بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
تمهيد:
مضى في الجزء الأوّل من هذا الكتاب ـ نقلاً عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) ـ: أنّ للأئمّة(عليهم السلام) ثلاث مراحل تأريخيّة في قيادة المجتمع:
المرحلة الاُولى: مرحلة تفادي صدمة الانحراف التي عاش فيها قادة أهل البيت(عليهم السلام) مرارة الانحراف وصدمته بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وكانت مرارة هذا الانحراف وصدمته من الممكن أن تمتدّ وتقضي على الإسلام ومصالحه، وعلى الاُمّة الإسلاميّة، فتصبح قصّةً في التأريخ لا وجود لها في خطّ الزمن المستمرّ، فحافظوا(عليهم السلام)على الرسالة الإسلاميّة نفسها. وبدأت هذه المرحلة بعد وفاة
رسول الله(صلى الله عليه وآله)، واستمرّت إلى حياة الإمام الرابع من قادة أهل البيت(عليهم السلام).
أقول: وممّا يدلّ على أنّ صدمة الانحراف بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)كادت أن تعصف بأصل تجربة الإسلام حتّى اسمه وشكله الظاهريّ تصريح خليفة المسلمين يزيد بن معاوية بعد نأي من الزمن بالكفر، فالانحراف عقيب وفاة الرسول مباشرةً وإن كان في واقع الأمر انحرافاً كاملاً ـ وبهذا صحّ ما يقال: من أنّه ارتدّ الناس بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلّا عدد قليل(1) ـ ولكن ظاهر الإسلام بقي محفوظاً، فكان يُرى أنّ ما
(1) راجع بحار الأنوار 22:352، الحديث 80 عن أبي بصير «قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): ارتدّ الناس إلّا ثلاثة: أبوذرّ وسلمان والمقداد؟ قال: فقال أبو عبدالله(عليه السلام): «فأين أبو ساسان وأبو عمرة الأنصاريّ».
وصفحة: 351، الحديث 76 عن حنان بن سدير، عن أبيه، عن أبي جعفر(عليه السلام): «قال: كان الناس أهل ردّة بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله) سنة إلّا ثلاثة، فقلت: ومن الثلاثة؟ فقال: المقداد بن الأسود وأبوذرّ الغفاريّ وسلمان الفارسيّ، ثمّ عرف الناس بعد يسير، وقال: هؤلاء الذين دارت عليهم الرحى وأبوا أن يبايعوا، حتّى جاؤوا بأميرالمؤمنين(عليه السلام) مكرهاً فبايع، وذلك قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾». سورة 3 آل عمران، الآية: 144.
←
تحقّق إنّما هو تنحية رجل من الصحابة الأجلاّء ـ وهو الإمام عليّ(عليه السلام) ـ عن الخلافة، وتبديله برجل آخر مرتبط أيضاً تمام الارتباط عائليّاً ببيت رسول الله(صلى الله عليه وآله); لأنّه أبو زوجة الرسول(صلى الله عليه وآله)، وهو أكبر سنّاً من عليّ(عليه السلام)، وهو أبوبكر، ولم يكن يُعرَف وقتئذ مدى نتائج هذا الانحراف، لكن لم تنقض الأيّام والليالي حتّى ظهرت النتيجة بشكل صريح على لسان خليفة المسلمين يزيد بن معاوية، حيث قال متمثّلاً بقول ابن الزبعرى يوم اُحد:
وأكمل ـ عليه لعائن الله ـ بقوله:
في حين أنّه بسبب فعل الأئمّة الأوائل وبالأخصّ الإمام الحسين والإمام زين العابدين(عليهما السلام)قُضي على هذه النتيجة الصريحة بشكل مرسّخ، فحينما جاء بنو العبّاس كان اعترافهم بأصل الإسلام بالقدر المشترك بين التشيّع والتسنّن اعترافاً بما لا يمكن إنكاره وإن كانوا كبني اُميّة في ظلمهم لأئمّتنا(عليهم السلام) ولشيعتهم واضطهادهم أيّامهم.
والمرحلة الثانية: مرحلة بناء الكتلة الواعية التي شرع فيها قادة أهل البيت(عليهم السلام) بعد أن وضعوا التحصينات اللازمة، وفرغوا من تحقيق الضمانات الأساسيّة ضدّ صدمة الانحراف، فشرعوا ببناء الكتلة
والجماعة المنطوية تحت لوائهم، الشاعرة بكلّ حدود وأبعاد المفهوم الإسلاميّ المتبنّى من قبلهم(عليهم السلام).
وهذا النمط من العمل مارسه الإمام الباقر(عليه السلام) على مستوى القمّة. واستمرّت هذه المرحلة إلى زمان الإمام الكاظم(عليه السلام)، وفي زمن الإمام الكاظم(عليه السلام) بدأت المرحلة الثالثة(1).
والمرحلة الثالثة: ظهور الكتلة الواعية بمستوى تسلّم زمام الحكم. واستمرّت هذه المرحلة إلى زمان الإمام العسكريّ(عليه السلام)(2).
وطبعاً لا يمكن التمييز الدقيق بين نهاية كلّ مرحلة وبداية الاُخرى; للتشابه والتشابك بين أواخر المرحلة السابقة واُوليات المرحلة اللاحقة.
(1) إنّ الوارد في كتاب (أهل البيت تنوّع أدوار ووحدة هدف) الذي هو تجميع لبعض محاضرات اُستاذنا الشهيد(قدس سره) في أهل البيت(عليهم السلام): أنّ المرحلة الثالثة بدأت زمن الإمام الكاظم(عليه السلام)،في حين أنّه ورد عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)في كتاب (أئمّة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة) ـ تجميع المؤتمر الإسلاميّ للإمام الشهيد الصدر ـ: التصريح بأنّ الدور الثالث بدأ من الإمام الرضا(عليه السلام)، راجع ذاك الكتاب: 363 و383. فلو صحّت النسختان من المحاضرتين أمكن الجمع بينهما بما سنشير إليه في المتن: من عدم إمكان التمييز الدقيق بين نهاية كلّ مرحلة وبداية الاُخرى; لتشابههما وتشابكهما في أواخر هذه واُوليات الاُخرى... .
(2) الجزء الأوّل من كتابنا هذا: 167 ـ 169 بحسب الطبعة الثانية.
وقد تقدّم الكلام في أئمّة الدور الأوّل في الجزء الأوّل من كتابنا هذا، وإليك الكلام ـ باختصار ـ في أئمّة الدور الثاني والثالث:
أئمّة الدور الثاني والثالث
لمحة عن الإمام محمّد بن عليّ الباقر(عليه السلام)
إنّ أواخر زمن الإمام السجّاد(عليه السلام) ـ بحسب التقسيم الثلاثيّ لاُستاذنا الشهيد الصدر(قدس سره)لأدوار الأئمّة(عليهم السلام) ـ واقعة بين نهاية الدور الأوّل، وهو تفادي صدمة الانحراف، وبين بداية الدور الثاني من تلك الأدوار، فتكون أوائل زمن الإمام الباقر(عليه السلام) شبه بداية تقريباً للدور الثاني من أدوارهم(عليهم السلام).
وقد تمكّن الإمام الباقر(عليه السلام) من تحقيق ما مهّد له إمامنا زين العابدين(عليه السلام): من بناء الكتلة الحقيقيّة للإسلام، ولدينا من المؤشّرات التأريخيّة ما يشهد لهذه الحقيقة، ولتوضيح ذلك نذكر قضيّتين متشابهتين لطاغوت من الطواغيت مع إمامينا: السجّاد
والباقر(عليهما السلام)، حيث عاصره إمامنا زين العابدين(عليه السلام) في أواخر أمره،وإمامنا الباقر(عليه السلام)في أوائل أمره، وهو هشام بن عبد الملك.
فقد روى المجلسيّ(رحمه الله) في البحار(1): أنّه حجّ هشام بن عبد الملك، فلم يقدر على الاستلام(2) من الزحام، فنصب له منبر فجلس عليه، وأطاف به أهل الشام، فبينما هو كذلك إذ أقبل عليّ بن الحسين(عليه السلام)وعليه إزار ورداء، من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم رائحة، بين عينيه سجّادة كأنّها ركبة عنز، فجعل يطوف، فإذا بلغ إلى موضع الحجر تنحّى الناس حتّى يستلمه هيبة له، فقال شاميّ: من هذا يا أميرالمؤمنين؟ فقال: لا أعرفه، لئلاّ يرغب فيه أهل الشام، فقال الفرزدق ـ وكان حاضراً ـ: لكنّي أنا أعرفه، فقال الشاميّ: من هو يا أبا فراس؟ فأنشأ...:
فغضب هشام ومنع جائزته وقال: ألا قلت فينا مثلها؟ قال: هات جدّاً كجدّه، وأباً كأبيه، واُمّاً كاُمّه حتّى أقول فيكم مثلها، فحبسوه بعُسفان بين مكّة والمدينة، فبلغ ذلك عليّ بن الحسين(عليه السلام)، فبعث إليه باثني عشر ألف درهم وقال: اعذرنا يا أبا فراس، فلو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك به. فردّها وقال: يا ابن رسول الله، ما قلت الذي قلت إلّا غضباً لله ولرسوله، وما كنت لأرزأ عليه شيئاً(1).
فردّها إليه وقال: بحقّي عليك لمّا قبلتها فقد رأى الله مكانك وعلم نيّتك، فقبلها.
فجعل الفرزدق يهجو هشاماً وهو في الحبس، فكان ممّا هجاه به قوله:
فأخبر هشام بذلك فأطلقه.
أقول: كان المنتظر أن يقتله الطاغية هشام، ولكن لاحَظ القوّة والمكانة الاجتماعيّة لعليّ بن الحسين(عليه السلام); وذلك ببركة عمل أئمّة الدور الأوّل بحسب تقسيم اُستاذنا الشهيد، فلم يجرأ هشام أن يرتكب هذه الجريمة.
هذه هي القضيّة الاُولى التي حدثت في أواخر زمان الإمام عليّ بن الحسين(عليهما السلام).
وأمّا القضيّة الثانية الواقعة في أوائل زمان الإمام محمّد بن عليّ الباقر(عليهما السلام). فقد روى الأربليّ في كشف الغمّة(1) عن الزهريّ «قال: حجّ هشام بن عبد الملك، فدخل المسجد الحرام متّكياً على يد سالم مولاه، ومحمّد بن عليّ بن الحسين(عليه السلام) في المسجد، فقال له سالم: يا أميرالمؤمنين، هذا محمّد بن عليّ بن الحسين.
قال: المفتون به أهل العراق؟
قال: نعم.
قال: اذهب إليه فقل له: يقول لك أمير المؤمنين: ما الذي يأكل الناس ويشربون إلى أن يفصل بينهم يوم القيامة؟
فقال له أبو جعفر(عليه السلام): يحشر الناس على مثل قرص نقيّ فيها أنهار متفجّرة يأكلون ويشربون حتّى يُفرغ من الحساب.
قال: فرأى هشام أنّه قد ظفر به، فقال: الله أكبر، اذهب إليه فقل له: ما أشغلهم عن الأكل والشرب يومئذ؟
فقال له أبو جعفر(عليه السلام): هم في النار أشغل ولم يشتغلوا أن قالوا:
(1) كشف الغمّة 2: 338.
﴿أَفيضُوا عَلَيْنا من الْماءِ أَوْ مِمّا رَزَقَكُمُ الله﴾(1)، فسكت هشام لا يرجع كلاماً».
وروى الكليني(رحمه الله) هذا الحديث بشكل أكثر تفصيلاً على لسان نافع غلام ابن عمر، حيث روى في روضة الكافي(2) عن أبي الربيع: «قال: حججنا مع أبي جعفر(عليه السلام)في السنة التي كان حجّ فيها هشام بن عبدالملك وكان معه نافع مولى عبدالله بن عمر بن الخطّاب(3)، فنظر نافع إلى أبي جعفر(عليه السلام) في ركن البيت وقد اجتمع عليه الناس، فقال نافع: يا أميرالمؤمنين، من هذا الذي قد تداكّ عليه الناس؟ فقال: هذا نبيّ أهل الكوفة، هذا محمّد بن عليّ، فقال: اشهد لآتينّه فلأسألنّه عن مسائل لا يجيبني فيها إلّا نبيّ أو ابن نبيّ أو وصيّ نبيّ، قال: فاذهب إليه وسله لعلّك تُخجله. فجاء نافع حتّى اتّكأ على الناس ثمّ أشرف على أبي جعفر(عليه السلام)فقال: يا محمّد بن عليّ، إنّي قرأت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وقد عرفت حلالها وحرامها، وقد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو ابن نبيّ، قال: فرفع أبو جعفر(عليه السلام) رأسه فقال: سل عمّا بدا لك.
(1) سورة 7 الأعراف، الآية: 50.
(2) الكافي 8: 120 ـ 122، الحديث 93.
(3) كأنّ المقصود: غلام ابن عمر.
فقال: أخبرني كم بين عيسى وبين محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) من سنة؟
قال: اُخبرك بقولي أو بقولك؟
قال: أخبرني بالقولين جميعاً.
قال: أمّا في قولي فخمس مئة سنة(1)، وأمّا في قولك فستّ مئة سنة. قال: فأخبرني عن قول الله عزّوجلّ لنبيّه: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾(2)، من الذي سأل محمّد(صلى الله عليه وآله)وكان بينه وبين عيسى خمس مئة سنة؟ قال: فتلا أبو جعفر(عليه السلام) هذه الآية: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾(3)، فكان من الآيات التي أراها الله تبارك وتعالى محمّداً(صلى الله عليه وآله)حيث أسرى به إلى بيت المقدّس: أن حشر الله ـ عزّ ذكره ـ الأوّلين والآخرين من النبيّين والمرسلين، ثمّ أمر جبرئيل(عليه السلام) فأذّن شفعاً وأقام شفعاً وقال في
(1) قال المجلسيّ: «هذا هو الذي دلّت عليه أكثر أخبارنا في قدر زمان الفترة، وقد روى الصدوق(رحمه الله)في كتابه (كمال الدين) عن أبيه، عن محمّد بن يحيى العطّار، عن يعقوب بن يزيد، عن محمّد بن أبي عمير، عن سعد بن أبي خلف، عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: كان بين عيسى وبين محمّد(صلى الله عليه وآله)خمس مئة عام، وهذا هو الصحيح». مرآة العقول 25: 286.
(2) سورة 43 الزخرف، الآية: 45.
(3) سورة 17 الإسراء، الآية: 1.
أذانه: حيّ على خير العمل، ثمّ تقدّم محمّد(صلى الله عليه وآله)فصلّى بالقوم، فلمّا انصرف قال لهم: على ما تشهدون، وما كنتم تعبدون؟ قالوا: نشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّك رسول الله، أخذ على ذلك عهودنا ومواثيقنا.
فقال نافع: صدقت يا أبا جعفر. فأخبرني عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماوَاتِ وَالاَْرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا﴾(1).
قال: إنّ الله تبارك وتعالى لمّا أهبط آدم إلى الأرض و(2)كانت السماوات رتقاً لا تمطر شيئاً وكانت الأرض رتقاً لا تنبت شيئاً، فلمّا أن تاب الله ـ عزّ وجلّ ـ على آدم(عليه السلام) أمر السماء فتقطّرت بالغمام، ثمّ أمرها فأرخت عزاليها(3)، ثمّ أمر الأرض فأنبتت الأشجار وأثمرت الثمار وتفهّقت(4) بالأنهار، فكان ذلك رتقها وهذا فتقها.
قال نافع: صدقت يا ابن رسول الله. فأخبرني عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّماوَاتُ﴾(5) أيّ أرض
(1) سورة 21 الأنبياء، الآية: 30.
(2) يحتمل أنّ حرف الواو في النسخة زائدة.
(3) العزالي: جمع العزلاء، وهو فم المزادة. والمزادة: ما يوضع فيه الزاد.
(4) أي: امتلأت، أو تفيّهت، أي: فتحت أفواهها. ولكن كان القياس تفوّهت. ويحتمل كونها تفتّقت فصُحّف.
(5) سورة 14 إبراهيم، الآية: 48.
تبدّل يومئذ؟
فقال أبو جعفر(عليه السلام): أرض تبقى خبزة يأكلون منها حتّى يفرغ الله عزّ وجلّ من الحساب.
فقال نافع: إنّهم عن الأكل لمشغولون.
فقال أبو جعفر(عليه السلام): أهم يومئذ أشغل أم إذ هم في النار؟
فقال نافع: بل إذ هم في النار.
قال: فوالله ما شغلهم; إذ دعوا بالطعام فاُطعِمُوا الزقّوم ودعوا بالشراب فسُقوا الحميم.
قال: صدقت يا ابن رسول الله. ولقد بقيت مسألة واحدة.
قال: وماهي؟ قال: أخبرني عن الله ـ تبارك وتعالى ـ متى كان؟
قال: ويلك متى لم يكن حتّى اُخبرك متى كان، سبحان من لم يزل ولا يزال فرداً صمداً لم يتّخذ صاحبة ولا ولداً.
ثمّ قال: يا نافع، أخبرني عمّا أسألك عنه.
قال: وما هو؟
قال: ما تقول في أصحاب النهروان؟ فإن قلت: إنّ أمير المؤمنين قتلهم بحقّ، فقد ارتددت(1)، وإن قلت: إنّه قتلهم باطلاً فقد كفرت.
(1) أي: ارتددت ورجعت عن مذهبك. أراد(عليه السلام) الاحتجاج عليه فيما كان يعتقده من رأي الخوارج.
قال: فولّى من عنده وهو يقول: أنت والله أعلم الناس حقّاً حقّاً، فأتى هشاماً فقال له: ما صنعت؟
قال: دعني من كلامك هذا، والله أعلم الناس حقّاً حقّاً، وهو ابن رسول الله(صلى الله عليه وآله) حقّاً».
وممّا يؤيّد تمكّن مولانا الباقر(عليه السلام) من بناء الكتلة الحقيقيّة للإسلام الحقيقيّ ـ وهو التشيّع ـ بمستوىً واسع ما مضى من قول هشام: «هذا نبيّ أهل الكوفة»; فإنّ هذا التصريح ونحوه يدلّ على مدى العمل الاجتماعيّ للإمام الباقر(عليه السلام) وتمكّنه من تربية ثلّة عقائديّة تؤمن بخطّ أهل البيت(عليهم السلام).
فصحيح أنّ التشيّع اُعطي من زمن رسول الله(صلى الله عليه وآله) واُعلن على الملأ العامّ حينما قال: «ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم، قالوا اللّهمّ بلى. قال: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه»، بل طرحه رسول الله(صلى الله عليه وآله)على الملأ العامّ في بدء دعوته العلنيّة، فقد روى الطبرسيّ في تفسير مجمع البيان لدى تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ﴾(1)عن البراء بن عازب أنّه قال: لمّا نزلت الآية جمع رسول الله(صلى الله عليه وآله)بني عبد المطّلب وهم يومئذ أربعون رجلاً، فأمر عليّاً(عليه السلام)برِجل شاة فأدمها(2)، ثمّ قال: ادنوا بسم الله، فدنا القوم عشرة عشرة فأكلوا حتّى
(1) سورة 26 الشعراء، الآية: 214.
(2) أي: جعل فيها إداماً يؤكل أو جعلها إداماً يُؤكل.
صدروا، ثمّ دعا بقعب(1) من لبن فجرع منه جرعة، ثمّ قال: هلمّوا اشربوا بسم الله، فشربوا حتّى رووا، فبدرهم أبو لهب فقال: هذا ما سحركم به الرجل، فسكت(صلى الله عليه وآله) يومئذ ولم يتكلّم، ثمّ دعاهم من الغد إلى مثل ذلك من الطعام والشراب، ثمّ أنذرهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال: يا بني عبد المطّلب، إنّي أنا النذير إليكم من الله ـ عزّ وجلّ ـ والبشير فأسلموا وأطيعوني تهتدوا، ثمّ قال: من يؤاخيني ويؤازرني ويكون وليّي ووصيّي بعدي وخليفتي في أهلي، ويقضي ديني؟ فسكت القوم، وقال عليّ(عليه السلام): أنا. فأعادها(صلى الله عليه وآله)ثلاثاً كلّ ذلك يسكت القوم ويقول عليّ(عليه السلام): أنا. فقال(صلى الله عليه وآله) في المرّة الثالثة: أنت. فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب: أطع ابنك فقد اُمّر عليك.
قال الطبرسيّ(رحمه الله): أورده الثعلبي في تفسيره وروى عن أبي رافع هذه القصّة وأنّه جمعهم في الشعب، فصنع لهم رِجْلَ شاة فأكلوا حتّى تضلّعوا(2)، وسقاهم عُسّاً(3) فشربوا كلّهم حتّى رووا، ثمّ قال: إنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين وأنتم عشيرتي ورهطي، وإنّ الله لم يبعث نبيّاً إلّا وجعل له من أهله أخاً ووزيراً ووارثاً ووصيّاً
(1) القَعْب: القدح الضخم الغليظ.
(2) أي: شبعوا.
(3) العُسّ: القدح أو الإناء الكبير.
وخليفةً من أهله، فأيّكم يقوم فيبايعني على أنّه أخي ووارثي ووزيري ووصيّي، ويكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي؟ فسكت القوم، فقال: ليقومنّ قائمكم أو ليكوننّ من غيركم، ثمّ لتندَمُنّ، ثمّ أعاد الكلام ثلاث مرّات، فقام عليّ(عليه السلام)فبايعه فأجابه، ثمّ قال(صلى الله عليه وآله): ادن منّي، فدنا منه ففتح فاه ومجّ في فيه من ريقه وتفل بين كتفيه وثدييه، فقال أبولهب: بئس ما حبوت به ابن عمّك إن أجابك فملأت فاه ووجهه بزاقاً، فقال النبيّ(صلى الله عليه وآله)ملأته حكماً وعلماً.
وللعلاّمة السيّد جعفر مرتضى العامليّ بحث طريف في كتابه: (الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم) بعنوان حديث الدار، وقد ذكر مصادر كثيرة للحديث، وأكثرها سُنّيّة، فراجع(1).
ولكن بناء الكتلة بشكل واسع بدا واضحاً في زمان الإمام الباقر(عليه السلام).
فقد روى في البحار عن المناقب عن حبّابة الوالبيّة قالت: «رأيت رجلاً بمكّة أصيلاً(2) في الملتزم، أو بين الباب والحجر على صعدة من الأرض... فلمّا انثال الناس عليه يستفتونه عن المعضلات
(1) ج 3: 154.
(2) يعني وقت العصر.
ويستفتحون أبواب المشكلات، فلم يرم(1) حتّى أفتاهم في ألف مسألة...»(2).
وروى أيضاً فيه عن الكشّي، عن محمّد بن مسلم قال: «ما شجر في رأيي شيء قطّ إلّا سألت عنه أبا جعفر(عليه السلام) حتّى سألته عن ثلاثين ألف حديث، وسألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن ستّة عشر ألف حديث»(3).
(1) أي: لم يبرح المكان.
(2) بحار الأنوار 46، تأريخ الإمام الباقر، ب 5 معجزاته ومعاليه: 259، الحديث 60.
(3) المصدر السابق، ب 6 مكارم أخلاقه وسيره وسننه وعلمه وفضله: 292، الحديث 17.
لمحة عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام)
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾(1).