66

إثبات نبوّة الرسول الأعظم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)

 

كما ثبت الصانع الحكيم بالدليل الاستقرائي ومناهج الاستدلال العلمي كذلك تثبت نبوّة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدليل العلمي الاستقرائي، وبنفس المناهج التي نستخدمها في الاستدلال على الحقائق المختلفة في حياتنا الاعتيادية وحياتنا العلمية.

ولنمهّد لذلك بأمثلة أيضاً:

إذا تسلّم الإنسان رسالةً من أحد أقاربه، وكان هذا القريب صبيّاً يدرس في مدرسة ابتدائية بأحد الأرياف، فلاحظ الإنسان الذي تسلّم الرسالة أنّها قد كتبت بلغة حديثة وبعبارات مركّزة وبليغة وبقدرة فنيّة فائقة على تنسيق الأفكار وعرضها بصورة مثيرة، إذا تسلّم الإنسان رسالةً من هذا القبيل فسوف يستنتج أنّ شخصاً مثقّفاً واسع الاطّلاع قوي العبارة قد أملى الرسالة على هذا الصبي، أو شيئاً من هذا القبيل. وإذا أردنا أن نحلّل هذا الاستنتاج والاستدلال نجد أنّ بالإمكان تجزئته إلى الخطوات التالية:

الاُولى: أنّ كاتب الرسالة صبي ريفي ويدرس في مدرسة ابتدائية.

الثانية: أنّ الرسالة تتميّز باُسلوب بليغ ودرجة كبيرة من الإجادة الفنّية وقدرة فائقة على تنسيق الأفكار.

الثالثة: أنّ الاستقراء يثبت في الحالات المماثلة أنّ صبيّاً بتلك المواصفات التي تقدّمت في الخطوة الاُولى لا يمكنه أن يصوغ رسالةً بالمواصفات التي لوحظت في الخطوة الثانية.

الرابعة: يُستنتج من ذلك إذن أنّ الرسالة من نتاج شخص آخر استطاع ذلك

67

الصبيّ بشكل وآخر أن يستفيد منه ويسجّله في رسالته.

ومثال آخر للفكرة نفسها من الأدلّة العلمية: وهو الدليل الذي أثبت به العلماء الالكترون، فقد درس بعض العلماء نوعاً معيّناً من الأشعة ولّدها في اُنبوبة مغلقة، ثمّ سلّط على وسط الاُنبوبة قطعة مغناطيس على شكل نعل الفرس، فلاحظ أنّ الأشعّة تميل إلى القطب الموجب من المغناطيس وتبتعد عن القطب السالب منه، وكرّر التجربة في ظروف مختلفة حتى تأكّد من أنّ تلك الأشعّة تنجذب بالمغناطيس، وأنّ القطب الموجب في المغناطيس هو الذي يجذبها.

ولمّا كان هذا العالم يعرف باستقرائه ودراسته للإشعاعات الاُخرى ـ كالضوء الاعتيادي ـ أنّها لا تتأثّر بالمغناطيس ولا تنجذب إليه وأنّ المغناطيس يجذب الأجسام لا الأشعة، أمكنه أن يدرك أنّ انجذاب الأشعة المعيّنة التي كان يجري عليها تجاربه وميلها إلى القطب الموجب من المغناطيس لا يُمكن أن يفسّر على أساس المعلومات المفترضة.

ومن هنا اكتشف عاملا إضافياً وحقيقةً جديدة، وهي أنّ هذه الأشعة تتأ لّف من أجسام دقيقة سالبة موجودة في جميع المواد؛ لأنّها تنبعث من مختلف المواد، وسمّيت هذه الجسيمات بالألكترونات.

وتتلخّص عملية الاستدلال في كلا هذين المثالين ـ مثال الرسالة ومثال الألكترون ـ في أنّه كلّما لوحظت ظاهرة معيّنة ضمن عوامل وظروف محسوسة، ولوحظ استقرائياً أنّ هذه العوامل والظروف المحسوسة في الحالات المماثلة لا تؤدّي إلى نفس الظاهرة، فيدلّ ذلك على وجود عامل آخر غير منظور لابدّ من افتراضه لتفسير تلك الظاهرة.

وبكلمة اُخرى: أنّ النتيجة إذا جاءت أكبر من الظروف والعوامل المحسوسة ـ بحكم الاستقراء للحالات المماثلة ـ كشفت عن وجود شيء

68

غير منظور وراء تلك الظروف والعوامل المحسوسة.

وهذا ما يصدق تماماً على نبوّة الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله) والرسالة التي أعلنها على العالم باسم السماء؛ وذلك ضمن الخطوات التالية:

الاُولى: أنّ هذا الشخص الذي أعلن رسالته على العالم باسم السماء ينتسب إلى شبه الجزيرة العربية، التي كانت من أشدّ أجزاء الأرض تخلّفاً في ذلك الحين من الناحية الحضارية والفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وينتمي إلى الحجاز بالذات من أقطار تلك الجزيرة، وهو قطر لم يمرّ حتى تأريخياً بمثل الحضارات التي نشأت قبل ذلك بمئات السنين في مواضع اُخرى محدّدة من تلك الجزيرة، ولم يعرف أيّ تجربة إجتماعية متكاملة.

ولم ينلْ هذا القطر من ثقافة عصره ـ على الرغم من انخفاضها عموماً ـ شيئاً يذكر، ولم ينعكس على أدبه وشعره شيء ملحوظ من أفكار العالم وتيّاراته الثقافية وقتئذ، وكان منغمساً من الناحية العقائدية في فوضى الشرك والوثنية، ومفكّكاً اجتماعياً تسيطر عليه عقلية العشيرة، وتلعب فيه الانتماءات إلى هذه العشيرة أو تلك الدور الأساسي في أكثر أوجه النشاط بكلّ ما يؤدّي إليه ذلك من التناقضات وألوان الغزو والصراع الرخيص.

ولم يكن البلد الذي نشأ فيه هذا الرسول قد عرف أيّ شكل من أشكال الحكم سوى ما يفرضه الولاء للقبيلة من مواضعات.

ولم يكن وضع القوى المنتجة والظروف الاقتصادية في ذلك الجزء من العالم يتميّز عن أكثر بقاع العالم المتخلّف حينذاك.

وحتى القراءة والكتابة ـ بوصفها أبسط أشكال الثقافة ـ كانت حالةً نادرةً نسبياً في تلك البيئة، إذ كان المجتمع اُميّاً على العموم: ﴿ هُوَ الَّذي بَعَثَ في الاُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإنْ

69

كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلال مُبِين﴾(1).

وكان شخص النبي (صلى الله عليه وآله) يمثّل الحالة الاعتيادية من هذه الناحية، فلم يكن قبل البعثة يقرأ ويكتب، ولم يتلقّ أيّ تعليم منظّم أو غير منظّم: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَاب وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذاً لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾(2).

وهذا النصّ القرآني دليل واضح على مستوى ثقافة الرسول قبل البعثة، وهو دليل حاسم حتى في حقّ من لا يؤمن بربّانية القرآن؛ لأنّه ـ على أيّ حال ـ نصّ أعلنه النبّي (صلى الله عليه وآله) على بني قومه، وتحدّث به إلى أعرف الناس بحياته وتأريخه، فلم يعترض أحد على ما قال، ولم يُنِكر أحد ما ادّعى.

بل نلاحظ أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) لم يساهم قبل البعثة حتى في ألوان النشاط الثقافي الذي كان شائعاً في قومه من شعر وخطابة، ولم يؤثَر عنه أيّ تميّز عن أبناء قومه، إلّا في التزاماته الخُلُقية وأمانته ونزاهته وصدقه وعفّته.

وقد عاش أربعين سنةً قبل البعثة في قومه دون ان يحسّ الناس من حوله بأيّ شيء يميّزه عنهم سوى ذلك السلوك النظيف، ودون أن تبرز في حياته أيّ بذور عملية أو اتّجاهات جادّة نحو عملية التغيير الكبرى التي طلع بها على العالم فجأةً بعد أربعين عاماً من عمره الشريف: ﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾(3).

وكان النبي (صلى الله عليه وآله) قد ولد في مكّة، وظلّ فيها طيلة الفترة التي سبقت البعثة، ولم يغادرها إلى خارج الجزيرة العربية إلّا في سفرتين قصيرتين: إحداهما مع


(1) الجمعة: 2.
(2) العنكبوت: 48.
(3) يونس: 16.
70

عمّه أبي طالب وهو صبي في أوائل العقد الثاني، والاُخرى بأموال خديجة وهو في أواسط العقد الثالث.

ولم يتيسّر له ـ بحكم عدم تعلّمه للقراءة والكتابة ـ أن يقرأ شيئاً من النصوص الدينية لليهودية أو المسيحية، كما لم يتسرّب إليه أيّ شيء ملحوظ من تلك النصوص عن طريق البيئة؛ لأنّ مكّة كانت وثنيةً في أفكارها وعاداتها، ولم يتسرّب إليها الفكر المسيحي أو اليهودي، ولم يدخل الدير إلى حياتها بشكل من الأشكال، وحتى اُولئك الحنفاء الذين رفضوا عبادة الأصنام من عرب مكّة لم يكونوا قد تأثّروا باليهودية أو المسيحية، ولم ينعكس شيء من الأفكار اليهودية والمسيحية على ما خلّفه قسّ بن ساعدة أو غيره من تراث أدبيّ وشعري.

ولو كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد بذل أيّ جهد للاطّلاع على مصادر الفكر اليهودي والمسيحي للوحظ ذلك؛ إذ في بيئة ساذجة ومنقطعة الصلة بمصادر الفكر اليهودي والمسيحي ومعقدة ضدّها لا يمكن أن تمرّ محاولة من هذا القبيل دون أن تلفت الأنظار، ودون أن تترك بصماتها على كثير من التحرّكات والعلاقات.

الثانية: أنّ الرسالة التي طلع بها النبي (صلى الله عليه وآله) على العالم متمثّلةً في القرآن الكريم والشريعة الإسلامية تميّزت بخصائص كثيرة:

منها: أنّها جاءت بنمط فريد من الثقافة الإلهية عن الله سبحانه وتعالى وصفاته وعلمه وقدرته، ونوع العلاقات بينه وبين الإنسان، ودور الأنبياء في هداية البشرية ووحدة رسالتهم، وما تميّزوا به من قيم ومثل، وسنن الله تعالى مع أنبيائه، والصراع المستمرّ بين الحقّ والباطل، والعدل والظلم، والارتباط الوثيق المستمرّ لرسالات السماء بالمظلومين والمضطهدين، وتناقضها المستمرّ مع أصحاب المصالح والامتيازات غير المشروعة.

وهذه الثقافة الإلهية لم تكن أكبر من الوضع الفكري والديني لمجتمع وثني

71

منغمس في عبادة الأصنام فحسب، بل كانت أكبر من كلّ الثقافات الدينية التي عرفها العالم يومئذ، حتى إنّ أيّ مقارنة تبرز بوضوح أنّها جاءت لتصحّح ما في تلك الثقافات من أخطاء، وتعدّل ما أصابها من انحراف وتعيدها إلى حكم الفطرة والعقل السليم.

وقد جاء كلّ ذلك على يد إنسان اُمّي في مجتمع وثنيّ شبه معزول، لا يعرف من ثقافة عصره وكتبه الدينية شيئاً يذكر، فضلا عن أن يكون بمستوى القيمومة والتصحيح والتطوير.

ومنها: أنّها جاءت بقيم ومفاهيم عن الحياة والإنسان، والعمل والعلاقات الاجتماعية، وجسّدت تلك القيم والمفاهيم في تشريعات وأحكام. وكانت تلك القيم والمفاهيم وهذه التشريعات والأحكام ـ حتى من وجهة نظر من لا يؤمن بربانيتها ـ من أنفس ومن أروع ما عرفه تأريخ الإنسان من قيم حضارية وتشريعات اجتماعية.

فابنُ مجتمع القبيلة ظهر على مسرح العالم والتاريخ فجأةً لينادي بوحدة البشرية ككلّ، وابن البيئة التي كرّست ألواناً من التمييز والتفضيل على أساس العرق والنسب والوضع الاجتماعي ظهر ليحطّم كلّ تلك الألوان، ويعلن أنّ الناس سواسية كأسنان المشط، و ﴿ إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ﴾(1)، وليحوّل هذا الإعلان إلى حقيقة يعيشها الناس أنفسهم، ويرفع المرأة الموءودة إلى مركزها الكريم كإنسان تكافئ الرجل في الإنسانية والكرامة.

وابنُ الصحراء التي لم تكن تفكّر إلّا في همومها الصغيرة وسدّ جوعتها والتفاخر بين أبنائها ضمن تقسيمها العشائري، ظهر ليقودها إلى حمل أكبر الهموم،


(1) الحجرات: 13.
72

ويوحّدها في معركة تحرير العالم وإنقاذ المظلومين في شرق الدنيا وغربها من استبداد كسرى وقيصر.

وابن ذلك الفراغ الشامل سياسياً واقتصادياً بكلّ ما يضجّ به من تناقضات الربا والاحتكار والاستغلال، ظهر فجأةً ليملأ ذلك الفراغ ويجعل من ذلك المجتمع الفارغ مجتمعاً ممتلئاً، له نظامه في الحكم، وشريعته في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، ويقضي على الربا والاحتكار والاستغلال، ويعيد توزيع الثروة على أساس أن لا تكون دولة بين الأغنياء، ويعلن مبادئ التكافل الاجتماعي والضمان الاجتماعي التي لم تنادِ بها التجربة الاجتماعية البشرية إلّا بعد ذلك بمئات السنين.

وكلّ هذه التحوّلات الكبيرة تمّت في مدّة قصيرة جدّاً نسبياً في حساب التحوّلات الاجتماعية.

ومنها: أنّ الرسالة في نصوص قرآنية كثيرة تحدّثت عن تاريخ الأنبياء واُممهم، وما مرّت بهم من وقائع وأحداث بتفاصيل لم تكن بيئة النبي العربي (صلى الله عليه وآله)ـ الوثنية والاُمّية ـ تعرف شيئاً عنها، وقد تحدّى علماء الكتاب ـ علماء اليهود والنصارى ـ النبي (صلى الله عليه وآله) أكثر من مرّة، وطالبوه بالحديث عن تاريخ تراثهم الديني، فواجه التحدّي بكلّ شجاعة، وجاء القرآن بما طلبوا دون أن تكون هناك أيّ وسيلة اعتيادية لتفسير اطّلاع النبي شخصياً على تلك التفاصيل: ﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الغَرْبيِّ إذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً في أهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُـنّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً

73

مَا أتَاهُمْ مِنْ نَذِير مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾(1).

وممّا يبهر الملاحظ أنّ القصص الحقّ في القرآن لا يمكن أن تكون مجرّد استنساخ لما جاء في كتب العهدين، حتى لو افترضنا أن أفكار هذه الكتب كانت شائعةً ومنتشرةً في الوسط الذي ظهر فيه النبي؛ لأنّ الاستنساخ يمثّل دوراً سلبياً فقط، دور الأخذ والعطاء، بينما دور القرآن في عرض القصّة إيجابي، فإنّه يصحّح ويعدّل ويفصّل القصة عمّا اُلصقت بها من ملابسات لا تتّفق مع فطرة التوحيد والعقل المستنير والرؤية الدينية السليمة.

ومنها: أنّ القرآن بلغ في روعة بيانه وبلاغته وتجديده في أساليب البيان إلى درجة جعلت منه ـ حتى من وجهة نظر غير المؤمنين بربّانيته ـ حدّاً فاصلا بين مرحلتين من تاريخ اللغة العربية، وأساساً لتحوّل هائل في هذه اللغة وأساليبها.

وقد أحسّ العرب الذين حدّثهم النبي (صلى الله عليه وآله) بالقرآن بأنّه لا يشبه إطلاقاً ما ألِفوه من أساليب البيان، وما نشأوا عليه وأتقنوه من طرائق التعبير، حتى قال قائلهم حين استمع إلى القرآن: « والله لقد سمعت كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجنّ، وإنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وإنّه ليعلو وما يُعلى، وإنّه ليحطم ما تحته »(2).

وكانوا لا يسمحون لأنفسهم بالاستماع إلى القرآن؛ إحساساً منهم بأثره الهائل، وخوفاً من قدرته الفائقة على تغيير نفوسهم، وهذا دليل على التميّز الهائل للبيان القرآني، وعدم كونه استمراراً متطوّراً لِمَا ألِفوه.

 


(1) القصص: 44 ـ 46.(2) القائل هو الوليد بن المغيرة. اُنظر أسباب النزول: 295 في سورة المدّثّر، وإعلام الورى 1: 42. (لجنة التحقيق).
74

وقد استسلموا أمام التحدّي المستمرّ والمتصاعد الذي واجههم النبي به، إذ أعلن: تارةً عجزهم مجتمعين عن الإتيان بمثله.

وأكّد اُخرى عجزهم مجتمعين عن الإتيان بعشر سور مفَتَريَات من مثله.

وشدّد ثالثةً على عجزهم عن الإتيان بما يناظر سورةً واحدةً من القرآن الكريم(1).

أعلن النبي (صلى الله عليه وآله) ذلك وكرّره على مجتمع لم يعرف صناعةً كما عرف صناعة الكلام، ولم يتقن فنّاً كما أتقن فنّ الحديث، ولم يتعوّد على شيء كما تعوّد على مجابهة التحدّي والتغنّي بالأمجاد، ولم يحرص على أمر كما حرص على إطفاء نور الرسالة الجديدة وتطويقها، ومع ذلك كلّه لم يشأ هذا المجتمع الذي واجه تلك التحدّيات الكبيرة أن يجرّب نفسه، ولم يحاول أن يعارض القرآن بشيء إيماناً منه بأنّ الأدب القرآني فوق قدرته اللغوية والفنيّة.

والطريف أنّ الذي كان يحمل إليهم هذا الزاد الأدبي الجديد على حياتهم إنسان مكث فيهم أربعين سنةً، فلم يعهدوا له مشاركةً في حلبة أدبية، ولا تميّزاً في أيّ فنّ من فنون القول.

هذا عدد من خصائص الرسالة التي أعلنها النبي (صلى الله عليه وآله) على العالم.

 


(1) ﴿قُل لَئِن اجتَمَعت الإنسُ والجِنُّ على أن يأتوا بمثلِ هذا القرآنِ لا يأتُونَ بِمثلِهِ ولو كَانَ بَعضُهُم لِبَعض ظَهِيراً ﴾. الإسراء: 88 .
﴿أم يَقُولُونَ افتَراهُ قُلْ فأتُوا بِعشرِ سُوَر مِثلِهِ مُفترَيات وادعُوا مَن استَطَعتُم من دُونِ اللهِ إن كُنتُم صادقين ﴾ هود: 13.
﴿وإن كُنتُم في رَيب ممّا نَزَّلنا على عَبدِنا فأتُوا بِسُورة مِن مِثلِهِ وادعُوا شُهَدَاءَكم مِن دُونِ اللهِ إن كُنتُم صَادِقِين ﴾ البقرة: 23.
75

وهنا يأتي دور الخطوة الثالثة لتؤكّد على أساس الاستقراء العلمي في تاريخ المجتمعات أنّ هذه الرسالة بتلك الخصائص التي درسناها في الخطوة الثانية هي أكبر بدرجة هائلة من الظروف والعوامل التي مرّ استعراضها في الخطوة الاُولى، فإنّ تاريخ المجتمعات وإن كان قد شهد في حالات كثيرة إنساناً يبرز على صعيد مجتمعه فيقوده ويسير به خطوةً إلى الامام غير أنّنا هنا لا نواجه حالةً من تلك الحالات؛ لوجود فوارق كبيرة.

فمن ناحية نحن نواجه هنا طفرةً هائلةً وتطوّراً شاملا في كلّ جوانب الحياة، وانقلاباً في القيم والمفاهيم التي تتّصل بمختلف مجالات الحياة إلى الأفضل، بدلا عن مجرّد خطوة إلى الأمام.

إنّ مجتمع القبيلة طفر رأساً على يد النبي إلى الإيمان بفكرة المجتمع العالمي الواحد. وإنّ المجتمع الوثني طفر رأساً إلى دين التوحيد الخالص، الذي صحّح كلّ أديان التوحيد الاُخرى، وأزال عنها ماعلق بها من زيف وأساطير. وإنّ المجتمع الفارغ تماماً تحوّل إلى مجتمع ممتلئ تماماً، بل إلى مجتمع قائد يشكّل الطليعة لحضارة أنارت الدنيا كلّها.

ومن ناحية اُخرى أنّ أيّ تطوّر شامل في مجتمع إذا كان وليد الظروف والمؤثّرات المحسوسة فلا يمكن أن يكون مرتجلا ومفاجئاً ومنقطع الصلة عن مراحل تمهّد له، وعن تيار يسبقه ويظلّ ينمو ويمتدّ فكرياً وروحياً حتى تنضج في داخله القيادة الكفوءة لتزعّمه، وللعمل من أجل تطوير المجتمع على أساسه.

إنّ دراسةً مقارنةً لتاريخ عمليات التطوّر في مختلف المجتمعات يوضّح أنّ كلّ مجتمع يبدأ فيه هذا التطوّر فكرياً على شكل بذور متفرّقة في أرضية ذلك المجتمع، وتتلاقى هذه البذور فتكوّن تياراً فكرياً، وتتحدّد بالتدريج معالم هذا التيار، وتنضج في داخله القيادة التي تتزعّمه؛ حتّى يبرز على المسرح كواجهة

76

لجزء يعيش في المجتمع تناقض الواجهة الرسمية التي يحملها المجتمع، ومن خلال الصراع يتّسع هذا التيار حتى يسيطر على الموقف.

وخلافاً لذلك نجد أنّ محمداً (صلى الله عليه وآله) في تاريخ الرسالة الجديدة لم يكن حلقةً من سلسلة، ولم يكن يمثّل جزءً من تيار، ولم تكن للأفكار والقيم والمفاهيم التي جاء بها بذور أو رصيد في أرضية المجتمع الذي نشأ فيه. وأمّا التيار الذي تكوّن من صفوة المسلمين الأوائل على يد النبي فقد كان من صنع الرسالة والقائد، ولم يكن هو المناخ المسبق الذي ولدت فيه الرسالة وتكوّن القائد.

ومن أجل ذلك نجد أنّ الفارق بين عطاء النبي (صلى الله عليه وآله) وعطاء أيّ واحد من هؤلاء لم يكن فارق درجة كالفوارق التي تبدو بين بذرة واُخرى من البذور التي تكوّن التيار الجديد، بل كان فارقاً أساسياً لا حدّ له، وهذا يبرهن على أنّ محمداً (صلى الله عليه وآله) لم يكن جزءً من تيار، بل كان التيّار الجديد جزءً منه.

ومن ناحية ثالثة يبرهن التاريخ على أنّ القيادة الفكرية والعقائدية والاجتماعية لتيار جديد إذا تركّزت كلّها في محور واحد من خلال حركة تطوّر فكري واجتماعي معيّن فلابدّ أن يكون في هذا المحور من القدرة والثقافة والمعرفة مايتناسب مع ذلك، ولابدّ من أن يكون تواجدها فيه طبقاً لما يعرف عادةً من أساليب في حياة الناس، ولابدّ من ممارسة متدرّجة أنضجته ووضعته على خطّ القيادة لذلك التيار.

وخلافاً لذلك نجد أنّ محمداً (صلى الله عليه وآله) قد مارس بنفسه القيادة الفكرية والعقائدية والاجتماعية، دون أن يكون تاريخه ـ كإنسان اُمّي لم يقرأ ولم يكتب ولم يعرف شيئاً من ثقافة عصره وأديانه المتقدّمة ـ يرشّحه لذلك من الناحية الثقافية، ودون أن تكون له أيّ ممارسات تمهيدية لهذا العمل القياديّ المفاجئ.

وعلى ضوء ذلك كلّه ننتهي إلى الخطوة الرابعة التي نواجه فيها التفسير

77

الوحيد المعقول والمقبول للموقف، وهو افتراض عامل إضافي وراء الظروف والعوامل المحسوسة، وهو عامل الوحي، عامل النبوّة الذي يمثّل تدخّل السماء في توجيه الأرض: ﴿وَكَذَلِكَ أوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِنْ أمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاط مُسْتَقِيم﴾(1).

دور العوامل والمؤثّرات:

ولا يعني تفسير الرسالة على أساس الوحي والإمداد من السماء بدلا عن العوامل والظروف المحسوسة إلغاء هذه العوامل والظروف عن التأثير نهائياً، بل إنّها مؤثّرة وفقاً للسنن الكونية والاجتماعية العامّة، ولكنّ تأثيرها إنّما هو في سير الأحداث، ومدى ماينجم عنها من مؤثّرات لصالح نجاح الرسالة أو لإعاقتها عن النجاح. فالرسالة كمحتوى حقيقة ربّانية فوق الشروط والظروف المادية، ولكنّها بعد أن تحوّلت إلى حركة إلى عمل متواصل في سبيل التغيير، يصبح بالإمكان ربطها بظروفها وما تكتنفها من ملابسات وأحاسيس.

فإذا قيل مثلا: إنّ شعور الإنسان العربي بالتمزّق والضياع وهو يجد نفسه يجسّد آلهته ومثله الأعلى في حجر يحطمه في لحظة غضب، أو حلوى يلتهمها في لحظة جوع جعله يتطلّع إلى الرسالة الجديدة.

أو قيل مثلا: إنّ شعور البائس والكادح في المجتمع العربي بالظلم والتعسّف من قبل المرابين والمستغلّين دفعه إلى تأييد حركة جديدة ترفع راية العدالة، وتقضي على رأس المال الربوي.

 


(1) الشورى: 52.
78

أو قيل: إنّ الشعور القبلي لعب دوراً مهمّاً في حياة الرسالة، سواء ما كان منها على مستوىً محلي كمشاعر الصراع والتنافس بين قبائل قريش وما أسبغه انتماء النبي إلى عشيرته من حصانة وهيبة حمته من الأعداء، أو ما كان منها على مستوىً قومي كمشاعر عرب جنوب الجزيرة تجاه شمالها.

أو قيل: إنّ ظروف العالم المتداعي والأحوال المحرجة التي مرّت بها الدولتان العظيمتان الرومانية والفارسية على المسرح الدولي وقتئذ أشغلت هاتين القوّتين الكبيرتين بنفسيهما، وحالت دون تدخّلهما السريع في إجهاض الحركة الجديدة في الجزيرة العربية.

إذا قيل شيء من هذا القبيل فهو أمر معقول وقد يكون مقبولا، غير أنّ هذا إنّما يفسّر سير الأحداث، ولا يفسّر الرسالة نفسها.

79

موجز في اُصول الدين

3

الرسالة

 

 

 

○  خصائص الرسالة الإسلامية.

○  كتاب الفتاوى الواضحة.

 

 

81

وأمّا الرسالة: فهي الإسلام، دين الله الذي بعث به محمّداً (صلى الله عليه وآله) رحمةً للعالمين.

وقد استهدف الإسلام قبل كلّ شيء ربط الإنسان بربّه وبمعاده.

فمن الناحية الاُولى: ربط الإنسان بالإله الواحد الحقّ الذي تشير إليه الفطرة، وأكّد وحدة الإله الحقّ، وشدّد على ذلك؛ لكي يقضي على كلّ ألوان التأ لّه المصطنع، حتى جعل من كلمة التوحيد « لا إله إلّا الله » شعاره الرئيسي.

ولمّا كانت النبوّة هي الوسيط الوحيد المباشر بين الخلق والخالق، فشهادة هذه النبوّة بوحدة الإله والخالق وارتباطها بالإله الواحد الحقّ تعتبر أساساً كافياً لإثبات التوحيد.

ومن الناحية الثانية: ربط الإنسان بالمعاد؛ لكي تكتمل بذلك الصيغة الوحيدة القادرة على علاج التناقض، والتي تحقّق العدل الإلهي في نفس الوقت، كمامرّ بنا سابقاً.

 

[خصائص الرسالة الإسلاميّة:]

وللرسالة الإسلامية خصائصها التي تميّزها عن سائر رسالات السماء،

82

وسِماتها التي جعلت منها حدثاً فريداً في التاريخ.

وفي ما يلي نذكر عدداً من الخصائص والسِمات بإيجاز:

أوّلا: أنّ هذه الرسالة ظلّت سليمةً ضمن النصّ القرآني دون أن تتعرّض لأيّ تحريف، بينما مُنِيت الكتب السماوية السابقة بالتحريف، واُفرغت من كثير من محتواها، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ إنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾(1).

واحتفاظ الرسالة بمحتواها العقائدي والتشريعي هو الذي يمكّنها من مواصلة دورها التربوي، وكلّ رسالة تفرغ من محتواها بالتحريف والضياع لا تصلح أداة ربط بين الإنسان وربّه؛ لأنّ هذا الربط لا يتحقّق بمجرّد الانتماء الاسمي، بل بالتفاعل مع محتوى الرسالة وتجسيدها فكراً وسلوكاً، ومن أجل ذلك كانت سلامة الرسالة الإسلامية بسلامة النصّ القرآني الشرط الضروري لقدرة هذه الرسالة على مواصلة أهدافها.

ثانياً: أنّ بقاء القرآن نصّاً وروحاً يعني أنّ نبوّة محمد (صلى الله عليه وآله) لم تفقد أهمّ وسيلة من وسائل إثباتها؛ لأنّ القرآن وما يعبّر عنه من مبادئ الرسالة والشريعة كان هو الدليل الاستقرائي، وفقاً لما تقدّم على نبوّة محمد وكونه رسولا، وهذا الدليل يستمرّ ما دام القرآن باقياً.

وخلافاً لذلك النبوّات التي يرتبط إثباتها بوقائع معيّنة تحدث في لحظة وتنتهي، كإبراء الأكمه والأبرص، فإنّ هذه الوقائع لا يشهدها عادةً إلّا المعاصرون لها، وبمرور الزمن وتراكم القرون تفقد الواقعة شهودها الأوائل، ويعجز الإنسان غالباً عن الحصول على أيّ تأكيد حاسم لها عن طريق البحث والتنقيب، وكلّ نبوّة


(1) الحجر: 9.
83

لا يمكن التأكّد من دليلها لا يمكن أيضاً أن يكلّف الله سبحانه وتعالى بالاعتقاد بها، أو البحث عن وسيلة لإثباتها، إذ ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسَاً إلّا ما آتَاها﴾(1). ونحن اليوم نعتمد في إيماننا بالأنبياء السابقين ـ صلوات الله عليهم ـ وبمعاجزهم على إخبار القرآن الكريم بذلك.

 

ثالثاً: أنّ مرور الزمن ـ كما عرفنا ـ لا ينقص من قيمة الدليل الأساس على الرسالة الإسلامية، ولكن ليس هذا فقط، بل إنّه أيضاً يمنح هذا الدليل أبعاداً جديدةً من خلال تطوّر المعرفة البشرية، واتّجاه الإنسان إلى دراسة الكون بأساليب العلم والتجربة؛ وليس ذلك فقط لأنّ القرآن الكريم سبق إلى الاتّجاه نفسه وربط الأدلّة على الصانع الحكيم بدراسة الكون والتعمّق في ظواهره، ونبّه الإنسان إلى ما في هذه الدراسة من أسرار ومكاسب؛ بل لأنّ الإنسان الحديث يجد اليوم في ذلك الكتاب ـ الذي بشّر به رجل اُمّي في بيئة جاهلة قبل مئات السنين ـ إشارات واضحةً إلى ما كشف عنه العلم الحديث، حتى لقد قال المستشرق الانجليزي (أجنيري) ـ اُستاذ اللغة العربية في جامعة اُكسفورد ـ عندما اكتشف العلم دور الرياح في التلقيح: « إنّ أصحاب الإبل قد عرفوا أنّ الريح تلقّح الأشجار والثمار قبل أنّ يتوصّل العلم في اُوروبا إلى ذلك بعدّة قرون »(2).

رابعاً: أنّ هذه الرسالة جاءت شاملةً لكلّ جوانب الحياة، وعلى هذا الأساس استطاعت أن توازن بين تلك الجوانب المختلفة وتوحّد اُسسها، وتجمع في إطار صيغة كاملة بين الجامع والجامعة، والمعمل والحقل، ولم يعد الإنسان


(1) الطلاق: 7.
(2) يشير بذلك إلى قوله سبحانه وتعالى: (وَأرْسَلْنا الرِّياحَ لَواقِحَ). الحجر: 22
84

يعيش حالة الانشطار بين حياته الروحية وحياته الدنيوية.

خامساً: أنّ هذه الرسالة هي الرسالة السماوية الوحيدة التي طبّقت على يد الرسول الذي جاء بها، وسجّلت في مجال التطبيق نجاحاً باهراً، واستطاعت أن تحوّل الشعارات التي أعلنتها إلى حقائق في الحياة اليومية للناس.

سادساً: أنّ هذه الرسالة بنزولها إلى مرحلة التطبيق دخلت التاريخ وساهمت في صنعه؛ إذ كانت هي حجر الزاوية في عملية بناء اُمّة حملت تلك الرسالة واستنارت بهداها. ولمّا كانت هذه الرسالة ربّانيةً وتمثّل عطاءً سماوياً للأرض فوق منطق العوامل والمؤثّرات المحسوسة نتج عن ذلك ارتباط تاريخ هذه الاُمّة بعامل غيبي، وأساس غير منظور لا يخضع للحسابات المادية للتاريخ.

ومن هنا كان من الخطأ أن نفهم تاريخنا ضمن إطار العوامل والمؤثّرات الحسّية فقط، أو أن نعتبره حصيلة ظروف مادية، أو تطور في قوى الإنتاج؛ فإنّ هذا الفهم الماديّ للتاريخ لا ينطبق على اُمّة بُني وجودها على أساس رسالة السماء، وما لم ندخل هذه الرسالة في الحساب كحقيقة ربّانية لا يمكن أن نفهم تاريخها.

سابعاً: أنّ هذه الرسالة لم يقتصر أثرها على بناء هذه الاُمّة، بل امتدّ من خلالها ليكون قوةً مؤثّرةً وفاعلةً في العالم كلّه على مسار التاريخ. ولا يزال المنصِفون من الباحثين الاُوروبيّين يعترفون بأنّ الدفعة الحضارية للإسلام هي التي حرّكت شعوب اوروبا النائمة من نومها ونبهّتها إلى الطريق.

ثامناً: أنّ النبي محمداً (صلى الله عليه وآله) الذي جاء بهذه الرسالة تميَّز عن جميع الأنبياء الذين سبقوه بتقديم رسالته بوصفها آخر اُطروحة ربانية، وبهذا أعلن أنّ نبوّته هي النبوّة الخاتمة، وفكرة النبوة الخاتمة لها مدلولان:

أحدهما: سلبي، وهو المدلول الذي ينفي ظهور نبوّة اُخرى على المسرح.

85

والآخر: إيجابي، وهو المدلول الذي يؤكّد استمرار النبوّة الخاتمة وامتدادها مع العصور.

وحينما نلاحظ المدلول السلبي للنبوّة الخاتمة نجد أنّ هذا المدلول قد انطبق على الواقع تماماً خلال الأربعة عشر قرناً التي تلت ظهور الإسلام، وسيظلّ منطبقاً على الواقع مهما امتدّ الزمن، غير أنّ عدم ظهور نبوّة اُخرى على مسرح التاريخ ليس لأنّ النبوّة تخلّت عن دورها كأساس من اُسس الحضارة الإنسانية؛ بل لأنّ النبوّة الخاتمة جاءت بالرسالة الوريثة لكلّ ما يعبّر عنه تاريخ النبوّات من رسالات، والمشتملة على كلّ ما في تلك النبوّات والرسالات من قيم ثابتة دون ما لابسها من قيم مرحلية، وبهذا كانت هي الرسالة المهيمنة القادرة على الاستمرار مع الزمن وكلّ ما يحمل من عوامل التطوّر والتجديد: ﴿وَأنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾(1).

تاسعاً: وقد اقتضت الحكمة الربّانية التي ختمت النبوّة بمحمد (صلى الله عليه وآله) أن تعدّ له أوصياء يقومون بأعباء الإمامة والخلافة بعد اختتام النبوّة، وهم اثنا عشر إماماً، قد جاء النصّ على عددهم من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أحاديث صحيحة اتّفق المسلمون على روايتها، أوّلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وبعده الحسن، ثم الحسين وتسعة من آله على الترتيب التالي: علي بن الحسين السجاد، ثمّ محمد بن علي الباقر، ثمّ جعفر بن محمد الصادق، ثمّ موسى بن جعفر الكاظم، ثمّ علي بن موسى الرضا، ثمّ محمد بن علي الجواد، ثم علي بن محمد الهادي، ثمّ الحسن بن علي العسكري، ثم محمد بن الحسن المهدي(عليهم السلام).

عاشراً: وفي حالة غيبة الإمام الثاني عشر ـ عليه الصلاة والسلام ـ أرجع


(1) المائدة: 48.
86

الإسلام الناس إلى الفقهاء، وفتح باب الاجتهاد بمعنى بذل الجهد في استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنّة.

[كتاب الفتاوى الواضحة:]

والفتاوى الواضحة هي تعبير اجتهادي عن أحكام الشريعة الإسلامية التي جاء بها خاتِم النبيّين صلوات الله عليه وعلى الهداة الميامين من آله الطاهرين.

وقد بدأنا بكتابة هذا الموجز عن اُصول الدين في اليوم السابع والعشرين من ذي الحجّة 1396 هـ، وانتهينا منه عصر اليوم العاشر من محرّم الحرام 1397 هـ.

وقد فرغنا من كتابة السطور الأخيرة والألم يعصر القلب ويمزّق النفس؛ إذ نعيش في يوم عاشوراء ذكرى استشهاد بطل الإسلام الخالد الإمام الحسين ابن علي (عليهما السلام)، الذي بذل دمه الغالي في مثل هذا اليوم من أجل الصمود على خطّ المرسِل والرسول والرسالة، وواجه الموت بنفسه وكلّ أحبّته بشجاعة منقطعة النظير من أجل حماية هذه الرسالة وإقامة مقاييسها؛ للذبّ عن المظلومين والتخفيف عن المعذّبين على الأرض، وخرّ صريعاً مع الصفوة من ولده وصحبه بأيدي الطغاة دفاعاً عن الإسلام والمسلمين في كلّ مكان وزمان، وعن اُمّة أراد الطغاة أن يسلبوها إرادتها ويجمّدوا ضميرها الثوري وإحساسها بوجودها، فحرّك أبو الشهداء بدمه ضميرها، وبصموده إرادتها، وبفاجعته إحساسها الكبير.

فإليك سيّدي يا أبا عبد الله اُهدي ثواب هذه المقدّمة.

فبزخم دمك الطاهر حفظت كلّ هذه الصروح الفكرية الشامخة.

87

وبقدرة صوتك الثائر وصلت إلينا الرسالة سليمةً معطّرةً بدم الشهداء، بدمك ودماء بنيك الطاهرين على مرّ التاريخ.

عِبَاراتٌ متكرّرَة في الكتاب:

الواجب، اللازم: كلّ فعل يعاقب المكلّف على تركه كالصلاة.

الحرام: كلّ فعل يعاقب المكلّف على ممارسته، كشرب الخمر.

المستحبّ: كلّ فعل يُثاب المكلّف إذا أتى به من أجل الله تعالى، ولا يعاقب على تركه، كالسلام على الآخرين.

المندوب: هو المستحبّ.

سنن، آداب: مستحبّات ومندوبات.

مقدّمة الواجب: ما كان الواجب لا يوجد إلّا إذا وجدت، كواسطة السفر بالنسبة إلى الحجّ عادة.

يجزي: يكفي.

سائغ، يسوغ، لا يسوغ: جائز، يجوز، لا يجوز.

يرجّح، الأحسن، الأولى: عبارات تدلّ على الاستحباب، أو الاحتياط المستحبّ.

الضرر: أن يفقد الإنسان حياته، أو يصاب في شيء مهمٍّ بالنسبة إليه من المال، أو تتعرّض صحّته أو أمنه أو كرامته لعارض لا يستهين به العقلاء عادة.

الحَرَج: المشقة النفسية الشديدة التي لا يتحمّلها الناس عادةً.

الجاهل للحكم الشرعي: من لا يعلم به.

الناسي للحكم: من كان يعلم به ثمّ ذهب عن باله.