481

فالثالث هو الشكّ في المحصّل، والأوّل والثاني كلاهما من العلم الإجمالىّ بالتكليف، إلّا أنّ الأوّل ضابط للعلم الإجمالىّ الذي لا يقتضي الامتثال القطعىّ، والثاني ضابط للعلم الإجمالىّ الذي يقتضي الامتثال القطعىّ، كما شرحناه. وبهذا يتحفّظ على إباء الوجدان والارتكاز عن عدم اقتضاء العلم في هذا المثال للامتثال القطعىّ(1).

 

العلم الإجمالىّ في مرحلة الامتثال

 

وأمّا العلم الإجمالىّ في مرحلة الامتثال، فالبحث عنه راجع إلى المقام، ولا علاقة له ببحث البراءة والاشتغال؛ فإنّ البحث عن كفاية الامتثال بالعلم الإجمالىّ في الحكم بفراغ الذمّة وعدمها بحث عن حكم العلم يناسب ذكره هنا.

وقد وقع الخلاف بين الأعلام في كفاية الامتثال الإجمالىّ مع التمكّن من الامتثال التفصيلىّ في العبادات بعد الاتّفاق على كفايته في التوصلّيّات.

ودعوى لزوم الامتثال التفصيلىّ في العبادات يمكن تفسيرها بأحد وجوه ثلاثة:

الأوّل: دعوى لزوم ذلك لا لوجوبه في نفسه، بل لتحقيق عنوان آخر يجب تحقيقه في العبادات، كقصد الطاعة مثلاً.

الثاني: دعوى وجوبه بنفسه وجوباً شرعيّاً خطابيّاً بناءً على إمكان أخذه في الخطاب، أو غرضيّاً بناءً على عدم إمكان أخذه في الخطاب.

الثالث: دعوى وجوبه عقلاً: إمّا باقتضاء التكليف ذلك وداعويّته له كما يقتضي العمل


(1) ما جاء في كتاب مصباح الاُصول للسيّد محمّد سرور تقريراً لبحث السيّد الخوئىّ الجزء الثاني صفحة (351) صريح في اقتضاء العلم الإجمالىّ بالتكليف مطلقاً لوجوب الموافقة القطعيّة؛ إذ ذكر عدم شمول البراءة العقليّة لشيء من الأطراف بنكتة تماميّة البيان. فلعلّ ما نقله اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) هنا عن السيّد الخوئىّ: من عدم اقتضاء العلم الإجمالىّ لوجوب الموافقة القطعيّة راجع إلى تأريخ سابق. هذا، والقول بعدم اقتضاءالعلم الإجمالىّ بالتكليف لوجوب الموافقة القطعيّة منقول في أجود التقريرات (ج 2 ص 245) عن المحقّق النائينىّ، فيرى(رحمه الله) أنّ التنجيز للموافقة القطعيّة إنّما هو بنكتة تساقط الاُصول، ولا علّيّة أو اقتضاء للعلم الإجمالىّ لوجوب الموافقة القطعيّة،إلّا بمعنى دخله في تساقط الاُصول. ولكن المنقول عنه في تقرير الكاظمي (ج 4 ص 9) هو اقتضاؤه لوجوب الموافقة القطعيّة. فيحمل هذا الاختلاف على اختلاف الزمان باعتبار ما قاله اُستاذنا الشهيد من كون تقرير الكاظمىّ تقريراً لدورة سابقة، وسيأتي ذلك في بحث البراءة والاشتغال إن شاء الله تعالى.

482

على طبقه، فهو داخل في حقّ الامتثال، أو بأن يقال بكونه حقّاً مستقلّاً للمولى في قبال حقّ الامتثال.

وهذا نظير ما مضى في مسألة الموافقة الالتزاميّة: من أنّ دعوى الوجوب العقلىّ لها تارة تكون بمعنى دعوى اقتضاء التكليف لها، واُخرى بمعنى دعوى حقّ مستقلّ في قبال حقّ الامتثال.

والبحث على الوجه الأوّل ليس بحثاً في حكم من الأحكام أو متعلّقه، فالحكم والمتعلّق معلوم، وقصد الطاعة ـ مثلاً ـ قد فرض الفراغ من وجوبه، وإنّما الكلام فيما يمكن أن يتحقّق معه متعلّق الحكم وما لا يمكن.

وعلى الوجه الثاني بحث فقهىّ صرف، فحال البحث عن وجوب كون الامتثال تفصيليّاً شرعاً وعدمه كحال البحث عن وجوب قصد القربة وعدمه.

وأمّا على الوجه الثالث، فهو بحث عن الأحكام العقليّة للقطع مربوط بما نحن فيه. وعلى أىّ حال، فالتقريبات التي ذكروها في المقام لأجل إثبات الامتثال التفصيلىّ يرجع بعضها إلى الوجه الأوّل، وبعضها إلى الوجه الثاني، وبعضها إلى الوجه الثالث. ومقتضى استيفاء البحث لتمام التقريبات والخصوصيّات في المقام هو الكلام في تمام الوجوه الثلاثة فنقول:

أمّا الوجه الأوّل: وهو دعوى الفراغ من وجوب شيء آخر غير تفصيليّة الامتثال في العبادات يتوقّف على تفصيليّة الامتثال، فهذا ما يستفاد من صدر عبارة المحقّق النائينىّ(رحمه الله)الواردة في التقريرات حيث يفهم منها: أنّ العقل يحكم بالاستقلال بأنّ قصد الطاعة الذي اعتبر في العبادات إنّما يحسن لدى التمكّن من الامتثال التفصيلىّ إذا كان قد انبعث من أمر المولى بالتفصيل، أمّا الانبعاث من مجرّد احتماله، فلا حسن فيه ما دام متمكّناً من الامتثال التفصيلىّ، ويشترط في العبادة أن يكون الانبعاث وقصد الطاعة بنحو حسن عقلاً.

وجاء في أجود التقريرات دليل على اختصاص الحسن لدى التمكّن من الانبعاث التفصيلىّ بالانبعاث التفصيلىّ، (ولم يذكر هذا الدليل في تقرير المحقّق الكاظمىّ(رحمه الله)) وهو: أنّ احتمال الأمر متأخّر رتبة عن نفس الأمر، إذن فيكون التحرّك والانبعاث عن احتمال الأمر متأخّراً رتبة عن التحرّك والانبعاث عن نفس الأمر، وبما أنّ التحرّك

483

والانبعاث في الامتثال التفصيلىّ يكون عن نفس الأمر، إذن فهو الأمر الحسن عند التمكّن منه، ولاتصل النوبة إلى الانبعاث من احتمال الأمر، إلّا لدى العجز عن الانبعاث من أصل الأمر.

أقول: إنّ تأثير تأخّر احتمال الأمر عن نفس الأمر رتبة في اختصاص الحسن بالانبعاث من نفس الأمر مع الإمكان دعوى لا برهان عليها... نعم، قد يدّعي المحقّق النائينىّ(رحمه الله)وجدانيّتها، وهي ليست إلّا كدعوى حكم العقل والوجدان بعدم حسن الامتثال الإجمالىّ مع التمكّن من الامتثال التفصيلىّ. وليس في ضمّ هذه الدعوى إلى دعوى عدم حسن الامتثال الإجمالىّ مع التمكّن من التفصيلىّ أثر في المقام.

ثمّ إنّنا لم نعرف لماذا يفترض أنّ الانبعاث في الامتثال التفصيلىّ انبعاث من نفس الأمر الذي هو مقدّم رتبة على احتماله، في حين أنّ الأمر بوجوده الواقعىّ لا يكون محرّكاً، وإنّما المحرّك هو ما في نفس المكلّف من العلم بالأمر أو احتماله، والعلم بالأمر حاله حال احتمال الأمر، ولا يتوهّم أيّ تقدّم رتبىّ له على الاحتمال.

وعلى أىّ حال، فما مضى من التقريب كان هو المستفاد من صدر كلام المحقّق النائينىّ(رحمه الله)، ولكن جاء في ذيل كلامه ما يناقض هذا المعنى حيث ذكر: أنّه لو تنزّلنا من القطع بعدم حسن الامتثال الإجمالىّ عند التمكّن من الامتثال التفصيلىّ، وشككنا في ذلك، دخل المورد في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير، والأصل في تلك المسألة يقتضي التعيين. وهذا الذيل كما ترى يناسب افتراض كون الامتثال التفصيلىّ ـ على تقدير وجوبه ـ واجباً في نفسه، لا محقّقاً لعنوان آخر واجب، وهو قصد الطاعة بشكل حسن أو حسن الانبعاث، وإلّا فلا علاقة لذلك ببحث البراءة والاشتغال في دوران الأمر بين التعيين والتخيير، بل يدخل في مسألة القطع بشغل الذمّة والشكّ في الفراغ، والاشتغال اليقينىّ يستدعي الفراغ اليقينىّ(1).

وعلى أىّ حال، فلو سلّمنا دخول المسألة في باب البراءة والاشتغال، فبغضّ النظر عن النقاش في مبنى أصالة التعيين، وأنّ الصحيح عند الدوران بين التعيين والتخيير هو أصالة


(1) إرجاع المقام إلى باب الدوران بين التعيين والتخيير إنّما ورد في تقرير الكاظمىّ(رحمه الله). أمّا الوارد في أجود التقريرات، فهو أنّه مع فرض الشكّ ليس المورد مورداً للبراءة؛ لأنّ البراءة لا تجري في الاُمور المشكوك اعتبارها في الطاعة العقليّة. ولعلّه يقصد بذلك مسألة الشكّ في حصول الامتثال والفراغ.

484

التخيير، ننكر رجوع الأمر في المقام إلى باب التعيين والتخيير، بل الأمر دائر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، فإنّنا نعلم بوجوب الإتيان بمتعلّق الأمر بقصد القربة بالمعنى الذي سيأتي إن شاء الله، ونشكّ في وجوب أمر زائد، وهو التحرّك عن نفس الأمر أو العلم به وعدمه، والأصل عند دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين هو البراءة.

أمّا أصل ما جاء في صدر التقرير لكلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله): من افتراض اشتراط العبادة بقصد أمر حسن عقلاً، فيرد عليه:

أوّلاً: أنّ الذي ثبت في الفقه في العبادات إنّما هو لزوم قصد التقرّب إلى الله مع كون الفعل قابلاً للتقرّب به، وكلا الأمرين ثابتان فيما نحن فيه، ولو كان الامتثال إجماليّاً مع التمكّن من الامتثال التفصيلىّ. ودليل العباديّة منحصر في الغالب بالإجماع، والقدر المتيقّن منه ما ذكرناه، ولا دليل على اشتراط كون العبادة بقصد أمر حسن عقلاً (1).

وثانياً: لو سلّمنا ذلك، فلانسلّم ما دلّ عليه وجدان المحقّق النائينيّ(رحمه الله): من عدم حسن الامتثال الإجمالىّ مع التمكّن من الامتثال التفصيلىّ، بل وجداننا يشهد بحسن ذلك.

ثُمّ إنّ إجماليّة الامتثال والانبعاث عن احتمال الأمر تارة يكون على أساس كون الأمر احتماليّاً وغير معلوم أصلاً.

واُخرى يكون على أساس العلم الإجمالىّ والدوران بين المتباينين.

وثالثة يكون على أساس الدوران بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

وما أفاده المحقّق النائينىّ(رحمه الله): من كون التحرّك عن نفس الأمر أو عن العلم به مقدّماً على التحرّك عن احتمال الأمر يتأتّى في الفرض الأوّل(2) بلا إشكال.

فلو لم يفحص لمعرفة ما إذا كان هناك أمر حقيقة أو لا، واكتفى بالإتيان بالفعل


(1) عبّرنا في صدر البحث وقبل الشروع في الإشكال على أصل التقريب بما يستفاد من عبارة التقرير: من اشتراط حسن الانبعاث والتحرّك، ولكنّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) عبّر بتعبير (قصد عنوان حسن). فإن كان المقصود من هذا التعبير ما يرجع إلى ذاك التعبير، فهذا الإشكال غير وارد عليه؛ لأنّ التحرّك والانبعاث لو لم يكن حسناً، لما كان مقرّباً، ولابدّ في العبادة من المقرّبيّة.

(2) وهو فرض كون الأمر احتماليّاً غير معلوم ولو بالعلم الإجمالىّ. نعم، لو كان هذا الاحتمال غير منجّز كما في الشبهة الموضوعيّة أو الحكميّة بعد الفحص، فقد ذهب من يدّعي تقدّم الامتثال التفصيلىّ إلى جواز الاكتفاء في هذا الفرض بالإجمالىّ. وسيأتي الكلام عن ذلك.

485

احتياطاً، فقد تحرّك عن احتمال الأمر، لا عن نفس الأمر أو العلم به.

وأمّا في الفرض الثاني فقد ذكر السيّد الاُستاذ (معترضاً على اُستاذه المحقّق النائينىّ(رحمه الله)): أنّ هذا الوجه لا ينطبق في المقام؛ لأنّ التحرّك في الحقيقة تحرّك عن أمر معلوم لا عن احتمال الأمر؛ فإنّه إنّما أتى بعملين لعلمه الإجمالىّ بثبوت الأمر بأحدهما.

أقول: إنّ أصل العلم بالأمر لا يحرّك الشخص ابتداءً نحو هذا الفرد أو ذاك الفرد، وإنّما يحرّكه نحو أىّ فرد بواسطة احتمال انطباقه على ذاك الفرد، فالاحتمال هو الجزء الأخير للعلّة المحرّكة، وهذا فرض متوسّط بين فرض كون المحرّك ابتداءً الأمر المعلوم، وفرض كون تمام المحرّك هو الاحتمال. وبما أنّ دعوى عدم حسن التحرّك عن احتمال الأمر مرجعها إلى الوجدان فسعة دائرتها وضيقها ـ أيضاً ـ بيد الوجدان، فبإمكان المحقّق النائينىّ(رحمه الله) أن يدّعي أنّ عدم الحسن شامل لهذا الفرض، كما أنّ بإمكان من يدّعي مثل هذا الوجدان أن ينكر شموله لهذا الفرض.

وبما ذكرنا ظهر الحال بالنسبة إلى الفرض الثالث، فإن قلنا بانحلال الأمر المتعلّق بالمركّب إلى الأوامر الضمنيّة، كان الجزء الأخير للمحرّك نحو الجزء المشكوك هو احتمال الأمر الضمنىّ بالنسبة إليه، وإن قلنا بعدم انحلاله كان الجزء الأخير للمحرّك نحوه احتمال انطباق الأمر المعلوم عليه.

وعلى أىّ حال، فسعة دائرة عدم الحسن وضيقها: بأن تشمل أو لاتشمل هذا الفرض ترجع إلى الوجدان، فمدّعي الوجدان قد يدّعي شموله لهذا الفرض، وقد ينكر ذلك(1).

وأمّا الوجه الثاني: وهو دعوى وجوب الامتثال التفصيلىّ خطابيّاً، أو غرضيّاً، فله تقريبان:

الأوّل: دعوى قيام الدليل ووجوب التفصيليّة في مقام الإتيان بالعبادة. وهو ما يدّعى في المقام: من قيام الإجماع على بطلان الاحتياط مع التمكّن من الامتثال التفصيلىّ، وهو كما ترى.

الثاني: أن يقال: صحيح أنّه لم يقم دليل على وجوب ذلك، لكنّه لم يقم دليل على


(1) وبالفعل قد أفتى المحقّق النائينىّ(رحمه الله) بجواز الاكتفاء بالامتثال الإجمالىّ في هذا الفرض، فكأنّ هذا راجع إلى دعوى ضيق دائرة الوجدان الذي يحسّ به.

486

عدم الوجوب أيضاً، فيبقى احتمال الوجوب منجّزاً مادام لا يمكن التأمين، لا بالإطلاق ولا بالبراءة.

أمّا الأوّل: فلعدم إمكان أخذ هذا القيد في الخطاب كقصد القربة؛ لأنّه ممّا لا يتأتّى إلّا من قبل الأمر ومترتّب عليه، وما لا يمكن أخذه في الخطاب لا يتمّ الإطلاق بلحاظه بحسب عالم الإثبات.

وأمّا الثاني: فلأنّ هذا الوجوب عقلىّ، وليس وجوباً شرعيّاً؛ لعدم إمكانيّة أخذه في متعلّق الخطاب. والبراءة إنّما ترفع الحكم الشرعىّ.

والواقع: أنّ وجوب تفصيليّة الامتثال أو ما شابه ذلك كقصد القربة وجوب شرعىّ حتّى بناءً على عدم إمكان أخذه في متعلّق الخطاب. فدخل الشيء في غرض الشارع عبارة عن الوجوب الشرعىّ، وأمّا العقل فهو يحكم بوجوب امتثال ما هو دخيل في غرض المولى ولا يرضى بفوته. وهذا غير كون متعلّق غرض المولى واجباً عقليّاً.

وشبهة عدم جريان البراءة نشأت عن التصوير المتعارف لحقيقة الحكم الظاهرىّ، أمّا بعد معرفة حقيقة الحكم الظاهرىّ ورجوعه إلى مدى اهتمام وعدم اهتمام المولى بغرضه ـ كما مرّت الإشارة إلى ذلك، وسيأتي تفصيلاً في بحث الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ ـ فيتّضح جليّاً ما ذكرناه هنا: من إمكانيّة الرفع الظاهرىّ في المقام بالبراءة.

على أنّ عدم تماميّة الإطلاق في المقام غير مقبول حتّى إذا تمّ ذلك في قصد القربة؛ وذلك لأنّ ما نسبه المحقّق النائينىّ(رحمه الله) ـ على ما ببالي ـ إلى الميرزا الشيرازىّ الكبير كوجه في مقام تصوير تقييد الخطاب في باب قصد القربة، يتمّ في المقام، وإن لم يكن تامّاً فى باب قصد القربة.

وتوضيح ذلك: أنّ المنسوب إلى الميرزا الشيرازىّ هو أنّ قصد القربة ـ و إن كان مترتّباً على الأمر، ولايتأتّى إلّا من قبله، فلا يمكن تقييد الأمر به ـ يمكن تقييده بمانعيّة الدواعي(1) الاُخرى. أقول: هذا الكلام لم يكن تامّاً في قصد القربة، لكنّه يتمّ في المقام.


(1) ما جاء في أجود التقريرات ( ج 1 ص 111 ) نقلاً عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله) هو أنّه حكي عن بعض تقريرات العلّامة الشيرازيّ(قدس سره): أنّ نفس الداعي القربيّ لم يمكن أخذه في المتعلّق، إلّا أنّه يمكن أخذ عنوان ملازم له فيه. واُستاذنا الشهيد(رحمه الله) ذكر في بحث التعبّديّة والتوصّليّة تصويراً لهذا العنوان الملازم، وهو: افتراض أن يكون هذا العنوان عبارة عن عدم كون الفعل بداع نفسانيّ، أي: سائر الدواعي غير قصد الامتثال.

487

وتوضيح الفرق: أنّه في باب قصد القربة كما لا يتصوّر قبل الأمر صدور الفعل بداعي القربة ـ بحسب الفرض ـ كذلك لا يتصوّر صدوره لابداع آخر غير داعي القربة؛ لأنّ هذا مساوق لصدور الفعل بلا داع، وهذا غير معقول في الأفعال الاختياريّة، ولكن يصحّ نظير هذا الكلام فيما نحن فيه؛ وذلك بأن يؤخذ في متعلّق الأمر قيد عدم الامتثال الإجمالىّ بدلاً من أخذ قيد الامتثال التفصيلىّ، فيكون الواجب هي الصلاة المقيّدة بعدم كون الإتيان بها بقصد الامتثال الإجمالىّ، وهذا ممكن قبل الأمر. وفائدة هذا القيد هي: انتفاء ما يقابله بحسب الخارج؛ إذ بعد هذا القيد يصبح الامتثال الإجمالىّ مستحيلاً، فالتقييد في بعض الموارد يفيد رفع الحكم عن الفرد الفاقد للقيد، كما في أكرم الرجل العالم، وفي بعض الموارد يفيد إعدام ذاك الفرد في الخارج، كما فيما نحن فيه، وكما فيما مضى في باب أخذ العلم بالحكم مانعاً عن الحكم.

وأمّا الوجه الثالث: وهو دعوى وجوب الامتثال التفصيلىّ عقلاً، فتارة يقصد بذلك دعوى اقتضاء نفس التكليف لذلك باعتباره مقتضيّاً للامتثال، واُخرى يقصد به دعوى حكم العقل بحقّ مستقلّ للمولى غير حقّ الامتثال:

أمّا الأوّل: فيرد عليه: أنّه بعد فرض عدم دخل تفصيليّة الامتثال في خطاب المولى ولا في غرضه، لا معنىً لاقتضاء التكليف لها اقتضاءً امتثاليّاً بحكم العقل. وقد مضى توضيح ذلك في باب الموافقة الالتزاميّة، ونقول هنا ـ أيضاً ـ: إنّ للتكليف اقتضاءين للامتثال:

أحدهما: الاقتضاء الذاتىّ، وهو: اقتضاؤه له بمقدار رغبة العبد في نفسه لتحصيل أغراض المولى بغضّ النظر عن حكم العقل العملىّ بوجوب الطاعة. وهذا الاقتضاء ثابت في التماس العبد من المولى أيضاً، فالالتماس له محرّكيّة ذاتيّة للمولى بقدر ما في نفس المولى من الرغبة في تحصيل أغراض عبده. ومن الواضح: أنّ هذا الاقتضاء غير معقول فيما نحن فيه؛ إذ المفروض عدم تعلّق غرض المولى بتفصيليّة الامتثال، فرغبة العبد لتحصيل أغراض المولى لا أثر لها في المقام.

وثانيهما: الاقتضاء العرضىّ الثابت بحكم العقل الذي هو عبارة عن دركه لوجوب تحصيل غرض المولى الذي يهتمّ به. وهذا في الحقيقة متمّم للاقتضاء الذاتىّ. فالعبد إن

488

لم يكن يمتلك رغبة نفسيّة في تحصيل غرض المولى بمقدار يحرّكه نحو الطاعة، فحكم العقل بحسن الطاعة وقبح المعصية يحرّكه نحوها. أمّا إذا فرض أنّ شيئاً ما غير دخيل في غرض المولى، وأنّه خارج عن دائرة الاقتضاء الذاتىّ للتكليف، فليس من المعقول اقتضاء التكليف له بحكم العقل.

وأمّا الثاني: فتقريبه: أنّ الإطاعة الإجماليّة بالتكرار مع التمكّن من الإطاعة التفصيليّة لعب واستهزاء بأمر المولى. وللمولى حقّ مستقلّ يحكم به العقل غير حقّ الامتثال، وهو: حقّ عدم الاستهزاء واللعب بأوامره، ويترتّب على ذلك بطلان العبادة حتّى بناءً على عدم استحالة اجتماع الأمر والنهي؛ وذلك على ما حقّقناه في محلّه: من أنّ النهي في العبادة يوجب البطلان؛ لاستحالة قصد التقرّب بالقبيح، سواء قلنا باستحالة اجتماع الأمر والنهي، أو لا.

ويرد عليه:

أوّلاً: النقض بالامتثال الإجمالىّ في التوصّليّات بناءً على ما ذهبوا إليه: من استحالة اجتماع الأمر والنهي؛ وذلك لأنّ كون التكرار لعباً واستهزاءً بأمر المولى لو تمّ لم يكن مختصّاً بالعبادات، ففي التوصّليّات ـ أيضاً ـ يكون ذلك لغواً أو استهزاءً، وبالتالي يكون قبيحاً، فيخرج عن تحت عنوان المأمور به؛ لاستحالة اجتماع الأمر والنهي، وبالتالي لا يقتضي الإجزاء، ويكون باطلاً.

وثانياً: ما ذكره المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله): من منع لزوم اللعب من التكرار والاحتياط؛ إذ قد يكون ذلك بداع عقلائىّ، كما لو كان أسهل عليه من تحصيل العلم. (وللمحقّق الخراسانىّ(رحمه الله)) جواب آخر سيأتي إن شاء الله.

واُورد على هذا الجواب في (الدراسات): أنّ فرض كون التكرار والاحتياط بداع عقلائىّ لا يكفي لتصحيح العبادة؛ فإنّ العبادة بحاجة إلى قصد القربة، ولا يكفي فيها مجرّد عدم داعي اللعب، فإذا لم يكن الداعي هو قصد القربة، تبطل العبادة، سواء كان الداعي هو داعي اللعب، أو داعياً عقلائيّاً. ومن هنا اُفيد في (الدراسات) أنّ الصحيح في الجواب عن الإشكال إنّما هو الجواب الثاني من جوابي المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله).

أقول: لو كان الإشكال الذي أجاب عنه المحقّق الخراسانىّ عبارة عن دعوى: كون سالك الاحتياط تاركاً لقصد القربة اعتباطاً ومنبعثاً عن قصد اللعب، لكان كلام

489

(الدراسات) في محلّه ؛ إذ يقال: إنّ تبديل داعي اللعب بداع عقلائىّ لا يؤثّر شيئاً، فالمهمّ إنّما هو تحقيق القربة؛ ولكن الإشكال الذي جاء في الكفاية وأجاب عنه لم يكن هو هذا، وإنّما هو عبارة عن أنّه مع اللعب بأمر المولى يستحيل قصد القربة.

وهذا الإشكال كما ترى ينتفي بتبديل داعي اللعب بداع عقلائىّ.

وثالثاً: أنّنا لو سلّمنا لزوم اللعب، كما هو كذلك في غير فرض ثبوت داع عقلائىّ، لم نسلّم كونه لعباً بأمر المولى، بل هو لعب في نفسه غير مربوط بأمر المولى، نظير ما لو اشتهى أحد بلا داع عقلائىّ أن يصلّي صلاة الظهر على قمّة جبل عال واقع في مكان خاصّ، فذهب إلى هناك، وصلّى متقرّباً إلى الله تعالى. فهذا صحيح أنّه صدر عنه اللعب، لكنّه لم يكن لعباً بأمر المولى واستهزاءً به كي يكون قبيحاً عقلاً.

هذا. والمحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) صاغ جوابه عن الإشكال ـ غير الجواب الذي مضى عنه ـ بصياغة: أنّ اللعب إنّما يضرّ إذا كان لعباً بأمر المولى، لافي كيفيّة الطاعة بعد حصول الداعي إليها، كما في المقام.

أقول: إن كان المقصود باللعب في كيفيّة الطاعة: ما يكون زائداً على الطاعة ومن مقارنات الطاعة، فصحيح أنّ هذا لا يضرّ بالقربة، أمّا إذا كان المقصود بذلك: كون تلك الكيفيّة مصداقاً للطاعة، فهذا لا ينبغي الشكّ كبرويّاً في أنّه يضرّ بالقربة.

أمّا الكلام في ذلك صغرويّاً، فلنوضّح أوّلاً أنّه ينبغي أن يكون المقصود بالطاعة في المقام الطاعة العقليّة، لا ذات الإتيان بالواجب؛ إذ لو كان الواجب في علم الله هو الجمعة ـ مثلاً ـ في مورد العلم الإجمالىّ بوجوب الظهر أو الجمعة، فمن الواضح: أنّ تكرار العمل بمعنى الإتيان بصلاة الظهر منضمّاً إلى الجمعة ليس لعباً في كيفيّة الإتيان بالجمعة؛ إذ ليس ضمّ الظهر إلى الجمعة كيفيّة للإتيان بالجمعة إلّا بنحو من المسامحة.

إذن فينبغي أن يكون المقصود هو افتراض اللعب في كيفيّة الطاعة العقليّة، بمعنى: أنّ العقل بعد الجزم بالتكليف يحكم بوجوب تحصيل الفراغ القطعىّ بأحد طريقين:

الأوّل: الإتيان بصلاة الجمعة ـ مثلاً ـ منضمّاً إلى تحصيل العلم التفصيلىّ بوجوبها.

والثاني: الإتيان بصلاة الجمعة منضمّاً إلى الإتيان بصلاة الظهر.

واختيار الثاني على الأوّل بلا داع عقلائىّ لعب.

490

وبعد هذا نقول: هل المفروض كون هذا اللعب مصبّه خصوص الإتيان بالصلاة الاُخرى غير الواجبة، وهي الظهر مثلاً، أو المفروض كون مصبّه المجموع المركّب من الإتيان بكلّ منهما(1)؟ فإن كان المفروض هو الأوّل، لم يضرّ ذلك بالصلاة الواجبة، وهي الجمعة مثلاً؛ لأنّ اللعب غير منصبّ عليها، وإن كان المفروض هو الثاني، فالإتيان بصلاة الجمعة جزء اللعب، وهذا حاله حال اللعب المستقلّ بصلاة الجمعة ينافي القربة، ويبطل الصلاة(2).

وعلى أية حال، فقد تحصّل من تمام ما ذكرناه: أنّ الإطاعة الإجماليّة تكون في عرض الإطاعة التفصيليّة.

 

تنبيهات

 

بقي التنبيه على اُمور:

الأمر الأوّل: أنّه لو سلّمنا الامتثال الإجمالىّ الوجدانىّ في طول التفصيلىّ الوجدانىّ، كما ذهب إليه المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، فهل نسلّم ـ أيضاً ـ كونه في طول الامتثال التفصيلىّ التعبّدىّ، فلا يجوز التنزّل إليه إلّا بعد عدم التمكّن من التفصيلىّ التعبّدىّ أيضاً، أو لا؟ اختار المحقّق النائينيّ(رحمه الله) الطوليّة هنا أيضاً.

وتحقيق الكلام في ذلك: أنّ الأمر يختلف باختلاف مباني المنع عن الامتثال الإجمالىّ الماضية:

فعلى المبنى الأوّل: الذي اختاره المحقّق النائينىّ(رحمه الله) يختلف الحال باختلاف تقريري بحثه، فإن اقتصر فيه على ما جاء في تقرير الشيخ الكاظمىّ(رحمه الله): من دعوى أنّ الامتثال


(1) ينبغي أن يكون المفروض هو الثاني؛ إذ الفرد غير الواجب ليس مشخّصاً لدى الفاعل كي يقع داعي اللعب له في خصوصه.

(2) لايبعد أن يكون مقصود المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) من التفصيل بين اللعب بأمر المولى واللعب في كيفيّة الطاعة: أنّه متى ما كان أصل الإتيان بمتعلّق الأمر بداعي اللعب بما أمر به الشارع بعنوان كونه مأموراً به من قبله، فهذا استهزاء بأمر المولى، وهو القبيح والمبطل للصلاة، ومتى ما كان جامع الإتيان بمتعلّق الأمر بداعي القربة، ولكن كانت هناك كيفيّتان للإتيان القطعىّ به، وكان اختياره لأحدهما على الاُخرى بداعي اللعب، فهذا لا يؤدّي إلى الاستهزاء بأمر المولى كي يكون قبيحاً ومبطلاً. وهذا كلام متين.

491

الإجمالىّ لا حسن فيه مع التمكّن من الامتثال التفصيلىّ، أمكن إجراء هذه الدعوى فيما نحن فيه، فإنّ هذا ليس كلاماً برهانيّاً، وإنّما هي دعوى وجدانيّة، أمر تمديدها وتقصيرها بيد صاحب هذا الوجدان.

وإن استدلّ على ذلك بما في أجود التقريرات: من أنّ التحرّك عن احتمال الأمر مؤخّر رتبة عن التحرّك عن عين الأمر؛ لأنّ احتمال الأمر مؤخّر رتبة عن الأمر، فهذا الكلام لا يأتي فيما نحن فيه؛ إذ لو سلّم أنّ التحرّك في الامتثال التفصيلىّ الوجدانىّ يكون عن عين الأمر، وغضّ النظر عمّا مضى: من أنّ التحرّك فيه تحرّك عن العلم بالأمر الذي هو في طول الأمر أيضاً كالاحتمال، فمن الواضح فيما نحن فيه: أنّ التحرّك يكون عن احتمال الأمر. فلو علم إجمالاً ـ مثلاً ـ بوجوب الظهر أو الجمعة، وقامت أمارة تعبّديّة على وجوب الظهر، فصلّى الظهر، كان تحرّكه ناشئاً عن احتمال انطباق المعلوم بالإجمال واقعاً على الظهر.

ولو فرض أنّ دليل حجّيّة الأمارة يجعل العلم والطريقيّة اعتباراً؛ فإنّ العلم الاعتباريّ لو كان له أثر، فأثره إنّما هو جعل هذا الاحتمال منجّزاً، لا كونه بالمباشرة موجباً للتحريك كالعلم الحقيقيّ؛ ولذا لو جعل شيء علماً اعتباراً أو تشريعاً، وكان العبد يقطع بمخالفة ذلك للواقع، لم يتحرّك نحو أثر المعلوم قطعاً.

وهذا الكلام الذي ذكرناه إنّما هو مشي على مباني المحقّق النائينيّ(رحمه الله). أمّا نحن فنقول ـ على ما سيظهر مفصّلاً إن شاء الله ـ: إنّ هذا الاحتمال كان منجّزاً بواسطة العلم الإجمالىّ، وأثر الأمارة إنّما هو سلب المنجّزيّة عن احتمال الطرف الآخر، ولا نجعل هذا إشكالاً مستقلّاً على المحقّق النائينىّ(رحمه الله) ؛ لعدم تماميّته على مبانيه(1).

وعلى المبنى الثاني: وهو وجوب الامتثال التفصيلىّ خطابيّاً أو غرضيّاً يمكن تطبيق المبنى على ما نحن فيه ـ أيضاً ـ بكلا تقريبيه، أعني: تقريب الاستدلال بالإجماع، وتقريب الاستدلال باحتمال الدخل في الغرض.


(1) الظاهر: أنّ الإشكال الأوّل ـ أيضاً ـ إشكال مبنائيّ؛ فإنّ المحقّق النائينىّ(رحمه الله)يرى أنّ العلم الاعتباريّ كالعلم الوجدانىّ رافع لموضوع قبح العقاب بلا بيان، وأنّ المقصود بالبيان هو الوصول والعلم، وللوصول والعلم فردان: فرد وجدانىّ، وفرد اعتبارىّ. فصحيح ما أورده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): من أنّ الأمارة إنّما تجعل الاحتمال منجّزاً؛ ولذا لو جعل المولى شيئاً علماً اعتباراً مع القطع بمخالفته للواقع، لم يكن محرّكاً، إلّا أنّ هذا ـ أيضاً ـ إشكال مبنائىّ، وليس بنائيّاً.

492

أمّا الأوّل: فلأنّ ما ذكر في كلماتهم من دعوى الإجماع على بطلان عمل تارك طريقي الاجتهاد والتقليد يشمل موارد الامتثال التعبّدىّ، كيف والتقليد ليس إلّا أخذاً بالتعبّد، وكذلك الاجتهاد غالباً.

وأمّا الثاني: فلأنّ من يحتمل دخل التفصيليّة في الغرض في الامتثال الوجدانىّ، قد يحتمل ذلك في الامتثال التعبّدىّ أيضاً، فيقدّمه على الامتثال الإجمالىّ الوجدانىّ.

وعلى المبنى الثالث: وأعني بذلك لزوم الامتثال التفصيلىّ؛ لكون الامتثال الإجمالىّ مع التمكّن من التفصيلىّ لعباً بأمر المولى، فهذا الوجه لا يتأتّى فيما نحن فيه(1)؛ إذ كيف يكون الامتثال الإجمالىّ في المقام لعباً؟ هل هو لعب في قبال التفصيلىّ التعبّدىّ، أو هو لعب في قبال الجمع بين التفصيلىّ التعبّدىّ والإجمالىّ؟

فإن قيل بالأوّل، ورد عليه: وضوح وجود داع عقلائىّ في الامتثال الإجمالىّ في المقام، وهو تحصيل القطع بامتثال الأمر الواقعىّ الذي لايحصل بالامتثال التفصيلىّ التعبّدىّ.

وإن قيل بالثاني، ورد عليه: أنّ الاقتصار على الامتثال الإجمالىّ الوجدانىّ في مقابل الجمع بينه وبين التفصيلىّ التعبّدىّ اقتصار على الأقلّ مؤونة في مقابل الأكثر، والأخفّ مؤونة في مقابل الأثقل. وهذا مشتمل على داع عقلائىّ، وليس لعباً.

فمثلاً: لو دار الأمر بين أن يعمل ابتداءً بالاحتياط بالجمع بين الظهر والجمعة، وأن يحصّل أوّلاً أمارة على وجوب أحدهما بالتعيين، ثُمّ يجمع بينهما، فمن الواضح: أنّ الأوّل أقلّ وأخفّ، وليس اختياره لعباً. وإن اتّفق أنّه لم تكن في تحصيل الأمارة أىّ مؤونة ومشقّة، كان اختيار كلّ واحد منهما في قبال الآخر اختياراً لأحد أمرين متساويين في المؤونة في قبال الآخر، ولا معنىً للحكم على أحدهما بكونه لعباً.

الأمر الثاني: أنّ المستشكلين في الامتثال الإجمالىّ يعترفون بعدم الإشكال فيه في موردين:

الأوّل: فرض عدم التمكّن من الامتثال التفصيلىّ.

وهذا واضح؛ لعدم تأتّي شيء من الوجوه السابقة فيه: فلا يأتي فيه ـ مثلاً ـ إشكال


(1) نعم، لو فرض كون تفصيليّة الامتثال من صميم الامتثال، وممّا يدعو إليه نفس التكليف، فقد تدّعى مثل هذه الدعوى فيما نحن فيه أيضاً.

493

تأخّر الانبعاث من احتمال الأمر عن الانبعاث من نفس الأمر؛ إذ المفروض عدم التمكّن من الانبعاث من نفس الأمر، ولا إشكال اللعب، كما هو واضح، ولا دخل لتفصيليّة الامتثال في الخطاب أو الغرض؛ إذ لو احتملنا دخلها في ذلك، فلا نحتمل دخلها بمستوى دخل الطهارة الحدثيّة بناءً على سقوط الصلاة عن فاقد الطهورين، وغاية الأمر فرض دخلها على حدّ دخل سائر الأجزاء والشرائط غير الركنيّة، أي: التي تسقط بالعجز.

نعم، بناءً على بعض مبان ضعيفة في مقام الاستشكال في الامتثال الإجمالىّ ـ تركنا فيما سبق ذكرها؛ لكونها في غاية الضعف ـ يسري الإشكال في المقام.

مثلاً: لو كان مبنى الإشكال اعتبار قصد الوجه(1) بالنحو الذي يقوله المتكلّمون، كان الإشكال سارياً. ولا يهمّنا تفصيل الكلام في ذلك.

الثاني: فرض عدم وجوب الامتثال عقلاً، كما لو كان الحكم استحبابيّاً، أو كان الحكم احتماليّاً غير معلوم إجمالاً مع وجود المؤمّن في قبال الاحتمال.

ولكن الواقع: أنّ الإشكال على بعض المباني يسري في المقام، كما لو كان مبنى الإشكال هو لزوم اللعب؛ إذ لا يفرّق ـ في كون التكرار لعباً بأمر المولى مع التمكّن من الامتثال التفصيلىّ ـ بين فرض وجوب الامتثال وعدمه(2).

الأمر الثالث: قد عرفت أنّ الحقّ كون الامتثال الإجمالىّ الوجدانىّ في عرض الامتثال التفصيلىّ لافي طوله.

وأمّا الامتثال الإجمالىّ التعبّدىّ، فهو ـ أيضاً ـ في عرض الامتثال التفصيلىّ؛ لما مضى: من بطلان تمام مباني الإشكال. فلو دلّت البيّنة أو أصالة الطهارة أو غير ذلك على طهارة أحد الثوبين، كفت الصلاة في كليهما على وجه التكرار، وإن كان متمكّناً من الامتثال التفصيلىّ.


(1) لو احتملنا دخل قصد الوجه والتمييز في العبادة بمعنىً لم يمكن هنا، فلانحتمل دخله في فرض العجز: بأن يكون حال العاجز عنه حال فاقد الطهورين بناءً على سقوط الصلاة عنه. وأنا أحتمل أنّ هذه القطعة من الكلام ذكرها شهيدنا الغالي(رحمه الله) في المقام اشتباهاً، وأنّها راجعة إلى الأمر الأوّل، وهو كون الامتثال الإجمالىّ الوجدانىّ في طول التفصيلىّ التعبّدىّ وعدمه؛ إذ يمكن القول هناك بأنّ الامتثال التفصيلىّ التعبّدىّ يحفظ الوجه والتمييز، ومعه لا تصل النوبة إلى الإجمالىّ الذي لا ينحفظ فيه الوجه أو التمييز.

(2) وبعض الوجوه لا يجري في المقام كالإجماع. أمّا عدم حسن الامتثال الإجمالىّ مع التمكّن من التفصيلىّ فإن كان بالوجدان، فأمره إلى صاحب الوجدان، وإن كان ببرهان طوليّة احتمال الأمر مع نفس الأمر، فهو يأتي في المقام.

494

نعم، قد يفترض أنّ دليل التعبّد إنّما أثبت التعبّد في فرض انسداد باب العلم وعدم التمكّن من تحصيله، فيكون الامتثال الإجمالىّ التعبّديّ ـ عندئذ ـ في عرضالامتثال التفصيلىّ التعبّديّ فحسب، ولايكون في عرض الامتثال التفصيلىّ الوجدانىّ، كما لا يكون في عرض الامتثال الإجمالىّ الوجدانىّ ـ أيضاً ـ إذا كان دليل التعبّد غير شامل لفرض التمكّن من العلم ولو إجمالاً. وهذا غير مرتبط بما نحن فيه.

والخلاصة: أنّ الامتثال الإجمالىّ التعبّدىّ في نفسه ليس في طول التفصيلىّ، بل في عرضه. أمّا عدم صحّته أحياناً في قبال الامتثال الوجدانىّ، فهو مطلب آخر.

ويستثنى من صحّة الامتثال الإجمالىّ التعبّدىّ مورد واحد.

توضيح ذلك: أنّ دليل التعبّد تارة ينصبّ على مورد معيّن، ثُمّ يقع الاشتباه، كما لو دلّت البيّنة أو أصالة الطهارة على طهارة ثوب معيّن، ثُمّ وقع الاشتباه بينه وبين ثوب آخر. وهنا لا إشكال في جواز الصلاة مرّتين: مرّة في هذا الثوب، ومرّة في الثوب الآخر؛ فإنّ هذا يؤدّي إلى العلم بالصلاة في ثوب محكوم بالطهارة تعبّداً.

واُخرى يفرض تردّد مورده من أوّل الأمر بين ثوبين مثلاً، وهذا يتصوّر على نحوين:

الأوّل: أن يكون لمورده نحو تعيّن في الواقع بغضّ النظر عن ذلك الحكم، بحيث يمكن لمن يعلم الغيب أن يشير إليه معيّناً ولو فرض كذب الدليل، كما لو كان أحد الثوبين ملكاً لزيد، ووقع الاشتباه بين ما هو ملك زيد وما ليس ملكه، والبيّنة أو أصالة الطهارة دلّت على طهارة الثوب الذي هو ملك لزيد. وهنا ـ أيضاً ـ يجوز تكرار الصلاة في الثوب؛ إذ بذلك يحصل له العلم بأنّه قد صلّى في ثوب محكوم بالطهارة واقعاً.

الثاني: أن لا يكون لمورده تعيّن كذلك بحيث لو كان الدليل كاذباً، لم يمكن حتّى لعلّام الغيوب أن يشير إلى فرد معيّن، ويقول: (هذا هو مصبّ الدليل)، كما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الثوبين، واحتمل نجاستهما معاً، ولم يمكن للثوب المعلوم نجاسته أىّ تعيّن من قبل غير تلك النجاسة، ودلّت أصالة الطهارة على طهارة الثوب الآخر، أو دلّت البيّنة

495

على طهارة غير ما علمت نجاسته من دون فرض أىّ تعيّن له بغير هذا العنوان. فلو فرض في الواقع كلاهما نجساً، لم يكن لمصبّ الأصل أو البيّنة تعيّن في الواقع.

وحينئذ لو كانت مثبتات ذاك الدليل حجّة كما هو الحال في البيّنة، جاز تكرار الصلاة في الثوبين؛ إذ يثبت ـ عندئذ ـ بالملازمة أنّه صلّى في ثوب محكوم بالطهارة تعبّداً، أمّا لو لم تكن مثبتاته حجّة كما في أصالة الطهارة، فلايجزي تكرار الصلاة في الثوبين؛ إذ لا تنفعه أصالة الطهارة في المقام شيئاً، لابمدلولها الالتزامىّ ولابمدلولها المطابقىّ: أمّا الأوّل فلأنّ المفروض عدم حجّيّة مثبتاتها، وأمّا الثاني فلأنّ من المحتمل أن لايكون لموردها تعيّن حتّى في الواقع، فلانستطيع أن نحكم بثبوت الطهارة لثوب وقعت فيه الصلاة(1).

هذا تمام الكلام فيما كان ينبغي التعرّض له في بحث العلم الإجمالىّ في مرحلة الامتثال. وذكر هنا بعض اُمور اُخرى لايهمّنا التعرّض له. وبهذا تمّ الكلام في القطع.

 


(1) قد يقال باستحالة ثبوت الحجّيّة للأصل في المقام؛ لعدم إحراز صحّة الإشارة إلى فرد معيّن عند الله وإجراء الأصل بالنسبة إليه.

والواقع: أنّه لااستحالة في المقام؛ فإنّ الحكم الظاهرىّ روحه عبارة عن إبراز درجة اهتمام المولى بغرضه، وبالإمكان أن تكون درجة اهتمام المولى بغرضه في المقام بنحو لا يرضى بالاقتصار على صلاة واحدة في أحد الثوبين، ولكنّه يرضى بتكرار الصلاة في الثوبين على رغم احتمال نجاستهما، ولا يطالب بالاحتياط التامّ، وحينئذ يبقى البحث إثباتيّاً كي نرى أنّ شيئاً من هذا القبيل هل يمكن إبرازه عرفاً بلسان إجراء أصالة الطهارة في الثوب الآخر غير معلوم النجاسة، على الرغم من أنّه بالدقّة العقليّة لم يثبت وجود ثوب آخر لاحتمال عدم تعيّن معلوم النجاسة في الواقع، وبالتالي عدم تعيّن الثوب الآخر، أو أنّ إبراز ذاك المطلب بهذا اللسان غير عرفىّ؟ وهل مثل قوله: كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر يشمل عرفاً هذا المعنى، أو لا؟ والظاهر: أنّه عرفىّ، وأنّ الدليل يشمله، فيجري الأصل، ويثبت الإجزاء.

وقد يقال: إنّ المقدار الذي يصل إليه العرف إنّما هو نفي تعدّد النجاسة، وهذا أثره إنّما هو عدم تنجّز نجاستين على المكلّف. فلو كانا مائعين، وشربهما المكلّف، لم يعاقب إلّا عقاباً واحداً. أمّا صحّة الصلاة فترتبط بثبوت طهارة ثوب صلّى فيه أو نفي نجاسته، وهذا لا يثبت إلّا بالملازمة غير الحجّة في باب الاُصول، إلّا أنّ الأظهر هو ما ذكرناه؛ فإنّ العرف بعد العلم بنجاسة أحد الثوبين يجري أصالة الطهارة في الثوب الآخر، ويقول: (إنّنا صلّينا في الثوب الآخر)، وإن كان هذا بالتدقيق الفلسفىّ مناقشاً باحتمال عدم التعيّن في الواقع لعنوان: (الثوب الآخر).