318

ويحذر من عقاب وخطر، فملاك التقوى يجب أن يكون مفروغاً عنه في المرتبة السابقة، فالأمر به ـ لا محالة ـ يكون إرشاديّاً، ولا يدلّنا هذا الأمر على موارد تحقّق موضوعه، وإنّما يجب أن يستفاد ذلك من الخارج.

الآية الخامسة: قوله تعالى: ﴿لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم﴾(1) ونحوها من الآيات التي تجعل رادعة عن القول بغير علم، بدعوى أنّ القول بالبراءة قول بغير علم.

أقول: إنّ كلاًّ من الاُصوليّ والأخباريّ إن أراد في المقام دعوى الإباحة الواقعيّة، أو الحرمة الواقعيّة، فكلاهما قد قالا بغير علم، وذلك حرام، ولا نزاع في حرمته. وإن أراد دعوى الحكم الظاهريّ الشرعيّ بالبراءة أو الاحتياط، فلا نزاع أيضاً في أنّ ذلك لابدّ أن يكون مأخوذاً من الشارع، فإن لم يؤخذ منه كان قولاً بغير علم وكان حراماً، وإن اُخذ منه لم يكن كذلك، وكلّ منهما يدّعي أنّ مختاره مأخوذ من الشارع. وإن أراد دعوى البراءة العقليّة أو الاحتياط العقليّ، فهذا لا يشتمل على نسبة أمر إلى الشارع، وإنّما بيّن كلّ منهما ما يدركه عقله العمليّ، ولم يقل ذلك من دون علم، والآيات أجنبيّة عن ذلك.

 

الاحتياط في الأخبار

وأمّا السنّة: فقد استدلّ بعدد كبير من الروايات على وجوب الاحتياط شرعاً، وأنا حتّى الآن لم أرَ فيها حديثاً تامّ السند ينبغي توهّم دلالته على وجوب الاحتياط.

 

ضعف الدلالة في عدد من الأخبار:

وعلى أ يّة حال، فهناك نقاط ثمان بالالتفات إليها يتّضح بسهولة عدم تماميّة



(1) سورة 17 الإسراء، الآية: 36.

319

دلالة جملة كبيرة ممّا استدلّ بها على المقصود:

النقطة الاُولى: أنّ جملة من تلك الروايات ليست فيها رائحة الإلزام أصلاً، إن ثبت كونها واردة في محلّ الكلام موضوعاً ومحمولاً، وذلك من قبيل:

1 ـ المرسلة المرويّة عن الصادق(عليه السلام) قال: «من اتّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه»(1).

فهذا الحديث ـ كما ترى ـ لم يبيّن الكبرى وهي وجوب الاستبراء للدين، ومجرّد معرفة كون اتّقاء الشبهات استبراء للدين لا يثبت وجوب ذلك الاتّقاء.

2 ـ ما في أمالي ابن الشيخ الطوسيّ(قدس سره) بسند ينتهي إلى الإمام الرضا(عليه السلام) يقول: إنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) قال لكميل بن زياد: «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت»(2).

فالاحتياط وإن وقع في هذا الحديث متعلّقاً للأمر إلاّ أنّه بقرينة توكيل مقدار الاحتياط إلى مشيئة المكلّف يفهم أنّ المقصود هو الأمر الاستحبابيّ؛ إذ لا معنى لكون المقدار الواجب موكولاً أمره إلى المكلّف من حيث الزيادة والنقصان، إذن فكأنّ الحديث في مقام بيان أنّ الدين كالأخ أمر مهمّ، فبأيّ مرتبة تحتاط من أجله فهو أمر حسن، كما أنّ الاحتياط من أجل الأخ بأيّ مرتبة بلغ فهو أمر حسن، ولا أقلّ من الإجمال، بمعنى أنّ في الحديث احتمالين: أحدهما ما ذكرناه، والآخر كون تعليق المقدار على المشيئة كنائيّاً لا بمعناه المطابقيّ، وذلك نظير قولك: (هذا أخوك، فإن شئت فاحفظه).



(1) ورد نقلها عن الصادق(عليه السلام) في جامع أحاديث الشيعة، ج 1، ب 8 من المقدّمات، ح 28، ص 331 بحسب الطبعة الجديدة، ولكن ورد الحديث في الوسائل عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وذلك في ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 57، ص 127.

(2) الوسائل، ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 41، ص 123.

320

3 ـ ما عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: «أورع الناس من وقف عند الشبهة»(1).

فهذا الحديث ـ كما ترى ـ لم يبيّن وجوب هذا الورع.

وكذلك كثير من الروايات الواردة بهذه المضامين(2) التي لا تستشمّ منها رائحة الإلزام لو سلّم أنّها واردة فيما هو محلّ الكلام موضوعاً ومحمولاً، مع أنّ هذا غير مسلّم في جملة منها.

النقطة الثانية: أنّ جملة من هذه الروايات واردة في مقام بيان تحكيم الأئمّة(عليهم السلام)في فهم الأحكام، وعدم جواز الاستقلال عنهم، كما هو شأن من لم يكن مؤمناً بأهل البيت(عليهم السلام)، حيث كانوا يعتمدون في الأحكام على آرائهم وأذواقهم ومشتهياتهم، وليس النزاع بين الاُصوليّ والأخباريّ في حاكميّتهم(عليهم السلام)، وإنّما النزاع فيما حكموا به.

ومن هذا القبيل قوله في حديث ابن جابر: «والصحيح أنّ الله لم يكلّفهم اجتهاداً؛ لأنّه نصب لهم أدلّة، وأقام لهم أعلاماً، وأثبت عليهم الحجّة، فمحال أن يضطرّهم إلى ما لا يطيقونه بعد إرساله إليهم الرسل بتفصيل الحلال والحرام»(3).

وهناك عدّة من الروايات يمكن حملها أيضاً على أنّها في مقام بيان هذا المبدأ ـ مبدأ مرجعيّة أهل البيت(عليهم السلام) ـ من قبيل خبر حمزة بن الطيّار(4): أنّه عرض على



(1) الوسائل، ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 24، ص 118، و ح 33، ص 121.

(2) من قبيل ما ورد في الوسائل، ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 20،ص 117 من قول أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا ورع كالوقوف عند الشبهة».

(3) الوسائل، ج 18، ب 6 من صفات القاضي، ح 38، المقطع الثالث من ص 37، السطر الثاني من ذاك المقطع.

(4) الوسائل، ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 3، ص 112.

321

أبي عبد الله(عليه السلام) بعض خطب أبيه حتّى إذا بلغ موضعاً منها قال له: «كف واسكت»، ثمّ قال أبو عبد الله(عليه السلام): «لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلاّ الكفّ عنه والتثبّت والردّ إلى أئمّة الهدى حتّى يحملوكم فيه على الحقّ، ويجلوا عنكم فيه العمى، ويعرّفوكم فيه الحقّ، قال الله: ﴿فَاسْأَ لُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون﴾»(1)، فهذا الحديث يمكن حمله على ذاك المعنى، حيث أمر بالتثبّت، بمعنى أنّه ردع عن الانسياق وراء الطرق الباطلة في مقام استنباط الأحكام التي وضعها غير علماء أهل البيت(عليهم السلام)، وأمر بالرجوع إلى أهل البيت(عليهم السلام)، فهذا أيضاً في مقام بيان حصر المرجعيّة في بيان الحلال والحرام بالأئمّة(عليهم السلام)، وعدم وجود مرجع آخر من اجتهاد، أو تشهٍّ، أو ذوق، أو استحسان، ونحو ذلك من المراجع الباطلة، وهذا خارج عن محلّ الكلام.

النقطة الثالثة: أنّ جملة من الروايات واردة في فرض وجود الإمام(عليه السلام)والتمكّن من مراجعته، فلو فرض أنّها دلّت على نفي البراءة لما أضرّنا ذلك؛ إذ لا يدّعي أحد جريان البراءة مع التمكّن من الفحص وتحصيل العلم، وشرط البراءة هو اليأس من الظفر. ومن هذا القبيل مقبولة عمر بن حنظلة حيث فرض فيها تعارض الروايتين، وذكر المرجّحات حتّى إذا استوى المتعارضان قال: «أرجه حتّى تلقى إمامك»(2)، فإن فرض أنّ قوله: «أرجه» يكون أمراً بالتوقّف والاحتياط في مقام العمل، وإلغاء أصالة البراءة لم يضرّنا ذلك؛ لأنّ ظاهر الغاية وهو قوله: «حتّى تلقى إمامك» أنّ محلّ الكلام هو مورد التمكّن من لقاء الإمام(عليه السلام).

النقطة الرابعة: أنّ بعض تلك الروايات مسوقة مساق وجوب الفحص والأمر



(1) سورة 16 النحل، الآية: 43.

(2) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 1، ص 76.

322

بالتعلّم، وأنّ الجاهل لا يسعه أن يقول: لا أعلم؛ إذ يقال له: لماذا لم تتعلّم(1). وأمّا أنّه لو فحص ولم يجد فماذا يصنع؟ فهذه الروايات ساكتة عن ذلك، فهي غير مربوطة بما نحن فيه.

النقطة الخامسة: أنّ بعض الروايات مسوقة مساق تحريم القول بغير علم، والالتزام بما لا يعلم به من قبيل بعض الآيات المتقدّمة، وهذا أيضاً خارج عن محلّ الكلام؛ لأنّ الكلام ليس في أنّ الاُصوليّ يلتزم بالإباحة الواقعيّة مع أنّه لا يعلم بها، بل هو يلتزم بمقدار ما يعلم، وهو الإباحة الظاهريّة. فمن هذا القبيل خبر زرارة عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: «لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا»(2). وكذلك خبر عليّ بن الحسين(عليه السلام): قال لأبان بن عيّاش: «يا أخا عبد قيس، إن وضح لك أمر فاقبله، وإلاّ فاسكت تسلم، وردّ علمه إلى الله، فإنّك أوسع ممّا بين السماء والأرض»(3).

النقطة السادسة: أنّ بعض الروايات تدلّ على حرمة الجري والحركة بلا علم من قبيل قوله: «مَن هجم على أمر بغير علم جدَع أنف نفسه»(4). وليس معناه من هجم على أمر مشكوك، وإنّما معناه الهجوم بغير علم ـ أي: أن لا يستند هجومه إلى علم وركن وثيق ـ فمن كان كذلك كان كمن جدع أنف نفسه؛ لأنّه عرّض نفسه للخطر والضرر، وهذا تنبيه إلى ما يستقلّ به العقل، ولا نزاع فيه من أنّ الإنسان في



(1) راجع جامع أحاديث الشيعة، ج 1، ب 1 من المقدّمات خاصّة، الحديث 25،ص 94 بحسب الطبعة الجديدة.

(2) الوسائل، ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 11، ص 115.

(3) المصدر السابق، ح 35، ص 122.

(4) اُصول الكافي، ج 1، كتاب العقل والجهل، ح 29، ص 27، أواخر الحديث.

323

حركته يجب أن يستند إلى العلم دائماً، والاُصوليّ في اقتحامه في الشبهات التحريميّة يستند إلى العلم بالإباحة عقلاً أو شرعاً.

النقطة السابعة: أنّ من جملة الروايات ما لم يؤخذ في موضوعه عنوان الشبهة والشكّ في التكليف، من قبيل مطلقات قوله: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»(1)، فإنّ هذا المطلق في نفسه لم يؤخذ في موضوعه أن يكون الريب من ناحية التكليف الشرعيّ، إذن فلابدّ أن يفهم ما بيّن في اللفظ، وعندئذ من المحتمل أن يكون هذا أمراً تعليميّاً مرجعه إلى المخاطرة والمغامرة في شؤون الحياة، فإن كانت مثلاً تجارة الشاي ممّا يريب بخلاف تجارة الحنطة، فلا داعي للتورّط في أمر فيه شكّ وريب، فلعلّه في مقام تأسيس قاعدة من هذا القبيل ولو على نحو الاستحباب، فلا ربط له بمحلّ الكلام.

وبكلمة اُخرى: إنّ هذه القاعدة الواردة في الحديث لم تؤخذ في موضوعها الشبهة الحكميّة التكليفيّة، بل هي قاعدة موضوعها مطلق الشكّ سواء كان في باب الأحكام أو في شؤون الحياة، فتحمل على أنّها قاعدة أخلاقيّة.

بل يمكن أن تذكر نفس النكتة أيضاً في الأوامر التي تعلّقت بعنوان الاحتياط، ولم يؤخذ في موضوعها الشكّ في التكليف، فإنّ الاحتياط وإن كان بحسب المصطلح عبارة عن ترك ما تحتمل حرمته، أو فعل ما يحتمل وجوبه، إلاّ أنّه لا يعلم أنّ مثل هذا الاصطلاح كان مستقرّاً في عصر الأئمّة(عليهم السلام) بحيث إنّ اللفظ انعقد له معنىً ثان وراء معناه اللغويّ الذي يكنّى به عن الاهتمام بالشيء، حيث إنّ وضع الحائط على الأرض اهتمام بالأرض، فالأمر بالاحتياط في الدين هو أمر بالاهتمام في أمر الدين، وهذا لا يكون له اختصاص بموارد الشبهات البدويّة،



(1) الوسائل، ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 38، ص122، وح 55، ص 127.

324

ومن المعلوم أنّ الاهتمام بالدين إنّما يكون بالأخذ بالموازين الموجودة في الدين، فإن فرض أنّ من جملة أحكام الدين هو أصالة البراءة في الشبهات البدويّة، فلا ينافي الاهتمام بالدين أن يترك الإنسان ما يحتمل وجوبه، كما أنّه لا ينافي الاهتمام بالدين أن يترك المستحبّ لأجل الرخصة في تركه.

النقطة الثامنة: أنّ بعض الروايات واردة في موارد خاصّة بحيث لا يمكن التعدّي عنها، فلو فرضت دلالتها على وجوب الاحتياط يقتصر فيها على موردها، وذلك من قبيل ما ورد من أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام)بلغه أنّ عثمان بن حنيف(رحمه الله) واليه على البصرة يدعى إلى وليمة مهمّة فيجيب إليها، فبعث إليه برسالة تزجره عن ذلك، ويقول في هذه الرسالة: «أمّا بعد يا ابن حنيف، فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنّك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ وغنيّهم مدعوّ، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجهه فنل منه...»(1).

فالإمام(عليه السلام) عاتب أوّلاً في هذا الحديث ابن حنيف على استجابته لتلك الوليمة باعتبار أنّه من جملة الصحابة ومن أورعهم وأتقاهم، فكان يترقّب في شأنه الترفّع عن إجابة وليمة يراد بها التملّق للأغنياء واحترامهم بما هم أغنياء، ويقصى عنها الفقراء باعتبار فقرهم ومسكنتهم، وبعد العتاب بيّن له الحكم الشرعيّ بقوله: «فانظر إلى ماتقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجهه فنل منه»، فيجعل هذا الكلام دليلاً على وجوب الاحتياط.

إلاّ أنّ هذه الرواية واردة في مورد خاصّ، ويمكن الالتزام بوجوب الاحتياط في هذا المورد، وتوضيحه: أنّ المخاطب بهذا الخطاب كان وليّاً من ولاة المسلمين



(1) الوسائل، ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 17، ص 116.

325

وممّن اؤتمن على أموال المسلمين ودمائهم من قِبل إمام المسلمين، وهذا الشخص هو في مظنّة أن يعامَل بالحسنى، وتقدّم إليه الأموال باعتبار الإغراء والاستهواء، وقضاء بعض المصالح الشخصيّة، وتقديم جانب الأشخاص على جانب الله ممّا يرجع بالآخرة إلى الرشوة ببعض مراتبها وأنحائها، فحيث إنّ الوالي في معرض هذا الأمر فالإمام(عليه السلام) حرّم عليه تناول الإحسان من شخص ما لم يعلم بطيب وجهه، وليس المراد ـ كما يفهم بمناسبة الحكم والموضوع ـ من العلم بطيب الوجه هو ما يقابل الشكّ في غصبيّة المال؛ إذ ليس مراد الإمام(عليه السلام)إلغاء قاعدة اليد بالنسبة للداعي، بل المراد من طيب الوجه هو طيب وجه نفس الإحسان بأن يكون إحساناً له باعتباره رجلاً متديّناً صحابيّاً، لا باعتباره حاكماً آمراً ناهياً، فإذا حصل الشكّ في هذا المطلب باعتبار الأمارة المذكورة في صدر الرواية من أنّ عائلهم مجفوّ وغنيّهم مدعوّ ـ حيث إنّها قرينة ظنّيّة، أو احتماليّة على كون الإحسان بالاعتبار الثاني ـ وجب الاحتياط إمّا وجوباً صادراً منه(عليه السلام)بملاك الولاية باعتباره إماماً مسؤولاً عن حفظ جهات الرعيّة في عصره ومولّياً لعثمان بن حنيف على البصرة، وعليه فيكون هذا الحكم بالاحتياط خاصّاً بولاته، ولا يعمّ جميع ولاة المسلمين غير المنصوبين من قِبله بما هو إمام. وإمّا وجوباً صادراً منه بما هو مبيّن للشريعة، فيكون حكماً كلّيّاً على كلّ حاكم يلي اُمور المسلمين في كلّ زمان وكلّ مكان، لكن لايقاس على هذا المورد غيره، خصوصاً أنّ الشبهة موضوعيّة، ولا إشكال في عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الموضوعيّة في غير هذا المورد.

ومن هذا القبيل أيضاً رواية اُخرى وردت عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في رسالته إلى مالك الأشتر(1) قال: «ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك...»



(1) المصدر السابق، ح 18.

326

إلى أن يقول: «وأوقَفهم في الشبهات، وآخَذهم بالحجّة...» فاستدلّ على قوله: «وأوقفهم في الشبهات» على وجوب الاحتياط. وهذا أيضاً لا يدلّ على شيء في المقام؛ إذ إنّ القاضي بما هو قاض يجب عليه التثبّت في الشبهة، فكلّما لاح له احتمال المخالفة للواقع واحتمال التلبيس والخداع من قبل المدّعي أو المنكر يجب عليه أن يتثبّت ويصرف قوّة جهده في المقام، فهذا التثبّت يجب على القاضي بما هو قاض، لا باعتبار وجوب الاحتياط مطلقاً في الشبهات، وكثيراً مّا تكون الشبهة موضوعيّة ومع هذا يجب على القاضي التثبّت فيها؛ لأنّ هذا التثبّت واجب باعتبار المنصب لا باعتبار الاحتياط في الشبهات الحكميّة.

على أنّ هذه الرواية ليست فيها دلالة على إيجاب الاحتياط حتّى على القاضي، فإنّه(عليه السلام)أمر مالكاً بأن يختار أوقفهم في الشبهات، وهذا لا يدلّ على أنّه يجب على القاضي أن يكون أوقف الناس في الشبهات.

فهذه نقاط ثمانية في المقام لضعف الاستدلال بأكثر الروايات المذكورة في المقام.

نعم، تبقى عندنا طوائف ثلاث من الروايات لابدّ من ملاحظتها:

الاُولى: ما كان بلسان (الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة).

الثانية: أخبار التثليث.

الثالثة: ما دلّ على الأمر بالاحتياط في موارد الشبهة التكليفيّة مع التطبيق على فروع من الشبهة الحكميّة بعينها.

 

أخبار الوقوف عند الشبهة:

أمّا الطائفة الاُولى ـ وهي ماكانت بلسان (الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكة) ـ: فلنأخذ مثالاً لهذه الطائفة رواية أبي سعيد الزهريّ عن أبي

327

جعفر(عليه السلام) قال: «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، وتركك حديثاً لم تروه خير من روايتك حديثاً لم تحصه»(1).

وقد استدلّ بهذه الطائفة على وجوب الاحتياط بعد تنزيل ألفاظ الرواية على ما هو المأنوس من معانيها في البحث العلميّ الدائر بين الفقهاء الاُصوليّين(قدس سرهم)، ولابدّ من مزيد التدبّر في مفاد مفردات هذا الحديث لكي يتّضح الحال إثباتاً ونفياً، وبعد التدبّر في ذلك يظهر عدم دلالة الحديث على المقصود؛ وذلك لوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ ما في الحديث من عقد المقابلة بين الوقوف والاقتحام، والنهي عن الثاني والأمر بالأوّل ليس معناه هو عقد المقابلة بين الإحجام والإقدام ـ أي: الاجتناب والارتكاب والنهي عن الثاني والأمر بالأوّل ـ بل معناه عقد المقابلة بين التريّث والتمهّل في موارد الشبهة والإقدام بلا أناة فيها، فإنّ الوقوف ليس معناه هوالإحجام والإعراض، والشخص حينما يقف في نصف الطريق فهو لم يعرض وإنّما هو واقف، ومعنى وقوفه تريّثه وتمهّله، فالوقوف يستعمل كناية عن التريّث والتروّي. وأمّا من أعرض فهو يرجع عن طريقه لا أنّه يقف في نفس الطريق، هذا حال الوقوف. وأمّا الاقتحام فهو عرفاً ولغة ـ على ما نصّ عليه علماء اللغة ـ عبارة عن الإقدام بلا تروٍّ ولا تدبّر، وبهذا المعنى يناسب جعله في مقابل الوقوف، وليس مطلق الإقدام اقتحاماً.

إذن فالمقصود من الحديث هو عقد الموازنة بين الوقوف عند الشبهة بمعنى التريّث والتمهّل ودراسة تمام الشؤون المرتبطة بذلك الموقف، والاقتحام بمعنى التسرّع في التهلكة بلا دراسة للموقف على ما هو شأن من لا يهتمّ بالدين



(1) الوسائل، ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 2، ص 112، ونحوه، ح 13 عن أبي شيبة، ص 115.

328

وبالموازين العقلائيّة، فالحديث يأمر بالأوّل وينهى عن الثاني، وهذا أمر متّفق عليه، ولا علاقة لذلك بما نحن فيه.

الوجه الثاني: أنّنا حتّى لو سلّمنا أنّ الوقوف والاقتحام بمعنى الإحجام والإقدام لابدّ من تدقيق النظر في معنى الشبهة، فقد اعتدنا ـ بحسب الاصطلاح الاُصوليّ ـ أن نسمّي الشكّ شبهة، فنقول: شبهة موضوعيّة، وشبهة حكميّة، وما إلى ذلك، لكن يجب في مقام فهم هذا النصّ أن نستقرأ معنى الشبهة في الأحاديث الواردة في مثل هذا المورد، فنرى أنّه ماذا كان يراد بها في ذلك الظرف متجرّدين عن الاصطلاح الاُصوليّ في هذه المسألة.

والشبهة بحسب الأصل في معناها اللغويّ يراد بها المثل والمحاكي والنظير، وإطلاق مشتقّات هذه المادّة على باب الشكّ والاشتباه يكون من باب أنّ المماثلة والمشابهة تؤدّي إلى التحيّر والشكّ، إذن فمن المحتمل قويّاً أن يكون المعنى الأصليّ للشبهة منحصراً في المثل والمشابهة، هذا من الناحية اللغويّة.

وأمّا من ناحية الأخبار، ففي بعض أحاديث أمير المؤمنين(عليه السلام)فسّرت الشبهة، فقال(عليه السلام)في وصيّة لابنه الحسن(عليه السلام): «وإنّما سمّيت الشبهة شبهة لأنّها تشبه الحقّ، فأمّا أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين، ودليلهم سمت الهدى، وأمّا أعداء الله فدعاؤهم فيها الضلال، ودليلهم العمى»(1)، وهذه الرواية تؤيّد ما احتملناه قويّاً من ناحية اللغة من أنّ الشبهة بمعنى المشابهة والمثل، والذي نستشعره من هذه الرواية وأمثالها أنّ الشبهة عبارة عن مطلب يشبه ـ بحسب ظاهره وصورته ـ الحقّ والواقع، إلاّ أنّ هذا الشبه شبه صوريّ وظاهريّ، وليس هو الحقّ بعينه وإن كان كأنّه حقّ بحسب ما يتبادر إلى الذهن باعتبار أنّ بعض مظاهر الحقّ موجودة فيه،



(1) الوسائل، ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 20، أواخر الصفحة 117.

329

فيوجب ذلك الإغراء والتدليس، كما هو الحال في كثير من الدعوات الباطلة التيظاهرها يشبه الحقّ وواقعها انحراف وضلال، كالدعوة الوهّابيّة المعنونة بعنوان الدعوة إلى التوحيد الخالص ورفض الشرك بتمام ألوانه الجليّ منه والخفيّ، وهذا الظاهر هو عين الحقّ، إلاّ أنّ واقع الدعوة ومضمونها منحرف ومفرغ للإسلام من معانيه، أي: سالخ له عن تمام مضمونه الحقيقيّ وإن كان بعنوان التحفّظ على مضمونه الحقيقيّ، وكالدعوة الماسونيّة التي هي بظاهرها معنونة بعنوان الدعوة إلى التآخي بين بني الإنسان وأفراد النوع البشريّ، وأنّ الناس إخوة في العبوديّة للّه، إلاّ أنّ مثل هذه الدعوة ـ بحسب ما يظهر من أمارات ـ لا يراد بها تحقيق هذا الظاهر الصحيح، وإنّما هو مطلب منحرف صيغ بهذه الصياغة الظاهريّة اُريد به إلغاء إطار الأديان وتعويضها بإطار آخر.

وفي بعض الروايات قيل بأنّ الشبهة من الشيطان(1)، وهذا أيضاً يؤيّد المقصود، فإنّ الشبهة التي هي من الشيطان إنّما هي الشبهة بهذا المعنى، لا الشبهة بمعنى الشكّ، نعم قد يكون الشكّ أيضاً بمعنى أعمّ من الشيطان، باعتبار أنّ الشكّ في الحكم الشرعيّ ينشأ بالآخرة من أنّ الغاصبين للخلافة منعوا الأئمّة(عليهم السلام) من التصدّي لبيان الأحكام، وهؤلاء قد أغواهم الشيطان ففعلوا ما فعلوا، إلاّ أنّه لا ينساق من هذا الحديث هذا المطلب، بل المنساق منه ما هو المركوز في الذهن من عمل الشيطان الذي يوسوس ويدلّس، ويظهر الشيء بغير مظهره.



(1) لعلّه إشارة إلى الحديث 49 من الباب 12 من صفات القاضي، ج 18 من الوسائل الصفحة 125: (أنّ هؤلاء القوم سنح لهم شيطان اغترّهم بالشبهة...)، ولعلّه إشارة إلى الحديث الآتي بعد أسطر.

330

ومن هذا القبيل ما روي عن الباقر(عليه السلام) من أنّه قال: «قال جدّي رسول الله(صلى الله عليه وآله): أيّها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة، وحرامي حرام إلى يوم القيامة، ألا وقد بيّنها الله ـ عزّ وجلّ ـ في الكتاب، وبينّتهما لكم في سنّتي وسيرتي، وبينهما شبهات من الشيطان وبدع بعدي، فمن تركها صلح له أمر دينه وصلحت له مروءته وعرضه...»(1)، وقد ساق في هذا الحديث الشبهات والبدع مساقاً واحداً، فهل يكون الشكّ في حرمة شرب التتن شبهة بهذا المعنى وممّا يساق مساق البدع؟!

وتؤيّد هذا المطلب الرواية الاُخرى الواردة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «يا أبا ذر، إنّ المتّقين الذين يتّقون الله من الشيء الذي لا يُتّقى منه خوفاً من الدخول في الشبهة»(2)، فالمراد بالشبهة في هذا الحديث ليس هو مشكوك الحرمة، فإنّ ارتكاب مشكوك الحرمة ليس محذوراً احتماليّاً، وخصوصاً أنّه عبّر بالدخول في الشبهة لا بارتكاب المشتبه، فمعنى الحديث هو أنّ كثيراً من العناوين التي تعرض بحسب الخارج وتوجد عناصر الوضوح في رشدها وعدم بطلانها بالمقدار المجوّز شرعاً للاعتماد عليها، بحيث لا مجال لوجوب الاتّقاء فيها، مع ذلك يتّقون منها باحتمال أنّ واقعه باطل وظاهره مزيّف، حيث إنّ الشبهة أوّل ما تظهر تخفى كما ذكر في لسان العرب في حديث عن حذيفة اليماني أنّه يقول في الفتنة: (تشبّه مقبلة وتبيّن مدبرة)(3).

إذن فمدّعي الاطمئنان على أساس هذه القرائن بأنّ الشبهة ذات مصطلح بهذا



(1) الوسائل، ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 47، ص 124.

(2) جامع أحاديث الشيعة، ج 1، ب 8 من المقدّمات، ح 37، ص 333 نقلاً عن الكافي، وأمالي الطوسيّ.

(3) لسان العرب، مادّة شبه، المجلّد الثاني بحسب الطبعة المقسّمة إلى ثلاثة مجلّدات، ص 266.

331

المعنى في الروايات ليس مجازفاً، وعليه فمن المحتمل قويّاً أن يكون المراد بالشبهة في هذا الحديث هو هذا المعنى، أي: أنّه إذا رأيت شيئاً عليه بظاهره دلائل الرشد وتحتمل كونه مغرياً وملبَّساً فتوقّف عنده، ومعنى وجوب الوقوف عنده هو عدم الاعتماد على هذه الدلائل؛ لأنّها ليست حجّة، ولا تنكره أيضاً من أوّل الأمر؛ إذ لعلّه واقع صحيح، فأنت لا تحجم عنه بأن تقول: هذا باطل جزماً، ولا تعتمد على الشبهة بأن تعتمد على جهة مشابهتها، بل قف عند الشبهة، فإنّ الوقوف والتريّث هنا أولى من اقتحام الهلكة، وهذا مطلب مسلّم صحيح على القاعدة، غير مربوط بما نحن فيه.

الوجه الثالث: أنّه لو سلّمنا أنّ الشبهة في الرواية تكون بمعنى الشكّ المشتمل على احتمال الحلّ واحتمال الحرمة، قلنا: تارةً نفترض أنّ الموازنة المعقودة بين المطلبين في الحديث تكون بلحاظ الاحتمال، واُخرى نفترض أنّها معقودة بلحاظ آثار المحتملين، من قبيل ما لو احتمل المريض كون التفّاح مضرّاً له فقال: (ترك التفّاح خير لي من الابتلاء بالمرض)، فهذه موازنة بلحاظ آثار ذات المحتملين بما هما؛ إذ تترتّب على عدم مضرّيّة التفّاح خسارته لفاكهة غير مضرّة إذا تركه، وعلى مضرّيّته ابتلاؤه بشدّة المرض أو دوامه إذا أكله، فيرى أنّ الأوّل أهون له من الثاني، وفي هذا الحديث قال: «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة»، والأثر في جانب المفضول هنا مترتّب على ذات المحتمل حتماً، فإنّ الوقوف عند الشبهة حزازته هي الحرمان عن شيء قد لا يكون هناك موجب للحرمان عنه. وأمّا الأثر في جانب الآخر وهو الهلكة فإن فرض أثراً للاحتمال باعتبار منجّزيّة الاحتمال وجعل وجوب الاحتياط تمّ مدّعى الأخباريّ، لكنّه لا أقلّ من احتمال أن تكون الموازنة بلحاظ ذوات المحتملين فيجب أن يفرض أنّ ذات المحتمل فيه هلكة، من قبيل أنّ ذات أكل التفّاح على تقدير مضرّيّته فيه

332

هلكة، وعلى هذا الاحتمال يجب أن يحمل الحديث أيضاً على ما حملناه عليه سابقاً، من أنّ هذه الشبهة تكون من قبيل الدعاوى الباطلة المهلكة بنفسها، من باب أنّ الدخول في مطلب من هذا القبيل ـ ولو فرض معذوراً من أوّل الأمر فلا يهلك من ناحية منجّزيّة الاحتمال ـ يؤدّي بالتدريج إلى الانحراف والضلال، والبعد عن طريق الهدى، والمعاندة مع الحقّ، والتعصّب للباطل مع حصول العلم بكونه باطلاً.

هذه نكات ثلاث تكفي واحدة منها لرفع اليد عن دلالة هذه الرواية. إلاّ أنّ الاُصوليّين كأنّهم أخذوا كلّ هذه الجهات مفروغاً عنها، وفهموا من الرواية ما يناسب اُنسهم الذهنيّ بالمصطلحات الاُصوليّة، فلم يعترضوا عليها بمثل هذه الاعتراضات، بل اعترضوا عليها باعتراض آخر.

وحاصل ما أفادوه هو أنّ ظاهر هذه الرواية هو فرض الهلكة في المرتبة السابقة على الأمر بالوقوف عند الشبهة، ولذا علّلت الأمر بالوقوف بأنّ المورد من مظانّ الهلكة، وعليه فيستحيل أن يكون الأمر بالوقوف أمراً مولويّاً منجّزاً للواقع، فإنّ الأمر المولويّ المنجّز للواقع يترتّب عليه الهلكة، لا أنّه يعلّل بالهلكة ويترتّب على ثبوتها في المرتبة السابقة، إذن فيختصّ الأمر بالوقوف بموارد تنجّز الواقع في المرتبة السابقة عليه وبقطع النظر عنه، فلا يشمل الشبهات البدويّة بعد الفحص؛ لأنّه بقطع النظر عن هذا الأمر تكون تلك الشبهات مورداً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

واعترض على هذا الإشكال بأنّ هذا الحديث يدلّ بالمطابقة على ثبوت الهلكة في موارد الشبهة الشاملة بالإطلاق للشبهات البدويّة، كما لو قيل: (لا تأكل الرمّان لأنّه مضرّ)، فإنّه بإطلاقه يدلّ على شمول النهي لجميع أفراد الرمّان، وأنّ علّة النهي ـ وهي الإضرار ـ ثابتة في جميع الأفراد، وكذلك الأمر فيما نحن فيه، فهذا

333

الحديث بإطلاقه يدلّ على أنّ النهي الإرشاديّ شامل لجميع أفراد الشبهة، وأنّ علّته وهي ثبوت الهلكة في المرتبة السابقة ثابتة في تمام الأفراد، وحيث إنّ الهلكة لا تكون في الشبهة البدويّة إلاّ بجعل وجوب الاحتياط، إذن نستكشف من ذلك بالالتزام جعل وجوب الاحتياط شرعاً في المرتبة السابقة، وذلك من باب الكشف الإنّيّ ودلالة المعلول على علّته.

واُجيب على هذا الاعتراض بأنّ إيجاب الاحتياط بوجوده الواقعيّ ليس كافياً في ترتّب الهلكة عليه، وإنّما المصحّح للهلكة والعقاب هو وصول إيجاب الاحتياط إلى المكلّف واطّلاعه عليه. وأمّا إذا وجد وابتلى بنفس ما ابتلي به الحكم الواقعيّ من تعسّر الوصول فحاله حال نفس الحكم الواقعيّ في عدم التنجّز، وعليه فإمّا أن نفرض ـ بقطع النظر عن هذا الحديث ـ وصول إيجاب الاحتياط إلى المكلّف في المرتبة السابقة أو لا، فإن لم يصل إيجاب الاحتياط في المرتبة السابقة فنحن قاطعون بعدم علّة الهلاك، فكيف نستكشف ذلك بالدلالة الالتزاميّة؟ وإن وصل ذلك في المرتبة السابقة فهو المثبت لمدّعى الأخباريّ في المرتبة السابقة على هذا الحديث ولم يبق أثر لهذا الحديث.

واعترض على ذلك بأنّنا نستكشف بالدلالة المطابقيّة للأمر بالوقوف عند الشبهة ـ معلّلاً بأنّه خير من الاقتحام في الهلكة ـ فعليّة الهلكة في حقّ اُولئك الجماعة الذين خاطبهم الإمام(عليه السلام) بهذا الحديث، وبالدلالة الالتزاميّة نستكشف علّة هذه الهلكة، وهي وصول وجوب الاحتياط إليهم، فإذا ثبت وصول وجوب الاحتياط إليهم وجعله في حقّهم ثبت جعله في حقّنا أيضاً؛ لعدم احتمال الفرق بين بعض أفراد المكلّفين وبعض آخر في وجوب الاحتياط في الشبهات البدويّة وعدمه.

وقد اُجيب على هذا الاعتراض أيضاً. وهنا نذكر المحقّق العراقيّ(رحمه الله)فقد أفاد

334

في المقام(1): أنّ هذا تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، فإنّ مقتضى إطلاقالحديث هو فعليّة الهلكة في تمام موارد الشبهة سواء وصل إلى المخاطب وجوب الاحتياط أو لا، وهذا مخصّص بحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بخصوص فرض الوصول، والوصول ثابت في موارد العلم الإجماليّ والشبهة قبل الفحص جزماً. وأمّا في الشبهة البدويّة بعد الفحص فقد شككنا في الوصول، وهذا شكّ في مصداق المخصّص، فلا يمكن التمسّك فيه بالعامّ.

أقول: إنّ هذا الجواب إنّما يتمّ لو بنينا على عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة إطلاقاً كما هو مبنى المحقّق النائينيّ(رحمه الله). وأمّا لو بنينا على ما هو الصحيح من التفصيل في ذلك فلا يتمّ هذا الكلام؛ لأنّ هذا المورد من موارد جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة؛ لأنّ التقريب المشكل عليه بهذا الإشكال إنّما يتمّ في نفسه بناءً على فرض القضيّة خارجيّة لوحظ فيها الأفراد المعيّنون المخاطبون في زمان الإمام(عليه السلام)، وبناءً على هذا الفرض لا يرد هذا الإشكال لجواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة في القضيّة الخارجيّة المخصّصة بمخصّص لبّيّ على تحقيق وتفصيل لا يسعنا ذكره هنا، وقد مضى في بحث العامّ والخاصّ.

وإذا بطل هذا الجواب وصلت النوبة إلى ما كان قبله من الإشكال من فرض القضيّة خارجيّة، والكشف عن وصول الاحتياط إلى المخاطبين من باب كشف المعلول عن علّته، وعندئذ نقول في مقام إبطال هذا الكلام: إنّ ظاهر القضيّة كونها



(1) لم أرَ أحداً ذكر هذا الكلام في فحصي الناقص، والمحقّق العراقيّ(رحمه الله) ذكر في مقالاته ـ ج 2، الصفحة 65 ـ تقييد هذه الروايات بروايات البراءة، لا لزوم التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

335

حقيقيّة وموضوعها طبيعيّ المكلّف، كما هو الحال في سائر الخطابات التي تصدر من الإمام(عليه السلام)، وكون القضيّة خارجيّة وخطاباً مخصوصاً بأشخاص معيّنين فيه مؤونة زائدة تحتاج إلى القرينة(1).

والتحقيق: أنّ ما أوردوه من الإشكال على الاستدلال بهذه الأحاديث للاحتياط، من أنّ الأمر بالوقوف عند الشبهة قد فرضت في المرتبة السابقة عليه الهلكة، فلابدّ من فرض منجّز في المرتبة السابقة، كما في موارد العلم الإجماليّ والشبهة قبل الفحص، غير صحيح لا مبنىً ولا بناءً:

أمّا أنّه غير صحيح مبنىً، فلأنّنا لا نقول بقاعدة قبح العقاب بلا بيان وهذا الإشكال مبنيّ على هذه القاعدة، فلو قلنا بدلاً عنها بقاعدة منجّزيّة الاحتمال، فالرواية تكون في مقام تأكيد منجّزيّة الاحتمال، وهذا التأكيد ظاهر عرفاً في أنّه في مقام بيان عدم وجود حاكم على تلك المنجّزيّة، أي: عدم جعل أصل البراءة.

وأمّا أنّه غير صحيح بناءً، فلأنّنا لو سلّمنا قاعدة قبح العقاب بلا بيان كان بالإمكان ـ مع هذا ـ أن نستفيد من هذه الرواية وجوب الاحتياط؛ لأنّ مثل هذا الكلام ـ بقطع النظر عن الشبهة الفنّيّة، وسوف نحلّها إن شاء الله تعالى ـ بيان عرفيّ مألوف في مقام ذكر الحكم الإلزاميّ، أعني: بيان الحكم الإلزاميّ بلسان بيان ترتّب العقاب على الفعل أو الترك، ومثل هذا اللسان رائج في مقام بيان الأحكام



(1) وبالإمكان أن يقال: إن كان المقصود فرض القضيّة حقيقيّة وغير مخصوصة بأشخاص معيّنين وقد اُخذ في موضوعها قيد الوصول، ورد عليه إشكال لزوم التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة. وإن كان المقصود فرضها خارجيّة، وكون الخطاب مخصوصاً باُناس أحرز المولى الوصول بالنسبة لهم، ورد عليه أنّ حمل الكلام على القضيّة الخارجيّة خلاف الظاهر.

336

الواقعيّة، فمن راجع كتاب ثواب الأعمال وكتاب عقاب الأعمال للصدوق(رحمه الله)رأى أنّه كثيراً مّا يبيّن الحكم الواقعيّ بالحرمة بلسان بيان ترتّب العقاب على الفعل، ولا يعتبر ذلك بياناً مستهجناً، وأيُّ فرق بين بيان الحرمة الواقعيّة للفعل بلسان أنّ هذا الفعل مورد للعقاب، وبيان الحرمة الظاهريّة لاقتحام الشبهة بلسان أنّ اقتحام الشبهة مورد للهلكة؟

نعم، تبقى هنا الشبهة الفنّيّة، وهي أنّ العقاب فرع وصول التكليف، فلو كان وصول التكليف بهذا البيان لزم الدور(1)، وهذه الشبهة كما تجري في باب إيصال الحكم الظاهريّ بوجوب الاحتياط بلسان ترتّب العقاب، كذلك تجري في موارد إيصال الحكم الواقعيّ بالحرمة أو الوجوب بلسان ترتّب العقاب.

والجواب عن هذه الشبهة هو: أنّه تارةً نحمل هذا الحديث على أنّه قضيّة خارجيّة، واُخرى نحمله على أنّه قضيّة حقيقيّة كما هو الظاهر، وعلى كلا التقديرين تكون الشبهة محلولة.

أمّا بناءً على فرضه قضيّة خارجيّة يكون المنظور فيها الأشخاص الحاضرون في ذلك الزمان، فلأنّ وجوب الاحتياط واقعاً يستلزم كون الكثرة الكاثرة من المعاصرين للإمام(عليه السلام) إذا تركوا الاحتياط واقعين في الهلكة والعقاب؛ إذ هم بين من وصله وجوب الاحتياط وبين من لم يصله ذلك من باب الشبهة قبل الفحص، والشبهة قبل الفحص منجّزة. أمّا من لم يصله ذلك حتّى بعد الفحص، فهو في ذاك العصر نادر، وهلاك هذه الكثرة الكاثرة في ترك الاحتياط نتيحة لوجوب الاحتياط واقعاً؛ إذ لو لم يكن واجباً واقعاً لم يكن هلاك وعقاب على التارك منهم



(1) بعد فرض حمل الكلام على معناه الحقيقيّ، لا على معنىً مجازيّ، وهو التحريم دون الإخبار الحقيقيّ عن العقاب.

337

بعد الفحص والظفر بالبراءة وعدم الاحتياط، فوجوب الاحتياط واقعاً يستلزم هلاك الكثرة الكاثرة في ترك الاحتياط، فالإمام(عليه السلام) أراد أن يبيّن وجوب الاحتياط لغير هذه الكثرة الكاثرة بلسان بيان لازمه من ترتّب العقاب؛ لأنّ هذا أبلغ في مقام بيان الزجر والتخويف، وبيان للتكليف متضمّن ـ في نفس الوقت ـ للوعظ. وعين هذا الجواب يأتي في باب بيان الحكم الواقعيّ، حيث الكثرة الكاثرة في ذاك الوقت أمّا أنّهم مطّلعون على ذلك الحكم، أو أنّ شبهتهم تكون من باب الشبهة قبل الفحص، فذلك الحكم يستلزم عقابهم على فرض الترك، ولولا ذلك الحكم لما ترتّب العقاب عليهم في الترك؛ إذ الفاحص يظفر بعدم الحكم، فيبيّن الإمام(عليه السلام) الحكم لغير الكثرة الكاثرة بلسان بيان لازمه من العقاب.

وأمّا بناءً على فرضه قضيّة حقيقيّة فأيضاً لا تأتي هذه الشبهة، ولا يفرّق أيضاً في ذلك بين بيان الحكم الظاهريّ كما هو الحال فيما نحن فيه وبيان الحكم الواقعيّ، وتوضيح ذلك:

إنّ القضيّة الحقيقيّة المبيّنة بلسان ترتّب العقاب حينما تستعمل يكون فيها قيد مستتر ـ بمناسبات الحكم والموضوع في الارتكاز العرفيّ ـ لو أردنا أن نبرزه لكان هكذا: من شرب الخمر مثلاً ـ بعد أن وصله واقع حكم الخمر ـ دخل النار، أو من اقتحم الشبهة ـ بعد أن وصله حكم الشبهة ـ عوقب، فنستكشف من هذه القضيّة الشرطيّة أنّ واقع حكم الخمر، أو حكم الشبهة هو الاجتناب، وإلاّ لكذبت هذه القضيّة الشرطيّة.

ومقصودنا ممّا شرحناه ليست هي البرهنة على أنّ بيان الحكم بلسان بيان العقاب بيان عرفيّ وصحيح، بل هذا ثابت بالفهم العرفيّ لنا، ولا نشكّ فيه، وبعد أن ثبتت عرفيّة البيان أردنا رفع الشبهة بالتقريب الفنّيّ، وذلك يكون بما عرفته من أحد التقريبين، وعرفيّة بيان الحكم بلسان بيان ترتّب العقاب كاشفة عن صحّة أحد هذين التقريبين.

338

هذا. ولا بأس بأن نتكلّم حول هذه الشبهة في ثلاثة فروض وإن لم نكن بحاجة إلى ذلك فيما نحن فيه:

الفرض الأوّل: أن تكون القضيّة خارجيّة، ويكون الأفراد غير واصل إليهم الحكم ولا مقصّرين من ناحية الفحص، وذلك كما لو فرض أنّ تلك القضيّة صادرة من رسول الله(صلى الله عليه وآله) لأوّل مرّة، وفي هذا الفرض نلتزم بما مضى من الشرط المستتر، وترجع القضيّة من ناحية الشرط إلى القضيّة الحقيقيّة.

الفرض الثاني: أن يوجّه المولى الحكم لأوّل مرّة بنحو القضيّة الخارجيّة إلى شخص معيّن بلسان: إن فعلت كذا لعاقبتك، فإنّ هذا بيان عرفيّ صحيح مع أنّه لا يقدّر عرفاً هنا شرط الوصول، وحلّ المطلب أنّ تحقّق الشرط وهو الوصول محرز هنا بنفس هذا الكلام، ولهذا استغني عنه.

الفرض الثالث: أن يوجّه الكلام بنحو القضيّة الخارجيّة مع وجود الشكّ قبل الفحص المفروض تنجّزه إلى خصوص غير الفاحصين، وعندئذ إن فرض ذلك الكلام مبيّناً للحكم الواقعيّ بلسان ترتّب العقاب فلا إشكال فيه؛ لأنّ وجود الحكم واقعاً مستلزم لثبوت العقاب على هؤلاء، ولولا وجوده واقعاً لم يكن عقاب عليه على هؤلاء، وإن كان عقاب التجرّي ثابتاً فله أن يبيّن الحكم بلسان بيان لازمه. وأمّا إن فرض ذلك الكلام مبيّناً للحكم الظاهريّ بلسان ترتّب العقاب فهنايتركّز الإشكال، ولا يصحّ عنه الجواب؛ إذ إنّ بيان العقاب هنا لا يدلّ على وجوب الاحتياط؛ إذ العقاب على الواقع ـ على تقدير ثبوت الواقع ـ ثابت سواء وجب الاحتياط أو لا؛ لأنّ التارك للفحص عن وجوب الاحتياط يكون الواقع منجّزاً عليه حتّى مع عدم وجوب الاحتياط واقعاً، فقوله: (أيّها التاركون للاحتياط قبل الفحص عن وجوب الاحتياط وعدمه، أنتم تقعون في عقاب الواقع) لا يدلّ على وجوب الاحتياط.

339

 

أخبار التثليث:

وأمّا الطائفة الثانية ـ وهي أخبار التثليث ـ: فالذي عثرنا عليه ثلاث روايات، أو أربع:

الرواية الاُولى: رواية الفقيه عن جميل بن صالح، عن أبي عبد الله(عليه السلام)، عن آبائه(عليهم السلام)قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله):..... ـ وهو كلام طويل يقول في آخره ـ: «الاُمور ثلاثة: أمر بيّن لك رشده فاتّبعه، وأمر بيّن لك (وفي نسخة اُخرى: تبيّن لك) غيّه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فردّه إلى الله»(1). وسند الرواية غير تامّ، وعلى تقدير تماميّته لا تفيد المقصود، لعدم تماميّة الدلالة؛ وذلك لوجوه:

الأوّل: أنّ من المحتمل ـ إن لم يكن هو الظاهر ـ أن تكون الرواية في مقام بيان إمضاء العقل العمليّ في مستقلاّته، وبيان مبدأ حاكميّة الله في غير المستقلاّت العقليّة، فإنّ الأقسام المذكورة في الرواية ليست هي بيّن الحرمة وبيّن الحلّيّة والمشتبه، بل هي بيّن الرشد، وبيّن الغيّ، والمختلف فيه، وعنوان الرشد والغيّ أنسب بباب الحسن والقبح والهداية والضلال منه بباب الحلّ والحرمة بوجودهما الواقعيّ، ولا أقلّ من احتمال ذلك بنحو كاف في إجمال الرواية، فلعلّ المقصود منها أنّه ما استقلّ عقلك برشده وحسنه، كالعدل والأمانة مثلاً فاتّبعه، وما استقلّ عقلك بغيّه وقبحه، كالظلم والخيانة مثلاً فاجتنبه، و ما اختلف فيه، أي: لم يكن من



(1) الوسائل، ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 23، ص 118، وللصدوق حديث مرسل عن أمير المؤمنين(عليه السلام)فيه: «حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات»، وهو ح 22 من نفس الباب ونفس الصفحة، وح 61 من نفس الباب، ص 121. وراجع أيضاً ح 47 من نفس الباب، ص 124، فإنّه أيضاً من أخبار التثليث وقد مضى جزء منه.

340

مسلّمات العقل العمليّ ولم تدرك حسنه أو قبحه إدراكاً جزميّاً، فردّه إلى الله، بمعنى تحكيم الله فيه في قبال الاعتماد على الذوق والاستحسان والظنون والتخمينات.

الثاني: أنّنا لو سلّمنا أنّ المراد بالرشد والغيّ هو الرشد والغيّ الشرعيّان بمعنى الحكم الشرعيّ، لا بمعنى الحسن والقبح العقليّين، فأيضاً لا تدلّ الرواية على المقصود؛ إذ من المحتمل كونها بصدد بيان حجّيّة الإجماع وعدم جواز التقليد في المسائل الخلافيّة. وتوضيح ذلك: أنّه في بادئ الأمر يُرى أنّ ما في الحديث من التقسيم إلى بيّن الرشد، وبيّن الغيّ، والمختلف فيه غلط؛ إذ لا تقابل بين المختلف فيه وبيّن الرشد والغيّ، فربّ شيء يكون مختلفاً فيه لكنّه بيّن لي رشده من قبيل إمامة أمير المؤمنين(عليه السلام)، أو بيّن لي غيّه من قبيل خلافة الغاصبين، وبما أنّ التقسيم ظاهر في التقابل فلابدّ من إعمال إحدى مؤونتين لتصحيح هذا التقسيم:

الاُولى: حمل الاختلاف على الطريقيّة إلى الشكّ، فكنّى عن الأمر المشكوك بأمر اختلف فيه، من باب أنّ خلافيّة المسألة تصير غالباً منشأً للشكّ.

والثانية: حمل بيّن الرشد وبيّن الغيّ بقرينة جعلهما في مقابل الاختلاف على أمر متّفق على رشده وأمر متّفق على غيّه، فكنّى عن الاتّفاق بالوضوح باعتبار أنّ الاتّفاق يصير منشأً للوضوح، والاستدلال الأخباريّ إنّما يكون له مجال بناءً على الأوّل. وأمّا على الثاني فيصير معنى الحديث أنّه ما حصل الاتّفاق على رشده أو غيّه فاعمل فيه بالإجماع، وما كان مختلفاً فيه فلا تقلّد فيه أحد الطرفين، بل ردّه إلى الله، واستنبط حكمه من الكتاب والسنّة، وهذا أجنبيّ عمّا نحن فيه، ودوران الأمر بين المؤونتين، وعدم ثبوت ظهور في المعنى الأوّل كاف في سقوط الرواية عن درجة الاستدلال بها.

الثالث: أنّنا لو سلّمنا تعيّن المؤونة الاُولى وحمل المختلف فيه على المشكوك،

341

قلنا: إنّه لم يعبّر في الحديث ببيّن الحلّ والحرمة ومشكوكهما، وإنّما عبّر ببيّن الرشد والغيّ ومشكوكهما، ومن المعلوم أنّ دليل البراءة حاكم على مثل هذا الكلام؛ إذ قيام الدليل الشرعيّ على البراءة في الشبهة البدويّة كاف في صدق الرشاد، فإنّ سلوك طريق رخّص فيه الشارع رشاد بلا إشكال وليس فيه ضلال، نعم لا يصير المورد بذلك بيّن الحلّ، وفرق بين بيّن الحلّ وبيّن الرشد.

الرواية الثانية: ما رواه نعمان بن بشير الذي هو أحد الصحابة المنحرفين عن الحقّ عن النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وهذه الرواية مرويّة بصورتين، ولهذا قلنا منذ البدء: إنّ ما عثرنا عليه من الروايات ثلاث أو أربع.

الصورة الاُولى: أنّه قال هذا الصحابيّ: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: «حلال بيّن، وحرام بيّن، وبينهما شبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإنّ لكلّ ملك حمى، وإنّ حمى الله محارمه»(1).

الصورة الثانية: عن النعمان بن بشير، حيث صعد على المنبر في الكوفة، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: «إنّ لكلّ ملك حمى، وإنّ حمى الله حلاله وحرامه والمشتبهات بين ذلك، كما لو أنّ راعياً رعى إلى جانب الحمى لم تثبت غنمه أن تقع في وسطه، فدعوا المشتبهات»(2).

وعلى أيّة حال، فهذه الرواية عاميّة بحسب أصلها؛ لأنّ النعمان بن بشير هو من



(1) مستدرك الوسائل، ج 3، ب 12 من صفات القاضي، ح 7، ص 190، مرسلة عوالي اللآلي عن النعمان بن بشير.

(2) الوسائل، ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 40، ص 122، وجامع أحاديث الشيعة، ج 1، ب 8 من المقدّمات، ح 43، ص 334 وفق الطبعة الحديثة.

342

رجالات أحاديث السنّة، وهذه الرواية عندنا منقولة إمّا مرسلة، كما في عوالي اللآلي، فإنّه يرسلها عنه، ولابدّ أن يكون قد أخذها من كتب العامّة، وإمّا بنحو منقطع(1)، فالأصل في هذه الرواية هو كتب العامّة، وقد وقع في هذه الرواية اختلاف عمّا هي عليه في كتب العامّة، فإنّي راجعت كتاب البخاريّ فرأيت هذه الرواية فيه بسند متّصل عن النعمان بن بشير هكذا: سمعته يقول: «الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما شبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتّقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإنّ لكلّ ملك حمى، ألا إنّ حمى الله ـ تعالى ـ محارمه، ألا وإنّ في الجسد مضغة، فإذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب».

وكذلك ينقله البخاريّ أيضاً بسند آخر عنه، يقول: «الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما اُمور مشتبهة، فمن ترك ما شبّه عليه من الإثم (أو ما اشتبه عليه من الإثم) كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشكّ فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله، من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه».

نعم، في مسند أحمد بن حنبل وجدت الرواية بنحو التنكير: «حلال بيّن، وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك، من ترك الشبهات فهو للحرام أترك، ومحارم الله حمى، فمن وقع حول الحمى كان قميناً أن يرتع فيه».



(1) كأنّه إشارة إلى سند المتن الثاني، وهو الحسن بن محمّد الطوسيّ، عن أبيه، قال: أخبرنا أبو الحسن (عليّ بن أحمد الحماميّ)، قال: أخبرنا أبو سهل أحمد بن محمّد بن عبد الله بن زياد القطان، قال: حدّثنا إسماعيل بن محمّد بن أبي كثير القاضي أبو يعقوب القسويّ، قال: أخبرنا عليّ بن إبراهيم، قال: أخبرنا السريّ بن عامر، قال: صعد النعمان بن بشير على المنبر بالكوفة فحمد الله وأثنى عليه....