1

أحكام المقبوض بالعقد الفاسد

بسم الله الرحمن الرحيم

القسم الثاني

آية الله السيد كاظم الحسيني الحائري

تقدّم في القسم الأوّل من هذه الدراسة بحث حکمين من أحکام المقبوض بالعقد الفاسد، وهما: الضمان ووجوب الردّ.. وأمّا في هذا القسم فسوف يتمّ بحث الحکم الثالث، وهو: ضمان المنافع المستوفاة للمبيع.. وأيضاً يتناول البحث حکم المنافع غير المستوفاة.. وأيضاً ضمان المثلي بالمثل والقيمي بالقيمة..

الحكم الثالث: ضمان المنافع المستوفاة للمبيع.

قال الشيخ الأنصاري: «إنّه لو کان للعين المبتاعة منفعة استوفاها المشتري قبل الردّ کان عليه عوضها علی المشهور، بل ظاهر ما تقدّم من السرائر من کونه بمنزلة المغصوب: الاتّفاق علی الحکم»(1).

وقد استدلّ الشيخ على ذلك بحديث: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفسه»(2).

وممّا يلفت النظر أنّ الشيخ ترك هنا الاستدلال بالرواية الاُخرى، وهي رواية: «لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه»(3).


(1) الأنصاري، مرتضی، کتاب المکاسب 3: 201.
(2) الحرّ العاملي، محمّد بـن الحسن، وسائـل الشيعة 5: 120، ب. من مكان المصلّي، ح..
(3) المصدر السابق 9: 541، ب. من الأنفال، ح..
2

وكأنّ السبب في ذلك: أنّه يرى أنّ «لا يحلّ التصرّف» لا يدلّ على أكثر من حرمة التصرّف، أمّا الضمان فلا يُفهم منه، فهذا الحديث كان نافعاً في إثبات وجوب ردّ المبيع مثلاً، لكنّه لا ينفع في إثبات ضمان المنافع المستوفاة.

أمّا حينما يُنسب نفي الحلّ إلى ذات المال لا إلى التصرّف فيه كما هو الحال في حديث «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفسه» فتصبح الدلالة أوسع من مجرّد الحرمة التكليفيّة، أي تشمل الحرمة والضمان.

ولكن الصحيح ما أفاده السيّد الخوئيّ (رحمه الله) من أنّ نفي الحلّ عن المال أيضاً يعني نفي حلّ التصرّف فيه، وليس الضمان(1).

نعم، يدلّ حديث «على اليد»(2) على الضمان، ولكن قال السيّد الخوئيّ (رحمه الله): «إنّه ـ مُضافاً إلى سقوطه سنداً ـ يختصّ بالأعيان؛ لأنّ قوله: «حتّى تؤدّيه» ظاهر في أداء نفس المأخوذ، والمنافع غير قابلة بعد أخذها للأداء بنفسها»(3).

نعم، استدلّ السيّد الخوئيّ (رحمه الله) على ضمان المنافع المستوفاة للمبيع تارة بلغة قيام السيرة العقلائيّة على ضمان المنافع المستوفاة ولم يردع عنها الشارع(4).

واُخرى بلغة الاستشهاد بقاعدة. من أتلف مال الغير فهو له ضامن )، والإتلاف يعمّ ما كان بالاستيفاء أو بغيره، وهذه القاعدة متصيّدة من عدّة موارد ثبت في الفقه فيها الضمان.

وهذا المطلب اُشير إليه في التنقيح(5)، وأوضحه في مصباح الفقاهة للتوحيديّ بتعبير أوفى؛ إذ قال: «قاعدة. من أتلف. وإن لم تذكر في رواية


(1) راجع: الخوئي، أبو القاسم، موسوعة الإمام الخوئيّ. التنقيح. 36: 255.
(2) النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل 17: 88، ب. من الغصب، ح..
(3) راجع: الخوئي، أبو القاسم، موسوعة الإمام الخوئيّ. التنقيح. 36: 255.
(4) المصدر السابق: 256.
(5) المصدر السابق.
3

خاصّة، ولكنّها قاعدة متصيّدة من الموارد الخاصّة التي نقطع بعدم وجود الخصوصيّة لتلك الموارد. وعليه فتكون هذه القاعدة متّبعة في كلّ مورد تمسّ بها الحاجة، والموارد التي اُخذت منها هذه القاعدة هي الرهن والعارية والمضاربة والإجارة والوديعة وغير ذلك من الموارد المناسبة لها؛ فإنّه قد وردت فيها الأخبار الكثيرة الدالّة على أنّ إتلاف مال الغير موجب للضمان»(1).

إذن، فإلى هنا ثبت المقتضي لضمان المنافع.

وبعد ذلك تصل النوبة إلى البحث عمّا يمنع عن تأثير هذا المقتضي، وهي قاعدة. الخراج بالضمان )، فقد نقل الشيخ الأنصاريّ (رحمه الله)(2) عن صاحب الوسيلة(3) نفي ضمان المنافع المستوفاة محتجّاً بأنّ الخراج بالضمان كما في النبويّ المرسل(4). وتفسيره: أنّ من تقبّل ضمان شيء لنفسه فخراجه له بسبب الضمان أو في مقابل الضمان، والمشتري قد أقدم على ضمان المبيع وتقبّله على نفسه بتقبيل البائع وتضمينه إيّاه على أن يكون الخراج له مجّاناً، والضمان ثابت حتّى في حال الفساد، فالخراج له أيضاً حتّى في حال الفساد.

قال الشيخ الأنصاريّ (رحمه الله): «وهذا المعنى ـ يعني معنى الخراج بالضمان ـ مستنبط من أخبار كثيرة متفرّقة، مثل قوله (عليه السلام) ـ في مقام الاستشهاد على كون منفعة البيع في زمان الخيار للمشتري ـ: «ألا ترى أنّها لو اُحرقت لكانت من مال المشتري»، ونحوه في الرهن وغيره»(5).

أقول: كأنّه (رحمه الله) يُشير بما ورد في مورد خيار المشتري إلی أحد حديثين:


(1) التوحيدي، محمّد علي، مصباح الفقاهة. تقرير أبحاث السيد الخوئي. 3: 131 ـ 132، مطبعة الآداب ـ النجف الأشرف. وأشار تحت الخط إلى عدد من روايات الباب.
(2) الأنصاري، مرتضی، کتاب المکاسب 3: 201.
(3) الطوسي، ابن حمزة، الوسيلة الى نيل الفضيلة، مكتبة المرعشي النجفي ـ قم، ط 1، 1408 هـ، 255.
(4) النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل 13: 302، ب. من التجارة، ح 3، نقلاً عن عوالي اللآلي عن النبيّ (ص): أنّه قضى بأنّ الخراج بالضمان.
(5) الأنصاري، مرتضی، کتاب المکاسب 3: 202.
4

أ ـ إمّا إلى حديث الشيخ الطوسيّ (رحمه الله) بإسناده عن الحسين بن سعيد عن صفوان عن إسحاق بن عمّار قال: حدّثني من سمع أبا عبد الله (عليه السلام) وسأله رجل وأنا عنده فقال: رجل مسلم احتاج إلى بيع داره فجاء إلى أخيه، فقال: اُبيعك داري هذه وتكون لك أحبّ إليّ من أن تكون لغيرك على أن تشترط لي إنّ أنا جئتك بثمنها إلى سنة أن تردّ عليّ؟ فقال: «لا بأس بهذا، إن جاء بثمنها إلى سنة ردّها عليه». قلت: فإنّها كانت فيها غلّة كثيرة، فأخذ الغلّة لمن تكون الغلّة؟ فقال: «الغلّة للمشتري، ألا ترى أنّه لو احترقت لكانت من ماله»(1).

وهذا السند فيه شبهة الإرسال(2)؛ لاحتمال أن يكون من سمع أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) ـ ولا نعلم مَن هو ـ قد قال لإسحاق بن عمّار: «سأله رجل وأنا عنده».

ولكن الإشكال قد يرتفع بنسخة الصدوق (رحمه الله) حيث روى الحديث كالتالي: روى إسحاق بن عمّار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سأله رجل وأنا عنده، فقال: رجل مسلم...»(3).

وهذا الحل إنّما ينفعنا لو وثقنا بذلك بأنّ المقصود بنقل الطوسيّ أنّ إسحاق بن عمّار هو الذي سمع أبا عبد الله (عليه السلام)، وأنّ المشكلة ليست إلا تشويشاً في العبارة، وإلا فنقل الصدوق للرواية عن إسحاق بن عمّار لا يحلّ بنفسه مشكلتنا؛ لأنّه وقع في سند الصدوق إلى إسحاق بن عمّار: عليّ بن إسماعيل، والظاهر أنّه عليّ بن إسماعيل بن عيسى، ولا دليل على وثاقته عدا وقوعه في أسانيد كامل الزيارات.


(1) الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة 18: 19، ب. من الخيار، ح..
(2) وقد يُقال: قوله: «حدّثني من سمع أبا عبد الله» شهادة له تحمل على ما يقرب من الحسّ على أنّ ذاك الرجل سمع أبا عبد الله (ع).
(3) الصدوق، محمّد بن علي، من لا يحضره الفقيه، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ط. / 1390 هـ، 3: 128، ح 559.
5

ب ـ وإمّا إلى حديث الشيخ الطوسيّ بإسناده عن الحسن بن محمّد بن سماعة عن أحمد بن أبي بشر عن معاوية بن ميسرة قال: سمعت أبا الجارود يسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل باع داراً له من رجل، وكان بينه وبين الرجل الذي اشترى منه الدار حاصر، فشرط إنّك إن أتيتني بمالي ما بين ثلاث سنين فالدار دارك، فأتاه بماله؟ قال: «له شرطه». قال له أبو الجارود: فإنّ ذلك الرجل قد أصاب في ذلك المال في ثلاث سنين قال: «هو ماله»، وقال أبو عبد الله (عليه السلام): «أرأيت لو أنّ الدار احترقت من مال من كانت تكون الدار دار المشتري؟!»(1).

ومعاوية بن مسيرة قد روی عنه محمّد بن أبي عمير والبزنطيّ، فسند الحديث تامّ.

والظاهر أنّ خروج هذه الرواية عمّا نحن فيه في غاية الوضوح؛ فإنّ مفادها: أنّ ما أصابه من منافع الدار في ضمن سنوات خيار البائع للمشتري؛ لأنّ الدار في تلك السنوات كانت ملكاً للمشتري، ومنافع الملك للمالك، واستشهد لكون الدار ملك للمشتري بأنّها لو احترقت احترقت من مال المشتري. ولعلّ نظر الشيخ الأنصاريّ إلى الرواية الاُولى، لا إلى هذه الرواية.

وكأنّ الشيخ الأنصاريّ (رحمه الله) يُشير بما ورد في الرهن إلى ما رواه الكلينيّ عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد وسهل بن زياد جميعاً عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن حمّاد بن عثمان عن إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي إبراهيم (عليه السلام): الرجل يرهن الغلام والدار فتصيبه الآفة، على من يكون؟ قال: «على مولاه»، ثمّ قال: «أرأيت لو قتل قتيلاً على من يكون؟». قلت: هو في


(1) الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة 18: 20، ب. من الخيار، ح..
6

عنق العبد. قال: «ألا ترى فلِمَ يذهب مال هذا؟»، ثمّ قال: «أرأيت لو كان ثمنه مئة دينار فزاد وبلغ مئتي دينار لمن كان يكون؟». قلت: لمولاه. قال: «كذلك يكون عليه ما يكون له»(1).

وأمّا عطف الشيخ الأنصاريّ (رحمه الله) عبارة «وغيره» على موضوع الرهن فلعلّه يُشير بذلك إلى ما رواه الكلينيّ عن عدّة من أصحابنا عن محمّد بن يحيى عن عبد الله بن محمّد عن عليّ بن الحكم عن أبان عن إسماعيل بن الفضل الهاشميّ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن رجل استأجر من السلطان من أرض الخراج بدراهم مسمّاة أو بطعام مسمّى ثمّ آجرها وشرط لمن يزرعها أن يقاسمه النصف أو أقلّ من ذلك أو أكثر وله في الأرض بعد ذلك فضل، أيصلح له ذلك؟ قال: «نعم، إذا حفر لهم نهراً أو عمل لهم شيئاً يعيّنهم بذلك فله ذلك».

قال: وسألته عن الرجل استأجر أرضاً من أرض الخراج بدراهم مسمّاة أو بطعام معلوم فيؤاجرها قطعة قطعة أو جريباً جريباً بشيء معلوم فيكون له فضل فيما استأجر من السلطان ولا ينفق شيئاً، أو يؤاجر تلك الأرض قطعاً على أن يُعطيهم البذر والنفقة فيكون له في ذلك فضل على إجارته وله تربة الأرض أو ليست له؟ فقال: له: إذا استأجرت أرضاً فأنفقت فيها شيئاً أو رمّمت فيها فلا بأس بما ذكرت»(2).

ووجه الاستدلال هو: أنّ المستأجر الأوّل لمّا ضمن الاُجرة للمؤجر كانت الفائدة الحاصلة له بالإجارة الثانية خراجاً عائداً له، لا لمالك الأرض.

أقول: إنّ خروج هذه الرواية الرابعة عمّا نحن فيه أيضاً في غاية الوضوح، فإنّما قد جعلت زيادة قيمة المنفعة للذي ملك المنفعة بالاستئجار بشرط


(1) المصدر السابق: 387، ب. من الرهن، ح..
(2) المصدر السابق 19: 127 ـ 128، ب 21 من الإجارة، ح. و..
7

إضافة شيء أو تحسين في الأرض، وهذا من قبيل من يملك شيئاً بمبلغ ثمّ يبيعه بمبلغ أكثر، وأيّ ارتباط لذلك بما نحن فيه؟!

ولا اُريد أن اُحمّل هذا الإشكال على الشيخ الأنصاري؛ فإنّنا لا نعلم إنّه كان ناظراً إلى هذه الرواية.

والمهمّ من هذه الروايات الأربع: الروايتان الاُولى والثالثة.

والواقع أنّ التدقيق فيهما أيضاً يؤدّي إلى وضوح خروجهما عن المقام؛ فالاُولى ناظرة إلى أنّ غلّة الملك للمالك، والثالثة ناظرة إلى النقص الوارد على العبد وارد على ممتلكات المولى كما أنّ زيادة قيمته راجعة إلى زيادة قيمة ممتلكات المولى.

فلم يبقَ شيء يُمكن الاستدلال به في المقام إلا رواية «الخراج بالضمان».

وهي رواية سنّيّة واردة في كتبهم، ولم تردّ لدى الشيعة إلا مرسلة عوالي اللآلي.

ومع ذلك فقد نقل عن الشيخ النائينيّ (رحمه الله) تصحيح سند الحديث بقوله ـ على ما ورد في كتاب المكاسب والبيع للشيخ الآمليّ (رحمه الله) ـ:(1) وقد ذكر الشيخ (قدس ‏سره) هذا الخبر ـ أعني جملة. الخراج بالضمان. ـ في المبسوط وذكر له معنيين، وذكره في كتابه وتصدّيه بيان معناه يكشف عن اعتماده عليه، ويكفي في الاطمئنان بصدوره، مع أنّه مؤيّد بما ورد في طرقنا في باب الرهن وغيره، من أنّ الزيادة الحاصلة في العين المرهونة للمالك؛ لكون خسارة العين عليه، مع ذلك كلّه فلا وجه للمناقشة في سنده كما في الكتاب ـ يعني مكاسب الشيخ الأنصاريّ ـ برميه إلى الإرسال، بل الإنصاف صحّة الاستناد إليه بما بيّنّاه.


(1) الآملي، محمد تقي، البيع والمكاسب، ط بوذر جمهري، 1: 330.
8

أقول: لو فرضت تماميّة السند ـ وهو غير تامّ ـ يبقى النقاش الدلاليّ في الرواية؛ فإنّ المحقّقين قد ناقشوا في دلالة الرواية على المقصود:

فقد ناقش الشيخ الأنصاريّ (رحمه الله) في دلالة الرواية بأنّ المراد بالضمان الذي يكون بإزائه الخراج: أنّه لو تقبّل الشخص الضمان فالشارع يُمضيه ويجعل بإزاء هذا الضمان الخراج، في حين أنّ الضمان الذي تقبّله المشتري فيما نحن فيه لم يكن إلا ضمان المسمّى، ولم يُمضه الشارع حتّى يجعل في مقابل ذلك الخراج للمشتري، وإنّما ثبّت الشارع ضمان المبيع بالمثل أو القيمة لو تلف أو اُتلف، ولم يثبت أنّه في مقابل ذلك يكون الخراج للمشتري، فدلالة الرواية لا تقصر عن سندها في الوهن، فلا تترك لأجلها قاعدة ضمان مال المسلم واحترامه وعدم حلّه إلا عن طيب النفس(1).

وقد أبدى السيّد الخوئيّ (رحمه الله) ـ على ما في التنقيح(2) ـ أربعة تفاسير في معنى الرواية:

التفسير الأوّل: أن يكون المقصود ما هو المعروف في باب الخراج والمقاسمة المرتبط بالأراضي الخراجيّة، ويكون المعنى: أنّ الذي يتقبّل دفع الخراج إلى السلطان في الأراضي الخراجيّة ويضمن له ذلك يكون عليه الخراج، وهو المطالب به؛ وإذا كان قد قبّل الأرض من شخص آخر بمقاسمة نتاج الزراعة بينه وبين المتقبّل.

وادّعى السيّد الخوئيّ (رحمه الله): أنّ هذا التفسير ـ وإن لم نره في كلمات الفقهاء ـ هو أظهر الاحتمالات، ومعه يكون الحديث المزبور أجنبيّاً عن المقام.

التفسير الثاني: أن يكون المراد بالخراج مطلق المنافع، والمراد بالضمان مطلق الضمان سواء كان اختياريّاً مترتّباً على العقود الصحيحة أو الفاسدة


(1) الأنصاري، مرتضی، کتاب المکاسب 3: 202 ـ 203.
(2) الخوئي، أبو القاسم، موسوعة الإمام الخوئيّ. التنقيح. 36: 256 ـ 257.
9

أو غير اختياريّ، كالضمان المترتّب على الغصب. وهذا المعنى ينطبق على مسلك أبي حنيفة حيث قال: «إنّ كلّ من يضمن مالاً ولو غصباً فالمنافع له»(1).

وهذا التفسير مقطوع العدم وغير مراد لصاحب الوسيلة.

التفسير الثالث: أن يكون المراد من الخراج مطلق المنافع إلا أنّ المراد من الضمان خصوص الضمان الاختياريّ المترتّب على العقود الصحيحة، فيكون المعنى: أنّ من يضمن شيئاً بعقد صحيح يملك منافعه بالتبع. وهذا في ذاته مطلب صحيح، لكنّه أجنبيّ عن المقام؛ لأنّ كلامنا في العقد الفاسد، والمفروض أنّ الضمان في المقبوض بالعقد الفاسد لا يكون ممضى شرعاً.

أقول: إنّ هذا التفسير هو عين ما نقلناه عن مكاسب الشيخ الأنصاريّ.

التفسير الرابع: أن يكون المراد بالخراج مطلق المنافع ويكون المراد بالضمان مطلق الضمان الاختياري ولو كان فاسداً ولم يمضه الشارع. وهذا المعنى هو الذي يصحّ دليلاً لصاحب الوسيلة في المقام. إلّا أنّه مضافاً إلى احتياجه إلى القرينة من بين المعاني ـ وهي معدومة ـ يستلزم أن تكون مناقع العين للمشتري بحيث يضمنها له كلّ من استوفاها ولو كان هو المالك أو الأجنبيّ الثالث. ولا يلتزم أحد بهذا حتّى أبو حنيفة.

قال السيّد الخوئيّ (رحمه الله): فالصحيح هو المعنى الأوّل ومع التنزّل عنه يرجع إلى المعنى الثالث.

أقول: المفروض أن يُستثنى من ضمان المشتري للمنافع المستوفاة فرض واحد ـ ولعلّه مقصود لهم وإن لم يذكروه في عباراتهم ـ وهو فرض ما إذا كان البائع يُعدّ عرفاً غارّاً للمشتري، كما لو كان البائع عالماً بفساد


(1) الظاهر أنّ نظر أبي حنيفة المروي في صحيحة أبي ولاد كان ناشئاً من رأيه هذا، وهي رواية طريفة أنقلها هنا عن الكافي: فقد روى الكلينيّ عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد عن ابن محبوب عن أبي ولاّد الحنّاط قال: اكتريت بغلاً إلى قصر ابن هبيرة ذاهباً وجائياً بكذا وكذا، وخرجت في طلب غريم لي، فلمّا صرت قرب قنطرة الكوفة خُبّرت أنّ صاحبي توجّه إلى النيل، فتوجّهت نحو النيل، فلمّا أتيت النيل خبّرت أنّ صاحبي توجّه إلى بغداد، فاتّبعته وظفرت به وفرغت ممّا بيني وبينه، ورجعنا إلى الكوفة، وكان ذهابي ومجيئي خمسة عشر يوماً، فأخبرت صاحب البغل بعذري، وأردت أن أتحلّل منه ممّا صنعت واُرضيه، فبذلت له خمسة عشر درهماً، فأبى أن يقبل، فتراضينا بأبي حنيفة، فأخبرته بالقصّة وأخبره الرجل. فقال لي: وما صنعت بالبغل؟ قلت: قد دفعته إليه سليماً. قال نعم، بعد خمسة عشر يوماً. فقال: ما تريد من الرجل؟ قال: اُريد كري بغلي فقد حبسه عليّ خمسة عشر يوماً. فقال: ما أرى لك حقّاً؛ لأنّه اكتراه إلى قصر ابن هبيرة وركبه إلى النيل وإلى بغداد، فضمن قيمة البغل وسقط الكري، فلمّا ردّ البغل سليماً وقبضته لم يلزمه الكري. قال: فخرجنا من عنده، وجعل صاحب البغل يسترجع فرحمته ممّا أفتى به أبو حنيفة، فأعطيته شيئاً وتحلّلت منه، فحججت تلك السنة، فأخبرت أبا عبد الله (ع) بما أفتى به أبو حنيفة. فقال: «في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء ماءها وتمنع الأرض بركتها». قال: فقلت لأبي عبد الله (ع): فما ترى أنت؟ قال: «أرى له عليك مثل كري بغل ذاهباً من الكوفة إلى النيل ومثل كري بغل راكباً من النيل إلى بغداد ومثل كري بغل من بغداد إلى الكوفة توفّيه إياه». قال: قلت: جعلت فداك إنّي قد علفته بدراهم فلي عليه علفه؟ فقال: «لا؛ لأنّك غاصب». فقلت: أرأيت لو عطب البغل ونفق أليس كان يلزمني؟ قال: «نعم، قيمة بغل يوم خالفته». قلت: فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو غمز؟ فقال: «عليك قيمة ما بين الصحّة والعيب يوم تردّه عليه». قلت: فمن يعرف ذلك؟ قال: «أنت وهو، إمّا أن يحلف هو على القيمة فتلزمك، فإن ردّ اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمه ذلك أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين أكرى كذا وكذا فيلزمك». قلت: إنّي كنت أعطيته دراهم ورضي بها وحلّلني. فقال: «إنّما رضي بها وحلّلت حينما قضى عليه أبو حنيفة بالجور والظلم، ولكن أرجع إليه فخبره بما أفتيتك به، فإن جعلك في حلّ بعد معرفته فلا شيء عليك بعد ذلك». قال أبو ولاّد: فلمّا انصرفت من وجهي ذلك لقيت المكاري فأخبرته بما أفتاني به أبو عبد الله (ع)، وقلت له: قل ما شئت حتّى اُعطيكه. فقال: قد حبّبت إليّ جعفر بن محمّد ووقع في قلبي له التفضيل، وأنت في حلّ، وإن أحببت أن أردّ عليك الذي أخذت منك فعلت. انتهت الرواية المباركة. [ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي 5: 290 ـ 291، باب الرجل يكتري الدابّة فيجاوز بها الحدّ أو يردّها قبل الانتهاء إلى الحدّ ح. ]. وقد أورد صاحب الوسائل أكثر هذه الرواية في كتاب الإجارة، باب 17، ح.؛ وذلك في المجلّد 19: 119 ـ 120. وعلّق صاحب الوسائل (رحمه الله) على جملة: «فأخبرت أبا عبد الله (ع) بما أفتى به أبو حنيفة» بقوله: «لا يخفى أنّ أبا حنيفة استدلّ هنا بأصالة البراءة والاستصحاب ونحوهما». أقول: الظاهر عندي أنّ أبا حنيفة كان مدركه لمّا أفتى به قاعدة «الخراج بالضمان» بالتفسير الذي هو يرتئيه من أنّ الضمنان حتّى بالغصب يجعل الخراج للضامن.
10

المعاملة والمشتري جاهلاً بذلك، ولو كان يعلم بذلك لمّا كان يستوفي المنافع، فهل نقول في هذا الفرض بشمول دليل الضمان لتلك المنافع؟!

هذا تمام ما أردنا بيانه في المنافع المستوفاة. وبقي الكلام في المنافع غير المستوفاة.

حکم المنافع غير المستوفاة:

وقد أفاد السيّد الخوئيّ (رحمه الله) ـ على ما في التنقيح(1) ـ: أنّنا نتكلّم أوّلاً في المنافع غير المستوفاة في المغصوب، ثمّ ننتقل إلى المنافع غير المستوفاة في المقبوض بالبيع الفاسد:

أمّا المنافع غير المستوفاة في المغصوب فتارة تكون العين معدّة لاستيفاء تلك المنافع بحيث لولا الغصب كان المالك يستوفيها، واُخرى لم تكن معدّة له وإن كانت قابلة للاستيفاء، بمعنى أنّ المالك أيضاً لم يكن يستوفيها لولا الغصب، كما إذا فرضنا أنّ المالك من الأغنياء يملك أعياناً كثيرة لا ينتفع منها في جميع الأزمان مع شأنيّة الانتفاع فيها:

ففي الصورة الاُولى يكون الغاصب ضامناً للمنفعة وإن لم يستوفها؛ لأنّه حال بين المالك والمنافع، فيُعتبر مُتلفاً لها على المالك، كما لو غصب داراً كان يستفيد المالك من سكناها لولا الغصب وذلك بسَكَنها أو إيجارها.

أمّا في الصورة الثانية فلا ضمان للمنافع غير المستوفاة؛ لأنّ تلف المنفعة لا يُسند إلى منع الغاصب مع فرض عدم المقتضي للاستيفاء من قِبل المالك لو كان مسلّطاً على الملك؛ فإنّ عدم الشيء لدى عدم المقتضي مع وجود المانع يُسند إلى عدم المقتضي لا إلى وجود المانع.


(1) الخوئي، أبو القاسم، موسوعة الإمام الخوئيّ. التنقيح. 36: 258 ـ 260.
11

فالصحيح في باب الغصب هو التفصيل في ضمان المنافع غير المستوفاة بين ما تكون العين معدّة لاستيفاء المنفعة فيها من قِبل المالك، وما لم تكن كذلك.

وأمّا في المقبوض بالعقد الفاسد فبالنسبة إلى المنافع التي لم تكن العين معدّة لاستيفائها من قِبل المالك فلا ضمان؛ لأنّ المفروض أنّه لم يستوفها المشتري كي يكون الاستيفاء سبباً للضمان، ولا كان تلفها مستنداً إليه؛ لأنّ المقتضي لاستيفاء المالك غير موجود، وإذا لم تكن هذه المنافع مضمونة في الغصب فما ظنّك بالمقبوض بالعقد الفاسد؟!

وأمّا المنافع التي تكون العين معدّة لاستيفائها من قِبل المالك فأيضاً لا ضمان على القابض فيها؛ لأنّ عمدة الدليل على ضمان المنافع المستوفاة كانت هي قاعدة. من أتلف )، والسيرة القائمة على ضمان المنافع المستوفاة، وهما غير جاريين في المقام، فلا هو استوفى المنافع حتّى تردّ السيرة العقلائيّة، ولا هو منع المالك عن التصرّف في المال حتّى يسند فوات المنافع إليه، وإلا دخل في عنوان الغاصب ولحقه حكمه.

وقد يُستدلّ للضمان في المنافع غير المستوفاة باُمور:

1 ـ النبويّ المعروف «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه»(1).

ويُردّ ذلك إمّا بما أبداه الشيخ الأنصاريّ (رحمه الله) من أنّ عنوان الأخذ لا يصدق إلا على الأعيان(2)، وإمّا بأنّ المأخوذ يجب أن يكون قابلاً للردّ والأداء، والمنافع ليست كذلك؛ لأنّها قبل الاستيفاء لا تكون تحت اليد، وبعده تنعدم وليست بموجودة.

2 ـ «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه»(3).


(1) النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل 17: 88، ب. من الغصب، ح..
(2) الأنصاري، مرتضی، کتاب المکاسب 3: 204.
(3) الحرّ العاملي، محمّد بـن الحسن، وسائل الشيعة 5: 120، ب. من مكان المصلّي، ح..
12

وهذا لا يدلّ إلا على حرمة أكل مال الغير أو على حرمة التصرّف في مال الغير، وليست فيه دلالة على الضمان.

3 ـ «لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه»(1).

وهذا أيضاً لا يدلّ إلا على حرمة التصرّف دون الضمان.

4 ـ «حرمة ماله كحرمة دمه»(2).

وهذا أيضاً لا يدلّ على أكثر من الحرمة التكليفيّة للتصرّف، فلا يثبت الضمان.

انتهى ما أردنا نقله عن السيّد الخوئيّ (رحمه الله).

أقول: ولو آمنّا بأنّ تشبيه حرمة ماله بحرمة دمه يدلّ على الضمان؛ لأنّه لا شكّ في مضمونيّة دم المسلم، فهذا إنّما يدلّ على ضمان المنافع حينما تفصل عن العين، وهذا لا يكون إلا في حالتين:

الحالة الاُولى: ما لو استوفاها، فبذلك فصلها عن العين، والمفروض فعلاً عدم الاستيفاء.

والحالة الثانية: ما لو فصل بينها وبين العين بمنع المالك عن استيفائها حينما قصد المالك الاستيفاء، والمفروض في المقام أيضاً خلاف ذلك.

ففي هاتين الحالتين تُعدّ للمنافع ماليّة مستقلّة، وتكون مضمونة.

أمّا في غير هاتين الحالتين فماليّة المنافع مندكّة في ماليّة نفس العين، فعبارة «حرمة ماله كحرمة دمه» لا تدلّ على أكثر من ضمان العين.

إلا أنّ السيّد الإمام (رحمه الله) جزم بضمان المنافع غير المستوفاة(3)؛ لأنّ للمنافع نحو وجود تدريجي يقع تحت اليد تبعاً للعين وتتلف تدريجاً


(1) المصدر السابق 9: 541،، ب. من الأنفال، ح..
(2) الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة 12: 297، ب 158 من أحكام العشرة، ح..
(3) راجع: الخميني، روح الله، كتاب البيع 1: 475، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخمينيّ (رحمه الله).
13

وتصير مضمونة تدريجاً بحكم قاعدة اليد، وليس الاستيفاء دخيلاً في تحقّق المنفعة، فالمنفعة متصرّمة الوجود ومتصرّمة التلف بالتدريج سواء استوفاها أو لا، وحديث «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» يدلّ بحكم التشبيه بأنّ مال المسلم كدمه، فكما أنّه لو اُريق دمه لا يذهب الدم هدراً فكذلك المال والمنفعة مال. وهذا موافق للقاعدة العقلائيّة في المقام.

أقول: لئن تمّ شيء ممّا أفاده ـ رضوان الله عليه ـ في المقام فإنّما يتمّ في منفعة لا تندكّ ماليّته ضمن ماليّة العين، وقد أشرنا إلى أنّ ذلك إنّما يكون فيما إذا فصلت المنفعة عن العين إمّا باستيفائها أو بمنع المالك عن استيفائها، أمّا لو لم يكن لا هذا و لا ذاك ولا كان المالك قد أجّر العين لفترة محدّدة فأصبحت العين مسلوبة المنفعة في تلك الفترة فماليّة المنفعة مندكّة ضمن ماليّة العين، ولا يفتح لها عقلائيّاً حساب خاصّ.

ضمان المثلي بالمثل والقيمي بالقيمة:

ممّا بحث الشيخ الأنصاري (رحمه الله) ترتّبه على القبض بالبيع الفاسد هو ضمان المثل في المثليّات والقيمة في القيميّات لدى التلف أو الإتلاف(1)، وقد حكى في مكاسبه خلافاً مريراً في تعريف المثليّ والقيميّ(2)، ثمّ قال: «لا يخفى أنّه ليس للفظ. المثليّ. حقيقة شرعيّة ولا متشرّعيّة، وليس المراد معناه اللغويّ؛ إذ المراد بالمثل لغة المماثل، فإن اُريد من جميع الجهات فغير منعكس، وإن اُريد من بعضها فغير مطّرد، وليس في النصوص حكم يتعلّق بهذا العنوان حتّى يبحث عنه. نعم، وقع هذا العنوان في معقد إجماعهم على أنّ المثليّ يضمن بالمثل وغيره بالقيمة، ومن المعلوم أنّه لا يجوز الاتّكال في تعيين معقد الإجماع على قول بعض المجمعين مع مخالفة الباقين»(3).


(1) راجع: الأنصاري، مرتضی، کتاب المکاسب 3: 209 ـ 221 و 240 ـ 272.
(2) المصدر السابق: 209 ـ 214.
(3) المصدر السابق: 214.
14

أقول: إنّ الإجماعات المنقولة في المقام لو كانت لها قيمة في حدّ ذاتها فقد أسقطتها عن القيمة الخلاف المرير في تفسير المثليّ والقيمة سقوطاً ذريعاً.

وعلى أيّة حال فلتمشية البحث نفترض تبنّي تفسير واحد للمثليّ والقيميّ ممّا ذكر في المقام، وهو أنّ كلّ نوع من أنواع الجنس الواحد بل كلّ صنف من أصناف نوع واحد لو تمثّلت في أفرادها فهو مثليّ، وإلا فهو قيميّ(1)، أو تبنّي التفسير الذي اختاره السيّد الخوئيّ (رحمه الله) في التنقيح، وهو أنّ ما تساوت أفراده من حيث القيمة باعتبار عدم اختلاف الصفات المؤثّرة في القيمة الشائعة في الأفراد فهو مثليّ وغيره قيميّ، ومن المثليّات جميع ما يخرج من المكائن من الأواني والأقمشة وغيرهما، وما قيل من أنّ الثوب من القيميّات إنّما عني به الثوب المخيّط المنسوج باليد، لا الأقمشة الجديدة غير المخيّطة(2).

وهذان التفسيران متقاربان، بل لعلّ المقصود بهما واحد.

أدلّة ضمان المثلي والقيمي:

نبدأ بذكر بعض وجوه ضمان المثليّ بالمثل، فنقول ـ وبالله التوفيق ـ:

1 ـ رواية. على اليد.(3).

وأورد عليه السيّد الخوئيّ (رحمه الله) بسقوطه الرواية سنداً وعدم الانجبار بعمل الأصحاب، وبعدم تماميّة الدلالة فإنّها إنّما دلّت على أصل الضمان، وأمّا أنّ الضمان بالمثل فلا(4).

إلا أن يُقال بأنّ المفهوم عقلائيّاً من الضمان ذلك، وهو رجوع إلى وجه يصلح دليلاً مستقلاًّ على الأمر، وهو الوجه الأخير الذي سيأتي إن شاء الله تعالى.


(1) راجع: المصدر السابق: 210 ـ 211.
(2) الخوئي، أبو القاسم، موسوعة الإمام الخوئيّ. التنقيح ): 36.
(3) النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل 17: 88، ب. من الغصب، ح..
(4) الخوئي، أبو القاسم، موسوعة الإمام الخوئيّ. التنقيح. 36: 261.
15

2 ـ «حرمة ماله كحرمة دمه»(1)، وهذا إمّا يدلّ على مجرّد الحرمة التكليفيّة أو على أصل الضمان أيضاً دون الضمان بالمثل.

إلا أن يُقال: إنّ المفهوم عقلائيّاً من الضمان هو الضمان بالمثل، وعليه يأتي التعليق الذي أشرنا إليه في آخر حديثنا عن الوجه الأوّل.

3 ـ القاعدة المتصيّدة من الروايات، وهي قاعدة «من أتلف مال الغير فهو له ضامن»(2)، وهذا إنّما يدلّ على أصل الضمان دون الضمان بالمثل، إلا بدعوى انصراف الضمان إلى ضمان المثل للقاعدة العقلائيّة، فيأتي فيه التعليق الذي أشرنا إليه في الوجهين الأوّل والثاني.

4 ـ قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ....(3).

وأورد السيّد الخوئيّ (رحمه الله) ـ على ما في التنقيح ـ(4) على هذا الاستدلال بأنّه لو خصّصنا الآية بمسألة قتال المشركين في الأشهر الحرم فهي أجنبيّة عن المقام، ولو فهمنا منها الإطلاق فهو ليس بأكثر من مثل أنّه لو ضربه أو شتمه فهو يعتدي بمثله، ولا علاقة لها بضمان المثليّ بالمثل إطلاقاً.

5 ـ ما جعله السيّد الخوئيّ (رحمه الله) ـ على ما في التنقيح ـ عمدة الدليل على ضمان المثليّ بالمثل، وهو السيرة العقلائيّة على أنّ من أتلف شيئاً من أموال الغير يلزم عليه أداء مثله، ولعلّه لم يتعرّض في النصوص لضمان المثل إيكالاً إلى الارتكاز العقلائيّ، وأنّ هذا ممّا يفهمه كلّ أحد، فلو تلف المبيع بالعقد الفاسد وكان مثليّاً لزم أداء مثله(5).

أقول: إنّ هذا الكلام في الجملة صحيح، لكنّه لا يُمكن الإلتزام به على إطلاقه؛ فإنّ الارتكاز العقلائيّ كما يحكم بضمان خصوصيّات المثل كذلك


(1) الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة 12: 297، ب 158 من أحكام العشرة، ح..
(2) مضى شرح ذلك في بحث ضمان المنافع المستوفاة.
(3) البقرة: 194.
(4) الخوئي، أبو القاسم، موسوعة الإمام الخوئيّ. التنقيح. 36: 262.
(5) المصدر السابق.
16

يحكم بضمان الماليّة، فلا يُمكن أن يقول الغاصب للثلج في حرّ الصيف وأراد إرجاع مثله في قلب الشتاء حينما لم تبق أيّة قيمة للثّلج: إنّني أخرج من الضمان بدفع المثل.

وهو (رحمه الله) التفت إلى ذلك واعترف(1) بأنّ فرض سقوط المثل عن القيمة نهائيّاً ـ كما في الثلج المغصوب في الصيف إذا سقط عن القيمة نهائيّاً في الشتاء ـ بأنّه لا يُمكن الخروج عن الضمان بأداء ما سقط عن القيمة بشكل كامل، موضِّحاً ذلك ـ بحسب ما ورد في التنقيح ـ بأنّ سقوط المثل عن القيمة يجعله ملحقاً بما إذا تعذّر المثل؛ لأنّ المفهوم من دليل الضمان من السيرة وغيرها هو وجوب ردّ المال، فلا بدّ أن تكون للمضمون ماليّة، والمفروض في المقام عدم بقاء ماليّة للمثل.

ولكن الخطأ العظيم الذي وقع (رحمه الله) فيه أنّه التزم بكفاية دفع أدنى القيم من حين بدء المثل بالسقوط إلى ما قبل لحظة السقوط الكامل، ففي مثال الثلج يكفي هذا الغاصب أن يدفع أقلّ قيمة وصل الثلج إليه قبل أن يبرد الجوّ إلى حدّ يسقط نهائياً عن القيمة؛ لأنّ العين تثبت في الذمّة إلى يوم الدفع، فلو طالبه في يوم السقوط عن القيمة وجب دفع قيمة ذاك اليوم، لا قيمة يوم التلف ولا أعلى القيم ولا غيرهما من الوجوه المذكورة في المسألة(2).

أقول: إنّ نفس الارتكاز العقلائيّ الذي يحكم بضمان المثل يحكم أيضاً في حين نزول القيمة الاستعماليّة للمال المغصوب أو نحوه بضمان القيمة الاستعماليّة، فلا يكتفي في الثلج الذي نزلت قيمته ببرودة الجوّ من دون السقوط الكامل بقيمته في دور النزول.

وأيضاً قال (رحمه الله) ـ على ما ورد في التنقيح ـ: لو نزلت قيمة التالف المثليّ يوم الردّ فالظاهر أنّه يجب ردّ المثل دون القيمة؛ لأنّ حاله حال العين إذا


(1) راجع: المصدر السابق: 270، و 266.
(2) راجع: المصدر السابق: 270.
17

كانت باقية وتنزّلت قيمتها السوقيّة، فلا إشكال في أنّ ردّ الزائد عن المثل غير واجب على الضامن؛ لأنّه ضامن للمثل، ولا ربط لنقصان القيمة في السوق به.

ويؤيّده ما عن محمّد بن الحسن الصفّار عن محمّد بن عيسى عن يونس قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام): أنّه كان لي على رجل دراهم، وأنّ السلطان أسقط تلك الدراهم، وجاء بدراهم أغلى من تلك الدراهم الاُولى ولها اليوم وضيعة، فأيّ شيء لي عليه الاُولى التي أسقطها السلطان أو الدراهم التي أجازها السلطان؟ فكتب (عليه السلام): «لك الدراهم الاُولى»(1)؛ فإنّ الإمام (عليه السلام) حكم بأنّ له الدراهم الاُولى مع فرض تنزّل قيمتها وأنّ لها وضيعة.

ولا يتوهّم دلالتها على اشتغال الذمّة بالمثل حتّى مع فرض سقوطه عن الماليّة بالمرّة؛ لأنّ الدراهم المتعارفة في تلك الأعصار كانت من الفضّة، فكانت لموادّها ماليّة، فإسقاط السلطان كان موجباً لنقص ماليّتها، لا زوال ماليّتها رأساً(2).

أقول: أمّا استشهاده (رحمه الله) بصحيحة يونس بن عبد الرحمن بحسب نقل الشيخ والصدوق التي ورد فيها قوله: «لك الدراهم الاُولى» فيرد عليه أنّها معارضة بنسخة الكافي: كتبت إلى الرضا (عليه السلام): إنّ لي على رجل ثلاثة آلاف درهم، وكانت تلك الدراهم تنفق بين الناس تلك الأيّام وليست تنفق اليوم، فلي عليه تلك الدراهم بأعيانها أو ما ينفق اليوم بين الناس؟ قال: فكتب إليّ: «لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس كما أعطيته ما ينفق بين الناس»(3).

والرواية الاُولى بحسب نقل الشيخ الصدوق عبّر بتعبير: «كان لي على رجل عشرة دراهم»(4).


(1) الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة 18: 206، ب 20 من الصرف، ح 2، وفي هامش المخطوط من الوسائل ذكر الشيخ الحرّ: «في الفقيه زيادة: عشرة».
(2) الخوئي، أبو القاسم، موسوعة الإمام الخوئيّ. التنقيح. 36: 265 ـ 266.
(3) الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة 18: 206، ب 20 من الصرف، ح.. ورواه الشيخ في الاستبصار بسند فيه سهل بن زياد. [ الطوسي، محمّد بن الحسن، الاستبصار، دار الكتب الإسلامية ـ طهران. بدون تاريخ 3: 100، ح 345..
(4) الصدوق، محمّد بن علي، من لا يحضره الفقيه 3: 118، ح 503.
18

فهذا شاهد على تعدّد الرواية؛ لأنّ نقل الكافي ورد فيه «ثلاثة آلاف درهم»، ولكن على نقل الشيخ الطوسيّ عبّرت بتعبير «كان لي على رجل دراهم»(1)، وهذا يناسب وحدة الروايتين. كما تؤيّد الوحدة وحدة الإمام ووحدة السند من محمّد بن عيسى إلى الإمام (عليه السلام).

وعلى تقدير وحدة الرواية تدخل في عنوان الرواية مضطربة المتن وإن كانت تؤيّد نسخة «لك الدراهم الاُولى» ما ورد في مضمرة صفوان: «لصاحب الدراهم الدراهم الاُولى»(2).

وعلى أيّ حال فالجمع المنقول بين الروايتين عن الطوسيّ أو الصدوق جمع تبرّعي لا قيمة له.

وجمع الصدوق ما يلي، قال: «والحديثان متّفقان غير مختلفين، فمتى كان للرجل على الرجل دراهم بنقد معروف فليس له إلا ذلك النقد، ومتى كان له على الرجل دراهم بوزن معلوم بغير نقد معروف فإنّما له الدراهم التي تجوز بين الناس»(3).

وجمع الشيخ في الاستبصار ما يلي، قال: «فأمّا ما رواه محمّد بن أحمد بن يحيى عن سهل بن زياد عن محمّد بن عيسى... «لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس كما أعطيته ما ينفق بين الناس» فلا ينافي الخبرين الأوّلين؛ لأنّه إنّما قال: «لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس» يعني بقيمة الدراهم الاُولى ما ينفق بين الناس؛ لأنّه يجوز أن تسقط الدراهم الاُولى حتّى لا يكاد تؤخذ أصلاً، فلا يلزمه أخذها، وهو لا ينتفع بها، وإنّما له قيمة دراهمه الأوّلة، وليس له المطالبة بالدراهم التي تكون في الحال»(4).

وعلى كلّ تقدير فتأييد السيّد الخوئيّ (رحمه الله) ما اختاره برواية مبتلاة بالمعارض أو باضطراب المتن ليس في محلّه.


(1) الطوسي، محمّد بن الحسن، تهذيب الأحکام 7: 117، ح 507، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ط. / 1365 هـ. ش. الطوسي، محمّد بن الحسن، الاستبصار 3: 99، ح 343.
(2) الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة 18: 307، ب. من الصرف. والسند ساقط بمحمّد بن عبد الجبّار، الذي لا دليل على وثاقته عدا وروده في تفسير القمي، والعبّاس بن صفوان الذي هو مجهول.
(3) الصدوق، محمد بن علي، من لا يحضره الفقيه 3: 191.
(4) الطوسي، محمّد بن الحسن، الاستبصار 3: 100.
19

وأمّا قوله (رحمه الله): «لا إشكال في أنّ ردّ الزائد عن المثل غير واجب على الضامن؛ لأنّه ضامن للمثل، ولا ربط لنقصان القيمة في السوق به»(1) فيرد عليه: أنّ نقصان القيمة السوقيّة إن كان بمثل انتشار السلعة في السوق فصحيح أنّ ذلك في باب القرض لا يوجب الضمان وفق القاعدة ما دام تأخير أداء القرض كان جائزاً ولم يكن بحكم الغصب؛ لأنّ الارتكاز العقلائيّ لا يقضي بضمان الخسارة التجاريّة، وإلا لكان استيراد التاجر لمتاع الموجب لخسارة التاجر السابق تجاريّاً موجباً لضمان التاجر الثاني للتاجر الأوّل، وهذا ما لا يقبله الارتكاز. ولكن حينما يكون بنقص القيمة الاستهلاكيّة كما في مثال الثلج بعد برد الجوّ أو مثال الدرهم بعد تبديل السلطان إيّاه فنفس الارتكاز العقلائيّ يقضي بالضمان، فسوق القسمين من النقص السوقي مساقاً واحداً ليس في محلّه.

ثمّ إنّ أصل الدليل الذي اختاره السيّد الخوئيّ (رحمه الله) في التنقيح من السيرة العقلائيّة أو الارتكاز العقلائيّ الحاكم بأنّ من أتلف شيئاً من أموال غيره لزم عليه أداء المثل يجري في القيميّات أيضاً، وقد اعترف هو بذلك في التنقيح فيما إذا كان مثل التالف في القيميّ موجوداً صدفة أو كان في ذمّة المالك مثله للضامن، فقال (رحمه الله): «لا ريب في أنّ القيميّ إذا تلف وكان مثله موجوداً لزم أداء المثل دون القيمة، وأمّا ما ورد من أداء القيمة في بعض النصوص فهو محمول على صورة تعذر المثل... ـ إلى أن قال: ـ وأمّا الإجماع المدّعی في المقام على ضمان القيميّ بالقيمة فلا إطلاق له يشمل صورة تيسّر المثل، وكذا لو كان التالف في يد المشتري هو القيميّ وكان في ذمّة المالك أيضاً مثله فلا تصل النوبة إلى القيمة أيضاً، بل لا بدّ من التهاتر القهري، كما لو كان لكلّ منهما على ذمّة الآخر ذرع من الكرباس...»(2).


(1) الخوئي، أبو القاسم، موسوعة الإمام الخوئيّ. التنقيح. 36: 265.
(2) المصدر السابق: 272.
20

أقول: واُصولاً إنّ السيّد الخوئيّ (رحمه الله) لا يؤمن بالإجماعات المنقولة وبالأخصّ المحتملة المدركيّة، فالمفروض أن يكون الدليل على قيميّة القيميّات إمّا دعوى التفكيك بينها وبين المثليّات بالارتكاز العقلائيّ، وعهدته على مدّعيه، ونحن ندّعي في مقابل تلك الدعوى أنّ المورد الذي يرى فيه الارتكاز ضمان المثل في المثليّات يرى ذلك أيضاً في القيميّات، فتكون القيمة عبارة عن قيمة يوم الدفع، وإمّا دعوى الروايات الخاصّة واردةً في القيميّات.

ومن هنا ننتقل إلى بحث الروايات التي قد يُدّعى دلالتها على ضمان القيمة فيما قد يُسمّى بالقيميّات، وننقل منها ما يلي بحول الله وقوّته:

الرواية الاُولى: روايات عتق أحد الشركاء نصيبه من العبد، الدالّة على ضمان المعتق قيمة حصص الباقين.

وأكثر تلك الروايات ليس فيها تصريح بغير قيمة يوم الأداء، فيحتمل فيها إرادة قيمة يوم الدفع(1). وقد مضى أنّ هذا ينسجم مع كون المضمون هو المثل، فلنقتصر في ذكر هذه الروايات على روايات قيمة يوم العتق حتّى يُمكن أن يُقال: لو كان المضمون هو المثل لكان المترقّب أن تكون عليه قيمة يوم الأداء، لا قيمة يوم الإتلاف، وهو يوم العتق. وتلك الروايات ما يلي:

1 ـ ما عن محمّد بن قيس بسند تامّ عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «من كان شريكاً في عبد أو أمة قليل أو كثير فأعتق حصّته ولم يبعه فليشتره من صاحبه فيعتقه كلّه، وإن لم يكن له سعة من المال نظر قيمته يوم اُعتق ثمّ يسعى العبد في حساب ما بقي حتّى يعتق»(2).


(1) من قبيل: ح. و. و. و. و 11 و 12 من ب 18 من العتق من الوسائل.
(2) الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة 23: 37، ب 18 من العتق، ح..
21

إلا أنّ هذا الحديث وإن ذكر قيمة يوم العتق، لكنّه لم يجعلها على عاتق المُتلف أو من هو بمنزلة المتلف، وهو الذي أعتق حصّته، وإنّما حكم على المعتق بشراء باقي الحصص، وطبيعيّ أنّه يشتريها بقيمة يوم الشراء أو بأيّة قيمة يتراضی عليها مع شريكه، لا بقيمة يوم العتق. أمّا العبد الذي يستسعى فليس ضامناً أصلاً، فالرواية أجنبيّة عمّا نحن فيه.

2 ـ ما عن محمّد بن قيس بسند تامّ عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في عبد كان بين رجلين فحرّر أحدهما نصفه وهو صغير وأمسك الآخر نصفه حتّى كبر الذي حرّر نصفه، قال: يقوّم قيمة يوم حرّر الأوّل واُمر المحرَّر(1) أن يسعى في نصفه الذي لم يحرّره حتّى يقضيه»(2).

وهذا أيضاً يأتي فيه نفس النقاش الذي ذكرناه في الحديث الأوّل.

3 ـ ما عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوم ورثوا عبداً جميعاً، فأعتق بعضهم نصيبه منه، كيف يصنع بالذي أعتق نصيبه منه؟ هل يؤخذ بما بقي؟ فقال: «نعم، يؤخذ بما بقي منه بقيمته يوم اُعتق»(3).

وهذا فرقه عن الحديثين السابقين أنّه جعل قيمة يوم العتق على مَن هو بمنزلة المُتلف، وهو المعتِق.

إلا أنّ جملة «منه بقيمة يوم اُعتق» إنّما وردت في نسخة الكافي(4)، وسند الكافي ضعيف بمعلّى بن محمّد، ولم ترد في نسخة التهذيب(5) الذي يكون سنده تامّاً.


(1) أقول: الوارد في الوسائل في طبعة الربّاني وطبعة مؤسّسة آل البيت «واُمر الأوّل»، ولم اُراجع الطبعة الحجريّة القديمة، وهذا غلط؛ فإنّ الذي يستسعى هو المحرَّر بالفتح، وليس المحرِّر بالكسر، فالصحيح هو ما في نسخة الأصل، وهو الكافي، أي «المحرَّر» بالفتح.
(2) المصدر السابق، ح..
(3) المصدر السابق: ح..
(4) الکليني، محمّد بن يعقوب 6: 183، باب المملوك بين شركاء يعتق أحدهم نصيبه أو يبيع، ح..
(5) الطوسي، محمّد بن الحسن، تهذيب الأحکام 8: 219، ح 784.
22

على أنّ نصّ الكافي أيضاً يبدو وجود الخلاف بين نسخه؛ فإنّ صاحب الوسائل الذي نقل النصّ عن الكافي اقتصر على «نعم، يؤخذ بما بقي منه»، ثمّ قال في هامش المخطوط: في نسخة زيادة «بقيمته يوم اُعتق».

والرواية الثانية: ما عن السكونيّ بسند فيه النوفليّ عن أبي عبد الله (عليه السلام): «إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن سفرة وجدت في طريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكّين، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): يقوّم ما فيها ثمّ يؤكل؛ لأنّه يفسد، وليس له بقاء، فإن جاء طالبها غرموا له الثمن، فقيل: يا أمير المؤمنين لا يدري سفرة مسلم أو سفرة مجوسيّ، فقال: هم في سعة حتّى يعلموا»(1).

إلا أنّ الظاهر کون الحديث أجنبياً عمّا نحن فيه؛ لأنّ الذي يبدو لنا أنّ المقصود بالتقويم ثمّ الأكل أنّهم يتملّكون الطعام بقيمته ثمّ يأكلون، لا أنّهم يأكلون مال الناس فيضمنون فتكون عليهم قيمة يوم الإتلاف. وتطرّق احتمال ما ذكرناه إلى حدّ الإجمال يكفي في عدم إمكان التمسّك بهذا الحديث على المقصود.

والرواية الثالثة: روايات نكاح الأمة المسروقة الدالّة على أداء قيمة الولد الواردة في الوسائل(2).

ولكن يُمكن تطبيقها على يوم الأداء إن لم نقل بانصرافها إلى ذلك؛ إذ لا يتصوّر عادة إمكانيّة أداء المثل، فمن الطبيعيّ الانتقال إلى أداء قيمة يوم الأداء. فهذه الروايات أجنبيّة عن المقام.


(1) الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة 3: 490، ب 50، من النجاسات والاواني، ح 12.
(2) ب 88 من نكاح العبيد الإماء.
23

والرواية الرابعة: روايات وقوع التهاتر بين الدين والرهن التالف عن تقصير(1)، فلولا كون الرهن قيميّاً لكان المترقّب عدم التهاتر واسترجاع الدين وإرجاع مثل العين المرهونة.

وبطلان الاستدلال بهذه الروايات في غاية الوضوح؛ لأنّ العين المرهونة غير مشخّصة في هذه الروايات، فقد تكون ممّا يكثر مثلها، كما قد تكون ممّا لا مثل لها، فلو فرضت دلالة هذه الروايات لدلّت على قيميّة كلّ شيء.

والواقع أنّ مفاد هذه الروايات هو أنّه كما كانت العين المرهونة رهناً في مقابل الدين ـ أي أنّه إذا لم يؤدّ الدين اقتصّ من العين المرهونة ـ كذلك الدين رهن في مقابل العين المرهونة، أي أنّها لو تلفت بتقصير اقتصّ من الدين، فالتهاتر في المقام يكون على أساس التراهن المفروض شرعاً بينهما، لا على أساس قيميّة العين المرهونة.

وقد أفاد السيّد الإمام الخميني ـ رضوان الله تعالى عليه ـ: أنّ مقتضى روايات التهاتر في باب الرهن في مقابل الدين هو القول بالضمان بالقيمة في جميع الاُمور حتّى فيما يكثر مثله(2).

إلّا أنّه (رحمه الله) لم يُفتِ بذلك، وأفتى في المثليّ الذي يوجد مثله لا المتعذّر ولا نادر الوجود بضمان المثل، مستشهداً بأنّ ذلك من قطعيات الفقه. وهذا نصّ كلامه (رحمه الله): «والظاهر أنّ المثليّ الذي وجد مثله خارج عنها ويكون ضمانه بالمثل كما ادّعي الإجماع عليه، وقال صاحب الجواهر: إنّه من قطعيّات الفقه. وعن غاية المراد:. أطبق الأصحاب على ضمان المثليّ بالمثل إلا ما يظهر من ابن الجنيد، وهو أوّل كلامه أيضاً ). وكيف كان فلا دليل على خروج مطلق المثليّ، بل الخارج ما هو موجود مثله، لا المتعذّر ولا نادر الوجود»(3).


(1) راجع: الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة 18: 389 ـ 392، ب. و. من الرهن.
(2) راجع: الخميني، روح الله، كتاب البيع 1: 83 وما بعدها.
(3) المصدر السابق: 592.
24

أقول: اتّضح ما في هذا الكلام ممّا ذكرناه من أنّ التهاتر بين الرهن والدين أمر طبيعيّ للتقابل الموجود بينهما والمفروض من قبل الطرفين والممضى في فقه الشريعة، ولا علاقة لذلك بمسألة المثليّة والقيميّة.

والرواية الخامسة: روايتا البُختيّ المغتلم:

ففي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: سئل عن بُختيّ(1) اغتلم(2)، فخرج من الدار فقتل رجلاً، فجاء أخو الرجل فضرب الفحل بالسيف. فقال: «صاحب البُختيّ ضامن للدية، ويقتصّ ثمن بُختيّه»(3).

وفي صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن بختيّ مغتلم قتل رجلاً، فقام أخو المقتول فعقر البختي وقتله، ما حاله؟ قال: «على صاحب البختي دية المقتول، ولصاحب البختي ثمنه على الذي عقر بختيّه»(4).

وقد اتّضح جوابهما من جوابنا على بعض الروايات السابقة، وهو أنّ هذا الحكم ينسجم أن يطبّق على قيمة يوم الأداء، والتي تنسجم مع فرض الضمان بالمثل.

السادسة: صحيحة أبي ولاّد حيث جاء فيها: قلت له: أرأيت لو عطب البغل ونفق، أليس كان يلزمني؟. قال: «نعم، قيمة بغل يوم خالفته»(5)، فيُقال: إنّ هذا معناه وجوب أداء قيمة يوم الغصب، وهذا يدلّ على كون البغل قيميّاً؛ إذ لو كان مثليّاً لكن المترقّب أن تكون عليه قيمة يوم الأداء، لا قيمة يوم الغصب.

إلا أنّ هناك نكتتين تثيران الانتباه في هذه الرواية:


(1) الإبل الخراساني.
(2) نقل عن. القاموس المحيط ): أنّ الاغتلام هيجان البعير عند الشهوة الجنسيّة.
(3) الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة 29: 250، ب 14 من موجبات الضمان من كتاب الديات، ح..
(4) المصدر السابق: 251، ح..
(5) الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة 19: 119، ب 17 من الإجارة، ح 1.
25

النکتة الاُولى: أنّ المترقّب على تقدير قيميّة البغل أن تكون العبرة بقيمة يوم التلف؛ لأنّه يوم الانتقال إلى القيمة، فيا تُرى لماذا فرض في الحديث أنّ العبرة بقيمة يوم الغصب؟!

والنکتة الثانية: لما جعلت العبرة في الحديث في قيمة التالف بقيمة يوم الغصب وفي الأرش بقيمة يوم الأداء حيث قال: «عليك قيمة ما بين الصحّة والعيب يوم تردّه» فأيّ فرق بين فرض التلف وفرض العيب؟!

وجعل يوم الردّ قيداً لخصوص العيب لا لقيمة العيب مع فرض كون العبرة بقيمة يوم الغصب، أي قيمة العيب الثابت في يوم الردّ بلحاظ سوق يوم الغصب، بعيد.

وبالإمكان أن يُقال: إنّ اختلاف قيمة البغل خلال خمسة عشر يوماً ـ وهي المدّة المفروضة في الحديث حيث قال:. وكان ذهابي مجيئي خمسة عشر يوماً. ـ على أساس التورّم أو على أساس قوانين العرض والطلب بعيد:

أمّا التورّم فلأنّه بحسب الوضع الاقتصاديّ المبسّط حينئذ لا يُحتمل التورّم عادةً في هذا الوقت القصير.

وأمّا اختلاف العرض والطلب في هذا المدّة القصيرة فأيضاً بعيد؛ لأنّ البغل ليس كالفاكهة مثلاً، فيفترض أنّه بعد خمسة عشر يوماً راج على الأشجار فكثر استيراده في الأسواق أو انتهى وقته فقلّ وجوده فيها.

وإنّما الشيء المترقّب هو اختلاف قيمة البغل باختلاف أوصافه سمناً وهزالاً وصحّةً وسقماً وكسلاً ونشاطاً، فالمقصود بقيمة البغل يوم المخالفة قيمة البغل في أوصافه التي ثبتت في يوم المخالفة.

26

وإذا فسّرت الرواية بهذا التفسير كان الفرق العقلائيّ بين فرض التلف ومسألة الأرش واضحاً، فقد جعلت العبرة في ضمان التالف بلحاظ حالات البغل سمناً وهزالاً وصحّةً ومرضاً بيوم المخالفة باعتباره يم الغصب، وجعلت العبرة في الأرش بمدى سعة وضيق الجرح أو الكسر يوم الردّ؛ لأنّه لو توسّع الجرح أو الكسر يوم الردّ كان مضموناً، ولو تضيّق فقد خرج من ضمان ذاك المقدار من الصحّة بالتسليم.

وكذلك أصبحت النكتة العقلائيّة لجعل الضمان مرتبطاً بما في يوم المخالفة دون يوم التلف واضحة؛ لأنّه إن تدهور وضع الحيوان من بعد يوم المخالفة لكان التدهور مضموناً على الغاصب، وإن تحسّن وضعه ثمّ تراجع مرّة اُخرى فهذا التحسّن كان تحت رعايته، فمن المعقول أن لا يكون مضموناً عليه.

وهنا تقريب آخر لإبطال دلالة هذه الرواية على المقصود، وهو: أنّ من المحتمل صحّة النسخة التي لم يدخل فيها. اللام. على. البغل )، ولعلّها هي النسخة المشهورة، فيكون النص هكذا: «نعم، قيمة بغل يوم خالفته»، لا «قيمة البغل يوم خالفته».

وعلى هذا التقدير من المحتمل كون كلمة. البغل. غير منوّنة؛ بأن تكون مضافة إلى بغل يوم المخالفة، لا مضافة إلى البغل مع كون مجموع المضاف والمضاف إليه مضافاً إلى يوم مخالفة.

والفرق بينهما واضح، فإذا افترضنا أنّ قيمة البغل مضافة إلى يوم المخالفة فقد يُقال: إنّ هذا يشمل بالإطلاق فرض اختلاف القيمة على أساس التورّم أو على أساس قانون الفرض والطلب. أمّا إذا افترضنا أنّ القيمة مضافة إلى بغل يوم المخالفة فالاختلاف ابتداءً بين يوم المخالفة ويوم آخر

27

إنّما هو في البغل، واختلاف القيمة يكون بتبع اختلاف البغل، فلا إطلاق له لفرض اختلاف القيمة على أساس التورّم أو قانون العرض والطلب، وإنّما النظر يكون إلى اختلاف القيمة بلحاظ اختلاف أوصاف نفس البغل، ومع وجود هذا الاحتمال لا يتمّ الإطلاق.

ولنا تقريب ثالث لإبطال دلالة الحديث على قيميّة القيميّات، وهو: أنّ إطلاق الحديث لفرض اختلاف القيمة السوقيّة باعتبار التورّم أو تبدّل وضع العرض والطلب غير ثابت، لا لمجرّد كون هذا فرضاً نادراً حتّى يُقال: إنّ الندرة لا توجب الانصراف إلا الانصراف البدوي، بل لما مضى منّا من دعوى ارتكازيّة ضمان المثل مطلقاً، ونستفيد من الندرة مساعدتها على سهولة الانصراف عن حالة شائعة، فلا صعوبة في فرضه موجباً للانصراف عن حالة نادرة.

والرواية السابعة: رواية أبي الورد قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل قتل عبداً خطأً قال: «عليه قيمته، ولا يجاوز بقيمة عشرة آلاف درهم»، قلت: ومن يقوّمه وهو ميّت؟ قال: «إن كان لمولاه شهود أنّ قيمته كانت يوم قتل كذا وكذا اُخذ بها قاتله، وإن لم يكن له شهود على ذلك كانت القيمة على من قتله مع يمينه شهد بالله ما له قيمة أكثر ممّا قوّمته، فإن أبى أن يحلف وردّ اليمين على المولى فإن حلف المولى أعطى ما حلف عليه، ولا يجاوز قيمته عشرة آلاف...»(1).

وسند الحديث ضعيف بأبي الورد.

وأمّا من حيث الدلالة فاحتمال الخصوصيّة في العبد وارد؛ فإنّ المبلغ الذي يعطيه ليس من باب ضمان التالف بحتاً حتّى تحمل عليه موارد ضمان التالف المشابهة، بل هو مطعّم بعنوان الدية؛ ولذا قال: «ولا يجاوز بقيمته


(1) الوسائل، ب. من ديات النفس 29: 208 ـ 209.
28

عشرة آلاف» أي لا يجاوز دية الحرّ.

كما ورد هذا المضمون في بعض روايات اُخرى(1)، بل ورد في بعضها تسمية قيمة العبد التي تعطى لدى قتله بالدية(2)، والدية تثبت في الذمّة بمجرّد القتل، ودية العبد عبارة عن ثمنه يوم قتله، لكن لا يدلّ ذلك على أنّ ضمان التالف القيميّ يكون على العموم بالقيمة في الذمّة يوم التلف لا المثل.

هذا تمام الكلام في أصل المثليّة والقيميّة.

وقد اتّضح أنّ المختار دائماً هو ضمان المثل أو قل: إنّ المختار هو ضمان المثل لدى وجوده، وقيمة يوم الأداء لدى عدم وجود المثل.

نعم، قد يتّفق ضمان أمر أكثر من المثل أو قيمة يوم الأداء، كما في انكسار القيمة الاستهلاكيّة للثّلج ببرودة الجوّ؛ فإنّ الارتكاز العقلائيّ يقتضي ضمان هذا الانكسار.

سقوط العملة عن الاعتبار:

بقي بحث انكسار الدرهم بفعل السلطان(3).

وأخيراً أقول: إنّه وردت في انكسار القيمة الشرائيّة للنقد روايتان متعارضتان تامّتان سندا:

إحداهما: عن يونس: كتبت إلى الرضا (عليه السلام): إنّ لي على رجل ثلاثة آلاف درهم، وكانت تلك الدراهم تنفق بين الناس تلك الأيّام، وليست تتفق اليوم، فلي عليه تلك الدراهم بأعيانها أو ما ينفق اليوم بين الناس؟ قال: فكتب إليّ: لك أن تأخذ منه ما ينفق اليوم بين الناس كما أعطيته ما ينفق بين الناس»(4). ورواها الشيخ أيضاً إلّا أنّ في سندها سهل بن زياد.


(1) راجع: الوسائل 29: 207 ـ 208، ب. من ديات النفس.
(2) راجع: المصدر السابق، ح 1،..
(3) الحائري، كاظم، فقه العقود 2: 485.
(4) الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة 18: 206، ب 20 من الصرف، ح..
29

والثانية: عن يونس قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام): إنّه كان لي على رجل عشرة دراهم وإنّ السلطان أسقط تلك الدراهم وجاءت دراهم أعلى من تلك الدراهم الاُولى ولها اليوم وضيعة، فأيّ شيء لي عليه: الاُولى التي أسقطها السلطان أو الدراهم التي أجازها السلطان؟ فكتب: «لك الدراهم الاُولى»(1).

وهناك رواية ثالثة: ساقطة سنداً تقول: لصاحب الدراهم الدراهم الاُولى(2).

والاُوليان إمّا هما رواية واحدة متضاربة المتن، أو روايتان متعارضتان، كما مضى ذلك منّا.

وقد مضى منّا: أنّ الجمع بينهما لا يكون إلا جمعاً تبرّعيّاً لا قيمة له.

راجع بصدد فهم ما قيل في الجمع من لا يحضره الفقيه(3).

وأقول هنا: لا ينبغي الإشكال في أنّ الارتكاز العقلائيّ يقتضي ضمان البديل فهذا ما نفتي به ولو بمعونة كون مخالفة هذا الحقّ العقلائيّ ضرراً منفيّاً بقاعدة لا ضرر.


(1) المصدر السابق: ح..
(2) المصدر السابق: 207، ح..
(3) الفقيه 3: 118، ذيل الحديث 504 والاستبصار 3: 100، ذيل الحديث 345.