311

4 ـ إنّ هناك روايات نقلت فعل أبي جعفر (عليه السلام) في الافتراق بهدف لزومالبيع كصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنّه قال: إنّ أبي اشترى أرضاً يُقال لها العريض، فلمّا استوجبها قام فمضى فقلت له: يا أبة عجلت القيام؟ فقال: يا بنيّ أردت أن يجب البيع(1).

وقد علّق السيد الإمام (رحمه الله) على التمسك بذلك بانّها مضافاً إلى ظهورها بسبب كلمة (استوجبها) في البيع بالصيغة وإلى بُعد شراء الأراضي والقرى في المعاطاة وتعارف البيع بالصيغة فيها لا تشمل إلّا على قضية شخصية لا يعلم الحال فيها فلا إطلاق لها يشمل المعاطاة.

أقول: المهم هو الإشكال الأخير وهو كونها قضية شخصية لا إطلاق فيها، أمّا لو كان فيها إطلاق لما كانت خصوصية المورد موجبة لتخصيص الموارد، على أنّ ظهور كلمة (استوجبها) في البيع بالصيغة غير مقبول، وغلبة شراء العقار بالصيغة لا توجب القطع مع أنّ هاتين الملاحظتين لا تردان في صحيحة محمّد بن مسلم قال: سمعتُ أبا جعفر (عليه السلام) يقول: بايعت رجلا فلمّا بايعته قمت فمشيت خُطىً ثم رجعت إلى مجلسي ليجب البيع حين افترقنا(2). فالمهمّ هو الإشكال بانّها قضية في واقعة ليس فيها إطلاق بملاك مقدمات الحكمة ولا بملاك ترك الاستفصال.

 

خروج بعض العقود عن إطلاقات اللزوم:

وفي ختام البحث عن أصالة اللزوم في العقود نذكر أمرين:


(1) الوسائل 12: 347، الباب 2 من أبواب الخيار، الحديث 1.

(2) الوسائل 12: 348، الباب 2 من الخيار، الحديث 3.

312

دعوى خروج المعاطاة عن تحت الإطلاقات:

الأمر الأوّل ـ انّه قد يدّعى في المعاطاة انّها خرجت عمّـا مضى من إطلاقات نفوذ العقود أو عمّـا مضى من إطلاقات اللزوم وذلك بواسطة الإجماع من قبل علماء الشيعة.

والواقع: أنّ دعوى الإجماع على عدم اللزوم ضعيفة جدّاً، فانّ ما هو المنقول عن القدماء انّما هو عدم إفادة المعاطاة للملك، لا عدم اللزوم بعد تسليم إفادتها للملك، وانّما يأتي توهم الإجماع على عدم اللزوم ممّا فعله المحقّق الثاني (رحمه الله)من حمل ما ورد في كلمات القدماء من إفادة المعاطاة للإباحة على إفادتها للملك المتزلزل لاستغرابه فرض افتاء أحد حصول الإباحة بالمعاطاة مع أنّ مقصود المتعاطيين هو الملك، إذ المعاطاة لو كانت صحيحة لكان المترقب أن تفيد ما قصداه من الملك، ولو كانت باطلة لكان المترقب عدم ترتب أي أثر عليها حتى الإباحة، وأيضاً لاستغرابه لدعوى حصول الملك بمثل التلف بعد فرض عدم مملكية المعاطاة(1).

وفي مقابل هذا التوجيه من قبل المحقق الثاني لكلمات القدماء بحمل الإباحة فيها على عدم اللزوم حمل صاحب الجواهر (رحمه الله) فرض حصول الإباحة الواردة في كلماتهم على ما إذا كان المقصود للمتعاطيين هو الإباحة فكأنّهم أرادوا أن يقولوا إنّ المعاطاة لا تكفي لانشاء الملك وحصوله بها. وإنّما تكفي لانشاء الإباحة وحصولها بها(2).

وعلى أيّة حال فكلمات القدماء آبية عن الحمل على إرادة عدم اللزوم،


(1) راجع المكاسب 1: 82، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

(2) راجع الجواهر 22: 224.

313

وبإمكانك أن تراجع كلماتهم الواردة في المكاسب للشيخ الأنصاري (رحمه الله)(1) وفي مفتاح الكرامة(2).

وقد تقول: إنّ المتيقن من مجموع كلمات القدماء القائلين بعدم الملك وكلمات مَن قال بعدم اللزوم هو عدم اللزوم، فانّ المعاطاة إن كانت غير مملّكة فاللزوم منتف بانتفاء الموضوع، وإن كانت مملّكة فقد قالوا بانّها تفيد الملك المتزلزل، وهذا سنخ الإجماع المركّب. إلّا أنّ هذا الكلام لا قيمة له، فانّ الإجماع المركب على ما نقّح لدينا في علم الاُصول إنّما يفيد الحدس بنفي الثالث إذا رجع بروحه إلى الإجماع البسيط، بأن نعلم: أنّ أصحاب الرأي الأوّل على تقدير تنازلهم عن رأيهم يكونون ملتزمين بالرأي الثاني وليس الأمر في المقام كذلك، إذ لم يعلم من القدماء المنكرين لحصول الملك انّهم على تقدير القول بحصول الملك يفتون بالتزلزل وعدم اللزوم.

فالأولى إذن عطف عنان الكلام إلى دعوى الإجماع أو الشهرة على عدم إفادة المعاطاة الملك، وهذا وإن كان محتمل المدركية باستنادهم مثلا إلى أصالة عدم الملك ولكن الإجماع الذي نؤمن به إنّما هو الإجماع الحدسي والحدس قد يتم رغم وجود المدرك، وذلك:

إمّا بدعوى أنّه لولا أنّ الحكم كان من المسلّمات يداً بيد لما أجمعوا عليه متمسكين بالمدرك الفلاني، فهم في طول مسلّمية الحكم تخيّلوا صحة المدرك وذلك لاستبعاد تورّطهم جميعاً في تخيّل صحة المدرك، لولا أنّ مسلّمية الحكم هي التي أوحت إلى أذهانهم المباركة بذلك.


(1) الجزء 1، بحث المعاطاة، الصفحة 81 فصاعداً.

(2) الجزء 4، بحث المعاطاة، الصفحة 154 فصاعداً.

314

أو بدعوى انّه إن كان مدركهم للحكم هو الأمر الفلاني فهذا بنفسه دليل علىصحة المدرك وإنّ ما يتراءى لنا من ضعف في الدلالةِ أو السند مثلا لم يكن مطابقاً للواقع وذلك لاستبعاد خطائهم جميعاً في الاستناد إلى ما نفترضه من المدرك الباطل.

قد تقول: إنّ الأقوال الواصلة لنا من القدماء إن هي إلّا أقوال قليلة فكيف نستطيع أن نستفيد منها حصول الإجماع أو الشهرة وقتئذ؟! ولكن قد يقال في قبال ذلك: إنّ المسألة لو كانت خلافيّة وقتئذ فافتراض ان اولئك الذين وصلت أقوالهم إلينا كلّهم كانوا صدفة من طرف واحد بعيد بحساب الاحتمالات، وبهذا نحدس قيام الإجماع أو الشهرة على الرأي الذي لم يصلنا غيره.

وعلى أيّة حال فقد قال الشيخ الأنصاري (رحمه الله) في المكاسب(1): المشهور بين علمائنا عدم ثبوت الملك بالمعاطاة بل لم نجد قائلا به إلى زمان المحقق الثاني الذي قال به ولم يقتصر على ذلك حتى نسبه إلى الأصحاب.

وقال العلاّمة في التذكرة: الأشهر عندنا انّه لا بد منها (يعني الصيغة) فلا يكفي التعاطي في الجليل والحقير مثل اعطني بهذا الدينار ثوباً، فيعطيه ما يرضيه أو يقول: خذ هذا الثوب بدينار فيأخذه، وبه قال الشافعي مطلقاً لأصالة بقاء الملك وقصور الأفعال عن الدلالة على المقاصد. وعن بعض الحنفية وابن شريح في الجليل، وقال أحمد ينعقد مطلقاً، ونحوه قال مالك، فانّه قال ينعقد بما يعتقده الناس بيعاً(2).


(1) المكاسب 1: 83، حسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

(2) راجع المكاسب 1: 82، حسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

315

وقال في التحرير: الأقوى أنّ المعاطاة غير لازمة بل لكل منهما فسخ المعاوضة ما دامت العين باقية فان تلفت لزمت(1) وهذا وإن كان ظاهره الأوّلي هو حصول الملك المتزلزل ولكنه قصد بذلك الإباحة بدليل قوله بعد ذلك: ولا يحرم على كل منهما الانتفاع بما قبضه، بخلاف البيع الفاسد(2) إذ لا يبقى موضوع لهذا الكلام لو قلنا بإفادتها للملك.

وقال الشيخ في الخلاف: إذا دفع قطعة إلى البقلي أو الشارب فقال: اعطني بها بقلا أو ماءً فأعطاه فإنّه لا يكون بيعاً، وكذلك سائر المحقرات، وإنّما يكون إباحة له فيتصرف كل منهما فيما أخذه تصرفاً مباحاً من دون أن يكون له ملكه، وفائدة ذلك أن البقلي إذا أراد أن يسترجع البقل أو أراد صاحب القطعة ان يسترجع قطعته كان لهما ذلك لان الملك لم يحصل لهما، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يكون بيعاً صحيحاً وإن لم يوجد الإيجاب والقبول وقال ذلك في المحقرات دون غيرها، دليلنا أن العقد حكم شرعي ولا دلالة له في الشرع على وجوده هنا، فيجب ان لا تثبت، وأمّا الإباحة بذلك فهو مُجمع عليه لا يختلف العلماء فيها(3).

هذا وقد يستشهد ببعض الشواهد على كون المسألة لدى القدماء خلافية ولم يكن وقتئذ إجماع على عدم إفادة المعاطاة للملك من قبيل:

1 ـ الكلام المنقول عن المُقنعة للمفيد (رحمه الله) قال: البيع ينعقد عن تراض بين الاثنين فيما يملكان التبايع له إذا عرفاه جميعاً وتراضيا بالبيع وتقابضا وافترقا


(1) راجع المكاسب 1: 83، حسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

(2) راجع المكاسب 1: 83، حسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

(3) راجع المكاسب 1: 81 حسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

316

بالأبدان(1). حيث يبدو للذهن في أوّل وهلة من هذا الكلام أنّ المفيد (رحمه الله) أفتى بإفادة المعاطاة للملك اللازم إذ لم يذكر شرط الصيغة في هذا الكلام نهائياً مع انّه بصدد ذكر شروط انعقاد البيع.

ولكن من المحتمل أنّ المفيد (رحمه الله) كان يرى أنّ الصيغة هي قوام العقد وأصله، وكان بصدد بيان الشرائط التي يجب أن تقترن بهذا العقد حتى يصحّ العقد ويلزم، ولذا ذكر الرضا والقبض والافتراق ولم يذكر أصل الصيغة.

2 ـ ما مضى من كلام الشيخ (رحمه الله) في الخلاف حيث لم يستند في إثبات مدّعاه من إفادة المعاطاة للإباحة دون الملك بالإجماع، رغم تعوّده في الخلاف على الاستدلال بإجماع الفرقة وإنّما استند في ذلك إلى دعوى الإجماع على الإباحة وعدم دلالة في الشرع على أزيد منها وهو الملك، وتراه قد استدل على قضية ثانوية في كلامه، وهي إفادة المعاطاة للإباحة بالإجماع ولم يستدل على القضية الأصلية وهي عدم إفادتها للملك بالإجماع، فهذا دليل على أنّه لم يكن يعتقد بثبوت الإجماع على عدم الملك.

ويمكن أن يناقش في ذلك باحتمال أنّ الشيخ (رحمه الله) كان بصدد ذكر دليل مقنع للعامّة حيث ذكر رأي أبي حنيفة وأصبح بصدد ردّه. ومن الواضح انّ اجماع الفرقة لا يقنع العامة فاستدل بأصالة عدم الملك بعد فرض الإباحة مجمعاً عليها بين المسلمين.

ولكن الإنصاف أنّ كلامه (رحمه الله) لا يخلو من إشعار بعدم ثبوت الإجماع، إذ لو كان يرى الإجماع ثابتاً لكان يتمسك به للشيعة وباصالة عدم الملك لتمام


(1) راجع مفتاح الكرامة 4: 160.

317

المسلمين، فانّك ترى أنّ دأبه في الخلاف هو التمسك بإجماع الفرقة وأخبارهم بعد ذكره لآراء العامة في كثير من المسائل.

3 ـ ما مضى عن العلاّمة في التذكرة من قوله: (الأشهر عندنا أنّه لا بدّ منها) أي من الصيغة، فهذا يدل على وجود رأي مشهور في قِبال الأشهر، وهو القول بعدم اشتراط الصيغة وكفاية المعاطاة في حصول الملك.

ولكنّ العلاّمة من المتأخرين ويحتمل أن يكون المشهور الذي ينظر إليه من المتأخرين، فهذا لا ينافي دعوى الإجماع على عدم الملك لدى المتقدمين.

إلّا أنّه رغم كل ما ذكرناه لا يتم الاستدلال بالإجماع في المقام على عدم إفادة المعاطاة للملك، فإنّ الذي يكسر الحدس بكون حكم الشرع هو عدم إفادتها للملك مجموع اُمور:

1 ـ ما مضى من كلام الشيخ في الخلاف الذي لا يخلو من إشعار بعدم الإجماع على ذلك.

2 ـ سيرة المتشرعة أو سيرة العقلاء على أقلّ تقدير، فإنّها تبطل فرض وضوح الحكم بعدم الملك خلفاً عن سلف، إذ لو كان الأمر كذلك لانكسرت سيرة المتشرعة ولم تنكسر، أو لكان لا بدّ من تكثّر النصوص ضدّ السيرة العقلائية وعدم الاكتفاء بوضوح متوارث ولم يرد نصّ من هذا القبيل.

3 ـ من المحتمل أن مقتضى طبيعة سير الفقه ونموّه بمرور الزمن هو التدرج في شرائط العقود من التضييق إلى التوسعة باتساع الاُمور وتعقّدها، فسهولة الحياة وبساطتها كأن توحي إلى الاتجاه نحو الاحتياط والتضييق والاقتصار على المتيقن. ولكن تعقّد الاُمور بالتدريج زائداً نفس مرور الزمن الموجب لنموّ العلم أدّيا إلى انقلاب الرأي في الفقه من التضييق إلى التوسعة، ويشهد لذلك تقدّم فقه

318

السنّة على فقه الشيعة في الاعتراف بمملكية المعاطاة باعتبار اختلاف فقه السنّة عن فقه الشيعة في الأمر الثاني، وهو مرور الزمن، لأنّ البحث الفقهي لدى السنّة أقدم تاريخياً منه لدى الشيعة على أثر انقطاع عصر النصوص لدى السنّة قبل انقطاعه لدى الشيعة.

وهذا الذي ذكرناه يصلح نكتة مشتركة لتورّط الجميع في الخطأ وبهذا ينكسر الحدس بثبوت الحكم الشرعي من وراء هذا الإجماع.

عدم شمول الإطلاقات لموردين:

الأمر الثاني ـ أنّ إطلاقات اللزوم لا تشمل موردين:

أوّلا ـ موارد ثبوت الخيار عقلائياً كخيار العيب أو الغبن أو التدليس ونحوها لانصرافها عن عقد لا يقبل العقلاء لزومه كما أنّ من الواضح عدم إمكان إثبات اللزوم في مثل ذلك بالسيرة. أمّا استصحاب الملكية فيجري في المقام ويثبت اللزوم بقطع النظر عن دلالة السيرة أو مثل قاعدة لا ضرر أو أيّ دليل خاص على عدم اللزوم.

ثانياً ـ موارد العقود المسمّاة في مصطلح المحقق النائيني (رحمه الله) بالعقود الاذنيّة، وهي التي يكون قوامها بذات الاذن كالعارية والوديعة والوكالة وهي في الحقيقة ليست شروطاً ولا عقوداً بمعنى الالتزام في مقابل الالتزام، أو القرار المرتبط بالقرار فلا معنى لشمول مثل أوفوا بالعقود لها. كما أنّه لا سيرة تدل فيها على اللزوم ولا الاستصحاب يجري في المقام لانّ قوامها بالإذن وبانتفائه يتبدّل الموضوع في فهم العرف.

أمّا الهبة فإنْ فسّرنا العقد بالالتزام في مقابل الالتزام فهي ليست عقداً، لعدم وجود التزام من قِبَل المتهب في غير الهبة المعوضة والمشروطة فلا تشملها

319

الإطلاقات فينحصر دليل اللزوم في السيرة والاستصحاب لولا دليل خاص يرفع اللزوم.

وإن فسّرنا العقد بقرار مرتبط بقرار، فعندئذ لو قلنا:

إنّ الهبة تمليك مجاني فهي عقد وتشملها الإطلاقات، ولو قلنا إنّها مجرد رفع المانع عن تملك المتهب للعين بالحيازة. إذن ليست عقداً وإنّما هي من سنخ الاعراض بناءً على تفسير الاعراض برفع المانع عن تملك الآخرين للمال بالحيازة. ولكنّ الهبة اعراض مضيّق وفي مقابل المتهب فحسب، بخلاف الاعراض الكامل.

وعلى أيّة حال فدليل اللزوم في الهبة ينحصر عندئذ بالسيرة والاستصحاب ما لم نفرض دليلا خاصاً على عدم اللزوم رادعاً عن السيرة وحاكماً على الاستصحاب.

وأمّا القرض لمدة معينة فان قلنا انّه إذن في التملك مع الضمان فليس عقداً ولكن تكفي السيرة والاستصحاب لإثبات لزومه. وإن قلنا بانّه تمليك بضمان فهو عقد سواء فسّر العقد بالالتزام في مقابل الالتزام أو بقرار مرتبط بقرار وتشمله الإطلاقات.

وقد عدّ الاستاذ الزرقاء من العقود الجائزة التحكيم إلى غير القاضي(1)فيجوز التراجع عنه قبل الحكم. وطبيعي انّنا إنْ عددنا ذلك من العقود فهو عقد اذني. وعدّ ايضاً منها الوصية(2). وقد قصد بالعقد هنا ما يعم موارد الانشاء في مصطلحنا أو موارد الإرادة المنفردة في مصطلح الفقه الغربي.


(1) و (2) راجع الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد 1: 487، الفقرة 200 بحسب الطبعة الثامنة.

320

وعلى أيّة حال فلو عدّت الوصية من العقود فمن الواضح كونها من العقود الاذنية.

هذا تمام ما أردنا أن نبحثه في مدى تواجد الإطلاقات في أدلة العقود، ويليه البحث عن أركان العقد وشروطه إن شاء الله.

321

 

 

فقه العقود

 

الفصل الثاني

أركان العقود وشرائطها

 

 

 

1 ـ مع الفقه الوضعي في أركان العقد.

2 ـ الإرادة.

3 ـ الإبراز.

4 ـ المتعاقدان.

5 ـ محلّ العقد.

323

 

 

 

 

 

 

 

مقدّمة:

لئن سمّينا مراكز شروط العقود بأركان العقود لصحّ القول ـ وفق ما تعارف لدى الأصحاب من ترتيب ذكر الشروط ـ بأنّ أركان العقد ثلاثة:

1 ـ صيغة العقد.

2 ـ المتعاقدان.

3 ـ العوضان.

حيث نرى أنّ الأصحاب يبحثون تارة عن شروط صيغة العقد، واُخرى عن شروط المتعاقدين، وثالثة عن شروط العوضين.

ولئن سمّينا ما بها قوام العقود بأركان العقود أمكن القول أيضاً بأنّ أركان العقد ثلاثة: صيغة العقد، والمتعاقدان، والعوضان.

وأنا أقترح افتراض أركان العقد أربعة:

1 ـ إرادة المضمون.

2 ـ إبرازها سواء كان باللفظ أو بأيّ مبرز آخر.

3 ـ المتعاقدان.

324

4 ـ المحلّ.

والأصحاب إنّما ذكروا شروط (العوضين) لأنّ مصبّ كلامهم كان هو البيع المشتمل على العوضين. أمّا التعبير بالمحلّ فيشمل كل عقد ولو لم يكن مشتملا على العوضين كالهبة.

وبهذا التقسيم لأركان العقد نأتي على ذكر الشروط بطريقة تختلف عن عرض الأصحاب لها فمثلا: شرط الصراحة راجع إلى الركن الثاني. وشرط التنجيز راجع إلى الركن الأوّل، بينما نرى في عرض الأصحاب أنّ شرط الصراحة والماضوية وتقديم الإيجاب على القبول ونحوها مع مثل شرط التنجيز تجعل جميعاً ـ في صف واحد ـ شروطاً للركن الأوّل وهو صيغة العقد. وشرط الرضا والاختيار نبحثه في شروط الركن الأوّل وهو الإرادة فهو أنسب بها، بينما ذكرها الأصحاب في شروط المتعاقدين.

 

325

 

 

 

1أركان العقود وشرائطها

 

 

مع الفقه الوضعي في أركان العقد

 

 

 

 

ركن الإرادة في الفقه الغربي

ركن السبب في الفقه الغربي

نظريّة السبب في ضوء الفقه الإسلامي

327

 

 

 

 

 

 

وقد ورد في الفقه الغربي: أنّ أركان العقد ثلاثة:

1 ـ الإرادة أو التراضي أو قُل توافق الإرادتين.

2 ـ المحلّ.

3 ـ السبب(1).

وقبل أن نبدأ ببحث الشروط نتكلّم عن تصور الفقه الغربي عمّـا أبرزوه من ركني الإرادة والسبب.

 

ركن الإرادة في الفقه الغربي

أمّا الإرادة فقد ذكروا لها تفسيرين: إرادة ظاهرة وإرادة باطنة(2) وقصدوا بالإرادة الباطنة: الإرادة بمعناها الحقيقي القائمة في النفس، وبالإرادة الظاهرة:


(1) راجع الوسيط 1: 182، الفقرة 68.

(2) راجع الوسيط الجزء 1: 95 ـ 99، بحث الاتجاهات العامّة للتقنين الجديد (في مصر) البند (ج)، وراجع أيضاً 1: 191 ـ 194، الفقرة 77 ـ 80.

328

التعبير عن الإرادة واختلفوا في أنّ ما هو ركن في العقد هل هي الإرادة الظاهرة أو الإرادة الباطنة؟ فمذهب الإرادة الباطنة وهو المذهب اللاتيني يقف عند الإرادة النفسيّة أمّا التعبير المادّي عن هذه الإرادة فليس إلّا قرينة عليها تقبل إثبات العكس ومذهب الإرادة الظاهرة وهو المذهب الجرماني يقف عند التعبير عن الإرادة ويعتبره هو الإرادة ذاتها:

فمذهب الإرادة الباطنة يرى أنّ المقياس في العقد ينبغي أن تكون هي الإرادة الكامنة في النفس، لأنّها الإرادة الحرّة المختارة في معدنها الحقيقي غير متأثرة بغش ولا بإكراه ولا بغلط. ومذهب الإرادة الظاهرة يرى أنّ جعل المقياس هي الإرادة النفسية ليس على ما ينبغي فقد بحث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر فقهاء الألمان نظرية الإرادة الباطنة المتعارفة لدى الفقهاء الفرنسيين وخلصوا إلى أنّ هذه الإرادة لا يجوز أن يكون لها أثر في القانون، لأنّها شيء كامن في النفس والقانون ظاهرة اجتماعية يدرس الظواهر الاجتماعيّة وليس ظاهرة نفسية ودارساً لقضايا النفس ولأنّ جعل الإرادة الظاهرة هي المقياس يؤدّي إلى استقرار التعامل والطمأنينة لمَن يسكن بحق إلى ما يظهر أمامه من التعبير المادّي عن الإرادة، وهذا بخلاف جعل المقياس هي الإرادة الباطنة.

والإرادتان لو اتفقتا فلا أثر لهذا الخلاف، وإنّما يظهر الأثر عندما تختلفان كما إذا أمضى شخص عقداً مطبوعاً يتضمن شرطاً كان لا يقبله لو فطن له وكشخص ينزل في فندق على شروط لا يعلمها ولكنها مكتوبة ومعلقة في غرفته وكمَن يوصي على أثاث منزليّ بطريق التأشير على بيان مطبوع فإذا به يؤشر على أثاث غرفة نوم وهو يريد أثاث غرفة استقبال. ومذهب الإرادة الباطنة يرى التعبير دليلا على الإرادة الباطنة، فبالتالي يأذن بمفاد التعبير كما هو الحال عند

329

مذهب الإرادة الظاهرة، فالأثر العملي بين المذهبين إنّما يظهر في إمكان إثبات العكس وعدمه. فالتعبير لو لم يعتبر إلّا دليلا وقرينة لإثبات الإرادة فقد يثبت العكس بدليل أقوى، أمّا لو اعتبر هو الإرادة فلا معنى لإثبات العكس.

وذكر السنهوري(1): أنّ التقنين الجديد المصري أخذ بشكل عام بالإرادة الباطنة ولكنّه أخذ في بعض الفروض بالإرادة الظاهرة حتى يكمل الاستقرار في التعامل فمثلا:

1 ـ نصّ التقنين الجديد في المادة (91) على أنّ التعبير عن الإرادة ينتج أثره في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجّه إليه. وفي نفس الوقت قالوا: إنّ من وجّه إليه إيجاب فقبله ثم عدل ولكن القبول وصل إلى علم الموجب قبل أن يصل العدول يرتبط بالعقد بينما لا يعقل أن يكون هذا الارتباط إلّا على أساس الإرادة الظاهرة لأنّ الإرادة الحقيقية قد انتهت بالعدول.

2 ـ نصّت المادة (92) من القانون الجديد المصري على أنّه: «إذا مات مَنْ صدر منه التعبير عن الإرادة أو فقد أهليته قبل أن ينتج التعبير أثره فإنّ ذلك لا يمنع من ترتّب هذا الأثر عند اتصال التعبير بعلم من وجّه إليه» ولا يستقيم هذا الحكم على أساس الإرادة الباطنة الكامنة في النفس التي تموت بموت صاحبها وتزول بفقده لأهليّته بل على أساس الإرادة الظاهرة التي انفصلت عن صاحبها فأصبحت مستقلة عنه وتبقى حتى بعد موته أو بعد فقده لأهليته.

أقول: إنّ تفسيرها في القانون المصري في هذين الفرعين لا ينحصر بالأخذ بالإرادة الظاهرة، فقد يقول القانون المصري: إنّ العبرة بالإرادة الباطنة


(1) راجع الوسيط 1: 96 و 97.

330

التي كانت موجودة قبل الموت أو فقدان الأهلية أو العدول وأنّ التوسع المتبع ليس في الإرادة بالجنوح إلى الإرادة الظاهرة وإنّما هو في شرط الوصول فحينما شرطنا في تأثير التعبير وصوله إلى من وجّه إليه نكتفي بوصوله قبل وصول العدول أو نكتفي بوصوله حتى بعد الموت أو فقدان الأهلية.

3 ـ ويقرر التقنين الجديد المصري إنّ الغلط المختص بأحد المتعاقدين أو التدليس الصادر من شخص ثالث أو الإكراه الصادر من شخص ثالث لا يكون سبباً في إبطال العقد من قبل الغالط أو المكرَه أو المدَلَّس عليه إلّا إذا كان المتعاقد الآخر على علم بالغلط أو الإكراه أو التدليس، أو كان من السهل أن يتبيّنه ومن المفروض أن يعلم به، ففي غير فرض العلم أو سهولة التبين لا مجال للإبطال وهذا لا يكون على أساس الإرادة الحقيقية للمتعاقد الأوّل فانّها قد شابها الغلط أو التدليس أو الإكراه، وإنّما هو على أساس إرادته الظاهرة التي اطمأنّ إليها المتعاقد الآخر واعتمد عليها في ترتيب شؤونه. وقال الدكتور السنهوري: أمّا الشريعة الإسلامية فمع انّ القاعدة فيها أنّ العبرة بالمعاني أي بالإرادة الحقيقية للمتعاقدين إلّا أنّ الفقهاء في كثير من الفروض يقفون عند المعاني الظاهرة من الألفاظ التي استعملها المتعاقدان فلا يتعدّونها إلى المعاني الكامنة في السريرة، ولعل هذا يفسر تحليلهم الدقيق لبعض العبارات والألفاظ ووقوفهم طويلا عند شرح ما تتضمنه هذه العبارات من المعاني وما يستتبعه اختلاف التعبير من اختلاف الأحكام فليس هذا منهم في رأينا استمساكاً باللفظ بل هو تغليب للإرادة الظاهرة على الإرادة الباطنة...(1).


(1) في الوسيط 1: 193، في تعليقه على الفقرة 79 تحت الخط.

331

أقول: إنّ تبرير مذهب الإرادة الظاهرة بأنّ القانون ظاهرة اجتماعية ولا تدرس الاُمور النفسية والإرادة الباطنة ليست عدا أمر مكنون في النفس تبرير غير مقبول. فان المجتمع بإمكانه أن يرتب حكماً اجتماعياً على أمر نفسي. نعم عندئذ لا تعرف فعلية ذاك الحكم إلّا بمعرفة تحقق ذاك الأمر النفسي عن طريق أمارة تدل عليه، والمفروض لدى القائلين بمذهب الإرادة الباطنة انّ التعبير أمارة تدل عليها.

وكذلك لا يصحّ تبرير مذهب الإرادة الظاهرة بتوخّي استقرار التعامل فان قسماً كبيراً من استقرار التعامل محرز لدى مذهب الإرادة الباطنة باتباع ظواهر التعبيرات بعنوانها أمارة على الإرادة الباطنة ولا يضحي هذا المذهب إلّا بجزء ضئيل من الاستقرار توخّياً للمصلحة بمراعاة حال من عجز عن إيصال مراده بالشكل الذي أراد.

وأمّا تبرير مذهب الإرادة الباطنة بانّها غير متأثرة بغشّ ولا بإكراه ولا بغلط، فلا يخلو أيضاً عن ضعف ولعلّ الضعف في التعبير لا في المقصود، والاولى أن يعبّر بتعبير أنّ الإرادة الباطنة تبتلي بغشّ أو غلط أو إكراه أو تنعدم بالإكراه فيكون البطلان أو إمكانية الإبطال عندئذ موجباً لتدارك الغشّ والغلط والإكراه. بينما نرى أنّ مذهب الإرادة الظاهرة يؤدّي إلى عدم تدارك هذه الاُمور، ولا يخفى أنّ مذهب الإرادة الباطنة لا يبقى المظهر الخارجي الخاطئ دون جزاء بل يترتب عليه الحق في التعويض على أساس المسؤولية التقصيرية لمن اطمأنّ لهذا المظهر حماية للثقة المشروعة على حدّ تعبير الدكتور السنهوري(1).


(1) في الوسيط 1: 194، في تعليقه على الفقرة 79 تحت الخط.

332

وأمّا قوله: «بأنّ فقهاء الشريعة الإسلامية يقفون في كثير من الفروض عند المعاني الظاهرة من الألفاظ التي يستعملها المتعاقدان وهذا يعني تغليب الإرادة الظاهرة في تلك الفروض وهذا هو تفسير تدقيقهم لبعض العبارات والألفاظ ووقوفهم طويلا عند شرحها» فهو غير صحيح فان تدقيقهم في فهم معاني تلك العبارات ووقوفهم عند المعاني الظاهرة انّما هو ناتج من إيمانهم بأماريّة التعبير على الإرادة الباطنة وهذا ما يؤمن به مذهب الإرادة الباطنة فليس هذا دليلا على اقتراب من مذهب الإرادة الظاهرة.

والواقع أنّ مصطلح الإرادة الظاهرة وفكرتها مرتبطان بمدرسة الفقه الغربي تماماً ولا عـلاقة لهما بالفقه الإسلامي إطلاقاً ولا يقصد بالإرادة في الفقه الإسلامي عدا معناها الحقيقي المتواجد في النفس ولا يعدّ التعبير إلّا أمارة وقرينة على تلك الإرادة قابلة للمعارضة بدليل أقوى على الخلاف، وحينما قال فقهاء الإسلام: (العقود تتبع القصود) قصدوا بذلك المعنى الحقيقي للقصد وهي الإرادة النفسية.

 

ركن السبب في الفقه الغربي

وأمّا السبب فقد اختلف الفقه الغربي حول ركنيته في العقد وحول معناه في تاريخ طويل وقد ورد ذلك مشروحاً في الوسيط(1) للسنهوري. ونحن نلخّص هنا ما قد يكون أهمّ النقاط الواردة في البحث مشيرين إلى أن مقصودهم بركنية السبب للعقد افتراض بعض الشروط بلحاظ السبب يؤثّر اختلاله على مدى نفوذ العقد أو صحته:


(1) راجع الوسيط 1: 451 ـ 531، الفقرة 242 ـ 297.

333

 

تاريخ البحث حول السبب:

ظهر البحث عن السبب ـ أي سبب الإرادة في العقد في الفقه الغربي ـ من حين ما اختفت الشكلية وبرزت الإرادية والرضائية في العقود وبقدر ما كانت تختفي الشكلية وتبرز الإرادة كان يبدو مجال للبحث عن سبب الإرادة.

فحينما ظهرت في القانون الروماني إلى جانب العقود الشكلية عقود اُخرى غير شكلية أهمّها العقود العينية والعقود الرضائية والعقود غير المسماة وعقود التبرع ظهر الاتجاه إلى بحث السبب:

أمّا العقود العينية ـ وكانت هي القرض والعارية والوديعة والرهن ـ فالإرادة لم تكن ظاهرة فيها كي تظهر فكرة البحث عن سبب الإرادة في عقد القرض أو العارية أو الوديعة أو الرهن، وانّما كان يُرى أنّ المقترض أو المستعير أو الودعي أو المرتهن ملزم بردّ العين بسبب تسلّمها وإلّا كان مثرياً دون سبب.

وأمّا العقود الرضائية ـ وكانت هي البيع والإيجار والشركة والوكالة ـ فالإرادة هي قوام العقد فيها فبرزت فكرة السبب في هذه العقود واضحة. ففي عقد البيع يكون التزام البائع سبباً لالتزام المشتري وبالعكس ولكنّ فكرة السبب لديهم وقفت في حدود تكوين العقد ولم تتجاوز مرحلة التنفيذ. أي انّه لدى تكوين العقد إذا كان السبب منتفياً بطل العقد، ولكن لدى التنفيذ لو طرأ امتناع التنفيذ بالنسبة لأحد العوضين أو امتنع صاحبه عن التنفيذ لم يبطل العقد ولا كان للآخر الفسخ أو الامتناع عن التنفيذ فكل من الالتزامين بعد حصولهما أمر مستقل عن الآخر.

وأمّا العقود غير المسماة فقد ظهرت فيها أيضاً فكرة السبب، ففي عقد المقايضة مثلا إذا سلّم أحد المتقايضين العوض الذي يملكه كان هذا سبباً لالتزام الآخر بتسليم ما يقابله.

334

وأمّا عقود التبرعات فأهمها الهبة وقد اعترف القانون الروماني فيها بالسببإلى حدّ كبير فالتبرعات المحضة تقوم على نيّة التبرع وهي السبب في التزام المتبرع. فإذا انعدمت بطل التبرع والهبة المقرونة بالشرط يكون الشرط سبباً لها إذا كان هو الدافع إلى التبرع. فإذا لم يقم الموهوب له بتنفيذ الشرط كان للواهب استرداد ما وهب أو إجباره على التنفيذ. وفي الوصية ـ وهي إرادة منفردة ـ اعترف القانون الروماني بالسبب إلى حدّ أنْ مزجه بالباعث، فإذا اعتقد الموصي أنّ وارثه قد مات فأوصى بماله لاجنبي وتبين أنّ الوارث لا يزال حيّاً واستطاع هذا أن يثبت أنّ الباعث على الوصية هو اعتقاد الموصي أنّ الوارث قد مات فالوصية باطلة لانعدام سببها.

ثم جاء دور الفقهاء الكنسيين فهم فسّروا السبب بالباعث دون السبب الروماني الموضوعي الداخل في العقد وهم جعلوا نظرية السبب في بداية الأمر أداة لحماية المجتمع فحسب عن طريق إبطال العقود التي تتجه لتحقيق أغراض غير مشروعة، ولكن ما لبثوا أن جعلوها إلى جانب ذلك أداة لحماية العاقد نفسه وتحرير إرادته من الغلط والتدليس والغش، ذلك أنّهم أضافوا إلى السبب غير المشروع في إبطال العقد السبب غير الحقيقي، فإذا وقع غلط أو تدليس في الباعث على التعاقد كان السبب غير حقيقي وبطل العقد. ثم جاء عهد الفقيه الفرنسي الكبير (دوما) في القرن السابع عشر فأحيا فكرة الرومان القديمة عن نظرية السبب، فالسبب عنده في التزام المتعاقد في العقود الملزمة للجانبين هو ما يقوم به المتعاقد الآخر، أي الالتزام المقابل والسبب في مثل القرض الذي يظهر أنّ شخصاً واحداً فيه قد التزم، هو التسليم الذي تمَّ من الشخص الأوّل والسبب في التبرعات هو نيّة التبرع وكلامه وإن لم يكن واضحاً وضوحاً كافياً في هذا

335

الأخير ولكن كلام پوتية وهو فقيه فرنسي معروف جاء بعد دوما وردّد ما سبق إليه دوما واضح في ذلك كل الوضوح.

وهذا المنحى من التفكير صنع البذور الأوّلية للنظرية التقليدية في السبب في القانون المدني الفرنسي وكذلك المصري القديمين وإليك الخلاصة عن النظرية التقليدية في السبب:

 

النظريّة التقليديّة في السبب:

تميّزالنظرية التقليدية بين السبب الانشائي والسبب الدافع والسبب القصدي: فالسبب الانشائي هو الذي ينشىء الالتزام ويخلقه وهو نفس العقد، وهذا ليس هو المقصود من السبب في المقام والسبب الدافع هو الباعث الذي دفع الملتزم إلى ان يرتب في ذمته الالتزام كمَن كان دافعه في شراء البيت ان يخصصه لسكناه أو أن يجعل منه محلا لعمله أحد غير ذلك وهذا أيضاً ليس هو المقصود في المقام.

والسبب القصدي ـ وهو السبب الذي تقف عنده النظرية التقليدية وإذا أطلقت كلمة السبب عنته بهذه الكلمة ـ يعرّف عادةً بأنّه الغاية المباشرة أو الغرض المباشر الذي يقصد الملتزم الوصول إليه من وراء التزامه فيختلف السبب عن الباعث في أنّ السبب هو أوّل نتيجة يصل إليها الملتزم، أمّا الباعث فغاية غير مباشرة تتحقق بعد أن يتحقق السبب ولا يصل إليها الملتزم مباشرة من وراء الالتزام.

وتقول النظرية التقليدية للسبب: إنّ سبب الالتزام لكل من المتعاقدين في العقود الملزمة للجانبين عبارة عن الالتزام المقابل وسبب الالتزام في العقود الملزمة لجانب واحد إذا كان العقد عينياً قرضاً كان أو عارية أو وديعة أو رهن