلى الآن ـ كان محمولاً على القطع الصفتىّ بهذا المعنى.

وأمّا التصوير الدقّي العقلىّ، فهو أن يقال: إنّ للعلم نسبتين إلى النفس: إحداهما نسبة كونه فيها كما هو شأن كلّ عرض بالنسبة إلى معروضه، والاُخرى نسبة كونه انكشافاً لها، وهذا أمر زائد على كونه فيها كما برهن عليه في الفلسفة. فلو فرض محالاً ثبوت العلم في الحجر الذي لا يفهم شيئاً، كان العلم ثابتاً فيه، ولم يكن ثابتاً له. فلو اُخذ العلم موضوعاً بما هو ثابت في النفس وغضّ النظر عن جانب ثبوته للنفس، كان هو العلم الصفتىّ، أمّا لو أخذ فيه جانب الانكشاف للنفس وحده، أو مع الجانب الأوّل، فهذا هو العلم الموضوعىّ الطريقىّ.

ولايقال: إنّ جانب الانكشاف للنفس داخل في هويّة العلم، فغضّ النظر عنه غضّ للنظر عن أصل العلم.

فإنّه يقال: إنّ جانب الانكشاف للنفس لاينفكّ خارجاً عن العلم بالنسبة إلينا، لكنّه

295

ليس داخلاً في هويّة العلم؛ ولذا نرى انفكاكه عنه في علم الله تعالى؛ لأنّ علمه ليس انكشافاً لذاته، وإنّما هو عين ذاته. والظاهر من دليل أخذ العلم موضوعاً هو موضوعيّته بعنوان كونه له وفيه معاً لا بعنوان كونه فيه فقط(1).

 


(1) أقول: من الملحوظ أنّه (رضوان الله عليه) قام في هذا الوجه بتكلّف تسمية العلم الذي جمع فيه بين جانب الصفتيّة وجانب الطريقيّة بالموضوعىّ الطريقىّ، في حين أنّه في التصوير الأوّل لم يفعل ذلك، بل فرض ما جمع فيه لحاظ الجانبين داخلاً في الصفتىّ، هذا لا لشيء إلّا لكي يصحّ القول: إنّ ظاهر دليل موضوعيّة العلم هو الطريقيّة لا الصفتيّة؛ إذ إنّه(رحمه الله)فرض أنّ ظاهر دليل موضوعيّة العلم هو موضوعيّته بوصفه للنفس وفي النفس، فاضطرّ إلى تسمية ما لوحظ فيه كلا الجانبين بالطريقىّ؛ كي يصحّ القول: إنّ ظاهر دليل موضوعيّة العلم هو الموضوعىّ الطريقىّ، في حين أنّه في التصوير السابق ليس ظاهر دليل موضوعيّة العلم دخل ملازماته في الموضوع؛ ولذا جعل فرض الجمع بين لحاظ جانب الانكشاف ولحاظ الملازمات داخلاً في الصفتىّ.

والواقع: أنّ أصل فكرة تقسيم العلم الموضوعىّ إلى الصفتىّ والطريقىّ نشأت من مسألة أنّ دليل جعل الحجج الشرعيّة كواشف ـ مثلاً ـ يكون أوفى بقيامها مقام الموضوعىّ الطريقىّ ـ لأنّه لو حظ فيه الكشف فحسب ـ من قيامها مقام الصفتىّ؛ لأنّه دخل فيه عنصر غريب عن الكشف من دون فرق في ذلك بين دخل عنصر الكشف ـ أيضاً ـ وعدمه، إذن فكان الأولى به (رضوان الله عليه) أن يبقي العلم الذي لوحظ فيه كلا الجانبين داخلاً في الصفتيّة، وينكر على هذا التصوير ظهور دليل موضوعيّة العلم في الطريقيّة، ويدّعي ظهوره في الصفتيّة.

على أنّنا لو سلّمنا ظهور دليل موضوعيّة العلم في النظر إلى كلا الجانبين الكشفىّ والصفتىّ، وسمّينا ذلك بالعلم الموضوعىّ الطريقىّ، فقدنا أصل الدافع إلى البحث عن هذا التقسيم؛ فإنّ دليل حجّيّة الأمارات ـ مثلاً ـ لن يكون أقرب إلى إقامة الأمارة مقام العلم الموضوعىّ الطريقىّ منه إلى إقامتها مقام الصفتىّ؛ إذ لو كان ذلك الدليل قد أعطى الأمارة جانب الكشف فحسب، إذن لا تقوم مقام العلم الموضوعىّ الطريقىّ الذي استظهرنا دخل كلا الجانبين فيه. ولو كان قد أعطاها كلا الجانبين، إذن كان وضوح قيام الأمارة مقام الصفتىّ المحض بمستوى وضوح قيامها مقام الموضوعىّ الطريقىّ.

هذا. وهناك وجه آخر لتقسيم العلم الموضوعىّ إلى الطريقىّ والصفتىّ يمكن بيانه على مذاق من يرى أنّ الأمارة أو الأصل طريق وكشف بمعنىً من المعاني؛ ولهذا يفترضه قائماً مقام الموضوعىّ الطريقىّ، ويناقش في إطلاق قيامه مقام العلم مطلقاً حتّى الصفتىّ.

وذلك بأن يقال ـ بعد أن افترضنا أنّ الأمارة أو الأصل داخل في مصاديق الكشف: إمّا بتوسيع في معنى الكشف كما لو قصدنا به مطلق الحجّيّة مثلاً، أو بدعوى الحكومة في جانب دليل الأمارة أو الأصل بجعله منزّلاً منزلة الكشف، أو بجعله فرداً تعبّديّاً للكشف ـ: لا إشكال في أنّ هذا الفرد مصداق آخر للكشف غير العلم، فالعلم مصداق حقيقىّ بطبعه، وهذا مصداق تنزيلىّ أو تعبّدىّ أو حقيقىّ بواسطة التعبّد. وعليه، فإذا جعل العلم موضوعاً لحكم، فتارة يجعل موضوعاً له بما له من الكاشفيّة بالمعنى الجامع بين القسمين الحقيقىّ والتعبّدىّ، فيستظهر ـ حينئذ ـ قيام الفرد التعبّدىّ مقام الفرد الحقيقىّ؛ لاشتماله على نفس الجامع، واُخرى يجعل موضوعاً له لا بلحاظ الجامع بين الكاشفين، بل بلحاظ هذه الصفة بالخصوص، أي: هذا الفرد من الكاشف الذي له

296

هذا. وقد اتّضح ممّا حقّقناه: أنّ ما ذكره المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) من إنكار انقسام القطع الموضوعىّ إلى ما اُخذ بنحو الصفتيّة وما اُخذ بنحو الكاشفيّة ناشئ من عدم الالتفات إلى تمام جهات المطلب.

بقي هنا شيء، وهو: أنّ المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) زاد على أقسام القطع الصفتىّ القطع المأخوذ بما هو صفة للمقطوع به: بأن كان جزء الموضوع أو تمامه.

ويرد عليه: أنّه إن قصد بذلك أخذه بما هو صفة للمعلوم بالذات، فهذا ليس قسماً جديداً؛ فإنّ كلّ قطع اُخذ موضوعاً بما هو صفة للقاطع قد لوحظ فيه صفتيّته للمقطوع به بالذات حتماً؛ إذ لولا ذلك للزم ترتّب الحكم على القطع بأىّ شيء من الأشياء. وكلّ قطع اُخذ موضوعاً بما هو صفة للمقطوع به قد لوحظت فيه صفتيّته للقاطع حتماً؛ إذ لولا ذلك لزم توجّه الحكم إلى هذا الشخص بمجرّد حصول القطع لشخص آخر.

وإن قصد بذلك أخذه بما هو صفة للمعلوم بالعرض، ورد عليه:

أوّلاً: أنّ هذا عين الكاشفيّة على تفسيره(رحمه الله) ؛ إذ فسّر الكاشفيّة بأخذ القطع بما له من إضافة إلى المقطوع به، وهذا عبارة اُخرى عن كونه صفة للمقطوع به.

وثانياً: أنّ هذا يلزمه اختصاص ما اُخذ بما هو صفة للمقطوع به بجزء الموضوع،


خصوصيّة تميّزه من الفرد الآخر كما هو شأن كلّ فرد يجمعه جامع مع فرد آخر، فيستظهر عدم قيام الفرد التعبّدىّ مقامه. وبهذا البيان اتّضح: أنّ هذا التفسير لتقسيم العلم الموضوعىّ إلى الصفتىّ والطريقىّ ينبع من حاقّ عقليّة الدافع إلى أصل هذا البحث.

وهذا أنسب بمثال النذر الذي ذكره الشيخ الأعظم(رحمه الله) من الوجه الذي استلهمه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) من هذا المثال؛ ذلك لأنّ مجرّد كون هدف الناذر حصول الطمأنينة وسكون النفس ـ مثلاً ـ لايجعل هذه الملازمات داخلة في موضوع النذر، وإنّما هي دواع إلى النذر، فلما ذا يعتبر العلم الذي كان متعلّقاً للنذر صفتيّاً، والعلم الذي جاء موضوعاً في بعض الأدلّة الشرعيّة طريقيّاً؟! في حين يكون من حقّ الشيخ الأعظم(رحمه الله) أن يقول: إنّ العلم الذي هو كشف إذا جعل موضوعاً في لسان الشارع الذي جعل الأمارة كشفاً أيضاً، فإنّي أستظهر من ذلك أنّه جعله موضوعاً بما هو كشف في مذاقه، والكشف في مذاقه يشمل الأمارة. أمّا الناذر حينما يكون موضوع نذره هو العلم، فإنّما يقصد طبعاً الفرد الحقيقىّ لا الجامع بين الحقيقىّ والتعبّدىّ. ودليل الوفاء بالنذر إنّما يدور مدار مقصود الناذر، فلا معنىً لقيام الأمارة هنا مقام العلم.

297

ولا يتصوّر فيه أن يكون تمام الموضوع؛ إذ لو كان القطع خطأً، لما كان وصفاً للمقطوع به بالعرض(1).


(1) أقول: لو أنّ المحقّق الخراسانىّ(قدس سره) قصد بإضافة العلم إلى المعلوم ـ حينما قال: إنّ العلم من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة ـ إضافته إلى أحد المعلومين الذاتىّ أو العرضىّ، وقصد بأخذ العلم كوصف للمعلوم المعلوم الآخر من المعلومين، لم يرد عليه الإشكال الأوّل من الإشكالين اللذين ذكرهما اُستاذنا الشهيد على الشقّ الثاني في كلامه.

أمّا ما ذكره في الشقّ الأوّل من كلامه: من أنّ صفتيّة العلم للمعلوم بالذات مأخوذة حتماً في العلم الصفتىّ الذي اُخذ كصفة للعالم، وكذلك العكس، وإلّا لزم ترتّب الحكم على القطع بأىّ شيء أو على حصول القطع لأىّ شخص، فقد ينقض عليه بأنّه على هذا يبطل أصل تقسيم القطع الموضوعىّ إلى الصفتىّ والطريقىّ؛ إذ حتّى في الطريقىّ لابدّ أن تلحظ صفتيّته للقاطع والمقطوع به، وإلّا لزم ترتّب الحكم على حصول القطع بأىّ شيء لأىّ شخص.

فإن أجيب عن ذلك بأنّ في الصفتيّة عنصراً آخر غير عنصر الكشف لهذا أو الكشف عن هذا، ويكفي في تخصيص الطريقىّ بشخص القاطع وخصوص المقطوع به أخذه بما هو كشف لهذا أو كشف عن ذاك.

قلنا: هذا بنفسه قد يدفع الإشكال عن المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) ؛ إذ بإمكانه أن يفرض أخذ خصوصيّة الكشف لهذا القاطع في القطع الصفتىّ الذي اُخذ كصفة للمقطوع به، أو أخذ خصوصيّة الكشف عن هذا المقطوع في القطع الصفتيّ الذي اُخذ كصفة للقاطع؛ كي لا يلزم ترتّب الحكم على القطع بكلّ شيء أو على قطع كلّ إنسان، وفي نفس الوقت لاتتداخل الأقسام.

والواقع: أنّ امتياز الصفتيّة من الطريقيّة لابدّ أن يكون بأحد اُسلوبين: إمّا بافتراض وجود عنصر غريب عن الكاشفيّة في الصفتىّ، أو بافتراض كون المقصود بالكشف في الطريقىّ الجامع بين الكشف الوجدانىّ والكشف التعبّدىّ.

فإن فرض الأوّل، فنحن لا نتصوّر معنىً للصفتيّة بلحاظ المعلوم؛ فإنّ الصفتيّة بلحاظ العالم إنّما تتصوّر لوجود عنصر غريب عن الكشف إمّا هو إحدى ملازمات القطع كسكون النفس، أو هو النسبة الظرفيّة. وهذان هما الوجهان اللذان اختارهما اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) كما مضى. أمّا بلحاظ المعلوم فهو لم يتّصف بأىّ صفة عدا نفس الانكشاف.

وإن فرض الثاني، فهذا النوع من التقسيم إلى الصفتيّة والطريقيّة لا يتلاءم مع تقسيم الصفتيّة بعد ذلك إلى كونها صفة للعالم أو صفة للمعلوم؛ لأنّه لم يقصد بالصفتىّ إلّا ذاك القطع الذي لوحظ فيه خصوص الكشف الخاصّ لا الجامع بين الكشفين.

والواقع: أنّ الهدف من هذا التقسيم كما عرفت كان هو دعوى أقربيّة دليل حجّيّة الأمارة والأصل إلى إثبات قيامها مقام الطريقىّ منه مقام الصفتىّ. والنكتة في ذلك: كون الطريقىّ ملحوظاً في الموضوع بما هو كاشف، والأمارة والأصل كاشفان أيضاً، والصفتىّ ملحوظاً بما هو للعلم من خصوصيّة مفقودة في الأمارة. وقد عبّر الشيخ الأعظم عن هذا بتعبير: أنّه صفة للقاطع، ولا أظنّ أنّه كان هناك نظر إلى خصوصيّة العالم في مقابل المعلوم حتّى يقال إنّه: (وقد يلحظ فيه كونه صفة للمعلوم). فالحقيقة: أنّ تقسيم الصفتىّ إلى كونه صفة للعالم أو للمعلوم ليس إلّا ترفاً في البحث العلمىّ، وإنّما أصل المقصود كان هو أنّ العلم تارة يكون موضوعاً بخصوصه بحيث لا تقوم الأمارة أو الأصل مقامه، واُخرى يكون موضوعاً بما له من الكشف، فيقومان مقامه.

298

 

قيام الأمارات والاُصول مقام القطع

 

الجهة الثانية: في قيام الأمارات والاُصول مقام القطع بأقسامه وعدمه:

والكلام تارة يقع في قيامها مقام القطع الطريقىّ الصرف.

واُخرى في قيامها مقام القطع الموضوعىّ المأخوذ على وجه الكاشفيّة.

وثالثة في قيامها مقام القطع الصفتىّ. فهنا مقامات ثلاثة:

 

1 ـ قيامها مقام القطع الطريقىّ الصرف

 

المقام الأوّل: في قيام الأمارات والاُصول مقام القطع الطريقىّ الصرف فيما له من المنجّزيّة والمعذّريّة.

قد وقع التسالم بينهم (من غير من حكم بثبوت العقاب على نفس مخالفة الأمارات والاُصول) على قيام الأمارات والاُصول مقام القطع الطريقىّ. والمحقّق الخراسانىّ(رحمه الله)قد نازع في ذلك بالنسبة الى الاُصول، لكن كلامه راجع إلى بحث لفظىّ، وبحسب المعنى يعترف بذلك.

ولنتكلّم الآن في قيام الأمارات والاُصول مقام القطع فيما له من المنجّزيّة، ويظهر من ذلك الكلام بالنسبة إلى المعذّريّة.

وقد ذكر في كلماتهم إشكال على هذا الأمر المتسالم عليه بداعي الفنّ لابداعي الإبطال الحقيقي: وهو أنّ لنا قاعدتين متقابلتين:

قاعدة حجّيّة القطع الراجعة إلى عدم قبح العقاب مع البيان، وقاعدة قبح العقاب بلا بيان. ولا يعقل قيام الأمارات والاُصول مقام القطع الطريقيّ، إلّا بأن تكون مخرجة للمورد عن القاعدة الثانية، ومدخلة له تحت القاعدة الاُولى، وهذا ما لا يكون؛ لأنّ الأمارة والأصل ليست بياناً للحكم الواقعىّ، فما زال الحكم الواقعىّ ثابتاً في دائرة ما لم يبيّن، ودليل حجّيّة الأمارات والاُصول إنّما أثبت الحكم الطريقىّ لا الحكم الواقعىّ، وبما أنّ

299

الحكم الطريقىّ ليس وراءه في غير فرض المصادفة للواقع شيء من مبادئ الحكم من الحبّ والبغض والمصلحة والمفسدة، إذن فلا عقاب عليه، وإنّما العقاب على الواقع، والمفروض عدم تماميّة البيان بالنسبة إليه.

ولو التزمنا بثبوت العقاب على نفس مخالفة الأمارة والأصل إمّا بدعوى السببية، أو بدعوى استحقاق العقاب على مخالفة الحكم الطريقىّ. فهذا ليس قياماً للأمارة والأصل مقام القطع الطريقىّ؛ فإنّ القطع الطريقىّ ينجّز الواقع، وهذا لم ينجّز الواقع. هذا مع ما سيأتي في محلّه ـ إن شاء الله ـ من بيان بطلان هذين المبنيين.

وهذا الإشكال إنّما يتوجّه بناءً على مبنى القوم: من إسناد الحجّيّة إلى القطع، ودعوى قاعدة اُخرى في قبال قاعدة حجّيّة القطع: وهي قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

أمّا بناءً على ما هو المختار: من أنّ الحجّيّة ليست هي من شأن القطع بما هو قطع، بل من شأن مولويّة المولى، وأنّ حقّ مولويّة المولى كما يشمل أحكامه المقطوعة كذلك يشمل أحكامه المشكوكة، فمن احتمل وجود حكم للمولى، ولم يقطع بأنّه يرضى بتركه عند الشكّ ـ بالنحو الذي سنجمع به بين الحكم والرضا بتركه في بحث الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعيّ ـ وجب عليه عقلاً الطاعة والعمل بالحكم المحتمل.

أقول: بناءً على هذا المبنى لا يبقى موضوع للإشكال في منجّزيّة الأمارة والأصل؛ لأنّ نفس الاحتمال لحكم منجّز بحسب الفرض، ولا مورد لقاعدة قبح العقاب بلا بيان. فيرجع البحث فيما نحن فيه إلى تصوير وجه قيام الأمارات والاُصول مقام القطع الطريقىّ في التعذير لا في التنجيز. وتصويره في غاية السهولة بناءً على ما سيأتي في بحث الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ من إمكانيّة اجتماع الحكم مع الرضا بتركه عند الشكّ. ونقول في المقام: إنّ العقل إنّما يحكم بوجوب الطاعة للحكم المشكوك فيما إذا لم يحصل القطع برضا المولى بمخالفة حكمه عند الشكّ، ودليل الأمارة أو الأصل أثبت رضاه بها.

أمّا لو بنينا على مباني القوم من قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وأنّ القطع حجّة بذاته بلحاظ كونه بياناً بخلاف الشكّ، فهنا يتّجه الإشكال: في أنّ الأمارة والأصل كيف ينجّزان الواقع على رغم من أنّ الشكّ في الواقع مازال محفوظاً؟! فبناءً على هذه المباني لابدّ من استئناف البحث، فنقول: