63

 

 

 

 

النقطة الخامسة

ما هو مدى إمكان تنامي البشريّة في سُلَّم العرفان

والذوبان في ذات الله تعالى وتزكية النفس؟

 

وهنا ـ أيضاً ـ نقتصر على نَقْلِ ما ذكرناه في كتابنا مباحث الأُصول الجزء الأوّل من القسم الأوّل ضمن بحث (دلالة الأمر على الوجوب) تحت الخط، وهو ما يلي:

ذكر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في مُقدّمة كتاب فلسفتنا(1) ما حاصله: أنَّ المحرك الرئيسي للإنسان في كلِّ نشاطاته هو: حبُّ الذات، فهو الواقع الطبيعيُّ الذي يكمن وراء حياة الإنسانيّة كلِّها، ويوجهها بأصابعه، والذي نعبِّر عنه بحبِّ اللذّة وبغض الألم. ولا يمكن تكليف الإنسان أن يتحمَّل مختاراً مرارة الألم دون شيء من اللذّة في سبيل أن يلتذَّ الآخرون وينعموا، إلاّ إذا سُلِبت منه إنسانيّته، وأُعطيَ طبيعة جديدة لا تتعشَّق اللذّة ولا تكره الألم، وحتَّى الألوان الرائعة من الإيثار التي نشاهدها في الإنسان ونسمع بها عن تاريخه تخضع في الحقيقة ـ أيضاً ـ لتلك القوة المحرِّكة الرئيسة: (غريزة حبّ الذات).

فالإنسان قد يُؤْثِر ولده أو صديقه على نفسه، وقد يضحِّي في سبيل بعض المُثُل والقيم، ولكنَّه لن يقدم على شيء من هذه البطولات ما لم يحسّ فيها بلذَّة خاصة ومنفعة تفوق الخسارة التي تنجم من إيثاره لولده وصديقه أو تضحيته في سبيل


(1) راجع فلسفتنا: 35 ـ 50.

64

مَثل من المُثل التي يؤمن بها. وهكذا يمكننا أن نفسِّر سلوك الإنسان بصورة عامّة في مجالات الأنانية والإيثار على حدٍّ سواء، ففي الإنسان استعدادات كثيرة للالتذاذ بأشياء متنوعة: مادِّيّة كالالتذاذ بالطعام والشراب وألوان المتع الجنسية وما إليها، أو معنويّة كالالتذاذ الخُلُقيّ والعاطفيِّ بقيم خُلُقيّة أو أليف روحي، أو عقيدة معيَّنة حين يجد الإنسان تلك القيم أو ذلك الأليف أو هذه العقيدة جزءاً من كيانه الخاصِّ.

وهذه الاستعدادات التي تهيِّئ الإنسان للالتذاذ بتلك المتع المتنوِّعة تختلف في درجاتها عند الأشخاص، وتتفاوت في مدى فعليَّتها باختلاف ظروف الإنسان وعوامل الطبيعة والتربية التي تؤثِّر فيه، فبينما نجد أنَّ بعض تلك الاستعدادات تنضج عند الإنسان بصورة طبيعيّة كاستعداده للالتذاذ الجنسي مثلاً، نجد أنَّ ألواناً أُخرى منها ربَّما لا تظهر في حياة الإنسان، وتظلُّ تنتظر عوامل التربية التي تساعد على نضجها وتفتُّحها، وغريزة حبِّ الذات من وراء هذه الاستعدادات جميعاً تُحدِّد سلوك الإنسان وفقاً لمدى نضج تلك الاستعدادات، فهي تدفع إنساناً إلى الاستئثار بطعام على آخر وهو جائع، وهي بنفسها تدفع إنساناً آخر لإيثار الغير بالطعام على نفسه؛ لأنَّ استعداد الإنسان الأوّل للالتذاذ بالقيم الخُلُقيّة والعاطفيّة الذي يدفعه إلى الإيثار كان كامناً، ولم تتح له عوامل التربية المساعدة على تركيزه وتنميته، بينما ظَفِرَ الآخر بهذا اللَّون من التربية، فأصبح يلتذُّ بالقيم الخُلُقيّة والعاطفيّة، ويضحِّي بسائر لذَّاته في سبيلها.

إذن، فكلُّ الويلات المنتشرة في العالم قامت على أساس مجموع أمرين:

الأوّل: هو حبُّ الذات الكامن في نفس الإنسانيّة، أو قل: تعشُّق اللذّة وكره الألم.

والثاني: انحصار المصالح التي تحقِّق اللذّة وتعالج الأَلم في مصالح مادّيّة

65

دنيويَّة ضيّقة يقع التكالب عليها بين الناس والتزاحم والمنافسات، فتحصل ما تحصل من المصائب والمحن والظلم والرزايا التي يضجُّ بها العالم اليوم.

وتدَّعي الشيوعيّة أنَّها ستعالج ذلك عن طريق القضاء على الأمر الأوّل وهو حبَّ الذات، فيصبح الفرد ـ عندئذ ـ متعشِّقاً للمجتمع لا لنفسه.

إلاَّ أنَّ هذا الحلَّ حلٌّ طوبائيٌّ بحت؛ لأنَّ حبُّ الذات ذاتيٌّ للإنسان، ولا معنى لا نتزاعه عنه، إلاَّ بانتزاع ذاتيَّته وتبديلها إلى شيء آخر غير الإنسان.

ويقول الإسلام: إنَّ علاج المشكل يجب أن يكون بمعالجة الأمر الثاني، وذلك بتوسيع نطاق المصالح في دائرة عريضة لا يؤدِّي التسابق فيها إلى التزاحم والتعارض والتكالب، فيحصل كلُّ فرد على مصالحه وملاذّه بقدر ما أُوتيَ له من قوَّة، من دون أن ينقص من الآخر شيء. وبالفعل هذا هو الذي فعله الإسلام بتوسيعه لدائرة المصالح من بُعدين:

أحدهما: بيان أنَّ مصالح الفرد ليست محصورة في دائرة المصالح المادِّيّة الدنيويّة الضيِّقة؛ بل له جَنَّة عرضها السماوات والأرض أُعدَّت للمتقين.

والثاني: تربية الجانب الخُلُقي النبيل في الإنسان، وتنمية قابلياته الأخلاقيّة الكامنة في نفسه: من صفات الإيثار، والعطف، والرحمة، والوفاء، والصدق، وما إلى ذلك. وتتصادق كلتا المصلحتين الأُخرويّة والخُلُقيّة في تحصيل رضا الله سبحانه وتعالى.

وهذا هو الاُسلوب المعقول القابل للتطبيق، فإذ أصبح المجتمع لا يهدِف إلاَّ رضا الله سبحانه وتعالى ـ والذي يكون كفيلاً له بكلتا اللذَّتين وجامعاً له المصلحتين ـ تنتهي كلُّ ألوان الظلم والتعسف والويلات والدركات، ويسود العالَم العدل والرفاه والخيرات والبركات.

أقول: قد يورد على ذلك: بأنَّه لم يبقَ إذن فرق في القيمة المعنويّة والخُلُقيّة، بين

66

عمل الظالم الجائر الخسيس اللئيم وعمل الإنسان الشهم النبيل الشريف ما داما جميعاً يتحركان من وراء اللذّة وحبِّ الذات.

ولكنَّ الجواب إلى هذا الحدِّ واضح، فإنَّ الفرق في القيمة بينهما يبقى في أنَّ الرذل والخسيس هو الذي يلتذُّ بالرذائل والخسائس والسفاسف، والشريف وطيِّب النفس هو الذي يلتذُّ بالفضائل والحسنات وصفات الإيثار والنُبل. والفرق بين العملين أو الوصفين أو الشخصين يبقى كالفرق بين الأرض والسماء، فهما شريكان في أصل الالتذاذ، واندفاع كلِّ منهما وراء ما يلتذُّ به، ولكنَّهما يختلفان اختلافاً عظيماً يصعب تصوّر مداه فيما يلتذَّان به ويقصدانه.

وأقصى ما يمكن أن يُتوقَّع من المجتمع العام في الاهتمام بتحصيل رضا الله هو: الوصول إلى هذا المستوى الذي لو كان هناك أمل في وصول الجميع أو الأكثريّة القاطعة إليه، فإنّما هو بلحاظ زمان حضور المعصوم وعمله المباشر في تربية البشريّة.

ولكن هذا كلّه لا يمنع عن بيان أنَّ الخاصّة من العارفين بالله يكون طريق التعالي لهم مفتوحاً بما هو أكثر من ذلك.

ولتوضيح ذلك نبدأ بالحوار الذي جرى بيني وبين أُستاذي الشهيد (رضوان الله عليه) حول ما مضى نقله عن مقدّمة فلسفتنا حيث قلت له(رحمه الله): إنَّ هذا البيان يقلِّل من قيمة البطولات الإسلاميّة والتضحيات والالتزام بالمُثُل وبالفضائل؛ وذلك لأنّها ـ حسب الفرض ـ تنشأ من نفس المنشأ الذي تنشأ منه الرذائل وشتَّى ألوان الظلم والخيانة والإجرام، وهو: حبُّ الذات واللذّة وكُره الألم (صحيح: أنّه لا يقاس بين من يلتذُّ بالفضائل ومن يلتذّ بالرذائل، ولا بين اتِّصاف الشخص بهذه أو بتلك، أو بين إتيانه بهذه لداعي الالتذاذ بها أو بتلك لداعي الالتذاذ بها) ولكن مع ذلك نرى ـ على أيِّ حال ـ أنَّ هذا إسقاط للقيم العالية والمُثُل العُليا التي تصدر

67

بروح الفداء والتضحية والنُبل والشهامة عن درجة كُنَّا نفترضها ونتصوَّرها إذ تبيَّن أنّها ـ على أيَّة حال ـ تنشأ من دافع حبِّ الذات والأنا والالتذاذ.

فأجاب ـ رضوان الله تعالى عليه ـ عن ذلك بأنَّ ما قلناه: ـ من أنَّ اللذّة والألم هما اللذان يدفعان الإنسان النبيل إلى النُبل والفضيلة، كما يدفعان الإنسان اللئيم إِلى اللؤم والرذيلة ـ لم نقصد به كون تلك اللذّة أو اندفاع الألم هما العلَّتان الغائيَّتان للفعل، وإنّما قصدنا كونهما العلَّتين الفاعليَّتين، فالذي يضحِّي في سبيل مَثَل أو مبدأ، أو في سبيل محبوب له، كولد له أو صديق أو الله سبحانه وتعالى، فهو لا يفعل ما يفعل لغاية التذاذه هو أو ارتياحه من الألم النفسيِّ، بل يفعل ذلك لأجل ذاك المَثَل أو المبدأ أو المحبوب؛ لأنّه يعشق ذلك، ولكن هذا العشق أو الحبّ قد جعل في الفعل لذَّة أو في الترك ألماً، والإنسان خُلِق بنحو لولا هذه اللذّة أو ذاك الألم لما اندفع نحو ما يندفع، فهذه اللذّة أو ذاك الألم هو الذي يُؤثِّر فاعليَّاً في اندفاعه نحو محبوبه أو في فراره من مبغوضه. إذن، ففرقٌ بين الغاية التي يندفع باتجاهها، وهي: ما يحبُّه ويريده والدافع الذي يدفعه بذاك الاتجاه دفعاً فاعلياً، وهو: اللذّة الكامنة في الفعل، والقيمةُ الخُلُقيّة تنشأ من شرافة الغاية وسموِّ الهدف.

أقول: إنَّ حصر العلَّة في اللذّة والألم غير صحيح، سواءٌ كان الملحوظ هي العلَّة الغائيَّة أو العلَّة الفاعليِّة.

أمّا لو كان الملحوظ هي العلَّة الغائيَّة، فإنَّنا نستطيع توضيح بطلان ذلك بإلفات النظر إلى مقدّمتين:

الاُولى: أنَّ اللذّة والألم غير الحبِّ والبغض كما هو واضح، فإنَّ الحبَّ والبغض يتحقَّقان قبل تحقُّق المحبوب والمبغوض، واللذّة والألم يتحقَّقان بتحقُّقهما ولو في علم الشخص، أيْ: بالوجود العلميِّ والذهنيِّ لتحققهما، سواءٌ طابق الواقع أو لا، فهما وليدا الحبِّ والبغض، بل هما وليدا العواطف المرافقة للحبِّ والبغض، لا وليدا

68

نفس الحبِّ والبغض؛ ولذا قد ترى ـ نادراً ـ التفكيك بينهما، كمن ينتزع قُرطيْ بنت الحسين(عليه السلام) ويبكي، فهناك لديه عاطفة أَوْجَبَتْ ألمه وبكاءه، لكنَّه كان انتزاع القُرط لديه ـ بعد التكاسر بين مجموع المصالح والمفاسد في نظره ـ محبوباً، فالعاطفةُ التي أَوْجَبَتْ بكاءه انفصل مسيرها صدفة عن مسير الحبِّ الذي تعلَّق بعد تكاسر المصالح والمفاسد بالفعل.

والثانية: أنَّ كون الشيء غاية للإنسان عبارة أُخرى عن مطلوبيّته له ومحبوبيَّته وتعلّق شوقه المؤكَّد به. إذن، فالعلَّةُ الغائيّة ليست هي تحقُّق اللذّة واندفاع الألم، بل هي مُتعلَّق الحبِّ الذي هو أقدم من اللذّة أو نقيض متعلَّق البغض الذي هو أقدم من الألم.

ويشهد لما قلناه: انَّنا نحسُّ في وجداننا وضميرنا: بأنَّ مَنْ أحسن إلى شخص استحقَّ شكراً من قبل ذاك الشخص أكثر ممّا قد يشكر الإنسان شخصاً أحبَّ أن يُحسن إليه فعجز عن ذلك، فهذا الشكر إن كان في مقابل اتِّصاف هذا الشخص بصفة الفضيلة وهي حبُّه للإحسان إلى الضعيف مثلاً فهما سيّان في هذا الاتِّصاف، وإنّما ترك من ترك منهما الإحسان إلى هذا الشخص بسبب العجز، فيبقى الفارق بين الشكرين بلا مقابل. إذن، فهذه الزيادة تكون في مقابل فعل الإنسان، ولو كانت الغاية له من هذا الفعل التذاذ نفسه دون ارتياح الشخص الضعيف لما استحقَّ هذه الزيادة من الشكر.

نعم، لا ننكر أنَّ نفس اللذّة والألم ـ أيضاً ـ قد يكون محبوباً أو مبغوضاً فيريد الشخص الاُولى ويهرب من الثانية، أيْ: أنَّ اللذّة والهرب من الألم ـ أيضاً ـ يدخلان في غايته من دون أن يولِّد ذلك لذَّة غير تلك اللذّة أو ألماً غير ذاك الألم، وإلاَّ لتسلسل.

وقد تلخَّص: أنّ الغاية ـ دائماً ـ هي المحبوب أو نفي المبغوض، لا اللذّة ونفي

69

الألم، وإن كانا هما ـ أيضاً ـ قد يتعلق بهما الحبّ والبغض فيدخلان في الغاية بهذا الاعتبار.

وأمّا لو كان الملحوظ هي العلَّة الفاعليَّة قلنا: إنَّ كون اللذّة والألم هما العلَّة الفاعليّة للتحرك نحو الفعل أو نحو الفرار لا يُتصوَّر إلاَّ بأحد معاني ثلاثة:

إمَّا بمعنى كونهما دافعين للإنسان من دون اختياره، فَمَنْ يلتذُّ بشيء يتحرّك نحوه بلا اختيار، ومن يتأ لَّم من شيء يندفع نحو الفرار منه من دون اختيار.

وإمّا بمعنى دخلهما في القدرة مع فرض حفظ الاختيار بعد تحقُّق القدرة، فاللذّة الموجودة في الشيء تخلق في الإنسان القدرة على الاندفاع إليه، فيندفع إليه باختياره، والألم الموجود في الشيء يخلق في الإنسان القدرة على التحرك نحو الهرب منه، فيهرب منه اختياراً، ولولا اللذّة والألم لما كان الإنسان قادراً على التحرك نحو المحبوب أو باتجاه الفرار من المبغوض.

وسواءٌ قلنا: إنَّ اللذّة والألم دافعان قهريان أو قلنا: إنَّهما يؤثّران في القدرة على الاندفاع لا ينافي ذلك أن تكون الغاية هي ما يندفع إليه من المحبوب أو نفي المبغوض لا نفس اللذّة أو نفي الألم وحده.

وإمّا بمعنى كون اللذّة والألم دخيلين في تحقُّق الإرادة برغم فرض انحفاظ القدرة والاختيار بغضّ النظر عنهما.

وكلّ هذه الفروض باطل:

أَمّا الفرض الأوّل ـ وهو: فرض الاندفاع وراء اللذائذ والفرار من الآلام قهراً، فهذا يساوق الجبر وإنكار الاختيار، وهذا خلف موضوع علم الأخلاق بعد فرض كون الحسن والقبح أمرين واقعيَّين مُدرَكَيْن بالعقل، لا أمرين اعتباريِّين مجعلوين من قبل العقلاء أو الشريعة، وقد كان هذا هو فرض بحثنا في المقام، فنحن وإن كنَّا لا نمانع عن كون بعض القضايا الأخلاقيّة اجتماعيّة أو شرعيّة، لكن لو لم نؤمن

70

بقضايا أخلاقيّة واقعيّة وبالحسن والقبح الذاتيَّين والعقليَّين، لم يبقَ موضوع لبحثنا هذا.

وأمَّا الفرض الثاني ـ وهو: دخل اللذّة والألم في القدرة، فهذا يعني: أن لا يقدر الإنسان إلاَّ على الفعل الذي يلتذُّ به، وترك ذلك الفعل يكون مبغوضاً له، فبغضه إنّما أولد له القدرة على الفرار منه، ومن المعلوم: أنَّ فرض تعلّق القدرة بأحد النقيضين دون الآخر هو عين الجبر تماماً، فإنّ القدرة لابدَّ أن تتعلَّق بطرفي النقيض سواءً بسواء.

وأمّا الفرض الثالث ـ وهو: عدم تحقُّق الإرادة نحو الشيء، إلاَّ بفرض الالتذاذ به أو التألُّم من فقده على رغم انحفاظ اختياره وقدرته لولا اللذّة والألم، وعلى رغم فرض حبِّه أو بغضه للمتعلق في المرتبة السابقة على اللذّة والألم، فهذا ـ أيضاً ـ أمر غير معقول سواء، فسَّرنا الإرادة بمعنى الشوق الأكيد كما هو المعروف، أو فسَّرناها بما يشابه أن يقال بأمر وسط بين الشوق الأكيد والفعل، وهو: حملة النفس بدعوى أنّها هي مركز القدرة والسلطنة.

أمّا على الأوّل فلوضوح أنَّ الشوق الأكيد هو الحبّ الأكيد الذي هو في الرتبة السابقة على اللذّة.

وأمّا على الثاني فلوضوح أنَّ توقُّف حملة النفس على اللذّة والألم مع انحفاظ كامل القدرة والاختيار في المرتبة السابقة عليهما وتماميّة الحبِّ والشوق، أمر غير معقول، إلاَّ بمعنى: أنَّ الغاية المحبوبة كانت عبارة عن نفس اللذّة والألم، وهذا رجوع إلى الشقِّ الأوّل الذي أبطلناه.

وبهذا تمَّ برهان كامل على أنّ العلَّة الغائيّة والعلَّة الفاعليّة متَّحدتان، غاية الأمر أنّ العلَّة الغائيّة تكون بوجودها العلميِّ ـ ولو الخاطئ ـ مُحرِّكة.

نعم، لا إشكال ـ كما أشرنا إليه ـ في أنَّ اللذّة والألم قد يدخلان بنفسهما في العلَّة الغائيّة، ويكون الأوّل محبوباً والثاني مبغوضاً.

71

وقد يقول قائل: إنَّ حبُّ الدَّعة والراحة الموجود في الإنسان لابدَّ أن يتكاسر مع حبٍّ آخر، ويقع مقهوراً تحت شعاعه؛ كي يتحرّك الإنسان نحو ما يكون في وضعه الأوّلي موجباً لسلب الدّعة والراحة. والمقصودُ بعلِّيّة اللذّة والألم هو: أنّه لولاهما لما كان المحبوب الأصلي من المُثُل والقيم والمبادِئ ورضا الله وما إلى ذلك قادراً على الغلبة على حبِّ الراحة، فلكي يغلب حبَّ الراحة أو قُلْ: (لكي تصبح راحة الشخص في خلاف راحته الظاهريّة) لابدَّ أن ينضمَّ إلى تلك الغاية الشريفة غاية اللذّة أو الفرار من الألم، وعند ذلك تكون الغلبة لمجموع الغاية الشريفة النبيلة مع اللذّة ودفع الألم على حبِّ الراحة، فيقوم الإنسان بالعمل النبيل، ويكون الشخص بقدر ما كان من حصَّة الدخل في الغاية لذاك المبدأ النبيل والشريف مستحقاً للمدح والثواب، وبهذا قد جمعنا بين القول بأنّه لابدَّ لتحريك الإنسان من وجود اللذّة والألم في المتعلَّق من ناحية، وبين نُبل التضحيات في سبيل المبادِئ والعقائد الحقَّة والمُثُل والقيم العُليا ورضا الله سبحانه وتعالى من ناحية أُخرى. فليكن هذا نوع توجيه لكلام أُستاذنا الشهيد(رحمه الله).

إلاَّ إنَّ هذا التوجيه ليس شاملاً لمورد ما قد يتَّفق من عدم وجود زحمة وأقل صعوبة في التحرك، أو كان المطلوب هو الترك ولم يكن في الترك أيّ زحمة ومشقَّة، وإنّما يمكن تطبيق هذا التوجيه في موارد صعوبة العمل وفق ماهو مطلوب أخلاقيّاً.

والظاهر: أنَّ هذا التوجيه ـ أيضاً ـ غير صحيح.

وتوضيح ذلك: أنَّ عدم تحرّك الشخص من دون لذَّة أو ألم لكون حبِّه للمحبوب غير كاف لتحريكه، ولكن مع دخول الحبِّ كجزء للعلَّة في الحساب يصبح كافياً له، قد يكون صحيحاً بشأن بعض السالكين، ويكون هذا الشخص أعلى درجة ممَّن لا يتحرّك إلاَّ من وراء اللذّة والألم، ولكن ليس هذا هو آخر الدرجة الممكنة من

72

درجات مرقاة الكمال في سُلَّم الفضائل. والدليل على ذلك مؤتلف من مقدّمتين:

الأُولى: أنَّ التقدير المعنوي لمقدار تلك اللذّة المعنوية يقول لنا بفهم الوجدان: إنَّ درجة تلك اللذّة توازي درجة الحبِّ لذلك المبدأ النبيل، وكُلَّما اشتدَّ حبُّه اشتد بقدره الالتذاذ به، وكُلَّما ضعف حبُّه ضعف بقدره الالتذاذ به.

والثانية: أنَّ هذا الالتذاذ قد يفوق في بعض الحالات لذَّة الراحة التي كانت تثبت في ترك التحرك نحو ذاك المحبوب، وآية ذلك: أنَّ الإنسان ـ عندئذ ـ لا يحسُّ بالراحة النفسيَّة في الترك، بل يحسُّ بأنَّ راحته النفسيّة في الفعل فحسب، في حين أنَّ من لم يصل حبُّه إلى هذا المستوى يحسُّ بالتعب النفسيِّ في عمله، ولكنّه يتحمَّل هذا التعب في سبيل محبوبه.

والنتيجة: أنّه ـ إذن ـ سيكون حبُّه لذاك المحبوب غالباً على حبِّه للدَّعة والراحة؛ لأنّه يوازي لذَّته الغالبة على لذَّة الدَّعة والراحة، ويكون وحده كافياً للغلبة على المزاحم(1)، نعم، لاشك أنّه يحصل ـ إضافة إلى ما حصل عليه من


(1) قد تقول: إنّه يوجد في طرف الدَّعة والراحة شيئان: حبُّه للدَّعة والراحة، والتذاذه بهما. وفي طرف المبدأ النبيل ـ أيضاً ـ يوجد شيئان: حبُّه للمبدأ النبيل، والتذاذه بتحقيقه، فصحيح: أنّ التذاذه بالمبدأ النبيل غالبٌ على التذاذه النفسيِّ بالدِّعة والراحة، ومن ثُمّ يكون حبّه لذاك المبدأ غالباً على حبِّه للدِّعة والراحة، لكنّ هذا لا يعني غلبة حبِّه للمبدأ أو لله أو لرضوان الله أو ما إلى ذلك على مجموع حبّه للدَّعة والراحة والتذاذه بهما، فقد يُدّعى أنَّ الغلبة على المجموع لا تكون إلاّ بعد انضمام الالتذاذ بذلك المحبوب الشريف إلى حبّه.

والجواب: أنَّ هذا غفلة عن الفرق بين حبِّ الدَّعة والراحة وحبِّ الله أو حبِّ رضوان الله أو حبِّ الفضائل ونحو ذلك، أو قُلْ: هذا غفلة عموماً عن اللذائذ الماديّة واللّذائذ المعنويّة؛ وذلك لأنّه في اللذائذ الماديّة لا يُتصوَّر محرِّكان ينضمُّ أحدهما إلى الآخر؛ لأنّ الحبَّ في الماديات ليس إلاّ حبّاً للذَّة أو للفرار من الألم، ولولا التذاذه بالدَّعة والراحة لما أَحبَّهما، فليس حبُّهما شيئاً جديداً يضاف إلى اللذّة في الداعويّة، في حين أنّه في الحبِّ المعنويِّ تكون اللذّة في طول الحبِّ، وليس العكس، فلأنَّ الشخص يحبُّ ابنه مثلاً وراحة ابنه يلتذُّ براحته، لا العكس.

73

الفضيلة ـ على لذَّة فائقة أيضاً، ولكنَّها واقعة تحت الشُعاع لما يطلبه من مبداً أو فضيلة أو رضا الله سبحانه وتعالى، فذاك المبدأ أو حبُّ الله هو محركه الحقيقيُّ، وتترتَّب على ذلك اللذّة والانبساط كزيادة خير.

وقد اتَّضح بكلِّ ما شرحناه: أنَّ المطيع تنقسم إطاعته بحسب الدوافع النفسيّة إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل: دافع اللذّة أو الألم الثابتين بالثواب والعقاب، وتلك طاعة التجار أو العبيد.

والثاني: المزدوج من دافع حبِّ الطاعة ورضوان الله ودافع اللذّة والألم، وتلك طاعة الخواص.

والثالث: دافع حبِّ الله سبحانه وتعالى وتحصيل رضاه، وتلك طاعة خاصّة الخواصِ حيث يكون التذاذه بالطاعة ـ أيضاً ـ مندكاً تحت داعويّة أصل الطاعة.

والالتفات إلى ما قلناه لو لم ينفعنا في ارتقائنا السلوكي إلى الله سبحانه وتعالى في مرقاة هذه الكمالات، فلا أقلَّ من أن يكون نفعه لنا عبارة عن الاعتصام في مقابل صفة العُجب؛ لأنّنا ما لم نصل إلى المرحلة الثالثة، وهي: داعويّة نفس الطاعة ورضوان الله دون الالتذاذ بهما أو في الأقل الثانية، وهي: الدافع المزدوج، فنحن في الحقيقة قد عبدنا لذَّتنا وعشقنا ذاتنا، فأيُّ استحقاق لنا للثواب ؟ ! وأيّة عبوديّة تكون هذه العبوديّة؟ !

وأنا لا أقصد بنفي استحقاق الثواب نفيه من باب أنّنا مملوكون ملكيّة حقيقيّة لله، فلانستحقُّ شيئاً منه تعالى في قبال طاعتنا إيّاه، ولا نفيه من باب أنَّ الاستحقاق إنّما يكون لمن أعطى من نفسه شيئاً لغيره، ونحن كلَّ ما أعطيناه لله سبحانه كان من الله، لا من أنفسنا كي نستحقَّ شيئاً بالمقابل، فإنَّ أمثال هذه الأُمور لا تختص بنا، بل تشتمل حتّى المعصومين(عليهم السلام).

74

بل أقول ـ بغضّ النظر عن هذه النكتة ـ: إنّنا غير مستحقِّين للثواب بعقليّة مكافئة الإحسان؛ لأنّنا في الحقيقة لم نعمل له، بل عملنا لأنفسنا، فلا مكافئة على أعمالنا إلاَّ بفضل الله ورحمته ورأفته.

نعم، تصحُّ في العرف الفقهي عباداتنا؛ لأنَّها تشمُل على القربة بالمعنى المقصود في الفقه حيث قرّروا فيه كفاية الداعي إلى الداعي القربي، وهذا موجود في المقام؛ لأ نَّا نعمل بداعي الامتثال والطاعة وإن كان الداعي لنا إلى هذا الامتثال والطاعة ثوابه، أو الفرار من عقابه، أو الالتذاذ بطاعته، إلاّ أنّ هذا كما ترى حيلة شرعيّة علّمتنا نفس الشريعة إيَّاها، وقبلها الله منَّا بقبول حسن بلطفه وكرمه، وإلاَّ لهلكنا جميعاً، إلاَّ أنَّ هذا لا يعني: أنَّ الاستحقاق ـ إذن ـ أصبح واقعيّاً (بعد غضِّ النظر عن المملوكيّة وعدم الواجديّة الذاتيّة )، فغير الواصل إلى ابتغاء رضا الله ـ لأنّه رضاه لا لنعيم الجنَّة ولا للفرار من الجحيم ـ إن كان مطيعاً فهو في مرحلة العرفان يكون صاعداً من مستوى تحت الصفر إلى مستوى الصفر لا أكثر من ذلك، ومن يلتفت إلى ذلك كيف يبتلي بالعُجْب؟!

أمّا من صعد من هذه المرتبة إلى ابتغاء مرضاة الله تعالى وإرادة ذاته عزَّوجلَّ، فهو ليس بحاجة إلى ما قلناه في الارتداع عن العُجْب، بل الذي يردعه عن العُجْب قول إمامنا زين العابدين(عليه السلام): «وما قدر أعمالنا في جنب نعمك، وكيف نستكثر أعمالاً نقابل بها كرمك»(1).

اللَّهُمَّ ارزقنا توفيق الطاعة، وبُعد المعصية، وعرفان الحرمة، إنَّك أنت السميع المجيب بمحمد وآله الطاهرين.


(1) دعاء أبي حمزة الثمالي.

75

 

 

 

 

الحلقة الثانية

 

مدخل البحث العملي لتزكية النفس

 

 

 

 

 

77

 

 

 

 

المـد خـل

 

إنَّ العمل في سبيل تزكية النفس ضروريٌّ لكلِّ إنسان مؤمن إلى آخر عمره، ولن يصل إلى مستوىً يغنيه عن مجاهدة النفس وطلب التقوى والتزكية؛ وذلك لأمرين:

أوّلاً: إِنَّ الكمال لا يتناهى ـ والكمال المطلق هو الله سبحانه وتعالى ـ فلن يصلَ العبد يوماً ما إلى نهاية طريق غير متناه فلا يحقُّ له أن يقول يوماً: إِنَّني اكتفيت.

وثانياً: إِنَّه لو فُرِضَ لأَحد من السالكين أن أراد ـ لا سمح الله ـ الوقوف على حدٍّ معين من التزكية، فليس تركه لعمليّة المجاهدة والتزكية سبباً لوقوفه في حدِّه، بل يكون سبباً لتراجعه القهقرى، تماماً كالجسد الذي لو لم يصله طعامه لتحلَّلت قواه، ولانهدَّت أركانُه.

وقلَّ ما يصل أحدٌ إلى مستوى من قال الله تعالى بشأنه: ﴿ واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنا ... ﴾(1) فسواءٌ فُسِّرت الآيات التي آتاها الله تعالى إِيِّاه بمعنى أسماء الله العظمى، أو بأَيِّ تفسير آخر، لا إشكال في أَنَّ هذا التعبير يدلُّ على وصول هذا الشخص إلى مقامات سامية يندر أن يصلَ إليها أحد، ولكنّه مع ذلك لم يسلم من


(1) السورة 7، الأعراف، الآية: 175.

78

الانزلاق إلى حدٍّ إِنَّ الله ـ سبحانه ـ قال بشأنه: ﴿فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ * ولَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إلى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(1).

ويندر أن يصل أحدنا في المقامات السامية إلى ما وصل إِليه إِبليس الذي قيل عنه: إنَّه أصبح معلِّماً للملائكة، والذي ورد بشأنه في نهج البلاغة قوله(عليه السلام)(2): « فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أَحبط عمله الطويل وجهده الجهيد ـ وكان قد عبد الله ستَّة آلاف سنة لا يُدرى أَمن سِني الدنيا أم من سِني الآخرة ـ عن كبر ساعة واحدة، فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته؟! كلاَّ ما كان الله سبحانه ليُدخِل الجنَّة بشراً بأمر أَخرج به منها ملكاً، إِنَّ حكمه في أهل السماء وأهل الأرض لواحد، وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة(3) في إِباحة حمىً حرَّمه على العالمين...».

أَلم تسمع قِصَّة محمّد بن عليّ بن بلال الذي كان من ثقات الإِمام العسكري(عليه السلام)، وبلغ من الشأن أَنَّ أبا القاسم حسين بن روح(رحمه الله) الذي صار بعد ذلك أَحد النوَّاب الخاصِّين للإِمام(عليه السلام) كان يراجعه في الاسترشاد به فيما اختلف فيه الشيعة من التفويض وغيره، ولكنَّه بعد ذلك أَخلد إلى الأرض واتَّبع هواه، وادَّعى البابيَّة، وورد التبرِّي منه من قبل الإِمام صاحب الزمان ـ عجَّل الله تعالى فرجه ـ على يد


(1) السورة 7، الأعراف، الآيتان: 175 ـ 176.

(2) نهج البلاغة: 386، رقم الخطبة: 192.

(3) الهَوادة: بمعنى المحاباة، أي: ليس بين الله وبين أحد اختصاص به وميل خاص إِليه في أَن يُبيح له حمىً محرَّماً على باقي الناس.

79

أبي جعفر محمّد بن عثمان(1).

وقد ورد عن الرضا(عليه السلام)، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أَنَّه قال: « الدنيا كلُّها جهل إِلاَّ مواضع العلم، والعلم كلُّه حُجَّة إلاَّ ما عمل به، والعمل كلُّه رياء إلاَّ ما كان مخلصاً، والإِخلاص على خطر حتّى ينظر العبد بما يُختَم له»(2).

وبهذا نفهم أَنَّنا يجب أن نكون دائماً على حذر من سوء العاقبة ولابدَّ لنا من تحصيل علاج لمشكلة سوء العاقبة.

وعلاج مشكلة سوء العاقبة عبارة عن مجموع أَمرين:

الأَمر الأوَّل: التضرُّع إلى الله سبحانه وتعالى وطلب حسن العاقبة منه، كما يشهد لذلك ما ورد بشأن أَحمد بن هلال العبرتائي(3) الذي كان صالحاً في أوَّل أمره، وقد حجَّ أربعاً وخمسين حِجَّة، عشرون منها على قدميه، وكان رواة أصحابنا بالعراق قد لقوه وكتبوا منه، ثُمَّ خرج ذمُّه من قبل إِمامنا أَبي محمّد العسكري سلام الله عليه، وكتب(عليه السلام) إلى قوَّامه بالعراق: «إحذروا الصوفيَّ المتصنِّع» فأنكر رواة أصحابنا في العراق ماورد بذمِّه، فحملوا القاسم بن علاء على أَن يراجع في أَمره، فخرج مرَّة أُخرى ذمُّه والتبرِّي منه، فثبت قوم على إنكار ما خرج فيه، فعاودوه فيه، فخرج: « لا شكر الله قدره، لم يدعُ المرء ربَّه بأَن لا يزيغ قلبه بعد أَن هداه، وأَن يجعل ما منَّ به عليه مُستقرّاً ولا يجعله مُسْتَوْدعاً ... ».

والأمر الثاني: أَن يعمد الإنسان إلى عدم خروج النكتة السوداء في قلبه؛ وذلك بترك الذنب. ولو خرجت يعمد إلى علاجها ومحوها بالتوبة قبل أَن تتَّسع، فإِنَّ في


(1) راجع معجم رجال الحديث 16/309 فصاعداً.

(2) البحار 2/29.

(3) راجع معجم رجال الحديث 2/356.

80

سَعتها خطرَ استيعاب السواد للقلب، وسقوط الإنسان إلى ما لا رجعة له منه، كما ورد في الحديث عن أَبي بصير قال: سمعت أَبا عبدالله(عليه السلام) يقول: «إِذا أَذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فإِن تاب انمحت، وإِن زاد زادت حتى تغلب على قلبه، فلا يفلح بعدها أَبداً»(1).

وورد عن زرارة، عن أَبي جعفر(عليه السلام)(2) قال: «ما من عبد إِلاَّ وفي قلبه نكتة بيضاء، فإِذا أَذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء، فإِن تاب ذهب ذلك السواد، وإِن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطِّي البياض، فإِذا غطَّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أَبداً، وهو قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَا كَانُوا يَكْسِبُون﴾(3)».

وقد ورد عن أَبي محمّد الحسن العسكري(عليه السلام)، عن آبائه(عليهم السلام)، قال: كتب الصادق (عليه السلام) إلى بعض الناس: «إِن أَردت أَن يُختمَ بخير عملك حتى تُقبض وأَنت في أَحسن الأَعمال، فعظِّم لله حقَّه، أَن تبذل نعمائه في معاصيه، وأَن تغترَّ بحلمه عنك، وأَكرمْ كلَّ مَنْ وجدته يذكرنا أَو ينتحل مودَّتنا، ثُمَّ ليس عليك صادقاً كان أَو كاذباً، إِنَّما لك نيَّتك وعليه كذبه»(4).

إِنَّ السلوك إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ بعد تكميل أُصول العقائد بحاجة إلى أركان ثلاثة: إلى كتاب يكون دستوراً لعمله، وإلى عبادة بينه وبين ربِّه يختلي فيها مع الله سبحانه، وإلى سلوك مع الطبيعة ومع الناس، أو قلْ: ارتباط مع المخلوقات،


(1) الوسائل 15/302، الباب 40 من جهاد النفس، الحديث 12.

(2) المصدر السابق 15 / 303، الحديث 16.

(3) السورة 83، المطففين، الآية: 14.

(4) البحار 78/195.

81

فالكتاب الأوَّل هو: القرآن الكريم، والعبادة الأُولى هي: الصلاة، والارتباط الأوّل بالطبيعة وبالناس هو: كشف أسرار الطبيعة، واستثمارها في سبيل مصالح الناس وارتباط الرعاية، والهداية، وقضاء الحوائج للناس. وبكلمة مختصرة: العمل معهم بما تقتضيه خلافة الله عزَّ وجلَّ على وجه الأرض.

وممَّا يشهد للأوّل ـ أعني: ضرورة جعل القرآن كتاباً للدستور والتدبُّر فيه ـ قوله سبحانه وتعالى: ﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفالُهَا﴾(1).

وممَّا يشهد للثاني ـ أَعني: أَنَّ أوّل العبادات التي يتقرَّب بها إلى الله والتي تكون أَساس تهذيب النفس هي الصلاة ـ قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ والمُنْكَرِ...﴾(2).

وممَّا يشهد للثالث ـ أَعني: ضرورة كون الارتباط بالطبيعة والناس ارتباط الخلافة ـ قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً...﴾(3).

فإِنَّ الذي يبدو لنا: أَنَّ المقصود بالخلافة خلافة الله، وليس خلافة إِنسان سابق على وجه الأرض؛ لأَنَّ المتكلم إِذا أَطلق كلمة ( الخليفة ) وأَراد الخلافة عن غير نفسه، كان عليه ذكر غيره. وأيضاً الذي يبدو لنا هو: أَنَّ المقصود خلافة البشر لا خلافة آدم(عليه السلام) بالخصوص، كما يشهد لذلك اعتراض الملائكة بقولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ...﴾(4).

وعليه نحصر حديثنا في المَدخل بكلمات مختصرة عن خمس نقاط:


(1) السورة 47، محمّد(صلى الله عليه وآله)، الآية: 24.

(2) السورة 29، العنكبوت، الآية: 45.

(3) السورة 2، البقرة، الآية: 30.

(4) المصدر السابق.

82

الاُولى: ما يظهر من الآيات المباركات من الربط الوثيق بين القرآن والصلاة.

الثانية: التأكيد على كون القرآن هو الكتاب الأوّل لدُسْتُور السالك إلى الله تعالى.

الثالثة: التأكيد على أَنَّ الصلاة هي العمل الأوّل والأساس لتهذيب النفس.

الرابعة: التأكيد على ضرورة العمل الاجتماعي مع الناس ومع الطبيعة، وأَنَّ ذلك لا ينافي العمل في سبيل تهذيب النفس وتزكيتها، بل بالإمكان أَن يجعل ذلك بنداً من بنود التهذيب والتزكية.

الخامسة: التمييز بين العارفين بالعرفان الصحيح، والمتصوِّفة أَو العرفاء الكاذبين.

83

 

 

 

 

النقطة الأُولى

وهي التشابك الموجود بين كتاب السالك

وهو القرآن وأَساس أَعماله وهي الصلاة

 

إِنَّ كلَّ أَحد يعلم أَنَّ الصلاة لا تكون إِلاَّ مع قـراءة القرآن من سورة الحمدالتي هي أُمُّ الكتاب وسورة أُخرى.

وقد ورد في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): « أَنَّ قراءة القرآن في الصلاة أفضل من قراءة القرآن في غير الصلاة »(1).

والتشابك بين القرآن والصلاة منعكس في آيات عديدة، من قبيل قوله سبحانه وتعالى:

1 ـ ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ...﴾(2).

ويحتمل أن يكون النظر الخاصّ في هذه الآية المباركة إلى تلاوة الكتاب ضمن إِقامة الصلاة بالخصوص، ولا ينافي ذلك إِطلاق النظر إلى تلاوة الكتاب منفردةً عن الصلاة أيضاً.

2 ـ ﴿وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾(3). وقد فُسِّرت


(1) البحار 92 / 200.

(2) السورة 29، العنكبوت، الآية: 45.

(3) السورة 7، الأعراف، الآية: 204.

84

الآية في خبر صحيح(1) بقراءة القرآن ضمن الصلاة من قبل إِمام الجماعة.

3 ـ ﴿ أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً﴾(2).

والظاهر: أَنَّ المقصود بقرآن الفجر هو: القرآن ضمن صلاة الصبح.

4 ـ ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذينَ مَعَكَ واللهُ يُقدِّرُ الَّيْلَ والنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُم مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ...﴾(3).

والظاهر: أَنَّ النظر الخاصّ، إلى قراءة القرآن ضمن صلاة الليل، ولا ينافي ذلك فرض الإطلاق لقراءة القرآن مستقلَّة عن الصلاة أيضاً.

5 ـ ﴿بِسْمِ الله الرَحْمن الرَحِيم يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً﴾(4).

والظاهر: أَنَّ هذه الآيات ـ أيضاً ـ ناظرة إلى ترتيل القرآن ضمن صلاة الليل. والتي مضى ذكرها من الآية عشرين من نفس السورة كأنَّها تخفيف عن الرسول(صلى الله عليه وآله) وأصحابه عمّا نطقت به هذه الآية على أساس أَنَّ الله تعالى علم أنّه منهم مرضى ... الخ.

وكأَنّ في هذه الآيات المباركات إرشاداً للسالك إلى الله وبياناً لنكتة تربويّة


(1) الوسائل 8/355، الباب 31 من صلاة الجماعة، الحديث 3.

(2) السورة 17، الإسراء، الآية: 78.

(3) السورة 73، المزّمّل، الآية: 20.

(4) السورة 73، المزَّمّل، الآيات: 1 ـ 7.

85

هامّة، توضيحها: أَنَّ السالك إلى الله وإن كان جميع أعماله عبادة وبأَهداف إِلهية، ولكنّه بحاجة ماسَّة يوميّاً إلى أَن يُفرِّغ شيئاً من وقته للمناجاة مع الله والتكلُّم معه والتوجّه الحضوري إِليه، وليس كالتوجّه العام الثابت في كلِّ الأعمال القربيّة كالجهاد، والأمر بالمعروف، وتحقيق مصالح الإسلام والمسلمين، ومراعاة الضعفاء والمحتاجين، وتحصيل العلوم الإسلاميّة النافعة، أو العلوم النافعة للبشر، وما إلى ذلك ممّا تكون كلُّها عبادة بالمعنى العام. وخير ساعة يفرغها السالك لهذا النمط من تربية النفس هي: أَن تكون من الليل ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً﴾. ولا نشكُّ في أَنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)كانت جميع أعماله عبادة، ولم يكن شيء منها عملاً دنيويّاً، بل كان صارفاً وقته تماماً فيما يريد الله: من جهاد، أو إرشاد، أو إصلاح أُمور المجتمع الاسلاميّ، أو حلِّ مشاكل المسلمين، أو غير ذلك، وبرغم ذلك قال له الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً﴾. وهذا يعني: أَنَّه لم يكن المقصود بهذا الكلام تأجيل الأعمال الدنيويّة للنهار كي يخلو جوف الليل للعبادة الخاصّة، بل المقصود تأجيل كلّ شيء حتّى الأعمال العباديّة بمعناها العام للنهار كي يخلو جوف اللّيل للعبادة الخاصّة. وبهذا يثبت ما قلناه: من أَنَّ السالك إلى الله لا يكفيه أَن تكون كلُّ أعماله عبادة بالمعنى العام، بل هو بحاجة إلى تخصيص شيء من أوقاته (وأفضلها جوف الليل) للمناجاة مع الربِّ بحضور القلب بمعناه الخاصِّ.

وقد قالوا في تفسير قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً﴾(1): إِنَّ المقصود به أمر النبيِّ(صلى الله عليه وآله)بصلاة الليل لينال بذلك مقام الشفاعة(2).


(1) السورة 17، الإسراء، الآية: 79.

(2) راجع تفسير «نمونه» 12 / 224 ـ 225 و 231 ـ 232.

87

 

 

 

 

النقطة الثانية

وهي ضرورة التدبُّر في القرآن للسالك إلى الله

 

فقد مضى أَنَّه ممّا يدلُّ على ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا﴾(1) وقد ورد عن الصادق(عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: ﴿أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا﴾ إنَّ لك قلباً ومسامع وإنّ الله إِذا أراد أَن يهدي عبداً فتح مسامع قلبه، وإِذا أراد به غير ذلك ختم مسامع قلبه، فلا يصلح أبداً. وهو قوله عزَّ وجلَّ: ﴿أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا﴾(2).

وأيضاً ممّا يدلُّ من الآيات القرآنيّة على أَنَّ القرآن كتاب التربية والتزكية وشفاء النفس من الأدْواء الروحيّة قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلاَّ خَسَاراً﴾(3). ومن الواضح: أَنَّ المقصود بذلك الشفاء من الأمراض الروحيّة. ومثل هذه الآية قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾(4).


(1) السورة 47، محمّد(صلى الله عليه وآله)، الآية: 24.

(2) تفسير «نمونه» 21/470.

(3) السورة 17، الإسراء، الآية: 82 .

(4) السورة 10، يونس، الآية: 57.