لا ريب في أنّ إمامنا الصادق(عليه السلام) تمكّن من مواصلة عمل إمامنا الباقر(عليه السلام) في نشر التشيّع وترسيخ أواصره وتوضيح معالمه ومفاهيمه وثقافته وإيصال مشروع أبيه(عليه السلام) إلى أعلى قممه، ولهذا نُسب مذهبنا إليه (سلام الله عليه)، فنحن نسمّى (جعفريّين)، وكان السبب في ذلك أنّه(عليه السلام)عاش زمن انتقال السلطة من بني اُميّة إلى بني العبّاس، واشتغال الطواغيت بعضهم ببعض، وضعف هؤلاء أو اُولئك في سلطتهم، فواصل العمل في هذا السبيل مستثمراً لهذه الفرصة.
ونحن نواصل هنا ـ باختصار ـ الحديث:
أوّلاً: عن نشر أحكام الإسلام الصحيح ومفاهيمه وثقافته على لسانه (سلام الله عليه).
وثانياً: عن سياسته تجاه أبي جعفر المنصور الدوانيقي.
وثالثاً: عن إبرازه لعظمة علم الأئمّة(عليهم السلام) وغزارته.
مكتفين في كلّ هذه المقامات الثلاثة بالنزر اليسير ممّا ورد في التأريخ:
أوّلاً: نشره(عليه السلام) لأحكام الإسلام الصحيح ومفاهيمه وثقافته:
روى الأربليّ(رحمه الله) في كشف الغُمّة(1) عن المفيد: «...إنّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات، فكانوا أربعة آلاف رجل...».
وأيضاً روى عن المفيد(رحمه الله): أنّ أباشاكر الديصاني وقف ذات يوم على مجلس أبي عبدالله(عليه السلام)فقال له: «إنّك لأحد النجوم الزواهر، وكان آباؤك بدوراً بواهر، واُمّهاتك عقيلات عباهر(2)، وعنصرك من أكبر العناصر، وإذا ذكر العلماء فعليك تثني الخناصر، فخبّرنا أيّها البحر الزاخر ما الدليل على حدوث العالم؟»(3).
فقال له أبو عبدالله(عليه السلام): «إنّ أقرب الدليل على ذلك ما أذكره لك»، ثمّ دعا ببيضة فوضعها في راحته وقال: «هذا حصن ملموم داخله غرقئ(4) رقيق، يُطيف(5) به كالفضّة السائلة والذهبة المائعة أتشكّ في ذلك؟»، قال أبو شاكر: «لا شكّ فيه». قال أبو عبدالله: «ثمّ إنّه ينفلق عن صورة كالطاووس أدخله شيء غير ما عرفت؟»، «قال: لا».
قال: «فهذا الدليل على حدوث العالم»(1)...
ثانياً: سياسته(عليه السلام) تجاه أبي جعفر المنصور الدوانيقيّ:
ونذكر هنا باختصار عدّة مواقف له(عليه السلام):
الموقف الأوّل: ابتعاده (سلام الله عليه) عن دنيا المنصور وزخارفه:
ونكتفي في ذلك بما رواه الأربليّ(رحمه الله) في كشف الغمّة(2) عن ابن حمدون: كتب المنصور إلى جعفر بن محمّد: «لِمَ لا تَغشانا كما يغشانا سائر الناس؟» فأجابه(عليه السلام): «ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنّئك، ولا تراها نقمة فنعزّيك بها، فما نصنع عندك؟» قال: فكتب إليه: «تصحبنا لتنصحنا»، فأجابه(عليه السلام): «من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك». فقال المنصور: «والله لقد ميّز عندي منازل الناس من يريد الدنيا ممّن يريد الآخرة، وإنّه ممّن يريد الآخرة لا الدنيا».
الموقف الثاني: إشارته إليه أنّه من الجبابرة:
روى في كشف الغمّة عن أحمد بن عمرو بن المقدام الرازي: وقع
الذباب على المنصور فذبّه عنه، فعاد فذبّه عنه حتّى أضجره، فدخل عليه جعفر بن محمّد(عليه السلام)، فقال له المنصور: «يا أبا عبد الله، لِمَ خلق الله تعالى الذباب؟»، فقال: «ليذلّ به الجبابرة»(1).
وترى النكتة الحكيمة المشتركة في هذين الموقفين أنّه برغم إظهاره(عليه السلام) للحقّ إتماماً للحجّة على المنصور لم يُعطِ المنصور ذريعة على نفسه، ففي الموقف الثاني لم يصرّح(عليه السلام) له بأنّك أنت ذاك الجبّار، ولا يدري المنصور أنّه(عليه السلام) مطّلع على قصّة الذباب معه حتّى يأخذ ذلك ذريعة عليه، وكذلك في الموقف الأوّل لم يذكر سلام الله عليه: (أنّ دنياك حرام عليك)، واكتفى بذكر: «أنّ من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك».
في حين أنّه(عليه السلام) حينما كان يتكلّم عن أهل الجور بعنوان أهل الجور كان يصرّح بحرمة المرافعة لأجل القضاء عندهم وبحرمة إعانتهم ولو ببناء مسجد.
فانظُرْ إلى قوله(عليه السلام): «أيّما مؤمن قدّم مؤمناً في خصومة إلى قاض أو سلطان جائر فقضى عليه بغير حكم الله، فقد شركه في الإثم»(2).
وإلى قوله(عليه السلام): «أيّما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حقّ فدعاه
(1) المصدر السابق:370.
(2) الوسائل 27:11، الحديث 1.
إلى رجل من إخوانكم ليحكم بينه وبينه فأبى إلّا أن يرافعه إلى هؤلاء، كان بمنزلة الذين قال الله عزّ وجلّ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ﴾(1)»(2).
وإلى قوله(عليه السلام): «لا تعنهم على بناء مسجد»(3).
ومع الالتفات إلى نكتة عدم إعطاء الذريعة على نفسه (سلام الله عليه) في الموقفين الأوّلين يتّضح عدم التنافي بين هذين الموقفين والموقف الثالث التالي:
الموقف الثالث: اتّقاؤه(عليه السلام) من شرّه وتفادي غضبه بحكمة ورويّة حسنة:
من قبيل ما رواه في كشف الغُمّة تارة عن عبد الله بن الفضل بن الربيع، عن أبيه(4)، واُخرى عن نقلة الآثار مع تغيير في النقل(5).
وأنا آخذ صدر القصّة من النقل الأوّل وذيلها من النقل الثاني.
(1) سورة 4 النساء، الآية: 60.
(2) الوسائل 27، ب 1 من صفات القاضي: 12، الحديث 2.
(3) الوسائل 17، ب 42 ممّا يكتسب به: 180، الحديث 8.
(4) كشف الغمّة: 2:371.
(5) المصدر السابق: 381 ـ 382.
فصدرها ما يلي:
روى عبد الله بن الفضل بن الربيع عن أبيه: «قال: حجّ المنصور سنة سبع وأربعين ومئة، فقدم المدينة وقال للربيع ]بن يونس[: ابعث إلى جعفر بن محمّد من يأتينا به مُتْعَباً قتلني الله إن لم أقتله. فتغافل الربيع عنه لينساه، ثمّ أعاد ذكره للربيع وقال: ابعث من يأتينا به مُتْعَباً، فتغافل عنه، ثمّ أرسل إلى الربيع رسالة قبيحة أغلظ فيها وأمره أن يبعث من يحضر جعفراً ففعل.
فلمّا أتاه قال له الربيع: يا أبا عبد الله، اذكر الله، فإنّه قد أرسل إليك بما لا دافع له غير الله، فقال جعفر(عليه السلام): لا حول ولا قوّة إلّا بالله.
ثمّ إنّ الربيع أعلم المنصور بحضوره، فلمّا دخل جعفر عليه أوعده وأغلظ له وقال: أي عدوّ الله، اتّخذك أهل العراق إماماً يجبون إليك زكاة أموالهم وتُلحِدُ في سلطاني وتبغيه الغوائل، قتلني الله إن لم أقتلك...».
وذيل القصّة ـ وهو جواب الإمام(عليه السلام) ـ هو ما يلي بحسب النقل الثاني:
«فقال له أبو عبدالله(عليه السلام): والله ما فعلت ولا أردت، فإن كان بلغك فمن كاذب، وإن كنت فعلتُ فقد ظُلم يوسف فغفر، وابتلي أيّوب فصبر، واُعطي سليمان فشكر، فهؤلاء أنبياء الله وإليهم يرجع نسبك.
فقال له المنصور: أجل ارتفع هاهنا فارتفع، فقال: إنّ فلان بن فلان
أخبرني عنك بما ذكرت.
فقال: أحضره يا أميرالمؤمنين ليواقفني على ذلك.
فأحضر الرجل المذكور، فقال له المنصور: أنت سمعت ما حكيت عن جعفر؟ فقال: نعم. فقال له أبو عبد الله(عليه السلام): فاستحلفه على ذلك. فقال له المنصور: أتحلف؟ قال: نعم، وابتدأ باليمين، فقال له أبو عبد الله(عليه السلام): دعني يا أميرالمؤمنين اُحلّفه أنا. فقال له: افعل.
فقال أبو عبد الله(عليه السلام) للساعي: قل: برئت من حول الله وقوّته والتجأت إلى حولي وقوّتي لقد فعل كذا وكذا جعفر، وقال كذا وكذا جعفر(1). فامتنع هُنيئة ثمّ حلف بها، فما برح حتّى ضرب برجله(2)، فقال أبو جعفر: جُرّوا برجله وأخرِجوه لعنه الله.
قال الربيع: وكنت رأيت جعفر بن محمّد(عليه السلام) حين دخل على المنصور يحرّك شفيته، وكلّما حرّكهما سكن غضب المنصور حتّى أدناه منه ورضي عنه، فلمّا خرج أبو عبد الله(عليه السلام) من عند أبي جعفر اتّبعتُه فقلت: إنّ هذا الرجل كان من أشدّ الناس غضباً عليك، فلمّا دخلت عليه كنت تحرّك شفتيك، وكلّما حرّكتهما سكن غضبه، فبأيّ شيء كنت
(1) يعني: برئت من حول الله وقوّته والتجأت إلى حولي وقوّتي إن كنتُ كاذباً.
(2) كأنّ المقصود: وقع المرض في رجله فقتله به.
تحرّكهما؟
قال: بدعاء جدّي الحسين بن عليّ(عليه السلام).
قلت: جعلت فداك وما هذا الدعاء؟
قال: يا عُدّتي عند شدّتي، ويا غوثي عند كربتي، احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بركنك الذي لا يُرام.
قال الربيع: فحفظت هذا الدعاء، فما نزلت بي شدّة قطّ إلّا دعوت به ففُرّج عنّي.
قال: وقلت لأبي عبد الله جعفر بن محمّد(عليه السلام): لِمَ منعت الساعي أن يحلف بالله؟ قال: كرهتُ أن يراه الله يوحّده ويمجّده فيحلم عنه ويؤخّر عقوبته، فاستحلفته بما سمعت فأخذه الله أخذةً رابية».
وورد أيضاً في كشف الغمّة(1) نظير هذا الاُسلوب في تسكين غضب المنصور حين أبدى عزمه على هدم المدينة، والنصّ ما يلي:
«قال له(2) أبو جعفر المنصور: إنّي قد عزمت على أن اُخرب المدينة ولا أدع بها نافخ ضَرَمة(3)، فقال(عليه السلام): يا أميرالمؤمنين، لا أجد بدّاً من النصاحة لك، فاقبلها إن شئت أو لا.
(1) كشف الغمّة 2:420 ـ 421.
(2) أي: للإمام الصادق(عليه السلام).
(3) الضَرَمة: اللهَب، أي: لا أترك بها إنساناً.
قال: قل.
قال: إنّه قد مضى لك ثلاثة أسلاف: أيّوب ابتلي فصبر، وسليمان اُعطي فشكر، ويوسف قدر فغفر، فاقتد بأيّهم شئت.
قال: قد عفوت».
ثالثاً: إبرازه(عليه السلام) لعظمة علم الأئمّة(عليهم السلام) وغزارته:
فقد ورد في كشف الغمّة(1) ما نصّه:
وكان يقول(عليه السلام): «علمُنا غابرُ ومزبور، ونَكْتٌ في القلوب، ونقرٌ في الأسماع، وإنّ عندنا الجفر الأحمر، والجفر الأبيض، ومصحف فاطمة(عليها السلام)، وإنّ عندنا الجامعة فيها جميع ما يحتاج الناس إليه».
فسئِل عن تفسير هذا الكلام فقال: «أمّا الغابر فالعلم بما يكون، وأمّا المزبور فالعلم بما كان، وأمّا النكت في القلوب فهو الإلهام، وأمّا النقر في الأسماع فهو حديث الملائكة نسمع كلامهم ولا نرى أشخاصهم، وأمّا الجفر الأحمر فوعاء فيه سلاح رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ولن يخرج حتّى يقوم قائمنا أهل البيت، وأمّا الجفر الأبيض فوعاءٌ فيه توراة موسى وإنجيل عيسى وزبور داود وكتُب الله الاُولى، وأمّا مصحف فاطمة(عليها السلام) ففيه ما يكون من حادث وأسماء كلّ من يملك إلى أن تقوم الساعة، وأمّا الجامعة فهو كتاب طوله سبعون ذراعاً إملاء رسول الله(صلى الله عليه وآله)
ومِن فَلَق فيه(1)، وخطّ عليّ بن أبي طالب (صلوات الله عليه) بيده،فيه والله جميع ما يحتاج الناس إليه إلى يوم القيامة، حتّى أنّ فيه أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة».
وقد عقد في الكافي(2) باباً فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة(عليها السلام)، أقتصرُ على نقل روايتين صحيحتين منه، ومن أراد الباب كلّه فليراجعه:
الرواية الاُولى: صحيحة أبي بصير «قال: دخلت على أبي عبد الله(عليه السلام): فقلت له: جعلت فداك إنّي أسألك عن مسألة، ههنا أحد يسمع كلامي؟(3)، قال: فرفع أبو عبد الله(عليه السلام)ستراً بينه وبين بيت(4) آخر، فأطلع فيه ثمّ قال: يا أبا محمّد، سل عمّا بدا لك. قال: قلت: جعلت فداك إنّ شيعتك يتحدّثون أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) علّم عليّاً(عليه السلام)باباً يُفتح له منه ألف باب؟ قال: فقال: يا أبا محمّد، علّم رسول الله(صلى الله عليه وآله)عليّاً(عليه السلام) ألف باب يُفتح من كلّ باب ألف باب. قال: قلت: هذا والله العلم. قال: فنكت ساعةً في الأرض ثمّ قال: إنّه لعلم وما هو بذاك.
(1) أي: من شقّ فمه(صلى الله عليه وآله).
(2) اُصول الكافي 1:238 ـ 242.
(3) استفهام نبّه على أنّ مسؤوله أمر ينبغي صونه عن الأجنبيّ.
(4) أي: غرفة اُخرى.
قال: ثمّ قال: يا أبا محمّد، وإنّ عندنا الجامعة، وما يدريهم ما الجامعة؟ قال: قلت: جعلت فداك وما الجامعة؟ قال: صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله(صلى الله عليه وآله) وإملائه مِن فَلَق فيه(1)، وخطّ عليّ(عليه السلام) بيمينه، فيها كلّ حلال وحرام، وكلّ شيء يحتاج الناس إليه حتّى الأرش في الخدش، وضرب بيده إليّ فقال: تأذن لي يا أبا محمّد؟(2). قال: قلت: جعلت فداك إنّما أنا لك فاصنع ما شئت، قال: فغمزني بيده وقال: حتّى أرش هذا(3) ـ كأنّه مغضب ـ قال: قلت: هذا والله العلم. قال: إنّه لعلم وليس بذاك.
ثمّ سكت ساعة ثمّ قال: وإنّ عندنا الجعفر، وما يدريهم ما الجفر؟ قال: قلت: وما الجفر؟ قال: وعاء من أدم(4) فيه علم النبيّين والوصيّين وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل. قال: قلت: إنّ هذا هو العلم. قال: إنّه لعلم وليس بذاك.
ثمّ سكت ساعة ثمّ قال: وعندنا لمصحف فاطمة(عليها السلام)، وما يُدريهمما مصحف فاطمة(عليها السلام)؟ قال: قلت: وما مصحف فاطمة(عليها السلام)؟ قال:
(1) أي: كُتب بإملائه من شقّ فمه(صلى الله عليه وآله).
(2) أي: في غمزي إيّاك بيدي حتّى تجد الوجع في بدنك.
(3) يعني: ديته.
(4) يعني: الجِلد.
مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرّات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد. قال: قلت: هذا والله العلم. قال: إنّه لعلم وما هو بذاك.
ثمّ سكت ساعة ثمّ قال: إنّ عندنا علم ما كان وعلم ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة. قال: قلت: جعلت فداك هذا والله هو العلم. قال: إنّه لعلم وليس بذاك.
قال: قلت: جعلت فداك فأيّ شيء العلم؟ قال: ما يحدث بالليل والنهار الأمر من بعد الأمر والشيء بعد الشيء إلى يوم القيامة»(1).
الرواية الثانية: صحيحة الحسين بن أبي العلاء «قال: سمعت أبا عبد الله(عليه السلام)يقول: إنّ عندي الجفر الأبيض. قال: قلت: فأيّ شيء فيه؟ قال: زبور داود، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وصحف إبراهيم، والحلال والحرام، ومصحف فاطمة، ما أزعم أنّ فيه قرآناً، وفيه ما يحتاج الناس إلينا ولا نحتاج إلى أحد، حتّى فيه الجَلدة ونصف الجَلدة وربع الجَلدة وأرش الخدش.
وعندي الجفر الأحمر. قال: قلت: وأيّ شيء في الجفر الأحمر؟ قال:
(1) اُصول الكافي 1:239ـ240، الحديث 1.
السلاح، وذلك إنّما يفتح للدم، يفتحه صاحب السيف للقتل»(1).
ولا بأس بالإشارة في نهاية هذا البحث إلى أنّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)كان يرى ـ على ما ورد في كتاب (أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)) الذي هو تجميع لمحاضراته(رحمه الله) من قبل المؤتمر العالميّ للإمام الشهيد الصدر، ص 382 ـ 383 ـ: أنّ أئمّة الدور الثاني(عليهم السلام) قاموا بجهدين بأشكالهما المختلفة:
أحدهما: هو جهد التثقيف الفكريّ والتوعية العقائديّة والرساليّة بالشكل الشيعيّ، وهذا ما كان يمارسه أئمّة هذا الدور ممارسة مباشرة واضحة.
وثانيهما: جهد يمشي موازياً مع هذا الجهد، وهوالجهد الذي انطلق من دم الحسين(عليه السلام)، وهو العمل المسلّح ضدّ الطغاة وتزعّم المعركة لتحريك الضمير الثوريّ عند الاُمّة الإسلاميّة.
إلّا أنّه لم يكن بإمكان أئمّة الدور الثاني تزعّم ذلك بالمباشرة وبالمكشوف فقاموا بإذن عامّ لكلّ مسلم يمارس عمله ضدّ الطواغيت الحاكمين وقتئذ، وقد بدأ بهذا الإذن إمامنا زين العابدين(عليه السلام)حينما ذهب إليه محمّد بن الحنفيّة يستشيره فيما عليه طلب المختار، فأعطى(عليه السلام)بياناً لم يكن يخصّ المختار، بل كان بحسب ما كانت تدلّ عليه
(1) المصدر السابق: 240، الحديث 3.
الملابسات والظروف العامّة أنّه بداية تخطيط لمرحلة جديدة(1).
قال اُستاذنا(رحمه الله) ـ في المصدر نفسه ـ: والمساندة واضحة كلّ الوضوح خلال المرحلة الثانية لهذا الخطّ الثاني.
ولعلّ من أهمّ هذه الوثائق التأريخيّة الكتاب الباكي المفجوع الذي كتبه الإمام الصادق(عليه السلام)إلى بني عمّه إلى عبد الله بن الحسن المحض صاحب النفس الزكيّة.
أقول: إنّه(رحمه الله) يشير بذلك إلى ما ورد في البحار ـ ج 47، ص 299 ـ 301 ـ: من أنّ أبا عبد الله جعفر بن محمّد(عليه السلام) كتب إلى عبد الله بن الحسن حين حُمل هو وأهل بيته يعزّيه عمّا صار إليه:
«بسم الله الرحمن الرحيم إلى الخلف الصالح(2)والذرّيّة الطيّبة من وُلد أخيه وابن عمّه.
(1) يشير بذلك إلى الحديث الوارد في البحار ـ 45، باب أحوال المختار وما جرى على يديه: 365 ـ: من أنّ محمّد بن الحنفيّة قد استشاره جماعة فى الخروج مع المختار، فقال(رحمه الله)لهم: قوموا بنا إلى إمامي وإمامكم عليّ بن الحسين، فلمّا دخل ودخلوا عليه أخبر خبرهم الذي جاؤوا لأجله، قال: يا عمّ، لو أنّ عبداً زنجيّاً تعصّب لنا أهل البيت لوجب على الناس مؤازرته، وقد ولّيتك هذا الأمر فاصنع ما شئت، فخرجوا وقد سمعوا كلامه وهم يقولون: أذِن لنا زين العابدين ومحمّد بن الحنفيّة.
(2) يقصد عبد الله بن الحسن صاحب النفس الزكيّة.
أمّا بعد فلئن كنت قد تفرّدت أنت وأهل بيتك ممّن حُمل معك بما أصابكم ما انفردت بالحزن والغيظ والكئابة وأليم وجع القلب دوني، ولقد نالني من ذلك من الجزع والقلق وحرّ المصيبة مثل ما نالك...» إلى أن يقول في آخرها: «أفرغ الله علينا وعليكم الصبر، وختم لنا ولكم بالأجر والسعادة، وأنقذنا وإيّاكم من كلّ هلكة بحوله وقوّته إنّه سميع قريب، وصلّى الله على صفوته من خلقه محمّد النبيّ وأهل بيته».
قال المجلسي(رحمه الله) بعد نقل هذا الحديث: «وقد اشتملت هذه التعزية على وصف عبد الله بن الحسن بالعبد الصالح، والدعاء له وبني عمّه بالسعادة، وهذا يدلّ على أنّ الجماعة المحمولين كانوا عند مولانا الصادق(عليه السلام) معذورين وممدوحين ومظلومين وبحبّه عارفين».
ثمّ أضاف: أقول: «وقد يوجد في الكتُب أنّهم كانوا للصادقين(عليهم السلام)مفارقين، وذلك محتمل للتقيّة، لئلاّ ينسب إظهارهم لإنكار المنكر إلى الأئمّة الطاهرين...».
لمحة عن الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)
قال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَة مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّة عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الُْمحْسِنِينَ﴾(1).
نقل المجلسيّ(رحمه الله)(4) عن مناقب ابن شهراشوب: أنّه سمّي الكاظم لما كظمه من الغيظ وغضّ بصره عمّا فعله الظالمون به حتّى مضى قتيلاً في حبسهم.
إنّ إمامنا موسى الكاظم(عليه السلام) له مواقف تقيّة أمام طاغوت زمانه هارون الرشيد كمواقف أبيه(عليه السلام) أمام طاغوت زمانه منصور الدوانيقي.
ولكن في الوقت نفسه له مواقف صريحة ضدّ هارون الرشيد وجهاً لوجه وبالمباشرة لم نرَ مثلها من أبيه(عليه السلام) في مواجهاته وجهاً لوجه وبالمباشرة مع الدوانيقي.
وهذا هو الذي يفسّر لنا أنّ الإمام الكاظم(عليه السلام) برغم أنّه من أ ئمّة الدور الثاني من الأدوار الثلاثة يُوجد في حياته ما يشير إلى بدايات الدور الثالث.
ونشير هنا إلى عدد من مواقفه ومواجهاته المباشرة الصريحة ضدّ هارون:
فمنها: ما رواه في كشف الغمّة(1)، ولعلّه أوّل تلك المواقف أو من أوائلها، وهو ما يلي:
لمّا دخل الرشيد المدينة توجّه لزيارة النبيّ(صلى الله عليه وآله) ومعه الناس، فتقدّم إلى قبر رسول الله(صلى الله عليه وآله)فقال: «السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا ابن عمّ» مفتخراً بذلك على غيره، فتقدّم موسى(عليه السلام)إلى القبر وقال: «السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبة»، فتغيّر وجه الرشيد وتبيّن الغيظ فيه.
أقول: وكأنّما بقيت هذه القصّة في نفس الرشيد، ولهذا فاتح الإمام(عليه السلام) حول اُبوّة رسول الله(صلى الله عليه وآله)لهم(عليهم السلام)بالبحث والنقاش حينما اُدخِل على الرشيد، والرواية مفصّلة(2)، وأنا أقتطع منها مقطعاً:
قال الرشيد: «لِمَ جوّزتم للعامّة والخاصّة أن ينسبوكم إلى
(1) كشف الغمّة 3:21.
(2) اُنظر: بحار الأنوار 48:127 ـ 129.
رسول الله(صلى الله عليه وآله) ويقولون لكم يا بني رسول الله وأنتم بنو عليّ، وإنّما ينسب المرء إلى أبيه، وفاطمة إنّما هي وعاء، والنبيّ جدّكم من قبل اُمّكم؟
فقال(عليه السلام): يا أميرالمؤمنين، لو أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) نُشِر فخطب إليك كريمتك هل كنت تُجيبه؟ فقال: سبحان الله، ولِمَ لا اُجيبه؟؟ بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك. فقال(عليه السلام): لكنّه لا يخطب إليّ ولا اُزوّجه. فقال: وَلِمَ؟ قال(عليه السلام): لأنّه ولدني ولم يلدك. فقال: أحسنت يا موسى(1).
ثمّ قال: كيف قلتم: إنّا ذرّيّة النبيّ، والنبيّ لم يعقّب، وإنّما العقب للذكر لا للاُنثى، وأنتم وُلد الإبنة، ولا يكون لها عقب؟(2). فقال(عليه السلام): أسألك بحقّ القرابة والقبر ومن فيه إلّا ما أعفيتني عن هذه المسألة. فقال: لا أو تخبرني بحجّتكم فيه يا وُلدَ عليّ وأنت يا موسى يعسوبهم وإمام زمانهم كذا اُنهي إليّ، ولست اُعفيك في كلّ ما أسألك عنه حتّى
(1) ولم يكن قادراً على ردّه; لأنّ عدم جواز زواج الجدّ الاُمّيّ من كريمة الابن متّفق عليه بين الشيعة والسنّة.
(2) هذا هو عين المنطق الجاهليّ القائِل:
«بنونا بنو أبنائنا وبناتنا *** بنوهنّ أبناء الرجال الأباعد»
وهذا هو المنطق الذي ردّه الله تعالى بقوله الكريم: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاَْبْتَر﴾، سورة 108 الكوثر، الآية: 3.
تأتيني فيه بحجّة من كتاب الله، فأنتم تدّعون معشر وُلد عليّ أنّه لا يسقط عنكم منه شيء ألف ولا واو إلّا وتأويله عندكم، واحتججتم بقوله عزّ وجلّ: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء﴾(1)، وقد استغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم. ]فقال: [تأذن لي في الجواب؟ قال: هات. ]فقال:[ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيَْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُْمحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسَى...)(2)، مَن أبو عيسى يا أميرالمؤمنين؟ فقال: ليس لعيسى أب. ]فقال:[ إنّما ألحقناه بذراري الأنبياء من طريق مريم(عليها السلام) وكذلك اُلحقنا بذراري النبيّ(صلى الله عليه وآله)من قبل اُمّنا فاطمة(عليها السلام).
أزيدك يا أميرالمؤمنين؟ قال: هات. ]قال:[ قول الله عزّ وجلّ: ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾(3)، ولم يدّع أحد أنّه أدخل النبيّ(صلى الله عليه وآله) تحت الكساء عند مباهلة النصارى إلّا عليّ بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام)،
(1) سورة 6، الأنعام، الآية: 38.
(2) سورة 6 الأنعام، الآية: 84 ـ 85.
(3) سورة 3 آل عمران، الآية: 61.
فكان تأويل قوله عزّ وجلّ: ﴿وَأَبْنَاءَنَا﴾ الحسن والحسين...».
أقول: ولم يكن بإمكانه ـ سلام الله عليه ـ أن يحتجّ على هارون بغير الكتاب وآياته; لأنّ هارون طالبه بأن يأتي بحجّة من كتاب الله. كما لم يكن بإمكانه ـ سلام الله عليه ـ أن يحتجّ على هارون بما هو ثابت في علم اليوم: من أنّ سهم الاُمّ في تكوّن الابن ليس بأقلّ من سهم الأب إن لم يكن أكثر; لأنّ هذا العلم لم يكن منكشفاً يومئذ، فلو كان(عليه السلام)يحتجّ بذلك لكان ينكره هارون.
ومنها: ما رواه في البحار(1): كان ممّا قال هارون لأبي الحسن(عليه السلام)حين اُدخل عليه: «ما هذه الدار؟»(2) فقال(عليه السلام): «هذه دار الفاسقين، قال الله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَة لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً﴾(3)».
فقال له هارون: «فدار مَن هي؟»، فقال(عليه السلام) «هي لشيعتنا فترة ولغيرهم فتنة»(4).
(1) بحار الأنوار: 48:156، الحديث 28 عن الاختصاص.
(2) إشارة إلى قصره المشيد، أو إلى مُلْكه أو إلى الدنيا.
(3) سورة 7 الأعراف، الآية: 146.
(4) هذا شاهد على أنّ هارون لم يكن يقصد بـ «هذه الدار» قصره، بل كان يقصد مُلْكه أو الدنيا.
«قال: فما بال صاحب الدار لا يأخذها؟»، فقال(عليه السلام): «اُخذت منه عامرة، ولا يأخذها إلّا معمورة»(1).
قال: «فأين شيعتك؟»، فقرأ أبو الحسن(عليه السلام): ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾(2).
فقال له: «فنحن كفّار؟»، قال: «لا، ولكن كما قال الله: ﴿الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ﴾(3)»، فغضب عند ذلك وغلظ عليه...
ومنها: ما رواه في البحار(4) نقلاً عن المناقب عن كتاب أخبار الخلفاء: «أنّ هارون الرشيد كان يقول لموسى بن جعفر(عليه السلام): خذ فدكاً حتّى أردّها إليك. فيأبى حتّى ألحّ عليه، فقال(عليه السلام): لا آخذها إلّا بحدودها. قال: وما حدودها؟ قال: إن حددتها لم تردّها. قال: بحقّ جدّك إلّا فعلت. قال: أمّا الحدّ الأوّل: فعدن. فتغيّر وجه الرشيد وقال: إيهاً. قال: والحدّ الثاني: سمرقند. فاربدّ(5) وجهه. قال: والحدّ الثالث:
(1) كأنّ المقصود أنّه لو صار القرار على أخذ المُلْك اليوم لأدّى ذلك إلى خراب الدنيا.
(2) سورة 98 البيّنة، الآية: 1.
(3) سورة 14 إبراهيم، الآية: 28.
(4) بحار الأنوار 48: 144، الحديث 20.
(5) أي: احمرّ احمراراً فيه سواد عند الغضب.
إفريقية. فاسودّ وجهه وقال: هيه. قال: والرابع: سِيف البحر(1) ممّا يليالجُزُر(2) وأرمينية. قال الرشيد: فلم يبق لنا شيء فتحوّل إلى مجلسي. قال موسى: قد أعلمتك أنّني إن حددتها لم تردّها. فعند ذلك عزم على قتله...».
وأطرف من ذلك ما رواه في البحار(3) نقلاً عن الكافي، ولكنّه احتجاج له(عليه السلام) مع المهديّ لا مع الرشيد. ونحن ننقل النصّ عن الكافي(4):
«عن عليّ بن أسباط قال: لمّا ورد أبوالحسن موسى(عليه السلام) على المهديّ رآه يردّ المظالم، فقال: يا أميرالمؤمنين، ما بال مظلمتنا لا تردّ؟! فقال له: وما ذاك يا أبا الحسن؟ قال: إنّ الله تبارك وتعالى لمّا فتح على نبيّه(صلى الله عليه وآله)فدك وما والاها لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فأنزل الله على نبيّه(صلى الله عليه وآله)﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾(5)، فلم يدر رسول الله(صلى الله عليه وآله)من هم، فراجع في ذلك جبرئيل، وراجع جبرئيل(عليه السلام) ربّه، فأوحى الله إليه: أن ادفع فدك إلى فاطمة(عليها السلام)، فدعاها رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال لها: يا
(1) أي: ساحل البحر.
(2) في المناقب: الخزر.
(3) بحار الأنوار 48: 156 ـ 157.
(4) الكافي 1: 543، الحديث 5.
(5) سورة 17 الإسراء، الآية: 26.
فاطمة، إنّ الله أمرني أن أدفع إليك فدك. فقالت: قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك. فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله).
فلمّا وُلّي أبوبكر أخرج عنها وكلاءها، فأتته فسألته أن يردّها عليها، فقال لها: ائتيني بأسود أو أحمر يشهد لك بذلك، فجاءت بأميرالمؤمنين(عليه السلام) واُمّ أيمن فشهدا لها، فكتب لها بترك التعرّض، فخرجت والكتاب معها، فلقيها عمر فقال: ما هذا معكِ يا بنت محمّد؟ قالت: كتابٌ كتبه لي ابن أبي قحافة. قال: أرينيه، فأبت فانتزعه من يدها ونظر فيه، ثمّ تفل فيه ومحاه وخرقه، فقال لها: هذا لم يوجف عليه أبوك بخيل ولا ركاب؟ فضعي الحبال في رقابنا(1).
فقال له المهديّ: يا أبا الحسن، حدّها لي. فقال: حدّ منها جبل اُحد، وحدّ منها عريش مصر، وحدّ منها سيف البحر، وحدّ منها دومة الجندل. فقال له: كلّ هذا؟ قال: نعم يا أميرالمؤمنين، هذا كلّه، إنّ هذا كلّه ممّا لم يوجف على أهله رسول الله(صلى الله عليه وآله) بخيل ولا ركاب. فقال: كثير وأنظرُ فيه».
أقول: وهذا يعني أنّه(عليه السلام) يستدلّ بالآية المباركة: ﴿وَمَا أَفَاء اللَّهُ
(1) أي: اُحكمي إذن على رقابنا أيضاً بالملكيّة، وضعي الحبال على أعناقنا. وفي بعض النسخ: «ضعي الجبال»، أي: إن قدرت أن تضعي الجبال على رقابنا فضعي. اُنظر: مرآة العقول 6: 269.
عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلاَ رِكَاب وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ﴾(1) على أنّ فدك وإن كان اسماً لقطعة أقطعها رسول الله(صلى الله عليه وآله) لفاطمة ولكن المقياس في الأنفال الراجع إلى المعصوم ليس هو إقطاع رسول الله(صلى الله عليه وآله) بحسب ما وقع في حياته من إقطاعاته، وإنّما المقياس هو عدم الإيجاف بخيل ولا ركاب، وهذا حدّه عبارة عن تلك الحدود التي أشار إليها الإمام سلام الله عليه.
وتمام الكلام في ذلك قد بحثناه في بعض أبحاثنا الفقهيّة.
ومنها: ما رواه في كشف الغمّة(2) نقلاً عن أحمد بن إسماعيل قال: بعث موسى بن جعفر(عليه السلام) إلى الرشيد من الحبس برسالة: «أنّه لن ينقضي عنّي يوم من البلاء إلّا انقضى عنك معه يوم من الرخاء حتّى نُفضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون».
أختم الحديث بالإشارة إلى عِظَم المصيبة التي لاقاها إمامنا موسى الكاظم (سلام الله عليه) في سبيل ترويجه لدين جدّه رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فإنّي لا أعرف بعد وقعة كربلاء وقعةً واقعةً على أئمّتنا المقتولين بمستوى
(1) سورة 59 الحشر، الآية: 6.
(2) كشف الغمّة 3: 8 ـ 9.