94

وانّ الموكّل لا يوقع إلّا الوكالة، أمّا الإذن فإيقاع لا يحتاج إلى القبول والمخاطب لو لم يقبل الوكالة أو ردّ الإيجاب ثم باع لا بعنوان قبول الوكالة لم ينفذ البيع بخلاف المأذون.

ولا يوجد في الحقيقة في هذا الكلام إشكال فنّي على المحقّق النائيني (رحمه الله)فالمحقّق النائيني (رحمه الله) هو الذي يقول: إنّ العقود الإذنية ليست عقوداً في الحقيقة لغة وعرفاً وهو الذي يقول(1): إنّ الوكالة على قسمين فقسم منها يكون عقداً، وقسم آخر يكون إذناً، فلا يبقى عدا انّ الفقهاء هل يسمّون هذه الاُمور الإذنية عقوداً أو لا؟ وانّها هل تشتمل على إيجاب وقبول أو لا؟

وأظنّ أنّ الفطرة العرفيّة ترى هذه الاُمور مجرّد اُمور إذنيّة بحتة بما فيها الوكالة، وأنّها ليست بحاجة إلى القبول سواء سمّيت عقوداً مسامحةً أو لا، فلا أثر عملي لمجرّد التسمية.

 


(1) راجع منية الطالب 1: 33، وكتاب المكاسب والبيع للشيخ الآملي 1: 82.

95

 

أركان العقود وشرائطها

4

 

 

المتعاقدان

 

 

1 ـ اعتبار الأهلية في المتعاقدين.

2 ـ اعتبار الملكية أو الولاية أو الإذن.

 

 

97

 

 

 

الركن الثالث: المتعاقدان. وكون العاقد ركناً في العقد بديهيّ.

 

اعتبار الأهليّة في المتعاقدين

 

وأوّل شرط نذكره للعاقد هو أن لا يكون قاصراً أو ناقص الأهليّة، وهذا عنوان مشير إلى واقع ما يوجب نقص الأهليّة كالصغر والجنون والسفه فلا يرد عليه لزوم أخذ المحمول في الموضوع ببيان انّ نقص الأهليّة عبارة اُخرى عن عجزه عن إجراء العقود وهذا هو الحكم في المقام لا الموضوع.

ولا نتكلّم هنا عن الحجر الطارىء بحكم الحاكم بواسطة التفليس، أو عدم جواز تصرّف المريض في مرض الموت في التركة أو عدم جواز تصرّف الزوجة في مالها بلا إذن الزوج بناء على القول بذلك، أو عدم جواز تصرّف المملوك بلا إذن مالكه ونحو ذلك، فأمثال هذه الأبحاث نحوّلها على أبوابها الخاصّة ونقتصر هنا على ذكر القصور في ذات المالك، وهذا القصور لا يكون إلّا بصغر أو جنون أو سفه أو ذهول، ولا حاجة للبحث عن الجنون.

وأمّا السفه فهو عبارة عن كون الإنسان الكبير غير رشيد ونقتصر في بحث الرشد والسفه وكذلك الذهول على حديث مختصر بعد انتهاء البحث عن شرط البلوغ أو مانعية الصغر، إذن فلدينا في اشتراط أهلية العاقد بحثان:

 

98

 

شرط البلوغ:

البحث الأوّل ـ في شرط البلوغ أو حجر الصغير عن التصرّف في أمواله.

دلالة الكتاب على اشتراط البلوغ:

ويدلّ على ذلك من الكتاب قوله تعالى:

﴿وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً ان يكبروا ومن كان منكم غنيّاً فليستعفف ومَن كان فقيراً فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا﴾(1).

واختصاص الآية باليتامى لا يضر بالاستدلال بشأن كل صغير لعدم احتمال الفرق، وكأنّ النكتة في نزولها بخصوص شأن اليتامى: إنّ ما كان محلا للابتلاء بلحاظ حفظ أموالهم أو صرف المال عليهم أو أخذ اُجور الخدمة عليهم كانوا هم اليتامى.

أمّا غير اليتيم فهو يعيش عادة تحت كنف أبيه ولا يطلب الأب عادة الاُجور بل لا يملك الطفل الذي في كنف أبيه غالباً مالا يخصّه فنزلت الآية بلحاظ الواقع الخارجي الذي كان يتطلّب بيان أحكام هذه الاُمور.

مّا الحَجر فلا يختص باليتيم كما هو واضح.

وهل الآية تدلّ على شرط البلوغ أو تدلّ على شرط الرشد فحسب؟

قد يستفاد من كلمة (أن يكبروا) شرط البلوغ ببيان انّ الآية منعت عن أن


(1) النساء: 6.

99

يأكل الولي مال اليتيم إسرافاً أو بداراً مخافة أن يكبروا، وهذا يعني انّ اليتيم انّما يتسلّم المال من الولي بعد أن يكبر.

ولكن قد يدغدغ في هذا الاستدلال بدعوى احتمال كون المقصود أنّ اليتيم انّما يقدر على الغلبة التكوينية على الولي وأخذ المال منه قهراً بعد أن يكبر فقد يستغل الولي فرصة عجزه التكويني عن ذلك فيأكل المال إسرافاً وبداراً قبل أن يكبر.

وعلى أيّة حال فهل صدر الآية وحده كاف في الاستدلال بقطع النظر عن الاستيناس بما في ذيلها من كلمة (أن يكبروا) أو لا؟

ذكر المحقّق النائيني (رحمه الله)(1) في معنى الآية المباركة احتمالين:

الأوّل ـ أن يكون قوله: ﴿حتى إذا بلغوا النكاح﴾ غاية للابتلاء خارجة عن المغيّى، أي انّ زمان الابتلاء هو ما قبل البلوغ ويكون قوله: ﴿فان آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم﴾ تفريعا على الابتلاء قبل البلوغ، فالمعنى انّ الابتلاء يكون لما قبل البلوغ وإذا ظهر بالابتلاء رشدهم وجب دفع المال إليهم، وهذا يعني انّه لا يشترط في دفع المال البلوغ بل يكفي الرشد.

والثاني ـ أن تكون حتى للغاية ويكون قوله: فان آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم تفريعاً على الابتلاء مع البلوغ فالمعنى: ابتلوهم من زمان قابليتهم للابتلاء إلى زمان البلوغ فإذا بلغوا راشدين فادفعوا إليهم أموالهم، وهذا يعني دلالة الآية على شرط البلوغ، وانّما أمر بالابتلاء من قبل البلوغ بأمل أن يثبت


(1) راجع منية الطالب 1: 169 ـ 170، وكتاب المكاسب والبيع للشيخ الآملي 1: 396 ـ 397.

100

رشده من أوّل البلوغ أو قبله فيدفع إليه المال من حين البلوغ في حين انّنا لو بدأنا بابتلائهم من حين البلوغ فقد نتأخّر عن دفع المال إليهم فترة الابتلاء، مع انّهم كانوا مستحقّين للدفع من حين بلوغهم لانّهم بلغوا راشدين.

واستظهر المحقّق النائيني (رحمه الله) المعنى الثاني وأبطل المعنى الأوّل حسب ما ورد في منية الطالب بوجهين:

الأوّل ـ أنّ المعنى الأوّل يقتضي كفاية الرشد وحده لدفع المال إليهم وكفاية البلوغ وحده أيضاً لدفع المال إليهم، فدفع المال إليهم مشروط بظهور الرشد، وهذا الحكم المشروط مغيّى ببلوغ النكاح، أي انّهم إذا بلغوا النكاح دفعت إليهم أموالهم ولو لم يكونوا راشدين في حين انّنا لئن احتملنا كفاية الرشد لدفع المال إليهم فانّنا لا نحتمل كفاية البلوغ بلا رشد لدفع المال إليهم لانّ هذا يخالف الآية السابقة على هذه الآية وهي قوله تعالى: ﴿ولا تأتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفاً﴾(1) فانّ النهي عن ايتاء السفهاء للمال يعني شرط الرشد. وهذا البيان هو الذي نحمل عليه عبارة منية الطالب ونقول: انّه في أكبر الظن هو المقصود رغم ضعف العبارة وغموضها فراجع.

والثاني ـ انّ قوله: ﴿فان آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم﴾ لو كان تفريعاً على الابتلاء لا على الابتلاء مع البلوغ كان جعل بلوغ النكاح غاية لغواً وكان المناسب ان يقال: وابتلوا اليتامى فان آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم.

ويمكن الجواب على الوجه الأوّل لو بقي وحده بانّ مفاد الآية على المعنى


(1) النساء: 5.

101

الأوّل لا ينحصر توجيهه بفرض كفاية البلوغ لدفع المال، بل يحتمل أن يكون المقصود بيان حكم ما قبل البلوغ وهو الاختبار مع دفع المال إليهم إن ثبت رشدهم مع السكوت عن حكم ما بعد البلوغ، ولعل البلوغ لا أثر له أصلا كما يمكن الجواب على الوجه الثاني لو بقى وحده بما أفاده السيد الإمام (رحمه الله)(1): من انّه لعل جعل البلوغ غاية كان لأجل إفهام انّ لزوم الابتلاء انّما هو قبل البلوغ دون ما بعد البلوغ، لانّ البلوغ وحده كاف في دفع المال إليهم أي أنّ الاختبار وإمساك المال له غايتان: كل منهما وحدها كاف في دفع المال إليهم احداهما ظهور الرشد، والثانية البلوغ.

إلّا انّنا إذا ضممنا الوجهين احدهما بالآخر وكوّنّا منهما وجهاً واحداًلم يرد ما عرفته من الإشكال وذلك بأن يقال: إنّنا إن حملنا الآية على المعنى الأوّل وهو كون قوله: ﴿فان آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم﴾ تفريعاً على الابتلاء قبل البلوغ فالرشد وحده كاف لدفع المال إليهم، فالأمر عندئذ لا يخلو من أحد فرضين فإمّا أن نفترض أنّ الرشد وحده يجوّز دفع المال إليهم، والبلوغ وحده أيضاً يجوّز ذلك ولو لم يكونوا راشدين، أو نفترض أنّ الرشد وحده يجوّز دفع المال إليهم أمّا البلوغ فلا اثر له أصلا.

فانْ فرض الأوّل ورد عليه الوجه الأوّل لانّ فرض كفاية البلوغ وحده لدفع المال إليهم وإن لم يكونوا راشدين ينافي الآية السابقة وهي قوله: ﴿لا تؤتوا السفهاء أموالكم﴾.

وإن فرض الثاني ورد عليه الوجه الثاني لانّ البلوغ إن كان لا أثر له فجعله


(1) راجع كتاب البيع 2: 8.

102

في الآية الشريفة غاية لغو، وهذا بخلاف ما لو أخذنا بالمعنى الثاني وهو تفريع (ان آنستم منهم رشداً فادفعوا... الخ)، تفريعاً على الابتلاء مع البلوغ فعندئذ يكون الابتلاء بما هو مطعّم ـ بقرينة هذا التفريع ـ بالحكم بعدم الدفع ولو فرض رشيداً مغيّى بالبلوغ ; لانّ البالغ إذا ثبت رشده يدفع إليه ماله بخلاف غير البالغ.

ولا يبعد أن يكون هذا هو مراد المحقّق النائيني (قدس سره)كما يشهد لذلك أنّ الوجهين لم يذكرا في تقرير الشيخ الآملي بهذا الشكل المنفصل أحدهما عن الآخر، بل ذكرا بالنحو الذي قلناه من الدمج بينهما ضمن دليل واحد بفرق انّه ليس فيه استشهاد بقوله تعالى: ﴿لا تؤتوا السفهاء أموالكم﴾، وانّما فرض فيه عدم كفاية البلوغ بلا رشد لدفع المال أمراً واضحاً ومتفقاً عليه بين الكل. فذكر: انّ حمل الآية على المعنى الأوّل يستلزم أحد أمرين، إمّا لغوية ذكر البلوغ لانّه لا أثر له نهائياً، أو كفاية أحد الأمرين: البلوغ والرشد، وهذا يعني جواز دفع المال للبالغ غير الرشيد وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به ولم يلتزم به أحد.

هذا. وقد أورد السيد الإمام (رحمه الله)(1) على الوجه الأوّل من الوجهين الواردين في منية الطالب في المقام: انّ قوله تعالى: ﴿لا تؤتوا السفهاء أموالكم﴾لا يدلّ على ما أراده المحقّق النائيني من إبطال المعنى الأوّل للآية وتأييد المعنى الثاني، بل قد يؤيّد المعنى الأوّل بدعوى انّ هذه الآية تخصيص لما ورد قبلها بآيات من قوله: ﴿وآتوا اليتامى أموالهم﴾(2) فإطلاق قوله ﴿آتوا اليتامى أموالهم﴾يقتضي وجوب الإيتاء ولو مع سفههم، وقوله تعالى: ﴿لا تؤتوا


(1) راجع كتاب البيع 2: 8.

(2) النساء: 2.

103

السفهاء أموالكم﴾ تقييد لذلك، أي لا تؤتوهم إن كانوا سفهاء فهذا يعني: آتوا اليتامى أموالهم إن أصبحوا راشدين، وهذا هو ما يستفاد من قوله تعالى: ﴿وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً﴾.. بناء على المعنى الأوّل.

وهذا الإشكال أيضاً كما ترى لا يرد على التقريب المذكور في تقرير الشيخ الآملي، وانّما يختص بالتقريب المذكور في منية الطالب حيث استفاد فيه من قوله تعالى: ﴿لا تؤتوا السفهاء أموالكم﴾ أمّا تقرير الشيخ الآملي فقد اعتمد على وضوح عدم جواز إيتاء المال للبالغ غير الرشيد فقهياً من دون استدلال بتلك الآية.

على انّه قد يقال: إنّ هذا الإشكال لا يردّ حتى على ما جاء في منية الطالب وذلك بدعوى: انّ السفيه يقصد به البالغ غير الرشيد لا الصغير، أو انّ البالغ غير الرشيد هو القدر المتيقن منه بحيث لا يحتمل تخصيصه بالصغير وذلك بنكتة انّ السفه بمعنى خفّة العقل والمصداق البارز منه هو البالغ الذي خفّ عقله، أمّا الصغير الذي لا يتوقّع منه ضرورة الرشد فعدم الرشد فيه لا يعتبر خفّة وسفهاً، أو انّ المتيقن من إطلاق الكلام غيره.

ثم انّه قد يقال: إنّ تقريب المحقّق النائيني (رحمه الله) للاستدلال انّما يتمّ بعد دمج الوجهين في وجه واحد بناء على ما بنى هو عليه في الاُصول من دلالة الغاية إذا كانت خارجة عن المغيّى على المفهوم، أمّا لو قلنا بانّ الغاية لا تدلّ إلّا على ارتفاع شخص الحكم بحصولها دون سنخ الحكم، فهذا الاستدلال لا يتمّ لانّه يبطل بذلك الشق الثاني من شقّي الكلام وهو القول بانّه إن كانت الغاية خارجة عن المغيّى وكان ا لبلوغ غير مؤثّر في جواز الدفع، أي انّ الرشد وحده يكفي للدفع

104

والبلوغ وحده لا يكفي كان جعل البلوغ في الآية الشريفة غاية لغواً فانّ هذا يجاب عليه: بانّ البلوغ انّما هو غاية لشخص الحكم فليس من المترقّب تأثير هذه الغاية على سنخ الحكم بنفيه.

نعم جعل هذه الغاية لشخص الحكم بحاجة إلى مناسبة عرفية تخرج ذلك عن اللغوية ويكفي أن تكون المناسبة في ذلك أي في التركيز على خصوص حكم ما قبل الغاية رغم تماثله لحكم ما بعد الغاية، انّ توهّم عدم كفاية الرشد لدفع المال انّما يختص بما قبل البلوغ دون ما بعده وكانت الآية بصدد دفع هذا التوهّم ساكتة عن حكم ما بعد البلوغ.

إلّا انّ الصحيح انّ إنكار مفهوم الغاية بشكل عام لا يضرّ بالاستدلال في المقام وذلك لانّ الغاية في خصوص المقام تدلّ على المفهوم لانّ المرتكز عقلائياً على تقدير كفاية الرشد في الصبي لدفع المال إليه مع كون دفع المال في البالغ أيضاً مشروطاً بالرشد هو انّ حكم اشتراط دفع المال إليه في ما قبل البلوغ وبعده بالابتلاء يكون بجعل واحد لا بجعلين فلا يحتمل عقلائياً انّ موضوعية الرشد للدفع أو ضرورة الابتلاء فيما قبل البلوغ تكون بجعل، وفيما بعده تكون بجعل آخر، إذن فيكفي جعل الغاية لشخص الحكم لفهم انتفاء سنخ الحكم بحصولها، لانّ انتفاء شخص الحكم عند انحصار الحكم بذاك الشخص مساوق لانتفاء سنخ الحكم.

ثم انّ التفسيرين اللذين ذكرهما المحقّق النائيني للآية ثم استظهر الثاني منهما كلاهما مبنيان على جعل «حتى» في الآية الشريفة للغاية مع فرض قوله: «فإن آنستم الخ» تارة تفريعاً على الابتلاء قبل البلوغ كما هو الحال في التفسير الأوّل، واُخرى على الابتلاء والبلوغ كما هو الحال في التفسير الثاني، في حين انّ

105

لـ «حتى» معاني ثلاثة: الغاية، والعطف، والتعليل، إذن فالاستدلال بالآية على شرط البلوغ بإبطال التفسير الأوّل من التفسيرين لا يتمّ إلّا بإبطال الاحتمالات الاُخرى أو إثبات انّ الاحتمالات الاُخرى أيضاً تناسب الاستدلال بالآية فلتتميم منهج استدلال المحقّق النائيني (رحمه الله) نقول: إنّ هنا احتمالين آخرين في الآية المباركة:

الأوّل ـ أن تكون حتى للعطف من قبيل أكلتُ السمكة حتى رأسها بنصب الرأس فكأنّ الآية تقول: وابتلوا اليتامى في كل زمان حتى إذا بلغوا النكاح وهنا تتمّ الجملة ويكون قوله «فإن آنستم منهم رشداً الخ» جملة اُخرى، وبناء على هذا تكون الآية دالة على انّ الابتلاء لكشف الرشد لا بد منه سواء قبل البلوغ أو بعده وانّه متى ما انكشف الرشد يدفع إليه المال إذن فالبلوغ لا أثر له في المقام.

وهذا الاحتمال لم يتعرّض له المحقّق النائيني (رحمه الله).

وعلى أي حال فهذا الاحتمال يمكن دفعه بدعوى انّ حمل حتى على العطف لدى إمكان حمله على غير العطف خلاف الظاهر على ما قيل في علم العربية(1) من انّ استعمال حتى في العطف نادر حتى انّ الكوفيين اوّلوا مثل أكلتُ السمكة حتى رأسها بالنَصب بإرجاعها إلى حتى الابتدائية مع تقدير ما يكمل الجملة بعد حتى.

والثاني ـ أن تكون حتى للتعليل وتكون إذا أداة شرط وعندئذ تكون حتى حرف ابتداء(2) وقد ذكر هذا الاحتمال المحقّق النائيني على ما في منية الطالب


(1) راجع بهذا الصدد مغنى اللبيب، الباب الأوّل، حرف حتى.

(2) نقل صاحب الجواهر هذا الوجه عن المرحوم بحر العلوم في 26: 19.

106

بعنوان: (قيل انّ إذا للشرط وجوابها مجموع الشرط والجزاء وحتى حرف ابتداء) ولم يصبح المحقّق النائيني بصدد دفع هذا الاحتمال أو تأييده وكانّه لأجل انّ هذا الاحتمال وجوده وعدمه سيّان في المقام، لانّ هذا الاحتمال هو في صالح الاستدلال بالآية وليس ضده لانّ معنى الآية على تقدير شرطية إذا هو جعل البلوغ شرطاً في استلام المال وهذا هو المقصود.

هذا غاية ما يمكن ان يذكر لتوجيه استدلال المحقّق النائيني (رحمه الله) في المقام.

إلّا انّ الصحيح رغم كل هذا عدم تمامية استدلاله في المقام لانّ الشق الثاني من شقّي استدلاله وهو القول بانّه لو حملت الآية على المعنى الأوّل وفرض انّ البلوغ لا أثر له في دفع المال وان تمام الموضوع لدفع المال انّما هو الرشد في كل الحالات لزم كون جعل البلوغ غاية لغواً يرد عليه: انّ بالإمكان افتراض انّ الرشد هو الموضوع لدفع المال دون البلوغ ومع ذلك لا يكون جعل البلوغ غاية في الآية الشريفة لغواً وذلك بأن يكون البلوغ غاية للابتِلاء ويكون المعنى انّ دفع المال إلى الصبي يكون مشروطاً بالرشد، وانّه يجب ابتلاء الصبي لمعرفة رشده، وأمّا البالغ فالرشد وإن كان ايضاً شرطاً في دفع المال إليه ولكن لا يجب ابتلاؤه بل تجري فيه أصالة الرشد فإذا بلغ الصبي يدفع إليه ماله ما لم ينكشف عدم رشده، وليس دفع المال إليه لعدم اشتراط رشده بل لأصالة الرشد فيه، فإذا جاء هذا الاحتمال بطل الاستدلال لانّنا احتفظنا في هذا الاحتمال بغائية البلوغ للابتلاء من دون ان يلزم من ذلك عدم شرطية الرشد في دفع المال إلى البالغ.

هذا تمام الكلام في تقريب المحقّق النائيني (رحمه الله) للاستدلال بالآية في المقام وإبطاله.

107

وللسيد الإمام (رحمه الله) تقريب آخر(1) للاستدلال بالآية فهو أولا يدّعي ظهور كلمة (حتى) في الغاية وبهذا يبطل احتمال العطف الذي لم يكن في صالح الاستدلال بالآية ثم يقول: إنّ معنى جعل البلوغ غاية للابتلاء هو انّ الابتلاء مستمر ولو عرفاً إلى أوّل البلوغ، فإذا فرّع على هذا الابتلاء المستمر حسب الفرض إلى أوّل البلوغ قوله: ﴿فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم﴾ فلا محالة يكون دفع المال إليهم بعد البلوغ وهذا هو المقصود.

أقول: إنّ الابتلاء ليس دائماً مستمراً ولو عرفاً إلى زمان البلوغ لانّنا لو افترضنا انّنا ابتلينا اليتيم فتبيّن بذلك رشده ثم بقيت فترة طويلة نسبيّاً بين ظهور الرشد بالابتلاء والبلوغ فهنا لا يصدق ولو عرفاً استمرار الابتلاء إلى زمان البلوغ، وما ورد في الآية من جعل البلوغ غاية للابتلاء لا يعني كون البلوغ غاية لزمان فعلية الابتلاء بمعنى ضرورة استمرار الابتلاء الفعلي إلى زمان البلوغ ولو عرفاً، وانّما يعني جعله غاية للفترة التي جعلت مهلة للابتلاء بمعنى انّه لا بدّ من البدء بالابتلاء في فترة زمنية قبل البلوغ بحيث نضمن كفايتها عادة إلى أوّل البلوغ لظهور الرشد إن كان رشيداً فالفترة التي جعلت ظرفاً للابتلاء تكون مستمرة إلى حين البلوغ بحيث لو فرض انّه لم يظهر الرشد في الأيّام الاُولى من الابتلاء فهناك مجال للاستمرار في الابتلاء إلى حين البلوغ، لا انّه لا بدّ من استمرار الابتلاء بالفعل إلى حين البلوغ ولو ظهر الرشد في الأيّام الاُولى.

ولكن مع هذا يمكن تحوير المطلب بشيء من الإصلاح كي يتمّ الاستدلال بالآية ـ ولعلّ هذا هو لبّ مقصود السيّد الإمام (رحمه الله) ـ ولو ارتكازاً وهو ان يقال: إنّه


(1) راجع كتاب البيع 2: 8.

108

حينما جعل البلوغ غاية لفترة الابتلاء ولو بمعنى فترة المهلة للابتلاء لا فترة الابتلاء الفعلي المستمر، وجاء تفريع دفع المال بشرط ظهور الرشد بعد ذكر هذه الغاية فهذا يكون لا محالة ظاهراً في تفريع دفع المال على تمامية هذه الفترة لا على مجرّد الابتلاء الفعلي المظهر للرشد ولو قبل البلوغ وبهذا يثبت المطلوب.

أمّا ما أفاده من استظهار كون (حتى) للغاية فإن لم نقبله كفانا وضوح كون الحمل على العطف خلاف الظاهر كما مضى، أمّا احتمال التعليل فلا يضرّنا لانّه أيضاً في صالح الاستدلال كما مضى.

هذا تمام الكلام في تقريب السيّد الإمام للاستدلال مع إصلاحه أو توجيهه.

والقاسم المشترك بين هذا التقريب وتقريب المحقّق النائيني (رحمه الله) انّهما يستفيدان المطلوب من جعل كلمة (حتى) للغاية فالابتلاء وعدم دفع المال مستمران إلى غاية البلوغ بأحد التقريبين، وهذا يعني شرطية البلوغ في جواز التصرّف بالمال.

ولكن صاحب الجواهر (رحمه الله) سلك مسلكاً آخر للاستدلال بالآية(1) فهو لا يستفيد المطلوب من دلالة حتى على الغاية، بل يستفيد المطلوب من كلمة إذا التي تفترض أداة ظرف وشرط فكلمة (حتى) التي هي للابتداء وتدخل على جملة تامة قد دخلت في المقام على قضية شرطية شرطها قوله بلغوا النكاح وجزاؤها إمّا هو قوله: ﴿فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم﴾ أي انّ جملة الشرط والجزاء جزاء للشرط الأوّل كما ينقله صاحب الجواهر عن السيّد بحر العلوم (رضوان الله عليه) أو هو قوله: ﴿فادفعوا إليهم أموالهم﴾ بأن يكون هذا جزاء لمجموع


(1) راجع الجواهر 26: 18 ـ 19.

109

الشرطين ويكون الشرطان شرطين مستقلين في عرض واحد كما احتمله أو استظهره صاحب الجواهر، والأوّل أولى بدليل دخول فاء الجزاء على قوله: ﴿إن آنستم منهم رشدا﴾ولو كان الشرطان عرضيين لكن المناسب العطف بالواو بأن يقول: حتى إذا بلغوا النكاح وآنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم.

وعلى أيّة حال فإذا فرضنا انّ دفع المال إليهم مشروط بالبلوغ أو أنّ دفع المال بشرط الرشد مشروط بالبلوغ فقد ثبت المطلوب من الحجر على أموال الأطفال.

وأورد صاحب الجواهر (رحمه الله) على هذا التقريب إشكالاً وهو إبداء احتمال ان لا تكون إذا في المقام أداة ظرف وبالتالي لا تكون أداة شرط فيكون معنى الآية: ابتلوا اليتامى إلى حين بلوغهم وتكون حتى للغاية، وقد فرّع على هذا الابتلاء دفع المال إليهم متى ما ظهر رشدهم، وهذا يعني جواز دفع المال إليهم قبل البلوغ لدى ظهور الرشد، لأنّه ليس المفروض استمرار الابتلاء إلى حين البلوغ حتى مع ظهور الرشد في أوائل الأيّام وانّما الابتلاء يكون لمعرفة الرشد، فان عرف الرشد انقطع الابتلاء إذن فالآية تدلّ على عدم اشتراط البلوغ في دفع المال لا على اشتراطه.

وأجاب على ذلك بوجوه:

أوّلاً ـ انّ خروج إذا عن الظرفية ان سلّم وروده في لغة العرف فهو نادر جدّاً لا يحمل عليه التنزيل ومقصوده (رحمه الله) بهذا إمّا الإشارة إلى انّ حمل إذا هنا على هذا الاستعمال النادر بعد فرض صحّة هذا الاستعمال حمل على استعمال غير فصيح، أو الإشارة إلى انّه خلاف الظاهر.

وثانياً ـ انّ هذا يعني أنّ إيناس الرشد قبل البلوغ هو الشرط في دفع المال لانّ قوله: ﴿فإن آنستم منهم رشدا﴾ إشارة عندئذ إلى نفس الرشد المستفاد من

110

الابتلاء المذكور في صدر الآية، فلو بلغ واُونس منه الرشد بعد البلوغ لا قبله لا يدفع إليه المال وهذا واضح البطلان.

وثالثاً ـ انّنا لو أوّلنا الشرط في قوله: إن آنستم منهم رشداً على الرشد المستفاد من الابتلاء قبل البلوغ فأمّا إن يحمل على إيناس الرشد مطلقاً، أو على إيناسه بعد البلوغ، فإن حمل على إيناس الرشد مطلقاً كان معنى ذلك انّ إ يناس الرشد شرط في دفع المال حتى في البالغين، ولكن الابتلاء مغيّى بالبلوغ ومعنى ذلك انّ الصبي يجب اختباره حتى يدفع إليه المال لو ثبت رشده، وأمّا البالغ فلا يجب اختباره ولكن لو ثبت رشده ولو من دون اختبار وجب دفع المال إليه، وهذا يعني انّ البالغ أسوء حالاً من الصبي فيجوز إهماله وعدم اختباره إلى أن يظهر رشده بنفسه وإن طال الزمان وسهل الاختبار، وهو غير محتمل.

وإن حمل على إيناس الرشد بعد البلوغ فهذا أوّلاً لا يبطل الاستدلال بالآية لانّ هذا ينتج عندئذ أنّ دفع المال مشروط بإيناس الرشد بعد البلوغ فلا يجوز دفع مال اليتيم إليه قبل البلوغ وهو المطلوب.

وثانياً يرد عليه نفس ما شرحناه من انّه يلزم من ذلك جواز إهمال البالغ وعدم اختباره فما دام صغيراً يجب اختباره بأمل أن يدفع إليه المال في أوّل البلوغ، أمّا إذا بلغ ولم يختبر، أو لم يكن الاختبار الذي حصل قبل البلوغ كافياً، أو ثبت عدم رشده قبل البلوغ فبمجرّد البلوغ يجوز إهماله إلى أن يظهر الرشد بنفسه وهذا غير محتمل.

ثمّ أبدى (رحمه الله) احتمالاً آخر في الآية وهو: حمل (إذا) على الظرفية من دون أن تكون شرطاً، فهي ليست متعلّقة بما بعد (الفاء) وانّما هي متعلّقة بعامل محذوف تقديره مثلاً أن يقال: وابتلوا اليتامى حتى تنظروا إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم

111

رشداً فادفعوا إليهم أموالهم.

وكأنّه أبدى (رحمه الله) هذا الاحتمال في المقام لعلاج كل الإشكالات الثلاثة التي مضت: فالإشكال الأوّل وهو ندرة أو استبعاد خروج (إذا) عن الظرفية لا يرد هنا لانّنا لم نفرض خروجها عن الظرفية، وخروجها عن الشرطية ليس نادراً، وأمّا الإشكال الثاني والثالث وهما كون قوله ﴿فإن آنستم منهم رشداً﴾ متفرّعاً على الابتلاء قبل البلوغ، فإمّا أن يلزم منه عدم دفع المال إلى البالغ إن رشد بعد البلوغ، أو يلزم منه إهمال البالغ وعدم ابتلائه إلى أن يظهر رشده فأيضاً لا يردان في المقام لوضوح ان قوله فإن آنستم ـ إلى آخره ـ متفرّع عندئذ على تنظروا إذا بلغوا النكاح لا على ابتلوا اليتامى.

ولكنّه يقول (رحمه الله): إنّ هذا الاحتمال خلاف الظاهر لحاجته إلى التقدير على انّ هذا الاحتمال هو في صالح الاستدلال، وكأنّ نظره في كون هذا الاحتمال في صالح الاستدلال إلى ما أشرنا إليه من وضوح كون قوله فإن آنستم منهم رشداً ـ الى آخره ـ متفرعاً عندئذ على حتى تنظروا إذا بلغوا النكاح، إذن فالشرط في قوله: إن آنستم منهم رشداً يكون بمعنى إن آنستم منهم رشداً وهم بالغوا النكاح، وهذا يعني انّ البلوغ شرط في دفع أموالهم إليهم.

وهـذا الذي ذكرناه لا يفرّق فيه بين افتراض كلمة حتى عندئذ للغاية أو للتعليل.

بقي الكلام في الوجوه الثلاثة التي استدلّ بها على كون إذا في المقام للظرفية فنقول:

أمّا الوجه الأوّل وهو كون خروج إذا عن الظرفية إن صحّ نادراً لا يحمل عليه التنزيل فقد أجاب عليه السيّد الإمام (رحمه الله) بانّ ندرة استعمال (إذا) في غير

112

الظرفية ما لم تكن مخلّة بالفصاحة لا توجب عدم حمل التنزيل عليه وذلك لوجود قرينة توجب ظهور الكلام في إرادة هذا المعنى النادر وهو (حتى) الغائية فإنّ العرف يفهم من الآية انّ (حتى) للغاية ولا يستقيم ذلك إلّا بخروج (إذا) عن الظرفية وبهذا يثبت ظهور الآية في إرادة غير الظرفية.

أقول: إن سلّمت صحّة وفصاحة استعمال (إذا) في غير الظرف فلا شكّ في انّ ندرته توجب ظهور (إذا) في الظرفية فإن فرض لـ (حتّى) ظهور في الغائية أقوى من هذا الظهور ثبت ما قاله السيّد الإمام من ظهور الآية في غير الظرفية، لانّ ظهور (حتى) في الغاية غلب على ظهور (إذا) في الظرفية ولكن لا أدري انّ مقصوده (رحمه الله)هو ادّعاء ظهور (حتى) بشكل عام في الغاية مهما أمكن حملها على معنى الغاية أو انّ مقصوده هو ادّعاء ظهورها في الغاية في خصوص هذه الآية المباركة؟ فإن كان المقصود هو الثاني فهو بحاجة إلى فرض قرينة خلقت هذا الظهور ونحن لا نعرفها.

وإن كان المقصود هو الأوّل فنحن نسلّم ظهور (حتى) في الغاية إن كان ما يقابلها هو العطف لانّ العطف نادر ولكن لا نسلّم ظهورها في الغاية حينما يكون الاحتمال الآخر هو التعليل فانّ هذا الاستعمال أيضاً رائج في كلمة (حتى) كرواج استعمالها في الغاية.

وأمّا الوجه الثاني وهو انّه لو فرض خروج (إذا) عن معنى الظرفية وكون (حتى) للغاية إذن فقوله: إن آنستم منهم رشداً إشارة إلى نفس الرشد المستفاد بواسطة الابتلاء قبل البلوغ وهذا يعني انّه لو بلغ ثم اُونس منه الرشد لم يدفع إليه ماله وهذا واضح البطلان فقد يجاب عليه: بانّ الارتكاز العرفي ومناسبات الحكم والموضوع يوجبان التجاوز عن هذا الإشكال والتعدّي القطعي من إيناس الرشد

113

قبل البلوغ إلى إيناسه بعد البلوغ.

ولكن لا يخفى انّه لو فرض أحد يستظهر من الآية ان (حتى) للغاية وإن كلمة (إذا) خارجة عن الظرفية ويريد ان يصرّ على الالتزام بانّ مفاد الآية إذن هو انّه يشترط في دفع المال إلى صاحبه إيناس الرشد منه قبل البلوغ، ولا يكفي إيناسه بعد البلوغ.

ورد على هذا الشخص هذا الجواب الذي ذكرناه فيقال له: كيف تفسّر الآية بهكذا تفسير مع انّ التعدّي من إيناس الرشد قبل البلوغ إلى إيناسه بعد البلوغ قطعيّ بالارتكاز ومناسبات الحكم والموضوع.

ولكنّني لا أظنّ انّ مقصود صاحب الجواهر هو انّه لو كان يعتقد انّ (حتى) للغاية وإن كلمة (إذا) خرجت عن الظرفية لكان يعتقد بظهور الآية في اشتراط إ يناس الرشد قبل البلوغ وعدم كفاية إ يناسه بعد البلوغ.

ولعلّ مقصوده هو انّ كون مقتضى الحاقّ الاوّلي لمفاد الكلام على تقدير خروج (إذا) عن الظرفية هو اشتراط خصوص الإيناس قبل البلوغ منضماً إلى الارتكاز والمناسبة المانعين عن ذلك أوجب ظهور (إذا) في المقام في الظرفية.

وبكلمة اُخرى: إذا دار الأمر بين الأخذ بمفاد حاقّ اللفظ أو مفاد الارتكاز والمناسبات الخارج عن حاق اللفظ قدّم الثاني على الأوّل، لانّ المفاد الأصلي لحاق اللفظ ليس هو كلّ شيء، والارتكاز والمناسبات يغيّران الظهور اللفظي لكن إذا لم يدر الأمر بينهما وكان هناك وجه آخر للكلام يلتئم فيه مفاد حاقّ اللفظ مع الارتكاز والمناسبات، فالتضارب الموجود في المعنى الأوّل بين مفاد حاقّ اللفظ والارتكاز أو المناسبات يكون قرينة على ذلك الوجه الآخر أو المعنى الآخر للكلام.

114

وما نحن فيه من هذا القبيل فالتضارب الموجود بين الأمرين على معنى غائية (حتى) وخروج (إذا) عن الظرفية يشكل قرينة على كون (حتى) ابتدائية غير غائية وكون (إذا) ظرفية.

وأمّا الوجه الثالث وهو انّه لو فرض خروج (إذا) عن الظرفية وحمل (حتى) على الغاية وفرض انّ المقصود بإيناس الرشد مطلق إيناس الرشد أو خصوص ما بعد البلوغ فهذا يعني انّ إ يناس الرشد شرط في دفع المال بعد البلوغ ولكن الابتلاء قد انقطع بحصول الغاية وهو البلوغ ومعنى ذلك انّ اليتيم إذا بلغ سقط وجوب ابتلائه ويوكّل الأمر إلى حصول إيناس الرشد ولو صدفة وهو غير محتمل.

فقد أورد عليه السيّد الإمام (رحمه الله) بانّ الارتكاز العرفي والمناسبة يمنعان عن فهم سقوط وجوب الابتلاء بالبلوغ إذا لم يظهر الرشد قبل البلوغ وبهذا يسقط مفهوم الغاية في المقام بل لا مفهوم للغاية في المقام من أساسها لانّ الآية ليست بصدد بيان حدود الابتلاء بحسب الغاية وانّما هي بصدد بيان حدوده بحسب الابتداء، فذكر البلوغ جاء لتوضيح انّه لا بدّ أن يبتدأ بالاختبار من زمان بحيث يضمن عادة ظهور الحال إلى زمان البلوغ كي لا يتأخّر تسليم المال إليه من أوّل البلوغ إن كان رشيداً، أمّا لو لم يظهر الحال إلى أوّل البلوغ لأيّ سبب من الأسباب أو لم يكن رشيداً فالابتلاء لا ينقطع وذلك بحكم الارتكاز ومناسبات الحكم والموضوع.

أمّا لو أغفلنا الاستفادة من هذا الارتكاز والمناسبة فالإشكال الذي ذكره صاحب الجواهر وهو لزوم عدم وجوب الابتلاء وجواز الإهمال بعد البلوغ مشترك الورود بينما لو حملنا (حتى) على الغاية وإذا على غير الظرف أو حملنا (حتى) على الابتداء والتعليل و (إذا) على الظرفية والشرطية فـ (حتى) على

115

الثاني نقول: إنّ الابتلاء في الآية مختص باليتيم، لانّه الموضوع الذي أخذ في الحكم به، وقوله إذا بلغوا النكاح ـ إلى آخره ـ لو فرض كونه جملة شرطية على ما رامه، لكن لا شبهة في عدم انقطاعه عن الجملة السابقة وتفرّعه عليها فأيضاً يكون ما يتفرّع عليه الحكم هو الابتلاء قبل البلوغ والآية ساكتة عن الابتلاء بعد البلوغ فلا يجب.

ويمكن الجواب على هذا الإشكال الأخير بان فرض سكوت الآية عن الابتلاء بعد البلوغ شيء، وفرض اقتضائها لسقوط حكم الابتلاء بمفهوم الغاية شيء آخر، فمجرّد فرض السكوت لا يجعل مفاد حاقّ اللفظ في مقابل عدم احتمال انتهاء حكم الابتلاء بالبلوغ عند عدم ظهور الرشد، لكن فرض كون (حتى) للغاية يجعل حاقّ اللفظ في مقابل ذلك.

أمّا عدم دلالة الغاية هنا على المفهوم لعدم كونه بصدد البيان إلّا بلحاظ الابتداء دون الانتهاء فلو سلّم فانّما يسلّم بلحاظ نفي سنخ الحكم بناء على كونه مستفاداً من الإطلاق، ولا يسلّم بلحاظ نفي شخص الحكم الذي هو بظهور وضعي لا بالإطلاق فلا يتقوّم بمقدمة كون المولى في مقام البيان وقد مضت الإشارة آنفاً إلى انّ نفي الشخص هنا يساوق نفي السنخ لعدم احتمال وجود شخصين للحكم عرفاً وعقلائياً ففرق بين مجرّد افتراض انّ اليتيم جعل موضوعاً للابتلاء فقيل: ابتلوا اليتامى وبين الإتيان بأداة الغاية بأن يقال مثلاً: ابتلوا اليتامى إلى البلوغ ففي الفرض الأوّل يأتي احتمال انّ اليتيم ليس هو الموضوع حتى لشخص الحكم بل الموضوع يشمل البالغ الذي لم يثبت رشده أيضاً وانّما الذي صحّح عرفاً ذكر قيد اليتيم في المقام هو انّ توهّم رافعية الحجر المطلق لوجوب الابتلاء مختص باليتيم، ولا يأتي في البالغ فلعلّ الآية كانت بصدد بيان انّ اليتيم رغم ثبوت الحجر

116

عليه حتى على تقدير الرشد لا بدّ من اختباره حذراً من تأخّر دفع المال إليه عن أوّل البلوغ لو كان رشيداً.

أمّا في الفرض الثاني فالإتيان بأداة الغاية ظاهر لا محالة في كون البلوغ غاية ـ على الأقل ـ لشخص الحكم.

على انّ دعوى كون الآية بصدد بيان ابتداء الحكم فحسب دون انتهائه لا قرينة عليها، فانّ مقصود المتكلّم لو كان هو تحديد الابتداء فحسب دون الانتهاء كان ا لمناسب ان لا يذكر حرف الانتهاء ويقول مثلاً: وابتلوا اليتامى فإن آنستم منهم رشداً وقد بلغوا النكاح فادفعوا إليهم أموالهم.

وأمّا الإشكال الأوّل وهو انّ الارتكاز والمناسبة يمنعان عن تخصيص حكم الابتلاء بما قبل البلوغ، فجوابه يظهر ممّا تقدّم فمن المحتمل أن يكون مقصود صاحب الجواهر انّ مناقضة الارتكاز والمناسبة لمفاد حاقّ اللفظ على أحد الوجهين تكون قرينة عرفاً للوجه الثاني وهو كون (حتى) للابتداء و (إذا) للظرفية نعم لو انحصر الأمر بالوجه الأوّل وهو كون (حتى) للغاية و (إذا) لغير الظرف تجاوزنا ما يفهم من حاقّ اللفظ ببركة الارتكاز والمناسبة المؤثرين على ظهور الألفاظ.

وقد تحصل بكل ما ذكرناه انّ الاستظهار الذي ذهب إليه صاحب الجواهر (رحمه الله) من كون (حتى) للابتداء و (إذا) للظرف والشرط لا بأس به في المقام وانّ الوجوه التي استشهد بها على ظرفية (إذا) قابلة للقبول.

نعم هناك نكتة بلحاظ الوجه الثالث وهو انّنا لو بنينا على انّ المقصود بإيناس الرشد هو مطلق إيناس الرشد أو خصوص ما بعد البلوغ كما هو مبنى الوجه الثالث دون خصوص ما قبل البلوغ فهنا لا ثمرة لفرض كون (إذا) ظرفية

117

وعدمه، وفرض كون (حتى) للابتداء أو للغاية فإنّ فرض شمول إيناس الرشد لمابعد البلوغ قرينة عرفاً على كون قوله ان آنستم منهم رشداً فادفعوا ـ إلى آخره ـ تفريع على المغيّى والغاية أي الابتلاء والبلوغ لا على الابتلاء فحسب وبناء على هذا يتمّ الاستدلال بالآية على تقدير الحمل على الغائية فلا تبقى ثمرة بين الفرضين.

وقد تحصل حتى الآن ان هناك مسلكين لاستفادة المقصود من الآية:

أحدهما: حمل (حتى) على الغاية مع افتراض انّ المغيّى وهو الابتلاء مشرب بمعنى الحجر عن التصرّف حتى مع الرشد أو قل افتراض كون قوله فإن آنستم ـ إلى آخره ـ تفريعاً على المغيّى والغاية لا على المغيّى، فحسب، فعندئذ يستفاد استمرار الحجر إلى البلوغ.

والثاني حمل حتى على الابتداء والتعليل وافتراض ان (إذا) للشرط فيستفاد بمفهوم الشرط الحجر على غير البالغ.

وقد يقال: إنّ المسلك الثاني يتوقّف على الإيمان بمفهوم الشرط حتى في مثل كلمة إذا كما هو مختار صاحب الجواهر (رحمه الله)، فبناء على ما اخترناه في علم الاُصول من إنكار مفهوم الشرط مطلقاً أو على التفصيل بين المتمحّض في الشرطية كـ (إن) فيتم فيه المفهوم والأسماء كـ (إذا) فلا يتم فيها يبطل المسلك الثاني، وإذا ضممنا ذلك إلى استظهار كون (حتى) للابتداء لا للغاية وكون (إذا) للظرف والشرط بطل الاستدلال بالآية على المقصود.

ولكن الواقع انّ إنكارنا لمفهوم الشرط بشكل عام في علم الاُصول لا يضر بالاستدلال في المقام، فانّنا لئن لم نقبل دلالة الشرط على انتفاء سنخ الحكم بانتفائه فلا إشكال في دلالته على انتفاء شخص الحكم بانتفائه فإذا ضممنا ذلك إلى ارتكازية انّ وجوب دفع المال إلى صاحبه الرشيد بعد البلوغ مع وجوبه قبل

118

البلوغ لو قلنا به ليسا بجعلين، وانّما هما بجعل واحد فانتفاء شخص الحكم يلازم انتفاء سنخ الحكم في المقام وبه يثبت المطلوب.

هذا. ولعلّك اقتنصت من كل البحث في المقام انّنا نؤمن أوّلاً بما أفاده صاحب الجواهر (رحمه الله) من كون إذا في المقام أداة ظرف وشرط وحتى للابتداء وبتمامية دلالة الآية على المقصود عن هذا الطريق.

وثانياً بانّه لو تنزلّنا عن ذلك وحملنا حتى على الغاية وإذا على غير الظرف والشرط فأيضاً تتم دلالة الآية على المقصود لانّنا نستظهر على هذا الفرض كون قوله: فإن آنستم ـ الى آخره ـ تفريعاً على المغيّى والغاية معاً وهذا يوجب إشراب المغيّى بمعنى الحجر الثابت حتى مع الرشد فيكون هذا الحجر مستمراً إلى زمان حصول الغاية وهي البلوغ.

بقي في الآية احتمال آخر وهو أن يقصد بالابتلاء اختبار البلوغ أي الفحص عنه لا الرشد وعندئذ فتكون الآية ظاهرة جداً في كون (حتى) للابتداء و (إذا) للظرف إذ لا معنى لكون البلوغ غاية للابتلاء بهذا المعنى كما نبّه عليه السيّد الإمام (رحمه الله)(1)، وانّما الذي يعقل أن يكون غاية له هو تبين البلوغ والعلم به.

وعلى هذا الاحتمال تكون دلالة الآية على شرط البلوغ أوضح لانّها امرت باختبار البلوغ كي يدفع إليهم المال إن كانوا بالغين.

إلّا انّ هذا الاحتمال خلاف الظاهر جداً فانّ ما يترقّب تحقيقه للكشف عن البلوغ انّما هو الفحص لا الابتلاء بمعنى الاختبار والتعبير عن ذلك بالابتلاء أو الاختبار تعبير مسامحي.

 


(1) في كتاب البيع 2: 11 ـ 12.