340

خاصّة.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ الإطلاق المقاميّ لا يفرّق فيه بين الصحيح والأعمّ؛ لأنّ مصبّه هو المقام، وليس مصبّه هو اللفظ حتّى يتأثّر بتفسير اللفظ بالصحيح أو الأعمّ، فمتى ما قامت قرينة على أنّه بصدد الحصر كما في مثل صحيحة حمّاد بن عيسى تمّ الإطلاق المقاميّ، سواء قلنا بالصحيح أو بالأعمّ، وأمّا الإطلاق اللفظيّ فمصبّه هو اللفظ، ويتوقّف على كون مدلول اللفظ هو الجامع حتّى يرفض تقييده بمقدّمات الحكمة، فإن قلنا بالأعمّ فالصلاة جامع بين واجد السورة وفاقدها مثلا، فبالإمكان نفي احتمال تقييد المأمور به بالسورة بالإطلاق، وأمّا إذا قلنا بالصحيح فالسورة على تقدير دخلها في المأمور به دخيلة في المسمّى أيضاً، فلم نحرز كون مدلول اللفظ هو الجامع بين واجد السورة وفاقدها، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق.

وهذه ثمرة صحيحة وإن لم تكن ثمرة اُصوليّة.

 

تحقيق أصل المطلب

الجهة الخامسة: في تحقيق أصل المطلب، أي: أنّه هل أسامي العبادات موضوعة للصحيح أو للأعمّ؟

اختار السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ أنّها موضوعة للأعمّ، وذكر في وجهه: أنّ الواضع هو الشارع، إذن فيجب الرجوع إلى الشارع نفسه في معرفة أنّها وضعت للصحيح أو للأعمّ، إذن فالمسألة مسألة روائيّة، والمتحصّل عنده(1) من الروايات:


(1) الذي يبدو من المحاضرات: أنّ السيّد الخوئيّ(رحمه الله) لا يؤمن بالجامع بين الأفراد الصحيحة، ويؤمن به بين الأفراد الأعمّ من الصحيح والفاسد، وعليه فهو(رحمه الله) ليس بحاجة

341

أنّ المعنى الموضوع له هو الأركان، فإنّه قد دلّت الروايات على كون جملة من الأجزاء والشرائط قوام الصلاة، وأحصاها في أربعة: التكبير والركوع والسجود والطهارة. أمّا التكبير فلما دلّ عليه بعض الروايات من كونه افتتاحاً للصلاة(1)، إذن فمع عدمه لا يدخل الإنسان في الصلاة، ومن هنا نعرف أنّ من نسي التكبير تبطل صلاته وإن لم يصرّح بذلك في حديث لا تعاد(2)، وإنّما لم يصرّح به فيه؛ لأنّ «لا تعاد الصلاة» يفرض أنّ صلاةً قد وجدت، وأنّ الإنسان دخل في الصلاة، فيقول: «لا تعاد الصلاة»، ومن لم يكبّر لم يدخل في الصلاة حتّى يعيد أو لا يعيد. وأمّا الركوع والسجود والطهور، فلما دلّ عليه بعض الروايات من أنّ ثلثها ركوع، وثلثها سجود، وثلثها طهور(3). وأمّا باقي الأجزاء والشرائط فليست ركناً حتّى التسليم وإن قيل بركنيّته، فمن نسي التسليم وانصرف لم تبطل صلاته. هذا خلاصة ما ذكره دامت بركاته.

أقول: إنّ كلامه ينحلّ إلى جانب سلبيّ، وهو عدم دخل غير هذه الأركان


بعد ذلك إلى إقامة دليل على الأعمّ؛ إذ بعد فرض عدم الإيمان بالجامع بين الأفراد الصحيحة والإيمان بالجامع للأعمّ ينحصر الأمر في دعوى التسمية للأعمّ، فكأنّ الرجوع إلى الروايات إنّما هو لتشخيص حدود الأجزاء والشرائط التي لابدّ من تواجدها في المسمّى، لا لتشخيص أصل كون الصلاة اسماً للصحيح أو الأعمّ.

(1) من قبيل: عدد من روايات الباب 1 من أبواب تكبير الإحرام من الوسائل، ج 6 بحسب طبعة آل البيت.

(2) راجع الوسائل، ج 6 بحسب طبعة آل البيت، ب 9 من القراءة، ح 5، ص 91، وب 10 من الركوع، ح 5، ص 313، وح 1، ب 3 من الوضوء، ح 8، ص 372.

(3) راجع الوسائل، ج 6 بحسب طبعة آل البيت، ب 9 من الركوع، ح 1، ص 310.

342

الأربعة في المسمّى، وجانب إيجابيّ، وهو دخل هذه الأركان في المسمّى، واختلافه مع الصحيحيّ ليس في الجانب الإيجابيّ، فإنّ الصحيحيّ أيضاً يعترف بدخل هذه الأركان في المسمّى، وإنّما يختلف معه في الجانب السلبيّ، حيث يقول الصحيحيّ بدخل باقي الأجزاء والشرائط في المسمّى، وهو يقول بعدم دخله فيه، بينما هو ـ دامت بركاته ـ اقتصر في كلامه على البرهنة على الجانب الإيجابيّ، وأمّا الجانب السلبيّ فلم يتحصّل من كلامه أيّ برهان عليه، وغاية ما يمكن أن يتوهّم الاستدلال به على الجانب السلبيّ أحد وجوه ثلاثة:

1 ـ أن يقال: إنّ غير هذه الأربعة ليست ركناً، أي: لا يبطل الصلاة بالإخلال بها لدى بعض الأعذار، إذن فليست دخيلة في المسمّى.

ويرد عليه: ما بيّناه في تصوير الجامع على الصحيح من أنّه سنخ جامع يمكن أن يكون جزءٌ مّا دخيلا فيه في حال التمكّن غير دخيل فيه في حال العذر، إذن فعدم بطلان الصلاة بتركه عن عذر لا يدلّ على عدم دخله في حال التمكّن، فليفرض عدم دخله في المسمّى عند العذر، ودخله فيه عند التمكّن.

2 ـ أن يقال: إنّنا باستقراء الروايات رأينا نصّاً شرعيّاً على دخل هذه الاُمور الأربعة في المسمّى، ولم نرَ ذلك في غيره، فنستكشف من ذلك عدم الدخل.

ويرد عليه: أنّ هذا الوجه موقوف على اُمور أقلّها أن يُحرز تعلّق غرض الشارع ببيان تمام ماله دخل في المسمّى، وأنّى لنا بإثبات ذلك؟! نعم، قد تعلّق غرضه ببيان تمام ماله دخل في الواجب، وقد بيّنه في صحيحة حمّاد بن عيسى مثلا.

3 ـ الاستدلال برواية: الصلاة ثلثها الركوع، وثلثها السجود، وثلثها الطهور(1)،


(1) راجع وسائل الشيعة، ج 6 بحسب طبعة آل البيت، ب 9 من الركوع، ح 1، ص 310.

343

بدعوى أنّ هذه الرواية تنفي دخل أيّ شيء سوى هذه الثلاثة؛ إذ لا يكون للشيء أكثر من ثلاثة أثلاث، ولو بقينا نحن وإطلاق الرواية، لقلنا: إنّ التكبيرة أيضاً غير دخيلة في المسمّى، لكنّنا نقيّدها بروايات تكبيرة الإحرام، ويبقى الباقي خارجاً عن المسمّى.

ويرد عليه: أنّه بعد فرض قيام دليل على إضافة التكبيرة انثلم الحصر، ولا يبقى مجال للتمسّك برواية التثليث لنفي دخل باقي الأجزاء والشرائط في الصلاة، وليس حالها حال سائر المطلقات إذا خرج منه شيء بقي الباقي، فإنّ الحصر هنا إنّما ثبت بعنوان الثُلثيّة، ومن المعلوم أنّ عنوان الثُلثيّة ينثلم حقيقة بإضافة رابع، سواء اُضيف خامس أو لا، وعندئذ ففي مقام الجمع بين هذه الرواية المثلّثة وبين ما يدلّ على مدخليّة تكبيرة الإحرام لابدّ أن تحمل مثلاً الرواية المثلّثة على الثلث من حيث المعنى، أي: أنّه بمثابة الثلث لشدّة الأهمّيّة، من قبيل ما يقال: إنّ سورة التوحيد ثلث القرآن.

هذا كلّه في الجانب السلبيّ من كلامه. وأمّا الجانب الإيجابيّ، وهو مقوّميّة الركوع والسجود والطهارة والتكبير للمسمّى، فأيضاً يمكن المناقشة فيما أفاده لإثبات ذلك:

فأمّا مقوّميّة الركوع والسجود والطهارة فقد استفادها من الرواية المثلّثة. ويرد على هذه الاستفادة: أنّ كلمة «الصلاة» في هذه الرواية: إمّا أن يدّعى: أنّ المراد بها الصلاة المأمور بها بدعوى انصرافها إلى الصلاة المعهودة المطلوبة، أو يدّعى: أنّ المراد بها هو المسمّى، وليس لها نظر إلى باب الأمر. فإن استظهرنا الأوّل، فالرواية تصبح أجنبيّة عمّا نحن فيه، فإنّها إنّما تدلّ على دخل هذه الاُمور في المأمور به، لا المسمّى، وإن استظهرنا الثاني، إذن فلابدّ أن نستظهر أيضاً نفس المعنى من مثل

344

رواية «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»(1)، فلا تكون المقوّميّة مخصوصة بهذه الاُمور الثلاثة، وكون الفاتحة أحياناً لا تدخل في المسمّى كما في الأخرس والناسي لا يوجب إلاّ تقييد إطلاق «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»، وقد بيّنّا أنّ الجامع على الصحيح يمكن أن يكون بعض الأجزاء دخيلاً فيه بلحاظ حالة، وغير دخيل فيه بلحاظ حالة اُخرى.

وأمّا مقوّميّة التكبير فقد استفادها من رواية «أنّ الصلاة فاتحتها التكبير»، فكأنّه حملها على المسمّى، ولكن الانصاف أنّ الروايات الواردة في تكبيرة الإحرام لا يصلح شيء منها لإثبات المطلوب، ويمكن تقسيمها إلى عدّة طوائف:

1 ـ ما دلّ على إجزاء تكبيرة واحدة في افتتاح الصلاة، من قبيل: رواية زرارة «وتجزئك تكبيرة واحدة»(2). ومن المعلوم أنّ المراد: الإجزاء بلحاظ امتثال الأمر لا بلحاظ صدق المسمّى، فلا يدلّ على المطلوب.

2 ـ ما دلّ على أنّ التكبير أنف الصلاة، كما عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «ولكلّ شيء أنف، وأنف الصلاة التكبير» والرواية ضعيفة سنداً؛ لأنّه وقع فيها النوفلي ومحمّد بن سعيد يرويان معاً عن السكونيّ(3)، وكلّ من النوفلي ومحمدّ بن سعيد غير ثابت


(1) روي في الوسائل، ج 6 حسب طبعة آل البيت، ب 1 من القراءة، ح 1، ص 37 عن محمّد بن مسلم بسند صحيح عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «سألته عن الذي لا يقرأ بفاتحة الكتاب في صلاته؟ قال: لا صلاة إلاّ أن يقرأ بها ...».

(2) الوسائل، ج 6 بحسب طبعة آل البيت، ب 1 من تكبيرة الإحرام، ح 1، ص 9، ونحوها غيرها.

(3) للحديث سندان، وقع في أحدهما: سهل بن زياد عن النوفليّ عن السكونيّ، وفي الآخر: محمّد بن سعيد عن السكونيّ. راجع الوسائل، ج 4، ب 6 من أعداد الفرائض،

345

التوثيق. ودلالةً؛ لأنّ الأنفيّة لا تدلّ على المقوّميّة للمسمّى، وقد يبتر أنف الشيء ويبقى اسم الشيء.

3 ـ ما دلّ على أنّ التكبير مفتاح الصلاة، كرواية ناصح المؤذّن عن أبي عبدالله(عليه السلام) في حديث: «فإنّ مفتاح الصلاة التكبير»(1) وهي ضعيفة سنداً بناصح، ودلالةً؛ لأنّ مفتاح الشيء بحسب الفهم العرفيّ لا يلزم أن يكون داخلاً في حقيقة الشيء، وهذا التعبير كما يناسب ما هو داخل في حقيقة الشيء كذلك يناسب الخارج، كما في مفتاح الدار.

4 ـ ما دلّ على حصر افتتاح الصلاة بالتكبير، كرواية تقول: وأمّا قوله: «الله أكبر لا تفتح الصلاة إلاّ بها»(2)، وهي ضعيفة سنداً، ولو تمّت سنداً لقلنا: يحتمل في كلمة «لا» أن تكون ناهية أو نافية، فإن كانت نافية، فقد يقال بظهور الرواية في أنّ ابتداء الصلاة لا يكون إلاّ بالتكبير. وأمّا إذا كانت ناهية فتدلّ على الأمر بالافتتاح بالتكبير. أمّا دخله في المسمّى فلا يعلم.

5 ـ ما دلّ على أنّ تحريم الصلاة بالتكبير، كما عن النبيّ(صلى الله عليه وآله): «افتتاح الصلاة الوضوء، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم»(3). وكما ترى لا ربط لمسألة


ح 4، ص 24 ـ 25 بحسب طبعة آل البيت. واقتصر في الجزء 6، ب 1 من تكبيرة الإحرام، ح 6 على ذكر السند الثاني.

(1) الوسائل، ج 6 من تكبيرة الإحرام، ح 7، ص 10، ورواها كاملة في ج 8، ب 6 من صلاة الجماعة، ح 7، ص 304، وهي كالتالي: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): إنّي اُصلّي في البيت وأخرج إليهم، قال: اجعلها نافلة، ولا تكبّر معهم في الصلاة، فإنّ مفتاح الصلاة التكبير».

(2) الوسائل، ج 6، ب 1 من تكبيرة الإحرام، ح 12، ص 12.

(3) نفس المصدر، ح 10، ص 11.

346

تحريم المنافيات بالتكبير بالدخل في المسمّى وعدمه.

6 ـ ما دلّ على أنّه لا صلاة بدون افتتاح. وهذه أقوى الطوائف دلالة، كرواية عمّار: «سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الرجل سها خلف الإمام، فلم يفتتح الصلاة؟ قال: يعيد الصلاة، ولا صلاة بغير افتتاح»(1). فقد يقال: إنّ قوله «لا صلاة بغير افتتاح» يدلّ على نفي المسمّى بغير الافتتاح.

ويرد عليه: أوّلاً: أنّ هذه الجملة ـ على أقلّ تقدير ـ مجملة؛ لاقترانها بما يصلح للقرينيّة على كون المراد من النفي: النفي بلحاظ الوظيفة لا بلحاظ المسمّى؛ لأنّها مقرونة بقوله: «يعيد الصلاة» حيث أطلق لفظ الصلاة على الفاقد للافتتاح، فلئن نفى الصلاة تارةً فقد أثبتها تارةً اُخرى في خطاب واحد.

وثانياً: النقض بـ «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»(2)، أو «لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الصلاة»(3)، ونحو ذلك من النوافي الاُخرى. فإن استظهرنا من مثل هذه الفقرة نفي المسمّى، فليكن كذلك في الجميع، وإنّما الفرق: أنّ «لا صلاة بغير افتتاح» يشمل الناسي أيضاً، بخلاف «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»؛ لأنّ ناسي التكبيرة صلاته باطلة، وناسي الفاتحة صلاته صحيحة. وهذا لا يقتضي أزيد من أن تكون التكبيرة دخيلة على الإطلاق، والفاتحة دخيلة لا على الإطلاق. فإن كان المستظهر: أنّ التكبيرة دخيلة في المسمّى فليثبت هذا الاستظهار في الفاتحة أيضاً.

وقد اتّضح: أنّه لا توجد رواية بعنوان (أنّ الصلاة افتتاحها التكبير)، وإنّما


(1) الوسائل، ج 6، ب 2 من تكبيرة الإحرام، ح 7، ص 14.

(2) راجع الوسائل، ج 6 بحسب طبعة آل البيت، ب 1 من القراءة، ح 1، ص 37.

(3) راجع الوسائل، ج 5 بحسب طبعة آل البيت، ب 2 من القيام، ح 1 و 2، ص 488 ـ 489.

347

الموجود هذه المضامين التي عرفت حالها.

هذا، وكما أنّ دليله ـ دامت بركاته ـ على الأعمّ لم يتمّ كذلك سائر الأدلّة التي استدلّوا بها للصحيح أو للأعمّ قابلة للمناقشة.

 

أدلّة القول بالوضع للصحيح:

أمّا ما استدلّ بها على الصحيح، فأهمّها أربعة:

الأوّل: الأدلّة التي تحمل آثارالصلاة على الصلاة، كقوله: «الصلاة معراج المؤمن»(1)، و ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ﴾(2)، بدعوى: أنّ هذه الآثار لا تثبت للفاسد، وقد رتّبت في لسان الدليل على عنوان الصلاة وطبيعيّها، فيعرف أنّ عنوان الصلاة لا يشمل الفاسد.

وهذا الوجه غير تامّ على الأقلّ؛ لتوقّفه على كون الأصل عند دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص هو التخصّص، حيث إنّه: إن كانت الصلاة الفاسدة صلاة، إذن هي خارجة عن قوله: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ﴾ مثلاً بالتخصيص. وإن لم تكن صلاة فهي خارجة بالتخصّص، بينما لا نقول بهذا الأصل


(1) لم أجد هذه العبارة في رواية. نعم، وجدتها في كلمات والد صاحب البحار، نقلها عنه صاحب البحار، ج 82 في ذيل ح 2 من ب 4 من كتاب الصلاة، ص 303، وكذلك وُجدت هذه الجملة في كلمات صاحب البحار في نفس المجلّد، ب 2 من تلك الأبواب في ذيل ح 1، ص 248، وفي ج 84، ب 38 من كتاب الصلاة في ذيل ح 52، ص 255.

نعم، وجدنا في الروايات عبارة: «الصلاة قربان كلّ تقيّ». راجع الوسائل، ج 4، ب 12 من أعداد الفرائض، ح 1 و 2، ص 43 ـ 44.

(2) سورة العنكبوت، الآية: 45.

348

في باب المطلقات(1)، كما أنّ المعروف هو عدم صحّة هذا الأصل.

الثاني: الأدلّة النافية للصلاة عن الفاقدة لبعض الأجزاء والشرائط، من قبيل: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»، أو «لا صلاة لمن لم يُقِم صُلبَه في الصلاة»، والفاتحة ليست ركناً، فنتعدّى إلى غيرها بعدم احتمال الفرق.

ويرد عليه اُمور منها: أنّه: إن قلنا بانصراف الصلاة إلى المأمور به فلا يدلّ على دخل الفاتحة في المسمّى، وإنّما يدلّ على دخلها في الأمر. وإن منعنا هذا الانصراف وقع التعارض بين مثل هذا الدالّ على الصحيح وقوله: «الصلاة ثلثها الركوع، وثلثها السجود، وثلثها الطهور»(2) الدالّ على الأعمّ، وكما يمكن الجمع بينهما بتقديم رواية: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»، وحمل رواية التثليث على التثليث باعتبار الأهمّيّة، كذلك يمكن العكس بتقديم رواية التثليث وحمل


(1) حتّى ولو قلنا به في باب العمومات بدعوى جريان أصالة العموم حتّى لدى الشكّ في الاستناد؛ إذ لا يبعد أن يكون عدم صحّة ذلك في مورد ما إذا كانت الدلالة منحصرة بمجرّد الإطلاق ومقدّمات الحكمة، لا الوضع أوضح.

وممّا قد يورد على هذا الوجه أيضاً: أنّ قصد القربة على مبنى صاحب الكفاية القائل بالصحيح غير داخل في المأمور به، وبالتالي يجب أن يكون غير داخل في المسمّى، في حين أنّه داخل فيما تحمل عليه تلك الآثار، أي: المعراجيّة، أو كونه قربان كلّ تقيّ، أو ناهياً عن الفحشاء والمنكر، أو كونه عمود الدين ونحو ذلك، فهذا يشهد على أنّ المقصود بالصلاة في هذه الاستعمالات ليس هو المسمّى.

وممّا قد يورد على هذا الوجه: أنّه لم يثبت عدم وجود حظّ من هذه الآثار لكلّ صلاة باطلة.

(2) الأولى تبديل التمثيل برواية التثليث بالتمثيل بأوامر إعادة الصلاة ونحوها؛ لأنّ رواية التثليث لابدّ من توجيهها بإرادة التثليث بلحاظ الأهمّيّة؛ لوضوح عدم صدق الصلاة حتّى على الأعمّ على مجرّد هذه الاُمور الثلاثة، ومعه يتعيّن حملها على الصحيح.

349

«لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» على أنّه لا صلاة صحيحة إلاّ بفاتحة الكتاب.

الثالث: دعوى: أنّ سيرة العقلاء على أنّهم إذا اخترعوا شيئاً وضعوا اللفظ لخصوص الصحيح منه، والظاهر: أنّ الشارع لم يتخطّ طريقتهم.

وهذا أيضاً بهذا البيان لا محصّل له؛ إذ لو سلّمنا أنّ السيرة العقلائيّة كانت منعقدة على ذلك، فلا دليل على إمضاء الشارع لها؛ فإنّ السيرة إذا كانت في عمل من قبل العبيد والمكلّفين كالسيرة على العمل بخبر الواحد، كان سكوت الشارع دليلاً على الإمضاء؛ إذ لو لم يكن يرضى بعملهم هذا لكان ينبغي له ردعهم. وأمّا إذا لم تكن السيرة مربوطة بعمل المكلّفين بما هم مكلّفون كما في المقام، حيث إنّ السيرة راجعة إلى المخترعين الواضعين لأسماء بالنسبة لما اخترعوه، فسواء كان ذوق الشارع موافقاً لذلك أو لا ليس عليه الردع، غاية الأمر أنّه هو حينما يكون مخترعاً لا يصنع مثل ما صنعوا إذا كان يخالفهم في الذوق، وليس عليه أن يردع؛ لأنّ هذا ليس مربوطاً بالعمل والامتثال، إلاّ أن يرجع ذلك إلى توجيه أشرنا إليه سابقاً من أنّ الشارع قد صدر عنه وضع بقوله: وضعت اللفظ الفلانيّ للمعنى الفلانيّ، ولم يصرّح بالصحيح والأعمّ، فيكون انعقاد السيرة عند العقلاء موجباً لانعقاد ظهور كلام المولى في الوضع للصحيح، فيكون حجّة للرجوع إلى ظهور كلامه، إلاّ أنّ إثبات السيرة بنحو يكون أكيداً شديداً إلى حدّ يولّد هذا الظهور في كلام المولى دونه الصعاب، فإنّ المخترعين قليلون جدّاً، ولا توجد سيرة قويّة شائعة من هذا القبيل.

الرابع: التبادر، فإذا قيل: «صلّى فلان»، أو قيل: «أنا صلّيت في المسجد»، تبادر إلى ذهننا الصحيح، والتبادر علامة الحقيقة.

وهذا أيضاً لا محصّل له؛ لأنّ التبادر إنّما يكون علامة للحقيقة إذا كان ناشئاً من

350

حاقّ اللفظ، لا من القرينة، وهنا احتمال القرينة موجود، لا يمكن رفعه، فإنّ نفس المعهوديّة النوعيّة وكون الوظيفة هي الصلاة الصحيحة توجب في زماننا انصراف ذهننا، ولا يمكننا تجريد أنفسنا عن ذلك؛ فإنّها ليست معهوديّة موجودة لنا في حال دون حال حتّى نختبر أنفسنا عند عدمها.

 

أدلّة القول بالوضع للأعمّ:

وأمّا ما استدلّ بها على الأعمّ فأيضاً أهمّها أربعة:

1 ـ صحّة التقسيم إلى الصحيح والفاسد.

وفيه: أنّ صحّة التقسيم يمكن أن تفسّر بأمرين: أحدهما: أنّه يوجد للفظ «الصلاة» معنىً أعمّ قابل للانقسام الى الصحيح والفاسد، وهذا ثابت لا إشكال فيه، والثاني: أنّ هذا المعنى الأعمّ حقيقيّ وليس مجازيّاً أو عنائيّاً. فإن اُريد الاستدلال بالأمر الأوّل فقط فلا يدلّ على المطلوب؛ فإنّ هذا المعنى الأعمّ موجود لكنّه لعلّه معنىً مجازي، وإن اُريد الاستدلال بمجموع الأمرين فهو محال؛ فإنّ الثاني عين المتنازع فيه، فيلزم الاستدلال بالشيء على نفسه. نعم، لو كنّا حقيقة عالمين بالوضع للأعمّ صحّ هذا أن يكون منبِّهاً لا دليلاً مولّداً للعلم حقيقة.

2 ـ استعمال لفظ «الصلاة» وغيرها في الأعمّ في كثير من الروايات.

ويرد عليه: أنّنا إذا كنّا عالمين بالاستعمال في الأعمّ واُريد جعل ذلك دليلاً على الحقيقة، فإن اُريد الاستدلال بمجرّد الاستعمال، فهو أعمّ من الحقيقة. وأصالة الحقيقة ـ على ما بيّن في محلّه ـ إنّما تجري عند الشكّ في المراد، لا فيما إذا علم بالمراد وشكّ في أنّه حقيقيّ أو مجازيّ. وإن اُريد الاستدلال بكونه استعمالاً بلا عناية، فهذا معناه: كونه حقيقة، فهو استدلال بالشيء على نفسه.

351

هذا كلّه إذا علمنا بأنّ هذا استعمال في الأعمّ، ولم نعرف أنّه حقيقة، فأردنا إثبات الحقيقة. وأمّا إذا فرض العكس بأن عرفنا بوجداننا أنّ هذا الاستعمال لا عناية فيه. ولم نعرف بالتفصيل أنّه استعمال في الأعمّ، فبإقامة البرهان على أنّه استعمال في الأعمّ، يثبت أنّ الوجدان قد شهد بكون اللفظ حقيقة في الأعمّ، إلاّ أنّ هذا بحسب الحقيقة مرجعه إلى المنبّهيّة لا أكثر، أي: كنّا عالمين بالاستعمال في الأعمّ، وبأنّ الأعمّ حقيقة، غاية ما هناك: أنّنا ننبّه إلى علومنا.

3 ـ أن يقال كما ادّعى المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله)(1): إنّ سيرة المخترعين على الوضع للأعمّ قال(رحمه الله): إنّه جرت سيرة المخترعين على الوضع للأعمّ، لكن لا من ناحية الأجزاء، بل من ناحية الشرائط، فمثلاً يصنع الطبيب معجوناً مركّباً من عشرة أجزاء مشروطاً تأثيره بالشرب بعد الطعام أو عند حرارة الهواء أو غير ذلك، فذلك المعجون يسمّى باسمه حتّى لو خولفت تلك الشرائط. نعم، لا يسمّى باسمه عند تخلّف بعض الأجزاء، فهذا أعمّيّ من حيث الشرائط، وصحيحيّ من حيث الأجزاء.

ويرد عليه مضافاً إلى ما مضى من الإيراد على الاستدلال للصحيح بسيرة المخترعين: أنّ هذا خلط بين شرائط الدواء وشرائط استعماله، فالدواء الذي هو عين خارجيّة قد يكون من شرطه مثلاً كون المادّة الفلانيّة التي اُدخلت فيه حمراء اللون، أو حارّة، أو نحو ذلك، وهذه الشروط دخيلة في المسمّى، وبعد تماميّة ذات الدواء من حيث هو، تصل النوبة إلى الشرائط التي يشترط في استعماله حتّى يؤدّي مفعوله خارجاً، من قبيل: أكله بعد الطعام، أو في الهواء الحارّ، أو غيره.


(1) راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 71 بحسب طبعة مطبعة الطباطبائيّ بقم.

352

وهذه شرائط للفعل والاستعمال لا للدواء، فطبعاً لا تكون دخيلة في المسمّى، وكذلك في السيّارة مثلاً بما هي عين يشترط أن يكون حديدها صلباً من النوع الفلانيّ مثلاً. وهذا شرط نفس السيّارة، وأمّا كون نفس السائق ماهراً، فهذا شرط استعمالها وفعلِ السياقة. وأمّا فيما نحن فيه، فالصلاة مثلاً ليست عيناً خارجيّة، وإنّما بابها باب الأفعال، وكلّ شرائط الفعل هي شرائط نفس الصلاة التي هي المعجون المخترع الشرعيّ، فيدّعى في المقام دخلها في المسمّى.

4 ـ دعوى تبادر الأعمّ بعكس دعوى التبادر التي استدلّ بها للصحيح.

والجواب: أنّه إذا سلّم هذا التبادر عند فرض عدم القرينة، فغاية ما يكشف عنه ذلك هو الوضع في عصر التبادر، وطبعاً نحن لم نكن موجودين في صدر الإسلام وعصر صحابة الرسول(صلى الله عليه وآله) حتّى يمكننا دعوى التبادر بلحاظ ذاك الزمان. وأمّا تبادر الآن فلا يفيدنا؛ لعدم إمكان إجراء أصالة عدم النقل في المقام، فإنّ أصالة عدم النقل أصل عقلائيّ، والعقلاء لا يبنون عليها في مورد إحراز ما يكون مقتضياً للنقل على تقدير عدم كون المعنى الفعليّ قديماً. وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّه على تقدير عدم كون الصلاة اسماً للأعمّ في صدر الإسلام، وكونها اسماً للصحيح قد وجد المقتضي لتماميّة النقل، وهو كثرة استعمال المتشرّعة في الجامع الأعمّ، فإنّه قد كثر في عهودهم ذلك بنحو لو كانت اسماً للصحيح، لكفى ذلك للنقل.

وقد تحصّل: أنّ تمام أدلّة الطرفين لا يمكن التعويل عليها.

 

تعيين المرجع بعد بطلان أدلّة الطرفين:

وما يمكن أن يقال في المقام هو: أن نرجع إلى المسألة السابقة ـ وهي الحقيقة الشرعيّة ـ فنقول: إنّنا إذا بنينا في تلك المسألة على أنّ هذه الألفاظ والمعاني

353

الشرعيّة كلّها موجودة قبل الشارع كما استقربنا ذلك، والشارع جرى على طبق استعمال عرفيّ موجود في البيئة، فلا ينبغي الإشكال في أنّها أسماء للأعمّ؛ إذ لا معنى لفرض أنّها قبل الشارع كانت أسماء للصحيح عند الشارع، والمفروض أنّه لم يأتِ بوضع جديد، فلابدّ أن يقال: إنّ لفظة «الصلاة» موضوعة في البيئة المتديّنة العربيّة قبل نزول الإسلام لجامع مرن قابل للانطباق على الأشكال المختلفة للعبادة: الشكل الإسلاميّ منها والأشكال السابقة، والشارع لم يأتِ بوضع جديد. وأمّا إذا لم نقل بذلك، بل قلنا بوضع جديد تعيّنيّ، فأيضاً الظاهر: أنّ الوضع للأعمّ، فإنّ الوضع التعيّنيّ ينشأ من كثرة الاستعمال، ومن الواضح لمن تتّبع الاستعمالات في كلمات الشارع أنّ الاستعمال في الأعمّ كثير جدّاً، بل لم نحرز الاستعمال في الصحيح بخصوصه، ولا في مورد؛ لأنّ الجامع الأعمّيّ ينطبق على الصحيح، فيحتمل قريباً كون الاستعمال دائماً في الأعمّ، وإرادة الصحيح من باب كونه مصداقاً للأعمّ وحصّة له. نعم، بنينا على الوضع التعيينيّ فإثبات الوضع للصحيح أو للأعمّ في غاية الإشكال، ولا طريق لنا إلى إثبات أحد الأمرين لكنّه أضعف الاحتمالات(1) كما بيّنّا في بحث الحقيقة الشرعيّة، فالظاهر كونها أسامي للأعمّ.

هذا تمام الكلام في العبادات.


(1) جاء في كتاب السيّد الهاشميّ حفظه الله، ج 1، ص 210: أنّه على هذا الفرض أيضاً يكون الأرجح هو القول بالأعمّ؛ لأنّ تداول الأسامي في استعمالات الشارع كان سابقاً على تبيان الأجزاء والشرائط، والتي اقتضت المصلحة التدرّج في بيانها، فلو كان هناك وضع تعيينيّ من قبل الشارع، فالأرجح أنّه كان في الأعمّ؛ لأنّ الوضع للصحيح بما هو صحيح غير محتمل، ولواقع الأجزاء والشرائط التي هي مبهمة لم تعرف بعد لا يناسب غرض الواضع، والوضع لما هو مبيّن فعلاً يوجب تغيّر الوضع.

354

 

الصحيح والأعمّ في المعاملات

 

وأمّا الكلام في المعاملات فأيضاً يقع في جهات:

 

الصحّة الشرعيّة والصحّة العقلائيّة:

الجهة الاُولى: أنّ الصحّة في العبادات لم تكن إلاّ شرعيّة، ولكن في المعاملات توجد هناك صحّة عقلائيّة وصحّة شرعيّة؛ لأنّ للعقلاء أيضاً فيها أحكاماً، فهل النزاع في الصحّة العقلائيّة أو الشرعيّة؟

ذهب السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ إلى أنّ النزاع إنّما هو في الصحّة العقلائيّة، فالصحيحيّ يدّعي أخذها في معنى البيع مثلاً، والأعمّيّ يدّعي أنّ لفظ «البيع» موضوع للأعمّ من الصحيح العقلائيّ والفاسد العقلائيّ. وأمّا الصحّة الشرعيّة فلا ينبغي النزاع بينهما في عدم أخذها؛ إذ لا يعقل أخذها في المسمّى؛ إذ لو كان البيع موضوعاً للصحيح الشرعيّ للزم أن يكون معنى أدلّة الإمضاء في مثل: (أحلّ الله البيع) وغيره هو إمضاء البيع الصحيح، يعني: أنّ الصحيح صحيح، وهذا لغو من الكلام(1).

وهذا الكلام غريب؛ فإنّه ليس مقصود الصحيحيّ أخذ عنوان الصحّة في المعنى الموضوع له، ولو كان المقصود هو هذا، فكما لا يعقل أخذ ذلك في المعاملات في موضوع (أحلّ الله البيع)؛ للزوم كون مفاده تصحيح الصحيح كذلك لا يعقل أخذ ذلك في العبادات في موضوع الأوامر؛ إذ الصحيح معناه: المطابق للأمر، فيكون


(1) راجع المحاضرات، ج 1، ص 193 بحسب طبعة مطبعة النجف.

355

معنى الأمر به: الأمر بالمأمور، وإنّما مقصود الصحيحيّ هو: أنّ الواضع لاحظ واقع الأجزاء والشرائط الدخيلة في الصحّة ووضع اللفظ للواجد لها، فالموضوع في(أحلّ الله البيع) مثلاً هو التمليك بعوض من قبل البالغ من دون إكراه، ومع الموالاة ونحو ذلك من الشروط، ولا محذور في ذلك، فهذه الشبهة نشأت من تخيّل أنّ معنى أخذ الصحّة: أخذ عنوان الصحّة، بينما هذا حتّى في العبادات غير مأخوذ فضلاً عن المعاملات.

 

هل يجري النزاع على فرض وضع الألفاظ للمسبّبات؟

الجهة الثانية: قالوا: إنّ النزاع في باب المعاملات مبنيّ على وضع ألفاظ المعاملات للأسباب، وأمّا إذا كانت موضوعة للمسبَّبات وهي النتائج، كملكيّة العين بعوض في البيع، أو بلا عوض في الهبة، أو غير ذلك، فلا يجري هذا النزاع؛ فإنّ النتائج ليست مركّبة من أجزاء وشرائط يتصوّر فيها التماميّة والنقصان، وإنّما أمرها دائر بين الوجود والعدم(1).

 


(1) الموجود في المحاضرات، ج 1، ص 195 بحسب طبعة مطبعة النجف نقلاً عن الأصحاب إنّما هو دعوى عدم قابليّة المسبّب للاتّصاف بالصحّة والفساد، وأنّ أمره دائر بين الوجود والعدم، ولم يرد فيه تعليل ذلك بكون المسبّب بسيطاً لا يقبل التماميّة والنقصان. ولعلّ هذا التعليل وجده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في كلمات بعض الأصحاب، أو أخذه ممّا مضى منهم من أنّ الصحّة والفساد لهما معنىً واحد، وهو التماميّة والنقصان وإن اختلفت تفاسير ذلك بحسب ما يُنظر إليه من اللوازم من مطابقة الأمر ومخالفته، أو محقّقيّته للغرض وعدم محقّقيّته، أو نحو ذلك.

وعلى أيّ حال، فقد مضى: أنّ معنى الصحّة والفساد ليست هي التماميّة والنقصان؛ ولذا يتّصف بهما البسيط أيضاً كالفكرة، فهي برغم بساطتها قد تكون صحيحة وقد تكون فاسدة.

356

وقد ناقش السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في ذلك بأنّ السبب والمسبّب له معنيان:

الأوّل: السبب بمعنى الإنشاء الذي يصدر عن المكلّف، والمسبّب بمعنى حكم العقلاء أو الشارع بالملكيّة مثلاً.

والثاني: السبب بمعنى الإنشاء اللفظيّ أو الفعليّ، أي: المبرِز للإنشاء، والمسبّب بمعنى ذاك الاعتبار الذي يُبرَز باللفظ أو الفعل، أي: الاعتبار والإنشاء النفسانيّ القائم بنفس العاقد.

والمعنى الأوّل غير وارد في المقام؛ لأنّ المسبّب بهذا المعنى فعل للشارع العقلائيّ أو الدينيّ، لا للبايع، فلا يحتمل أن يقال بأنّ لفظ «البيع» موضوع


وعلى أيّ حال، فتحقيق الكلام في المقام هو: أنّ المسبّب وهي الملكيّة مثلاً له وجود في عوالم ثلاثة: فلدينا ملكيّة في عالم اعتبار المتعاملين النفسانيّ، ولدينا ملكيّة في عالم اعتبار العقلاء وأحكامهم، ولدينا ملكيّة في عالم اعتبار الشريعة وأحكامها، فإن قصد بالصحّة والفساد بالنسبة للمسبّب صحّة كلّ واحد من هذه المسبّبات وفساده بلحاظ عالمه، فمن الواضح: أنّ كلّ واحد منها بلحاظ عالمه يدور أمره بين الوجود والعدم، لا بين الصحّة والفساد، وإن قصد بالصحّة والفساد: الصحّة والفساد الشرعيّان، فالمسبّب الثالث ـ وهو الملكيّة الشرعيّة ـ أمره دائر بين الوجود والعدم، ولا معنى لاتّصافه بالصحّة والفساد كما هو واضح. أمّا المسبّب الأوّل والثاني، فأيّ منهما فرض هو الموضوع للحكم الشرعيّ من الإمضاء أو الردّ، يتّصف ـ لا محالة ـ بالصحّة والفساد، بمعنى كونه ممضىً شرعاً ومؤثّراً للنتيجة المطلوبة وعدمه. وأ يّما لم يفرض موضوعاً للحكم الشرعيّ لم يكن معنىً لاتّصافه بالصحّة والفساد. وإن قصد بالصحّة والفساد: الصحّة والفساد العقلائيّان، فالمسبّب الثاني ـ وهو الملكيّة العقلائيّة ـ أيضاً يدور أمره بين الوجود والعدم، دون الصحّة والفساد، ويبقى المسبّب الأوّل فحسب هو الذي يمكن افتراض توصيفه بالصحّة والفساد بمعنى إمضائه عقلائيّاً وعدم إمضائه.

357

للمسبّب؛ إذ لا إشكال في أنّه موضوع لفعل البايع نفسِه؛ ولذا يسند إليه ويقال: باع، أو يبيع، إذن فالتردّد بين كون ألفاظ المعاملات موضوعة للأسباب أو المسبّبات إنّما هو بالمعنى الثاني، وبهذا المعنى يكون المسبّب أيضاً متّصفاً بالصحّة والفساد، فإنّ هذا الاعتبار النفسانيّ إن كان قد صدر عن البالغ العاقل المختار إلى غير ذلك من الشروط، كان صحيحاً، وإلاّ كان فاسداً(1).

أقول: لا إشكال في أنّ المسبّب بالمعنى الثاني يتّصف بالصحّة والفساد، فالنزاع يجري عليه، لكن من المعلوم أنّ المشهور ليس مرادهم المعنى الثاني، وإنّما أرادوا المعنى الأوّل، وبناءً عليه قالوا: بأنّ المسبّب لا يتّصف بالصحّة والفساد؛ لأنّ حصول التمليك بعوض هو روح الصحّة، ولا معنى لكونه فاسداً. وأمّا إشكاله ـ دامت بركاته ـ على ذلك بأنّه فعل الشارع لا البايع، فكيف يمكن أن يحتمل أحد أنّ اسم البيع موضوع له، فجوابه: أنّ المسبّب بالمعنى الأوّل وإن كان فعلاً مباشريّاً للشارع، ولكنّه فعل تسبيبي للبايع، فينسب إلى البايع حقيقة.

وتوضيح ذلك: أنّ الشارع بعد أن حكم أوّلاً بحكم كلّي على نحو القضيّة الحقيقيّة بحصول الملكيّة كلّما تمّ البيع بشرائطه، ثُمّ أراد المتعاقدان أن يفعلا ما يوجب انطباق هذا القانون عليهما، فليس عملهما مجرّد اعتبار التمليك، أو التملّك بعوض، وإبراز ذلك بهدف التوصّل إلى التسلّط الخارجيّ لكلّ منهما على ما عند صاحبه مثلاً، فإنّ هذا يمكنهما إيجاده بلا أيّ حاجة إلى الاعتبار والإنشاء، فيكون الاعتبار لغواً صرفاً، وإنّما يعتبران وينشئان ذلك بهدف إدخال أنفسهما تحت ذاك الإلزام، وقانون الملكيّة الكلّيّ الذي جعله من هو أكبر من كلّ واحد منهما، وهو


(1) راجع المحاضرات، ج 1، ص 195 بحسب طبعة مطبعة النجف.

358

الشارع، أو العقلاء، أو مجموع البايع والمشتري مثلاً بأن يجعلا فيما بينهما قانوناً كلّيّاً يلتزمان به، ويصنع كلّ منهما ما يُدخله تحت ذلك الإلزام، إذن فانطباق ذلك الإلزام وقانون الملكيّة عليهما عمل تسبيبيّ لهما. وهذا هو الذي يسمّى بالمسبّب، ويقال: إنّ أمره دائر بين الوجود والعدم، ولا يتصوّر فيه الصحّة والفساد، ولا يجري فيه النزاع.

 

ثمرة النزاع في وضع أسماء المعاملات:

الجهة الثالثة: تقدّم في بحث العبادات: أنّه بناءً على القول بالصحيح لا يجوز التمسّك بالإطلاق لدى الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته، وبناءً على القول بالأعمّ يجوز ذلك. وهذا الكلام بعينه يأتي في باب المعاملات، فإن قلنا بأنّ البيع مثلاً اسم للأعمّ من الصحيح والفاسد، سواء كانت الصحّة عقلائيّة أو شرعيّة، صحّ التمسّك بإطلاق (أحلّ الله البيع) عند احتمال دخل شيء في الصحّة الشرعيّة فحسب، أو العقلائيّة أيضاً، وإن قلنا بأنّه اسم للصحيح الشرعيّ، لم يصحّ التمسّك بالإطلاق لرفع احتمال دخل شيء في الصحّة الشرعيّة، سواء جزمنا بعدم دخله في الصحّة العقلائيّة أو لا، ولو قلنا: بأنّه اسم للصحيح العقلائيّ فما نجزم بعدم دخله في الصحّة العقلائيّة، ونحتمل دخله في الصحّة الشرعيّة يمكن دفع احتمال دخله بالإطلاق، وما نحتمل دخله في الصحّة العقلائيّة أيضاً لا يمكن دفعه بالإطلاق.

هذا كلّه في الإطلاق اللفظيّ.

نعم ذكر صاحب الكفاية(1): «أنّه إذا قلنا في المعاملات بأنّها أسماء للصحيح الشرعيّ، وشكّ في دخل شيء في الصحّة الشرعيّة مع الجزم بعدم دخله في الصحّة


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 50 بحسب طبعة المشكينيّ.

359

العقلائيّة، فهنا وإن لم يمكن التمسّك بالإطلاق اللفظيّ لنفي احتمال الدخل، لكن يمكن التمسّك لذلك بالإطلاق المقامي». وهذا مطلب آخر سوف نتكلّم عنه في الجهة الخامسة إن شاء الله، وإنّما الكلام هنا في الإطلاق اللفظيّ، ومن ناحيته لا فرق بين العبادات والمعاملات؛ فإنّه في كليهما على الصحيح يكون الشيء الدخيل في الصحّة دخيلاً في المسمّى، فمع احتمال دخله لا نحرز شمول إطلاق المسمّى لفاقده، وعلى الأعمّ نجزم بعدم الدخل في المسمّى، فيتمّ الإطلاق لا محالة.

 

إطلاق الدليل في فرض تعلّق الإمضاء بالمسبّبات:

الجهة الرابعة: المعروف بين المحقّقين: أنّه إذا كانت أدلّة الإمضاء منصبّة على السبب وهو الإنشاء، أمكن ـ على الأعمّ ـ التمسّك بالإطلاق لدفع احتمال جزئيّة المشكوك أو شرطيّته، وإذا كانت منصبّة على النتيجة وهي تمليك العين بعوض مثلاً، فلا إطلاق لها بلحاظ الأسباب، فإنّها إن كانت منصبّة على السبب وهو الإنشاء، فالإنشاء قابل للانطباق على الإنشاء القوليّ وعلى الإنشاء الفعليّ مثلاً، وقابل للانطباق على الإنشاء الناشئ من البالغ والإنشاء الناشئ من الصغير مثلاً، وهكذا، فيتمسّك بالإطلاق لإثبات صحّة الكلّ. وأمّا إن كانت منصبّة على النتيجة، فهي تدلّ على إمضاء النتيجة وهي التمليك بعوض، أمّا ما هو السبب لإيجاد هذه النتيجة؟ وهل كلّ أنحاء الإنشاء سبب لذلك أو لا؟ فهذا أمر مسكوت عنه.

وأورد على ذلك السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ(1) بأنّه يجوز التمسّك بالإطلاق، سواء انصبّ دليل الإمضاء على السبب أو على المسبّب: أمّا على الأوّل


(1) المحاضرات، ج 1، ص 189 ـ 192 بحسب طبعة مطبعة النجف.

360

فواضح، وأمّا على الثاني، فلأنّ المسبّب عندهم هو الإمضاء العقلائيّ للتمليك بعوض مثلاً، والعقلاء عندهم إمضاءات وجعول عديدة، فيجعلون التمليك بعوض عند إنشاء البالغ، ويجعلونه عند إنشاء الصبيّ، ويجعلونه عند الإنشاء باللفظ، ويجعلونه عند الإنشاء بالفعل، وهكذا، فدليل الإمضاء الشرعيّ بمقتضى إطلاقه يدلّ على إمضاء كلّ هذه الإنشاءات.

أقول: إنّنا لتوضيح بطلان هذا الكلام نذكر أمرين:

أوّلاً: معنى إمضاء السبب، ومعنى إمضاء المسبّب، وثانياً: هل يتمّ الإطلاق على كلّ واحد منهما بعد معرفة معنى إمضائه، أو لا؟

أمّا معنى الإمضاء، فنقول: إنّ إمضاء المسبّب ليس معناه ما ذكره ـ دامت بركاته ـ من إمضاء الجعول والإمضاءات العقلائيّة، فإنّه بالإمكان نقل الكلام إلى نفس إمضاء العقلاء، فإنّهم أيضاً قد يقولون: أمضينا السبب وهو الإنشاء، وقد يقولون: أمضينا النتيجة وهي التمليك بعوض مثلاً، وليس معنى إمضاء المسبّب هنا إمضاء إمضاء سابق؛ إذ لا إمضاء قبلي. والمقصود بالإمضاء حينما يضاف إلى العقلاء، وبه حينما يضاف إلى الشارع واحد، وهو الإقدار على النتيجة والتمكين منها. فمعنى إمضاء تمليك المال بعوض: التمكين من تمليك المال بعوض. فإن كان من قبل العقلاء، فهو إمضاء عقلائيّ للتمليك بعوض. وإن كان من قبل الشارع، فهو إمضاء شرعيّ لذلك. هذا معنى إمضاء المسبّب. وأمّا معنى إمضاء السبب. فليس هو الإقدار على السبب والتمكين منه، فإنّ القدرة على السبب ـ وهو الإنشاء ـ حاصلة تكويناً، ولا تحتاج إلى إعمال مولويّة من قبل المولى، وانّما معنى إمضاء السبب هو تصحيحه وتنفيذه.

وأمّا تماميّة الإطلاق وعدمه، فتتّضح على ضوء ما عرفته من معنى الإمضاء. ففي إمضاء السبب يتمّ الإطلاق، حيث إنّ معنى (أحلّ الله البيع) لو اُريد بالبيع

361

السبب وهو الإنشاء: أنّه صحّحه ونفّذه، ومقتضى إطلاق ذلك: أنّه جعل كلّ إنشاء صحيحاً. وفي إمضاء المسبّب لا يتمّ الإطلاق؛ لأنّ معنى (أحلّ الله البيع) لو اُريد بالبيع النتيجة: أنّه أقدرنا على التمليك بعوض، ويكفي في تحقّق الإقدار على التمليك بعوض صحّة سبب واحد من أسبابه المقدورة لنا، والتمليك بعوض ليس له خارجاً في كلّ شيء إلاّ وجود واحد، فلا تتعلّق به إلاّ قدرة واحدة، فلا معنى لفرض الإطلاق؛ فإنّ تمليك هذا الشيء بالمعاطاة مثلاً وتمليكه بالقول لا يمكن أن يحصلا في عرض واحد، وإنّما الذي يمكن أن يحصل هو أحدهما على سبيل البدل، والقدرة لا يمكن أن تكون عليهما معاً في عرض واحد، وإنّما يمكن أن تكون على صرف الوجود والجامع، فدليل الإقدار على النتيجة لا يمكن أن يدلّ بإطلاقه على أزيد من جامع القدرة الحاصل بمجرّد القدرة على سبب واحد صحيح، فالدليل لا يدلّ على تنفيذ كلّ الأسباب. وهذا الذي نقوله واضح عرفاً قبل الالتفات إلى التحليل الفنّي، فأنت ترى أنّه لو قيل: «زيد قادر على قتل الجانيّ»، فهو حسب الفهم العرفيّ لا يدلّ على أزيد من ثبوت القدرة بنحو صرف الوجود على قتله ولو بالقدرة على سبب واحد، وهو الضرب بالسكّين مثلاً، ولا يدلّ على القدرة على كلّ أسباب القتل: من الضرب بالسكّين، وإعطاء السمّ وغير ذلك.

إلاّ أنّ هذا التقريب لإبطال الإطلاق في دليل الإمضاء والمنصبّ على المسبّب يمكن المناقشة فيه بأن يقال: إنّ القدرة المأخوذة في مفهوم (أحلّ الله البيع) بمعنى إمضاء المسبّب ليست عبارة عن الإقدار التكوينيّ، بل هي مطعّمة بالحكم والجعل، فإنّها عبارة عن إمضاء وتنفيذ، وإن شئت فعبّر بالإقدار التشريعيّ. وبكلمة اُخرى: لا إشكال في أنّها نوع جعل وحكم من قبل المولى، والقدرة بهذا المعنى لا نسلّم عدم تعدّدها بتعدّد الأسباب، فهي قدرات تتعدّد في عرض واحد، وتثبت بنحو

362

الشمول لكلّ حصص مفهوم التمليك، أي: التمليك الناشئ بالعقد اللفظيّ والتمليك الناشئ بالمعاطاة...، وهكذا، ومفهوم التمليك له حصص بعدد ما يتصوّر له من أسباب، فلماذا لا يكون إطلاق دليل الإقدار التشريعيّ شاملاً لها جميعاً؟! نعم، بعد هذا الإقدار التشريعيّ الشامل يكون العبد غير قادر قدرة تكوينيّة على إيجاد التمليك لشيء واحد، إلاّ بسبب واحد على سبيل البدل، وعدم تعدّد القدرة التكوينيّة لا يوجب عدم تماميّة الإطلاق في المقام؛ ولذا لا إشكال في أنّ (أحلّ الله البيع) له إطلاق من حيث المشتري، ولا يقتصر فيه على القدر المتيقّن، فيدلّ مثلاً على جواز بيع المصحف من الكافر، مع أنّ القدرة التكوينيّة كما لا تتعلّق من حيث الأسباب إلاّ بصرف الوجود كذلك لا تتعلّق من حيث المشتري إلاّ بصرف الوجود، فالإنسان لا يستطيع أن يملّك شيئاً في وقت واحد من شخصين.

وهناك تقريب آخر لإبطال الإطلاق في دليل الإمضاء بناءً على كونه منصبّاً على المسبّب، وهو تطبيق نكتة ذكرناها في مقام الفرق بين إطلاق المتعلّق وإطلاق الموضوع، حيث نرى أنّ الإطلاق في «صلِّ» بدليّ، وكذلك في الإكرام من «أكرم العالم»، بينما هو في «العالم» من «أكرم العالم» شموليّ، وقد قلنا في نكتة الفرق بينهما في بحث المطلق والمقيّد: إنّه متى ما كان الحكم فعليّته في طول وجود شيء ما تتعدّد فعليّة الحكم بتعدّد ذلك الشيء، وهذا هو الحال في الموضوع. ومتى ما لم يكن الحكم تابعاً له في الفعليّة، وليس ذلك الشيء يؤخذ مفروض الوجود في الحكم، بل كان وجود ذلك الشيء في طول الحكم، كما هو الحال في المتعلّق، حيث إنّ قوله: «صلِّ» هو الذي يدعو إلى إيجاد الصلاة، لا أنّه يصبح الحكم فعليّاً بتبع وجود الصلاة خارجاً، فهنا لا يتعدّد الحكم بتعدّد الحصص المفترضة للمتعلّق، فلا تلزم إلاّ صلاة واحدة؛ إذ لم تكن مفروضة الوجود في المرتبة السابقة على الحكم ـ كما هو المفروض في

363

الموضوع ـ حتّى يعقل سريان الحكم إلى تلك الوجودات وانبساطه عليها.

فنقول في مقام تطبيق هذه النكتة على ما نحن فيه: إنّ الحكم بإمضاء الملكيّة ليس في طول فرض وجود الملكيّة، وإنّما تحقّق الملكيّة يكون في طول هذا الحكم، إذن فلا يدلّ على أزيد من إمضاء صرف وجود الملكيّة الذي تكفي فيه صحّة سبب واحد.

إلاّ أنّ هذا التقريب أيضاً قابل للمناقشة، فإنّ هذا التقريب إنّما تمّ في مثل «صلِّ» لأجل أنّ الصلاة كانت مأخوذة بما هي فانية في الوجود الخارجيّ للصلاة، وحيث إنّ الوجود الخارجيّ للصلاة في طول الحكم لا العكس لم يتمّ سريان الحكم إلى حصص الوجود. وأمّا فيما نحن فيه، فإمضاء التمليك ليس حكماً قد اُخذ متعلّقه ـ وهو التمليك ـ فانياً في الوجود الخارجيّ للتمليك، وإنّما هذا حكم يثبت على مفهوم التمليك وماهيته حتّى يكون العبد قادراً بعد ثبوت هذا الحكم على مفهوم التمليك على إيجاده خارجاً(1)، إذن فينحلّ الحكم قهراً بعدد حصص


(1) كأنّ المقصود: أنّ عنوان الصلاة المتعلّق للأمر في مثل «صلِّ» حينما يلقي الآمر نظره الأوّليّ إليه لكي يأمر به يرى بهذا النظر الوجود الخارجيّ للصلاة ـ وإن كان لو ألقى إليه بعد ذلك نظرة ثانية فاحصة، لرآه مفهوماً ذهنيّاً، أو رآه عبارة عن ماهية الصلاة التي وجدت في ثوب الوجود الذهنيّ لا الخارجيّ (بناءً على فكرة: أنّ الماهيات لها سنخان من الوجود: الخارجيّ والذهنيّ) ـ وبما أنّ وجودها يكون في طول فعليّة الحكم، وليست مفروضة الوجود في الرتبة السابقة على الحكم، فلا معنى لانحلال الحكم على كلّ وجوداتها وسريانه إلى تلك الوجودات. أمّا الملكيّة التي جعلت الشريعة في المقام للعبد القدرة الشرعيّة على تحقيقها، فهي وإن كانت في لغة تعبيرنا بالإقدار على الملكيّة كأنّها متعلّق للحكم، ولكنّها في روحها وواقعها هي نفس الحكم الوضعيّ، كالطهارة والنجاسة وغيرهما من الأحكام الوضعيّة، وهي بمنظار الجعل لا ينظر إليها بعنوانها أمراً خارجيّاً، بل هي أحكام يوجدها المولى، أو قل: هي مفاهيم يلبسها المولى ثوب الجعل والتشريع

364

ذلك المفهوم، فيتمّ الإطلاق.

وهناك تقريب ثالث لإبطال الإطلاق، وهو: أنّ عدم القدرة على حصّة من حصص التمليك قد ينشأ من نقص في التمليك نفسِه بحيث يكون هذا التمليك غير قابل للتحقّق خارجاً، وقد ينشأ من نقص وقصور في السبب بحيث يكون هذا السبب غير قابل للسببيّة، والذي يُنفى عرفاً بإطلاق دليل إمضاء التمليك إنّما هو الأوّل، ويبقى احتمال القصور في ذات بعض الأسباب غير منفيّ بالإطلاق، وهذا نظير ما لو قال المولى: أحللتُ لك ضرب الجانيّ، فإنّ هذا قد يدلّ بالإطلاق على أنّ الضرب من حيث هو بجميع أقسامه لا قصور فيه لقبول الحلّيّة، ولكن هذا لا ينافي حرمة الضرب بالعصا المغصوبة لنقص في العصا وهي كونها مغصوبة، فلا يجوز التصرّف فيها(1).

 


ويكون في المقام بهدف إقدار العبد على فعليّة الملكيّة، فإذا فرضت لذلك المفهوم عدّة حصص قبل الجعل والتشريع، فلا مانع من افتراض نظر المولى إلى كلّ تلك الحصص بنحو الشمول، وبالتالي انحلال الجعل وسريانه إلى كلّ تلك الحصص.

(1) لا يخفى: أنّ عدم تماميّة الإطلاق لدليل حلّيّة الضرب لفرض كون العصا مغصوبة إنّما يكون بنكتة: أنّ الحكم الترخيصيّ كما في «أحللت لك ضرب الجانيّ»، وكذلك الإطلاق البدليّ كما في «أوجبت عليك ضرب الجانيّ» يكون عرفاً حيثيّاً، فالضرب من حيث هو ضرب قد دلّ الدليل على حلّيّته، وهذا لا ينافي مجيء الحرمة من حيثيّة اُخرى أجنبيّة عن مسألة الضرب، وهي حيثيّة الغصب. وأمّا في المقام، فتحصّص المسبّب وهو التمليك مثلاً وتعدّده إنّما كان بتحصّص السبب وتعدّده، فهنا لا يقبل العرف فرضيّة: أنّ القدرة على بعض هذه الحصص أو مشروعيّتها وإمضائها قد تنعدم بسبب نقص في المسبّب، واُخرى بسبب نقص في السبب، وأنّ الثاني أمر أجنبيّ عن نقص وقصور في