699

الارتباطيّة إنّما تجري في أجزائها البراءة الشرعيّة، ولا تجري البراءة العقليّة.

الوجه الرابع: أنّ الانسداديّ نفسه سوف يثبت في مقدّمة اُخرى عدم وجوب الاحتياط التامّ؛ لعسر أو حرج أو نحو ذلك، وهذا يكون مانعاً عن تنجيز العلم الإجماليّ. وهذا الوجه قد أفاده المحقّق الخراسانيّ(1)، والمحقّق العراقيّ(2) ـ قدّس الله سرّهما ـ مع تفاوت بينهما في التقريب.

فالمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) يرى أنّ الترخيص في بعض أطراف العلم الإجماليّ في المقام بمثل قاعدة نفي العسر والحرج يوجب سقوط العلم الإجماليّ عن التنجيز؛ وذلك لما أثبته في باب الاضطرار إلى مخالفة بعض أطراف العلم الإجماليّ: من أنّ الاضطرار إلى المخالفة سواء كان اضطراراً إلى طرف معيّن، أو اضطراراً إلى طرف غير معيّن يسقط العلم الإجماليّ عن التنجيز؛ إذ لا يصبح علماً بتكليف فعليّ؛ لأنّ التكليف على تقدير كونه في الطرف المضطرّ إليه، أو في الطرف الذي سيختاره يكون منفيّاً بنفي الاضطرار، وبهذا ينتفي العلم الإجماليّ بالتكليف الفعليّ.

وأمّا المحقّق العراقيّ(رحمه الله) فهو يرى في باب الاضطرار أنّ الاضطرار إلى طرف غير معيّن لا يسقط العلم الإجماليّ عن التنجيز، وإنّما الذي يسقط العلم الإجماليّ عن التنجيز هو الاضطرار إلى طرف معيّن، ولهذا حاول في المقام أن يثبت أنّه من قبيل الاضطرار إلى طرف معيّن، كي يتمّ بذلك إسقاط العلم الإجماليّ عن التنجيز. وقرّب ذلك بأنّ المفروض لدى الانسداديّ أنّ المتعيّن للترخيص بسبب نفي العسر والحرج إنّما هو غير الجانب المظنون، أي: الجانب الأبعد من الواقع، باعتبار أنّ


(1) راجع الكفاية، ج 2، ص 116 و120 بحسب الطبعة التي عليها تعليقة المشكينيّ.

(2) راجع المقالات، ج 2، ص 44.

700

العقل إذا رأى عدم تساوي الأطراف، وعدم كون نسبة العلم إلى تمام الأطراف على حدّ سواء، أوجب على الإنسان تطبيق مخالفته المرخّص فيها على أبعد الأفراد وأهون المحاذير، فإذا ثبت الترخيص في طرف معيّن من أطراف العلم الإجماليّ بنفي العسر والحرج سقط العلم الإجماليّ عن التنجيز(1).

أقول: إنّ ما أفاده المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في المقام يرد عليه:

أوّلاً: أنّ حكم العقل بتطبيق المخالفة المرخّص فيها على أبعد الأفراد إنّما هو في طول تنجيز التكليف، فبعد أن فرض تنجيز التكليف ولزوم التحفّظ عليه، وصلت النوبة إلى القول بأنّنا وإن كنّا مرخّصين في المخالفة الاحتماليّة لكنّنا نتحفّظ على الجانب المظنون؛ لكون ذلك أقرب إلى التحفّظ على التكليف المعلوم. وبكلمة اُخرى: إنّ الاضطرار هنا بذاته ليس اضطراراً إلى فرد معيّن كي يفترض إسقاطه للعلم الإجماليّ عن التنجيز، بل كان بذاته اضطراراً إلى فرد غير معيّن، وتعيين الترخيص في جانب غير المظنون إنّما هو قائم على أساس حكم العقل الذي هو في طول تنجيز التكليف، فلابدّ من فرض ثبوت التنجيز حتّى يتعيّن الترخيص في


(1) أمّا احتمال أن يكون الترخيص في جانب غير المظنون مشروطاً بعدم مخالفة المظنون (فلا يلزم من ذلك انحلال العلم الإجماليّ)، فهذا ما جاءت الإشارة إليه أيضاً في كلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، ولكنّه استبعده على مباني الانسداديّ حيث ذكر: إنّ الانسداديّ يرى مرجعيّة الظنّ على الإطلاق والرخصة في مخالفة غيره على الإطلاق. أمّا فرض وجوب اتّباع الظنّ على الإطلاق ووجوب المشكوكات والموهومات مترتّباً على مخالفة المظنونات، فذكر: أنّ هذا لا أظنّ التزامه من قِبَل أرباب الانسداد.

وأمّا تقييم هذا الاحتمال فهو ما سيتّضح في المتن قريباً إن شاء الله، حيث بحث اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) نظيره في فرض تخييريّة الترخيص، حيث أبدى احتمال كون كلّ من الترخيصين مشروطاً بعدم مخالفة الطرف الآخر.

701

فرد معيّن، ومثل ذلك لا يعقل مانعيّته عن التنجيز، فإنّ هذا خلف ومناقضة(1).

وثانياً: أنّه بعد فرض سقوط العلم الإجماليّ الكبير عن التنجيز لثبوت الترخيص بنفي العسر والحرج في غير المظنونات نقول: إنّ في أحشاء هذا العلم الكبير علماً آخر أصغر منه، وهو العلم الإجماليّ في خصوص دائرة المظنونات، وقد أغفله الأصحاب في المقام، فكأنّهم تخيّلوا أنّه إذا كان المفروض عدم تأثير هذا العلم الصغير في انحلال العلم الكبير أصبح وجوده كعدمه إطلاقاً، وليس الأمر كذلك، فنحن نفترض أنّ هذا العلم الصغير لا يحلّ العلم الكبير، أي: نغضّ النظر عن الوجه الأوّل من وجوه الانحلال، ونفرض أنّ المقدار المعلوم بالإجمال في دائرة المظنونات أقلّ من المعلوم بالإجمال في العلم الكبير، ومع ذلك نقول في المقام: إنّ العلم الكبير وإن فرض سقوطه بطروّ الاضطرار في جانب المشكوكات والموهومات، لكن طروّ الاضطرار والترخيص في جانب المشكوكات والموهومات لا يسقط العلم الإجماليّ بالإلزام في دائرة المظنونات كما هو واضح.

وهذا العلم الصغير وهو العلم بالتكليف في دائرة المظنونات كما أبطل كلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في المقام كذلك يبطل كلام المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) هنا، فنحن نجاري المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) هنا في مبناه: من أنّ الاضطرار سواء كان إلى طرف معيّن أو إلى طرف غير معيّن سيسقط العلم الإجماليّ، لكنّنا نقول في المقام: لئن سقط العلم الكبير بسبب قاعدة نفي العسر والحرج ـ مثلاً ـ لم يسقط العلم الصغير، وهو العلم بتكاليف إلزاميّة في دائرة المظنونات؛ وذلك لوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ الاضطرار في المقام اضطرار إلى طرف معيّن وهو الموهومات، أو هي مع المشكوكات، لا لما مضى من المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، بل لما


(1) ولك أن تقول: إنّ تعيّن الترخيص في الموهومات أو المشكوكات لم يكن إلّا ظاهريّاً ولا ينافي التكليف الواقعيّ المعلوم بالإجمال.

702

يظهر بالتتبّع في موارد احتمال الحرمة، فإنّه بحسب الغالب يكون ما نحتمل حرمته بنحو الظنّ غير داخل في احتياجاتنا الحياتيّة التي نصابحها ونماسيها، وإنّما الاُمور التي تكون داخلة في احتياجاتنا الحياتيّة ونصابحها ونماسيها ونحتمل حرمتها تكون حرمتها موهومة أو مشكوكة، فنحن مضطرّون إلى مخالفة العلم الإجماليّ في خصوص الموهومات أو هي مع المشكوكات، وهذا لا أثر له على العلم الإجماليّ بالتكليف في دائرة المظنونات.

الوجه الثاني: أنّنا لو تنزّلنا وفرضنا كون نسبة الاضطرار إلى المظنونات والمشكوكات والموهومات على حدّ سواء قلنا: إنّ الترخيص في بعض هذه الأطراف غير المعيّن لئن كان منافياً للتكليف الثابت بالعلم الإجماليّ الكبير، وفرض بوجه من الوجوه تقديم دليل هذا الترخيص على دليل ذاك التكليف، فهو غير مناف للتكليف المعلوم بالعلم الصغير في دائرة المظنونات؛ وذلك لأنّ دليل هذا الترخيص لم يكن لسانه لسان الترخيص بنحو التخيير حتّى ينافي التكليف المعلوم في المظنونات وتصل النوبة إلى تقديمه عليه، بل كان لسانه لسان الترخيص الجامع بين الترخيص التعيينيّ والترخيص التخييريّ، وإنّما كنّا نقول بالتخيير لأجل عدم الترجيح بلا مرجّح، وإذا كان الأمر كذلك فمقتضى الجمع بين دليل التكليف في المظنونات ودليل الترخيص الجامع بين التعيينيّ والتخييريّ هو صرف دليل الترخيص إلى الترخيص التعيينيّ في جانب المشكوكات والموهومات، فيبقى العلم الإجماليّ في دائرة المظنونات على حاله.

ويرد أيضاً على المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): أنّنا لئن فرضنا انحلال العلم الإجماليّ في المقام بقي لنا الاطمئنان الإجماليّ. وتوضيح ذلك: أنّنا لو فرضنا أنّ أطراف الشبهة عبارة عن ألف مورد نعلم في ضمنها بمئة تكليف إلزاميّ مثلاً، وقد أوجب الاضطرار الترخيص في مئتين من الأطراف رفعاً للعسر والحرج، فهذا لا يوجب

703

أكثر من ارتفاع التكليف الإلزاميّ فيما سيدفع المكلّف به اضطراره من مئتي موردإن كان يصادف في علم الله وجود التكليف الإلزاميّ في ذلك، ويبقى ثمانمئة مورد لا نعلم علماً يقيناً بوجود تكليف إلزاميّ فيها، ولكنّنا نطمئنّ بوجود تكليف مّا إلزاميّ في غير الموارد التي سوف يدفع المكلّف اضطراره بها؛ إذ احتمال عدم وجود التكليف في كلّ ثمانمئة نختارها من الألف بعيد غاية البعد، والاطمئنان حاله حال العلم في جعل التكليف فعليّاً وبالتالي منجّزاً، مع فارق بينهما، وهو: أنّ حجّيّة الاطمئنان(1) لم تكن عقليّة كالعلم، وإنّما هي شرعيّة وليست بنحو العلّيّة التامّة، ومن الممكن أن يجعل الشارع حجّيّته بقدر ما تتنجّز حرمة المخالفة القطعيّة دون حرمة المخالفة الاحتماليّة. وعندئذ نقول: إنّ كلّ ثمانمئة من هذه الألف التي اخترنا تطبيق رفع الاضطرار على غيرها نطمئنّ بوجود تكليف فيها، وهذا الاطمئنان وإن سقط عن المنجّزيّة بالنسبة لحرمة المخالفة الاحتماليّة لغرض جواز تطبيق رفع الاضطرار على بعض هذه الثمانمئة، لكن الحجّيّة الثابتة بالارتكاز العقلائيّ للاطمئنان تساعد على بقاء حجّيّته بالنسبة للمخالفة القطعيّة بعد سقوطه عن الحجّيّة بالنسبة للمخالفة الاحتماليّة، فيصير التكليف منجّزاً بهذا المقدار(2).


(1) أبدى اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) ـ في الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة من دروس في علم الاُصول، ص 206 ـ احتمال القول بأنّ السيرة العقلائيّة الدالّة على حجّيّة الاطمئنان لا تشمل الاطمئنان الإجماليّ المتكوّن نتيجة جمع احتمالات أطرافه.

(2) كأنّ المقصود أنّ الترخيص الثابت في تطبيق رفع الاضطرار على بعض هذه الثمانمئة ليس بأكثر من نفي منجّزيّة الاطمئنان لوجوب الموافقة القطعيّة، ولا دليل على انتفاء الفعليّة (بعد أن لم يكن نفي التنجيز مساوقاً لنفي الفعليّة لعدم كون الاطمئنان بالحكم الفعليّ علّة تامّة للتنجيز)، فإذا تمّت الفعليّة وساعد الارتكاز العقلائيّ على حجّيّة الاطمئنان بمعنى حرمة المخالفة القطعيّة بعد فرض جواز المخالفة الاحتماليّة تعيّن التفكيك بين هاتين المرتبتين من التنجيز.

704

وإن لم نقبل مساعدة الارتكاز العقلائيّ على التفكيك قلنا: إنّنا نلاحظ الاطمئنان بوجود التكليف في عنوان غير ما ندفع به الاضطرار لا في ثمانمئة معيّنة بالخصوص، وعندئذ لا دليل على الترخيص في مخالفة هذا الاطمئنان ولو احتمالاً.

وإن لم نكتف بهذا المقدار وقلنا: إنّه لمّـا كان كلّ فرد من أطراف العلم الإجماليّ ثبت الترخيص في مخالفته بجواز تطبيق رفع الاضطرار عليه قطعنا بعدم فعليّة التكليف فيه؛ للتنافي بين الفعليّة والترخيص، قلنا في المقام: إنّ الشبهات المرتكبة تدريجيّة الحصول في حياة الإنسان، فمهما أصبح الاضطرار مرتفعاً عاد التكليف الفعليّ على حاله في عالم الاطمئنان.

هذه هي التي تقتضيها اُصول المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) في المقام، لا ما أفاده: من سقوط تلك الأحكام عن التنجّز رأساً.

هذا كلّه بعد مجاراة المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) فيما بنى عليه في باب الاضطرار إلى غير المعيّن: من كونه مسقطاً لمنجّزيّة العلم الإجماليّ رأساً.

والآن نريد أن نناقش هذا المبنى فنقول: إنّ حكومة دليل نفي العسر والحرج (عند ما يوجب الاحتياط بالامتثال القطعيّ في أطراف العلم الإجماليّ العسرَ، فنضطرّ إلى ارتكاب بعض الأطراف لا بعينه) إمّا أن تفترض حكومة على الحكم الواقعيّ المعلوم بالإجمال، فتكون الحكومة حكومة واقعيّة والرفع رفعاً واقعيّاً، أو تفترض حكومة على وجوب الاحتياط، فتكون الحكومة حكومة ظاهريّة والرفع رفعاً ظاهريّاً. ويأتي ـ إن شاء الله ـ بيان ما هو الصحيح من هذين المبنيين:

فإن قلنا بالأوّل: فقد يتوهّم أنّ الحكم الواقعيّ انتفى بالاضطرار، فلم يبق علم بالتكليف، فانتفت منجّزيّة العلم الإجماليّ بانتفاء موضوعها.

لكن الصحيح: أنّه يكتفى في مقام انتفاء الحكم الواقعيّ بحكومة دليل نفي العسر والحرج بانتفاء إطلاق ذلك الحكم. فلو اضطرّ ـ مثلاً ـ إلى شرب أحد

705

الماءين المعلوم إجمالاً نجاسة أحدهما كفى في رفع اضطراره أن يجوز له شرب الماء النجس على تقدير عدم شربه للماء الآخر مع بقاء حرمته على تقدير شربه للماء الآخر، فهو يعلم إجمالاً إمّا بحرمة شرب هذا الماء مشروطة بشرب الآخر، أو بحرمة شرب الماء الآخر مشروطة بشرب هذا الماء، ومع العلم الإجماليّ بحكم مشروط ليس له أن يحقّق شرطه ويخالف هذا الحكم، بل لابدّ إمّا من أن لا يحقّق شرطه أو لا يخالفه، أي: أنّه لابدّ من ترك معصيته إمّا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع أو بنحو السالبة بانتفاء المحمول، ولو شرب كلا الماءين فقد حقّق الشرط جزماً وخالف الحكم قطعاً، ولو شرب واحداً منهما فقط لم يخالف الحكم لا قطعاً ولا احتمالاً؛ إذ لو كان ما شربه طاهراً فهو حلال مطلقاً، ولو كان نجساً فهو حلال بشرط عدم شرب الآخر، والمفروض تحقّق الشرط، فهناك حكم معلوم لا يكون مضطرّاً إلى مخالفته ولو احتمالاً حتّى يدّعى أنّ اضطراره إلى مخالفته الاحتماليّة ينجرّ إلى جواز مخالفته القطعيّة.

وما ذكرناه: من أنّه لو شرب كلا الماءين فقد خالف مخالفة قطعيّة لحرمة معلومة متحقّق شرطها جزماً واضح فيما لو شربهما في عرض واحد.

أمّا لو شربهما تدريجاً فقد يقال: إنّه لم تصدر منه مخالفة لتكليف معلوم مع تحقّق شرطه جزماً؛ إذ من المحتمل أنّ النجس كان هو الماء الأوّل وقد شربه حلالاً؛ لأنّه حين الشرب كان واجداً لشرط حلّيّته وهو عدم شرب الآخر، والماء الثاني كان طاهراً، فكان شربه حلالاً أيضاً، فلم يرتكب الحرام.

والجواب: أنّه تارةً يفترض وقوع الاضطرار إلى الشرب في خصوص الزمان الأوّل كما لو كان عطشان عطشاً شديداً، وكان تأخيره للشرب إلى الزمان الثاني موجباً للعسر والحرج، واُخرى يفترض وقوع الاضطرار إلى الجامع بين الشربين، أعني: الشرب في الزمان الأوّل، والشرب في الزمان الثاني كما لو كان اضطراره

706

إلى الشرب بملاك إجبار ظالم هدّده بالقتل، وكان مصبّ إجباره هو الجامع بين الشربين:

فإن فرض الثاني: كان من الواضح أنّ جواز شربه للماء النجس في الزمان الأوّل مشروط بعدم شربه للماء الآخر في الزمان الثاني؛ لأنّ شربه للماء الآخر في الزمان الثاني يكفي لرفع اضطراره، فشربه للماء النجس في الزمان الأوّل حرام بحرمة مشروطة بشربه للماء الآخر ولو في الزمان الثاني؛ إذ هذه الحرمة المقيّدة لا توجب الاضطرار، فالمرفوع ليس هو أصل الحرمة، بل إطلاقها، فلو شربهما معاً ولو تدريجاً فقد ارتكب حراماً قطعيّاً مع حصول شرط الحرمة بالجزم واليقين(1).


(1) قد يقال في فرض ما إذا لم يكن جازماً من أوّل الأمر بشرب كلا الماءين ثُمّ بدا له بعد شرب الماء الأوّل أن يشرب الماء الثاني أيضاً: إنّه لم يرتكب عندئذ حراماً منجّزاً عليه؛ إذ لم يحصل له في آن من الآنات القطع بتكليف فعليّ، فإنّه حينما شرب الماء الأوّل، لم يكن يعلم بأنّه سوف يتحقّق شرط حرمة هذا الشرب لو كان نجساً، فإنّ شرط حرمته هو شرب الماء الآخر وهو غير جازم بتحقّقه، وحين شربه للماء الثاني لا يعلم بأنّ الحرام هو الثاني. وإن شئت فافترض أنّه حين شربه للماء الأوّل كان جازماً بعدم شرب الماء الثاني ثُمّ بدا له أن يشرب الماء الثاني، فحين شربه للماء الأوّل كان قاطعاً بجواز شرب الماء الأوّل، وحين شربه للماء الثاني ليس قاطعاً بحرمة شرب الماء الثاني. نعم، هو يعلم أنّ الحرام إمّا هو الثاني أو هو ما مضى، والعلم الإجماليّ التدريجيّ إذا حصل بعد انعدام بعض أطرافه لم يكن منجّزاً.

و أجاب اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) على ذلك بأنّه حين شربه للماء الثاني يعلم بأنّ شرب الثاني محقّق للحرام إمّا باعتباره حراماً بنفسه أو باعتباره محقّقاً لشرط حرمة ما مضى، فلو لم يشربه لم يتحقّق حرام أصلاً ولو شربه تحقّق الحرام، والإتيان بما يتحقّق به الحرام جزماً ممنوع من قِبَل العقل.

707

وإن فرض الأوّل: فهناك مجال لتوهّم القول بأنّ شربهما تدريجاً لا يوجب مخالفة لحكم معلوم؛ لأنّ الماء الأوّل شربه حلالاً ولو فرض نجساً في الواقع؛ لأنّ شرط الحلّ كان هو عدم شرب الآخر في الزمان الأوّل وهو متحقّق، وأمّا الثاني فمن المحتمل طهارته.

ولكن التحقيق: أنّ التقريب الذي ذكرناه يأتي حتّى في هذا القسم، فإنّ المولى إذا حرّم عليه شرب الماء النجس في الزمان الأوّل حرمة مشروطة بجامع شربه للماء الآخر الشامل لشربه إيّاه في الزمان الثاني أيضاً لم يلزم من ذلك عسر ولا حرج على العبد؛ إذ يتمكّن من أن يشرب في الزمان الأوّل أحد الماءين ويرفع به الاضطرار، ولا يحقّق شرط حرمته على تقدير نجاسته بشرب الآخر ولو في الزمان الثاني.

إن قلت: إنّ هذا الحكم يشبه حكم المولى على العبد بأنّه لو صعد على السطح وجب عليه إلقاء نفسه من فوق السطح في صحن الدار، ولا إشكال في هذا الحكم الحرجيّ غاية الأمر أنّ المكلّف متمكّن من أن لا يوجد شرط هذا الحكم كي لا يبتلى بهذا الحكم الحرجيّ.

قلت: في هذا المثال كان زمان الشرط متقدّماً على زمان امتثال الحكم، فلو حقّق العبد الشرط وجاء دور امتثال الحكم بإلقاء نفسه في صحن الدار كان هذا حكماً حرجيّاً، ويشمله دليل نفي العسر والحرج؛ لأنّ العسر ثابت في زمان امتثال هذا الحكم، وهو يسند عرفاً إلى هذا الحكم وإن كان ذلك بسوء اختيار العبد بإيجاده للشرط(1).

 


(1) ويمكن أن يقال: إنّه إذا كان التكليف فعليّاً قبل إيجاد المكلّف للشرط بأن كان زمان الوجوب قبل زمان الواجب على حدّ الواجب المعلّق، أو كان الواجب هو الجامع بين

708

أمّا حينما لا يكون الشرط مقدّماً على زمان الامتثال ففي كلّ آن يكون المكلّف في سعة من الحرج حتّى في آن الامتثال؛ إذ بإمكانه أن لا يوجد الشرط، وذلك كما فيما نحن فيه. ودليل نفي العسر والحرج لا يشمل هذا القسم؛ لأنّه لا يرى الحرج عرفاً مستنداً إلى التكليف محضاً.

وكان بالإمكان أيضاً في مقام رفع العسر والحرج تقييد حرمة شرب الماء الأوّل بفرض عدم شرب الماء الثاني، أو بشيء آخر خارجيّ، كالذهاب إلى مكان كذا، أو عدم الذهاب إليه.

لكن الواقع: أنّ التقييد الثابت فيما نحن فيه لم يكن لأجل دخل القيد في ملاك الحرمة حتّى يقال: كما يفرض شرب الماء الثاني دخيلاً في ملاك الحرمة، كذلك لعلّ الأمر بالعكس بأن يكون عدم شربه دخيلاً في الحرمة، أو لعلّ شيئاً خارجيّاً آخر دخيل في الحرمة، وإنّما كان التقييد بملاك الجمع بين نفي العسر والحرج والتحفّظ على ملاك الواقع بقدر الإمكان، وهذا إنّما يقتضي التقييد بفرض شرب الماء الثاني لا بشيء آخر، أمّا لو قيّد بعدم شربه فقد يشرب كليهما، ولو قيّد بشيء آخر كالذهاب إلى المكان الفلانيّ فقد يترك ذاك القيد ويشرب كليهما، فلم يحصل التحفّظ على ملاك الواقع.

 


عدم ذاك الشرط ووجود الفعل المشروط، فعندئذ لا يشمل دليل نفي العسر والحرج مثل هذا المورد؛ لأنّه لو فرض شموله له فهذا الشمول سوف لن يكون معذّراً للمكلّف؛ لأنّ الحكم صار فعليّاً على المكلّف ولو آناً مّا، وإنّما العبد أجبر المولى على رفع يده عن الحكم اضطراراً، فسيبقى هو مستحقّاً للعقاب على ترك امتثال حكم كان آناً مّا فعليّاً وغير حرجيّ عليه، وعليه فيصبح شمول دليل نفي العسر والحرج لمثل هذا المورد فضولاً من الأمر وفارغاً عن المحتوى.

709

والخلاصة: أنّ نسبة هذه التقييدات إلى نفي الحرج على حدّ سواء، ونسبتها إلى حفظ ملاك الواقع ليست على حدّ سواء، وإنّما الأقرب إلى ذلك هو القيد الأوّل، فرضا المولى بشرب الماء الأوّل مع ملاحظة القيد الأوّل وهو شرب الثاني ـ وذلك بأن لا يشرب الثاني ـ يصبح متيقّناً، فيؤخذ به، وسائر القيود تدفع بالإطلاق.

إن قلت: إنّنا نحتمل كون الخارج من تحت الحرمة أضيق من مجرّد فرض عدم شرب الماء الآخر بأن يكون الخارج من إطلاق الحرمة هو خصوص فرض عدم شرب الماء الآخر منضمّـاً إلى ذهابه إلى مكان كذا مثلاً، وذلك بدعوى أنّه كلّما فرضت دائرة الخروج من الحرمة أضيق كان ذلك أوفق بحفظ ملاك الواقع.

قلت: بعد تسليم(1) ما ذكر نقول: إنّ هذا الاحتمال يأتي بعينه في جانب نقيض ذاك القيد الإضافيّ، وهو عدم الذهاب إلى مكان كذا مثلاً، ولا نحتمل انحفاظ إطلاق الحرمة عند عدم شرب الآخر لكلتا حالتي وجود وعدم ذاك الشيء، وهو الذهاب إلى مكان كذا مثلاً، وإلّا لعاد العسر والحرج، فإطلاقها لكلّ واحدة من الحالتين يعارض إطلاقها للحالة الاُخرى ويتساقطان، وبالتالي لا يبقى دليل على الحرمة عند عدم شرب الآخر(2).

 


(1) أي: بعد فرض تسليم كون ذلك أحفظ لملاك الواقع. ولعلّ هذا إشارة إلى أنّ هذا لا يؤدّي إلى حفظ الواقع إلّا في فرض تحمّل المكلّف الأمر الحرجيّ، كما إذا لم يذهب إلى المكان الفلانيّ وتحمّل العطش، ولا إشكال أنّ هذا خلاف الفهم العرفيّ من دليل نفي العسر والحرج.

(2) إن قلت: عين هذا البيان يأتي بالنسبة لشرب الماء الطاهر في الزمان الثاني، وتوضيح ذلك: أنّه لو شرب الماء الطاهر في الزمان الأوّل فلا إشكال في حرمة شرب الماء النجس عليه. أمّا على تقدير عدم شربه للماء الطاهر في الزمان الأوّل، ففرض كون شربه للماء الطاهر في

710

وإن قلنا بالثاني ـ أعني: حكومة دليل نفي العسر والحرج على الاحتياط ـ: فإن قلنا بأنّ العلم الإجماليّ ليس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة وإنّما هو مقتض لذلك، فلا مجال لتوهّم استلزام سقوط العلم الإجماليّ عن المنجّزيّة بالنسبة لحرمة المخالفة القطعيّة لأجل سقوطه عن تنجيز وجوب الموافقة القطعيّة في المقام، فترك الاحتياط وإن جاز بلحاظ بعض الأطراف لكن يبقى تنجيز العلم بلحاظ المخالفة القطعيّة ثابتاً على حاله، فلا يجوز ارتكاب تمام الأطراف.

وإن قلنا بأنّ العلم الإجماليّ علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة تأتي هنا شبهة المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): من أنّ الترخيص في المخالفة الاحتماليّة يستلزم انتفاء التكليف؛ إذ لولاه لم يكن مجال للترخيص ولو بمستوى المخالفة الاحتماليّة، وإذا انتفى التكليف جاز ارتكاب تمام الأطراف.

 


الزمان الثاني موجباً لحرمة شربه للماء النجس في الزمان الأوّل ليس بأولى من فرض كون عدم شربه للماء الطاهر في الزمان الثاني موجباً لحرمة شربه للماء النجس في الزمان الأوّل، وحرمته في كلا الفرضين غير محتمل، فيتعارض الإطلاقان في دليل الحرمة ويتساقطان.

قلت: إن فرض كون شربه للماء الطاهر في الزمان الثاني عند ما لم يشربه في الزمان الأوّل موجباً لحرمة شربه للماء النجس في الزمان الأوّل أحفظ للملاكات الواقعيّة من العكس، وذلك إمّا ببيان أن هذا يؤدّي إلى أن لا يجمع بين شرب الإناءين فيحتمل عدم وقوع شرب النجس، وإمّا ببيان أنّه لو كان له داع آخر إلى شرب الماء الطاهر غير داعي رفع الحرج في الزمان الأوّل، من قبيل ما لو فرض أنّ الماء الطاهر كان عذباً، اشتهى شربه بخلاف الماء النجس، ففرض حرمة شرب النجس عليه على تقدير شربه للطاهر ولو في الآن الثاني يدفعه نحو أن يشرب الماء العذب في الزمان الأوّل ويستغني عن الماء الآخر، بينما لو فرض العكس فقد يشرب الماء النجس أوّلاً ثُمّ يشرب الماء الطاهر العذب.

711

لكنّا نقول ـ بقطع النظر عن بطلان المبنى: من كون العلم الإجماليّ علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة ـ: إنّه بعد أن وقع التنافي بين الترخيص والتكليف الفعليّ جاء ما ذكرناه في فرض حكومة دليل نفي العسر والحرج على أصل التكليف: من أنّ الأمر دائر بين نفي التكليف رأساً ونفي إطلاقه، والمتعيّن هو الثاني؛ لأنّ الضرورات تقدّر بقدرها، فيأتي حرفاً بحرف كلّ ما ذكرناه هناك؛ إذ قد آل الأمر هنا أيضاً إلى التصرّف في التكليف الواقعيّ، غاية الأمر أنّه على المبنى الأوّل في نفي العسر والحرج كان الدليل حاكماً على التكليف ابتداءً، وعلى هذا المبنى يكون رافعاً للاحتياط التامّ، وبالتالي يرفع التكليف؛ لما فرض: من كون العلم به علّة تامّة لوجوب الاحتياط التامّ، فعلى كلا التقديرين نقول: لا وجه لرفع التكليف رأساً؛ لأنّ المقدار المنافي للترخيص في ترك الاحتياط التامّ هو إطلاقه لا أصله.

ثُمّ إنّ المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) لا يفرّق في القول بسقوط العلم الإجماليّ عن التنجيز رأساً بطروّ الاضطرار إلى أحد الفردين لا بعينه بين الاضطرار الحقيقيّ بمعنى انتفاء القدرة حقيقة، والاضطرار بمعنى العسر والحرج، بينما لو تمّ كلامه فإنّما يتمّ في مورد العسر والحرج على الواقع مباشرة، أو من باب منافاة التكليف الفعليّ للترخيص في المخالفة الاحتماليّة لكون العلم علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة. وشيء من الوجهين لا يتمّ في موارد انتفاء القدرة التكوينيّة، أمّا الأوّل فلأنّ دليل نفي العسر والحرج لا علاقة له بباب العجز وانتفاء القدرة، كي يكون حاكماً على التكليف الواقعيّ ونافياً له. وأمّا الثاني فلأنّ الترخيص فيه ليس شرعيّاً مستفاداً من دليل نفي العسر والحرج كي ينافي فعليّة التكليف، وإنّما هو ترخيص عقليّ بملاك عدم القدرة على الامتثال القطعيّ، ومن الواضح أنّه لدى العجز عن الامتثال القطعيّ ينتقل إلى الامتثال الاحتماليّ كما هو الحال في باب العلم

712

التفصيليّ؛ إذ لا إشكال في أنّه لو علم تفصيلاً بوجوب الصلاة إلى القبلة ولم يتمكّن من امتثاله القطعيّ بالصلاة إلى جميع الجهات المحتمل كونها قبلة ـ مثلاً ـ يتنزّل إلى الامتثال غير القطعيّ، وإذا لم يكن ثبوت التكليف منافياً لعدم لزوم الامتثال القطعيّ لأجل العجز في باب العلم التفصيليّ فكذا الأمر في باب العلم الإجمالي؛ إذ ليس بأشدّ حالاً من العلم التفصيليّ.

وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه: أنّ فرض الاضطرار في باب الانسداد إلى المخالفة في بعض الأطراف لا بعينه لا يوجب سقوط العلم الإجماليّ عن التنجيز رأساً.

بقي الكلام في أنّ التنجيز الذي سلّم بقاؤه للعلم الإجماليّ بعد الاضطرار إلى بعض الأطراف لا بعينه هل يوجب على الإنسان الموافقة بالنسبة لبعض الأطراف تخييراً، أو يوجب اختيار خصوص المظنونات وصرف الترخيص إلى الموهومات والمشكوكات ؟ وهذا وإن كان راجعاً إلى بحث المقدّمة الخامسة لكنّنا نذكره هنا لشدّة ارتباطه والتصاقه بما تكلّمنا فيه، فنقول:

تارةً: يفترض عدم احتمال أهمّـيّة بعض الموهومات على تقدير ثبوتها في الواقع من المظنونات على تقدير ثبوتها في الواقع، واُخرى: يفرض احتمال ذلك أو القطع به:

أمّا على الفرض الأوّل: فتارةً نتكلّم بناءً على حكومة دليل نفي العسر والحرج على التكليف الواقعيّ، واُخرى نتكلّم بناءً على حكومته على حكم العقل بوجوب الاحتياط:

أمّا على المبنى الأوّل: فنقول: قد مضى أنّ الاضطرار لم يرفع أصل التكليف وإنّما رفع إطلاقه، وقيّده بمقيّد، ونقول هنا: إنّ التقييد في ذلك يتصوّر بدواً بإحدى صور، فلو فرض ـ مثلاً ـ العلم الإجماليّ بنجاسة أحد الماءين وهو مضطرّ إلى

713

شرب أحدهما وكان أحدهما مظنون النجاسة والآخر موهوم النجاسة، فالتقييد المفروض في المقام لرفع العسر والحرج يتصوّر بأحد وجوه ثلاثة: فإمّا أن تقيّد الحرمة في أيّ منهما كانت بفرض شرب الآخر، أو تقيّد الحرمة على تقدير كونها في الموهوم بفرض شرب المظنون، أمّا على تقدير كونها في المظنون فتبقى على إطلاقها، أو بالعكس بأن تقيّد الحرمة على تقدير كونها في المظنون بفرض شرب الموهوم، ولو كانت في الموهوم تبقى على إطلاقها. فعلى الأوّل يتخيّر في شرب أحدهما، وعلى الثاني يتعيّن الترخيص في الموهوم؛ إذ على تقدير شرب المظنون يعلم بحرمة أحدهما، وإذا شرب المظنون بمحض اختياره فقد حصل له العلم عادة ولو في الآن المتّصل بشربه أنّه سوف يشربه (إلّا في فرض نادر). إذن هو يعلم بفعليّة إحدى الحرمتين. وعلى الثالث يتعيّن الترخيص في المظنون.

والثالث لا يكون محتملاً في قبال الثاني، فإنّنا لا نحتمل أنّ المولى يهتمّ دائماً بجانب ما هو موهوم عندنا دون المظنون، بل إمّا أن يهتمّ بجانب المظنون، أو يجعلنا بالخيار.

وليس التقييد هنا من باب دخل القيد في الملاك الواقعيّ للحرمة كي يقال: ما يدرينا أنّ التقييد هل هو بالشكل الثاني أو الثالث ؟! وإنّما هو من باب رفع العسر والحرج، والتحفّظ على ملاك الواقع بقدر الإمكان، وعندئذ لا نحتمل أن يكون اهتمام المولى بجانب الموهوم دائماً.

فالأمر دائر بين الاحتمال الثاني والاحتمال الأوّل. وإذا كان الأمر كذلك تعيّن الثاني؛ لأنّ تقييد الحرمة على تقدير كونها في طرف الموهوم بفرض ارتكاب المظنون ثابت على كلّ حال، وتقييدها على تقدير كونها في طرف المظنون بفرض ارتكاب الموهوم مشكوك، فنتمسّك بالإطلاق، فيتعيّن بذلك تطبيق دفع الاضطرار

714

على ارتكاب الموهوم والاحتياط في جانب المظنون(1).

وأمّا على المبنى الثاني ـ وهو حكومة دليل نفي العسر والحرج على حكم العقل بالاحتياط التامّ لا الواقع ـ: فنقول: إنّ الأمر دائر بين الترخيص في طرف الموهوم فحسب على تقدير ترك مخالفة المظنون، والترخيص في كلّ منهما على تقدير ترك الآخر. أمّا الترخيص في طرف المظنون فحسب على تقدير ترك مخالفة الموهوم فغير محتمل؛ لما مرّ: من عدم احتمال اهتمام المولى بالموهومات فحسب. إذن فالترخيص في الموهوم على تقدير ترك مخالفة المظنون متيقّن بخلاف الترخيص في المظنون على تقدير ترك مخالفة الموهوم، فنبقى نتمسّك


(1) قد يقال: إنّ دليل نفي العسر والحرج حينما يرفع الإطلاق لا يبقى لنا دليل على ثبوت الملاك؛ لأنّ الملاك يعرف بالخطاب، فإذا أمكن رفع العسر بتقييد الحرمة على تقدير كونها في طرف الموهوم، وأمكن دفعه بتقييدها على تقدير كونها في طرف المظنون، لا يمكن رفض احتمال تقييدها في طرف المظنون وحده بحجّة عدم دخل القيد في الملاك الواقعيّ للحرمة.

والجواب: أنّ المقصود هو أنّنا نقطع بأنّ المولى لا يقيّد الحكم على تقدير وجودهفي طرف المظنون بسبب نفي العسر والحرج من دون تقييده في طرف الموهوم كذلك؛لأنّ هذا معناه ترجيح تفويت المظنون على تفويت الموهوم ومن دون دخل القيد في الملاك الواقعيّ للحرمة، إذن فدليل نفي العسر والحرج لا يصلح لتقييد الحكم في طرف المظنون وحده، وبالتالي نتمسّك بإطلاق دليل الحكم على تقدير كونه في طرف المظنون، وبه نثبت الملاك، ويكون هذا الإطلاق منضمّـاً إلى دليل نفي العسر والحرج مقيّداً لإطلاق الحكم على تقدير كونه في طرف الموهوم، بينما لا يمكن أن يكون الإطلاق في طرف الموهوم منضمّـاً إلى دليل نفي العسر والحرج مقيّداً لإطلاق الحكم على تقدير كونه في طرف المظنون؛ لما عرفت: من أنّ دليل نفي العسر والحرج لا يمكن أن يقيّد طرف المظنون فحسب.

715

بتنجيز العلم الإجماليّ بالنسبة للمقدار الزائد على القدر المتيقّن من الترخيص.

فتحصّل: أنّه على كلا المبنيين يكون الظنّ مرجّحاً لأحد التكليفين المنجّزين على الآخر، وهو المعنى الرابع من معاني حجّيّة الظنّ الذي ذكرناه فيما سبق في توجيه كلام المحقّق النائينيّ(قدس سره)، وشبّهنا المقام هناك بقيام الأمارة على وجوب الإزالة وعلى وجوب صلاة العيد، والظنّ بأحدهما مع عدم إمكان الجمع بينهما.

ولا يخفى أنّه يجب أن يكون المراد من ترجيح الظنّ لأحد التكليفين المنجّزين على الآخر فيما نحن فيه ما ظهر من بياناتنا هنا، وليس المقصود من تشبيهنا للمقام بمثال قيام الأمارة على وجوب الإزالة وصلاة العيد دعوى التماثل التامّ في المقام، وتوضيح ذلك: أنّه في مثال الأمارة يكون التكليفان المنجّزان على تقدير صدق الأمارتين تامّين في مرحلة الجعل، وإنّما التزاحم والترجيح يكونان بحسب عالم الامتثال على ما يراه المذاق المشهور في علم الاُصول، كما هو الحال أيضاً في نظرهم في التكليفين المنجّزين بالعلم، بفرق أنّه مع العلم لا معنى للترجيح بالظنّ، ومع الأمارة هناك مجال للترجيح بالظنّ. وأمّا فيما نحن فيه فليس هناك مجال لدعوى كون التزاحم والترجيح بحسب عالم الامتثال؛ إذ من الواضح أنّه لا يوجد هنا حكمان منجّزان وإنّما هنا حكم واحد منجّز دار الأمر بين تقييدين له في عالم الجعل بقانون رفع العسر والحرج، أو بين ترخيصين جعليّين بقانون رفع العسر والحرج، وصار الظنّ مرجّحاً لأحد الجعلين في عالم التقييد أو الترخيص.

وأمّا على الفرض الثاني ـ وهو القطع بأهمّـيّة بعض الموهومات أو احتمالها على تقدير ثبوتها في الواقع من المظنونات على تقدير ثبوتها في الواقع، ومثاله ما لو احتملنا أو قطعنا بأهمّـيّة حقوق الناس من حقوق الله مثلاً، وبما أنّ احتمال حقوق الناس وحقوق الله منتشر في المظنونات والموهومات معاً، إذن نحتمل أو

716

نقطع بأهمّـيّة بعض الموهومات على تقدير مصادفتها للواقع من بعض المظنونات على تقدير المصادفة ـ: فهنا أيضاً تارةً نتكلّم على مبنى حكومة دليل نفي العسر والحرج على الواقع، واُخرى على مبنى حكومته على وجوب الاحتياط:

أمّا على المبنى الأوّل ـ وهو حكومة دليل نفي العسر والحرج على الواقع ـ: فتارةً نفترض القطع بأهمّـيّة حقوق الناس من حقوق الله مثلاً، أو احتمال ذلك من دون احتمال العكس، واُخرى نفترض أنّنا كما نحتمل أهمّـيّة حقوق الناس من حقوق الله كذلك نحتمل العكس:

فإن قطعنا بأهمّـيّة حقوق الناس من حقوق الله أو احتملنا ذلك من دون احتمال العكس، فالأمر دائر بين التقييد في التكاليف الواقعيّة بحكومة قاعدة نفي العسر والحرج في خصوص دائرة الموهومات بنكتة ترجيح المظنونات بأهمّـيّة الاحتمال، أو في خصوص دائرة حقوق الله بنكتة ترجيح حقوق الناس بأهمّـيّة المحتمل، ويحتمل التخيير بين ترك الموهومات وترك حقوق الله، ولا سبيل إلى جواز ترك الموهومات وحقوق الله جميعاً، كما لا سبيل إلى التقييد في جميع التكاليف إطلاقاً؛ لأنّ الضرورة تتقدّر بقدرها.

وعندئذ نقول ـ بعد فرض عدم كفاية ترك خصوص الموهومات من حقوق الله في نفي العسر والحرج، وإلّا وجب الاقتصار عليها ـ: إنّه لا إشكال في تطبيق مقدار من رفع العسر والحرج على ترك الموهومات من حقوق الله، كما لا إشكال في أنّ من اللازم على المكلّف التحفّظ على المظنونات من حقوق الناس. وبعد هذا يبقى التردّد بين جواز ترك الموهومات من حقوق الناس عند الإتيان بمظنونات حقوق الله، وجواز ترك مظنونات حقوق الله عند الإتيان بموهومات حقوق الناس، فيقع التعارض بين إطلاق الدليلين ويتساقطان ويثبت له التخيير.

717

وإن احتملنا أهمّـيّة حقوق الناس من حقوق الله واحتملنا العكس أيضاً قلنا: المفروض أيضاً عدم كفاية ترك خصوص الموهومات من إحدى الطائفتين، وإلّا فلا إشكال في وجوب التحفّظ على المظنونات جميعاً مع التخيير بين ترك الموهومات من هذه الطائفة والموهومات من تلك الطائفة؛ لوقوع التعارض والتساقط بين الإطلاقين في قسمي الموهومات، وعندئذ نقول: إنّ وظيفة المكلّف هنا الإتيان بالمظنونات جميعاً، وتطبيق رفع العسر والحرج على ترك الموهومات، والوجه في ذلك: أنّه يعلم إجمالاً بالتقييد في أحد القسمين من الموهومات، ويعلم إجمالاً بالتقييد في القسم الآخر من الموهومات أو أحد قسمي المظنونات، وليس له علم إجماليّ بالتقييد في أحد قسمي المظنونات، فيتمسّك بالإطلاق في كلا قسمي المظنونات، ولا يعارض ذلك بالإطلاق في جانب الموهومات؛ لأنّ الإطلاقين في قسمي الموهومات متعارضان ومتساقطان.

إن قلت: إنّ الإطلاق في كلّ واحد من قسمي الموهومات وإن كان معارضاً بالإطلاق في الآخر لكنّنا بعد القطع بالتقييد في أحدهما نجري الإطلاق في القسم الآخر بعنوان (القسم الآخر)، لا بعنوان أحدهما معيّناً حتّى يعارض بالإطلاق في الآخر.

قلت: لا إشكال في جواز التمسّك بالإطلاق أو العموم في عنوان القسم الآخر عند ما يثبت هناك تعيّن في الواقع للقسم الأوّل الخارج من الإطلاق، أو العموم، كما لو أخرجت رواية فرداً من تحت العامّ فعلم أنّ الملحوظ فيها أحد الفردين معيّناً في الواقع وإن كنّا لا نعرفه بالخصوص، فهنا لا إشكال في إجراء أصالة الإطلاق في عنوان الفرد الآخر، أي: الفرد الذي هو غير ما قصده الراوي، أمّا إذا كان المخرج لأحد الفردين على حدّ سواء، كما لو قام الإجماع على عدم دخول الفردين معاً تحت الإطلاق وكما فيما نحن فيه؛ لأنّ المخرج لأحد الفردين إنّما هو

718

دليل نفي العسر والحرج الذي تكون نسبته إلى الفردين على حدّ سواء، فهناك بحث في أنّه هل يمكن التمسّك بالإطلاق لإثبات الحكم في الفرد الآخر إمّا بعنوان (الفرد الآخر)، أو بدعوى إجراء أصالة الإطلاق بالنسبة لكلّ فرد على تقدير خروج الفرد الآخر، أو لا ؟

فقد يقال بعدم إمكان ذلك، أمّا بلحاظ عنوان (الفرد الآخر) فلعدم ثبوت تعيّنه في الواقع، وأمّا بلحاظ أصالة الإطلاق بالنسبة لكلّ فرد على تقدير خروج الآخر؛ فلأنّه إن قصد بذلك التبعيض في الدلالة، فهذا غير معقول؛ لأنّ المفروض تماميّة الدلالة فيها. وإن قصد بذلك التبعيض في المدلول ثبوتاً، لزم من ذلك دخول كلا الفردين ثبوتاً على تقدير خروجهما، وهو محال. وإن قصد بذلك التبعيض في الحجّيّة، فهذا موقوف على مساعدة دليل الحجّيّة على ذلك. فلو كان دليل الحجّيّة عبارة عن السيرة العقلائيّة فقد يدّعى عدم مساعدة الارتكاز العقلائيّ على مثل هذا التبعيض في الحجّيّة، خصوصاً حينما يكون الفرد الخارج خارجاً بالحكومة لا بالقطع، فتلزم من حجّيّة كلا الإطلاقين وإن كان بنحو التبعيض في الحجّيّة مع حجّيّة الدليل الحاكم حجّيّة الحاكم والمحكوم معاً.

وقد يقال بإمكان ذلك بدعوى مساعدة الارتكاز العقلائيّ على مثل هذا التبعيض في الحجّيّة تحت عنوان (الفرد الآخر) مثلاً.

فإن قلنا بالأوّل لم يبق مجال لهذا الكلام في المقام، وإن قلنا بالثاني فالصحيح أنّ التمسّك بالإطلاق في خصوص المقام غير تامّ؛ لأنّ إطلاق الحكم في أحد قسمي الموهومات بعنوان القسم الآخر ـ مثلاً ـ لا أثر له، فلا تتعقّل حجّيّته، فإنّه لا يولّد علماً تفصيليّاً بالتكليف، ولا علماً إجماليّاً به، أمّا الأوّل فواضح، وأمّا الثاني فلأنّ من المحتمل كون التكليف في الموهوم الأوّل

719

الذي فرض سقوطه(1).

إن قلت: إنّنا كما نعلم إجمالاً بسقوط الإطلاق في أحد الموهومين كذلك نعلم إجمالاً بسقوط الإطلاق في الموهوم من حقوق الله، أو في المظنون من حقوق الناس، ونعلم إجمالاً بسقوط الإطلاق في الموهوم من حقوق الناس، أو في المظنون من حقوق الله؛ لأنّ المفروض أنّ سقوط الإطلاق في أحد الموهومين لا يكفي لرفع العسر والحرج، فإمّا أنّ إطلاق الموهوم الآخر أيضاً ساقط، أو أنّ إطلاق الموهوم الآخر غير ساقط لأهمّـيّته بدرجة مانعة عن سقوط إطلاقه، وهذا يستلزم عدم سقوط مظنونه أيضاً، وتعيّن السقوط في مظنون الآخر، فالإطلاق في الموهوم من كلّ واحد من القسمين يعارض الإطلاق في المظنون من القسم الآخر، فلا وجه لفرض الأخذ بالمظنونين بعد إسقاط الموهومين، فإنّ كلّ واحد


(1) قد يقصد من يتمسّك بإطلاق القسم الآخر بعنوان (القسم الآخر) أن يحقّق بهذا معارضاً لأحد قسمي المظنونات، كي يتساقطا وبالتالي يتمّ التخيير بين الموهومات والمظنونات، فإن كان هذا هو المقصود لم يكف لدفعه القول بأنّ الإطلاق في القسم الآخر بهذا العنوان لا يولّد علماً تفصيليّاً ولا إجماليّاً، فلا أثر له فلا يكون حجّة؛ وذلك لأنّ التعارض مع أحد قسمي المظنونات بمعنى التكاذب ليس فرع الحجّيّة، وإذا حصل التكاذب قبل الحجّيّة وكان أحد المتكاذبين يثبت أثراً شرعيّاً فلا محالة المتكاذب الآخر ينفيه، وكانت نسبة دليل الحجّيّة إلى المتكاذبين على حدّ سواء، فيدور الأمر بين حجّيّة الموهومات وحجّيّة المظنونات، فيتعارضان ويتساقطان. والجواب عندئذ أن يقال: إنّ هذا التقريب يؤدّي إلى سقوط أحد قسمي المظنونات، ولا يؤدّي إلى سقوط كلا قسميها؛ لعدم تكاذب بين المظنونات بقسميها، فيبقى أحد قسمي المظنونات غير المعيّن حجّة، ولأجل العلم الإجماليّ بحجّيّة أحد القسمين نضطرّ أن نعمل بالمظنونات جميعاً، ونطبّق رفع العسر والحرج على ترك الموهومات.

720

من الموهومين يعارض في عرض واحد موهوم القسم الآخر ومظنونه.

قلت: لمّا كان الموهومان بنفسهما متعارضين ولم يكن المظنونان كذلك، تعيّن تقديم كلّ مظنون على ما يعارضه من الموهوم؛ إذ لا يلزم من تقديمه عليه دون العكس ترجيح بلا مرجّح؛ لأنّ ذلك الموهوم بنفسه لا يقبل التقدّم على ما يعارضه من المظنون، أي: أنّه بقطع النظر عن كون تقديمه على المظنونان ترجيحاً له عليه بلا مرجّح لا يمكن تقديمه عليه؛ لأنّ تقديمه على ما يعارضه من المظنون دون تقديم الموهوم الآخر على ما يعارضه من المظنون ترجيح بلا مرجّح، وتقديم كلا الموهومين في الإطلاق على المظنونين غير ممكن؛ لفرض القطع بكذب إطلاق أحدهما، وهذا بخلاف ما لو قدّمنا المظنونين على الموهومين؛ لعدم القطع بكذب أحدهما.

والخلاصة: أنّ تقديم الموهومين على المظنونين غير محتمل، وتقديم أحدهما ترجيح بلا مرجّح، فلا يعقل تقديم أيّ واحد من الموهومين على ما يعارضه من المظنون، وبالتالي ينجو تقديم كلّ واحد من المظنونين على ما يعارضه من الموهوم عن مشكلة الترجيح بلا مرجّح؛ لأنّ تقديم الموهوم عليه أصبح غير ممكن بقطع النظر عن عدم ترجيح له على ذاك المظنون.

وأمّا على المبنى الثاني ـ وهو حكومة دليل نفي العسر والحرج على وجوب الاحتياط لا الواقع ـ: فهنا أيضاً تارةً يفرض القطع بأهمّـيّة حقوق الناس مثلاً،أو احتمالها من دون احتمال أهمّـيّة حقوق الله، واُخرى يفرض احتمال أهمّـيّة حقوق الناس من حقوق الله مع احتمال العكس أيضاً:

فإن فرض القطع بأهمّـيّة حقوق الناس بدرجة لا يرضى المولى بتفويتها عند فرض التزاحم (والمفروض عدم كفاية ترك الموهومات من حقوق الله لرفع العسر والحرج، وإلّا لزم الاقتصار عليه)، فعندئذ نقطع بعدم رضا الشارع بترك مظنونات

721

حقوق الناس، ونقطع برضاه بتطبيق نفي الحرج على ترك موهومات حقوق الله، ونبقى مردّدين بين مظنونات حقوق الله وموهومات حقوق الناس لا ندري هل الترخيص في مخالفة أحدهما بالخصوص، أو هو ترخيص تخييريّ، ولو وجب الاحتياط في ذلك بالعمل بهما معاً عاد العسر والحرج، فيجري دليل نفي العسر والحرج ثانياً لرفع هذا الاحتياط، وهكذا لا يمكن نفي العسر والحرج إلّا إذا انتهينا إلى التخيير، فهنا يعلم أنّ الترخيص يكون بنحو التخيير.

وإن شئت فقل: إنّ المنجّز الموجود في كلّ طرف لتنجيز خصوصيّة ذاك الطرف وهو الاحتمال غير المأمون من قبله ـ لسقوط المؤمّن وهو الأصل ـ لا يمكن أن يؤثّر أثره في كلّ طرف؛ لاستلزامه العسر والحرج المفروض عدمه، ولا في أحد الطرفين بالخصوص؛ للزوم الترجيح بلا مرجّح، فيسقط في كلا الطرفين عن التأثير، ولا يبقى تحت التنجيز عدا الجامع، ويكفي في امتثال الجامع الإتيان بأحد الطرفين، وهما موهومات حقوق الناس ومظنونات حقوق الله.

وإن فرض احتمال أهمّـيّة حقوق الناس من حقوق الله دون احتمال العكس، فعندئذ نقطع بالترخيص في تطبيق رفع الاضطرار على موهومات حقوق الله، ونعلم أنّنا زائداً على هذا إمّا مرخّصون في مظنونات حقوق الله، أو مرخّصون في موهومات حقوق الناس، أو مخيّرون بينهما، أو مخيّرون بين مظنونات حقوق الناس وموهومات حقوق الناس، وعليه لابدّ من الاحتياط في مظنونات حقوق الناس؛ إذ لا يحتمل الترخيص التعيينيّ بالنسبة لها، والقدر المتيقّن في الترخيص التخييريّ غيرها، ونبقى بعد هذا مردّدين بين مظنونات حقوق الله وموهومات حقوق الناس، ويثبت التخيير بينهما بالبيان الماضي في فرض القطع بأهمّـيّة حقوق الناس.

وإن فرض احتمال أهمّـيّة حقوق الناس من حقوق الله مع احتمال العكس

722

أيضاً، فهنا نعلم إجمالاً بأنّ الترخيص إمّا يكون ثابتاً في موهومي كلتا الطائفتين، أو في إحدى الطائفتين موهومها ومظنونها، أو يكون بنحو التخيير(1)، ويتعيّن التخيير؛ إذ لولاه ابتلينا ثانية بالاحتياط ولم ننج من العسر والحرج، أو قل: إنّ المنجّز لخصوصيّة كلّ طرف وهو الاحتمال غير المأمون من قبله لا يمكن أن يؤثّر أثره في كلا الطرفين ولا في طرف واحد بنفس البيان الماضي.

هذا بناءً على أنّ المنجّز للخصوصيّة في كلّ طرف هو الاحتمال غير المأمون من قبله لا نفس العلم الإجماليّ، وهذا هو لازم القول بقاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لأنّ العلم الإجماليّ ليس بياناً لأكثر من الجامع، فعندئذ لا نكتة لوجوب الالتزام بجميع المظنونات من الطائفتين وتطبيق نفي الاضطرار على الموهومات من الطائفتين.

لا يقال: إنّنا نفترض أنّ الظنّ هنا يصبح منجّزاً لخصوص ما تعلّق به.

فإنّه يقال: هذا مناف لما هو المفروض من مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ إذ على هذا المسلك لا معنى لكون الظنّ في المقام منجّزاً؛ إذ لو فرض تنجيزه تنجيزاً ذاتيّاً فالتنجيز الذاتيّ مخصوص بالكشف التامّ، ولو فرض تنجيزه تنجيزاً شرعيّاً فهو بحاجة إلى دليل مفقود، ومع فقده يكون المرجّح هو قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وحتّى لو لم نؤمن بقاعدة قبح العقاب بلا بيان فالتنجيز الشرعيّ ما لم يدلّ عليه الدليل منفيّ بالبراءة الشرعيّة التي هي في مستوى البراءة العقليّة، أو التي هي في مستوى


(1) أمّا احتمال كون الترخيص في مظنوني كلتا الطائفتين فحسب فغير وارد، فلابدّ من الالتزام بالمظنونات في إحدى الطائفتين؛ إذ لا مانع من تنجيز الاحتمال للجامع بينهما، ونبقى مخيّرين بين مخالفة موهومات كلتا الطائفتين، ومخالفة إحدى الطائفتين مظنونها وموهومها.

723

أعلى منها. وسيأتي في محلّه ـ إن شاء الله ـ شرح المستويين من البراءة الشرعيّة.

أمّا بناءً على مسلكنا: من أنّ العلم الإجماليّ كاف لتنجيز الواقع؛ لإنكارنا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان من أساسها، فالصحيح في المقام أنّه بعد سقوط الامتثال القطعيّ بالعسر والحرج يتنزّل العقل من الامتثال القطعيّ إلى الامتثال الظنّيّ.

وقبل أن نختم الكلام في هذه الجهة الاُولى ـ وهي في البحث عن انحلال العلم الإجماليّ في المقام ـ نشير إلى أنّه بقي هنا وجهان آخران يمكن أن يذكرا لفرض انحلال العلم الإجماليّ في المقام، نذكرهما كبيان كبرى كلّيّة، ويكون تحقيقهما صغرويّاً مربوطاً بالدقّة في كلّ واحدة واحدة من المسائل في بحث الفقه:

الوجه الأوّل: أن ينحلّ العلم الإجماليّ بالعلم باهتمام المولى بالتكليف في طرف الشكّ على فرض وجوده في عدّة من الشبهات لا تقلّ عن عدد المعلوم بالإجمال، وذلك في شبهات معيّنة، أو ضمن دائرة أوسع من الشبهات، بأن نعلم إجمالاً باهتمام المولى ببعضها على تقدير وجود الحكم فيها ممّا لا يقلّ عن المعلوم بالإجمال، فالبراءة تجري عندئذ في غير دائرة الشبهات التي يعلم بالاهتمام بالحكم فيها، أو في ضمنها على تقدير الوجود بلا معارض؛ لما عرفت في بحث الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ: من أنّ روح البراءة عبارة عن عدم اهتمام المولى بتكليفه في ظرف الشكّ ورضاه بالمخالفة، وروح الاحتياط عبارة عن اهتمامه به في ظرف الشكّ، فالعلم بالاهتمام على تقدير الوجود يساوق العلم بعدم جريان البراءة في الشبهات التي علمنا بالاهتمام فيها، ويساوق تعارض البراءات وتساقطها فيما لو تردّدت تلك الشبهات في دائرة أوسع من الشبهات، فتبقى البراءة في غير تلك الشبهات أو غير تلك الدائرة الأوسع بلا معارض.

الوجه الثاني: أن ينحلّ العلم الإجماليّ بدوران الأمر في الاهتمام بين التعيين والتخيير، بيان ذلك: أنّه لا إشكال في اهتمام المولى بالتكليف المعلوم بالإجمال