180

 

 

 

العلم الإجماليّ في التدريجيّات

 

التنبيه الثامن: في العلم الإجمالي في التدريجيّات.

لو علم إجمالاً بأحد حكمين، أحدهما: بلحاظ الزمان الحاضر، والآخر: بلحاظ الزمان المستقبل، من قبيل علم المرأة إجمالاً بحيضها في هذا الزمان، فيحرم عليها الدخول في المسجد مثلاً بالفعل، أو في الزمان الآتي فيحرم عليها ذلك في الوقت الآتي، فهل يكون مثل هذا العلم الإجمالي منجّزاً، أو لا؟

إنّ ارتباط الحكم بالزمان المستقبل تارةً يكون بمعنى كونه استقباليّاً خطاباً وملاكاً، واُخرى بمعنى كونه استقباليّاً خطاباً، كما لو علم بوجود الملاك بالفعل في العمل الكذائيّ الاستقباليّ، ولكن رأينا أنـّه ليس الخطاب ثابتاً الآن ولو من باب القول باستحالة الواجب المعلّق، وثالثة بمعنى تأخّر زمان الواجب وإن كان الملاك والخطاب ثابتاً بالفعل، وذلك إذا قلنا بإمكان الواجب المعلّق، ورابعة بمعنى أنّ المكلّف يقصد صدفةً تأخير امتثاله.

ونحن نتكلّم أوّلاً في القسم الأوّل، فإن ثبتت فيه منجّزيّة العلم الإجماليّ، فلا إشكال في منجّزيّته في الأقسام المتأخّرة، وإلّا وصلت النوبة إلى البحث عن الأقسام المتأخّرة.

وبما أنـّنا سوف نثبت التنجيز في هذا القسم، فلا تصل النوبة إلى البحث عن سائر الأقسام، ونقصر البحث على هذا القسم، فنقول:

إنّ هنا شبهة في منجّزيّة هذا العلم الإجماليّ تنشأ من الصيغة المذكورة في مقام بيان ضابط منجّزيّة العلم الإجماليّ، وهي أنّ العلم الإجمالي إنـّما يكون منجِّزاً إذا كان متعلّقاً بحكم فعليّ على كلّ تقدير، فيقال فيما نحن فيه: إنـّه لم يتعلّق العلم بحكم فعليّ عل كلّ تقدير؛ إذ لو حرم عليها الدخول في المسجد الآن مثلاً ـ لكونها حائضاً ـ فهذا حكم فعلي قابل للتنجيز بحكم العقل، ولو كان يحرم عليها الدخول فيما بعد، فهذه الحرمة غير فعليّة الآن، وغير قابلة للتنجيز فعلاًبحكم العقل، والجامع بين القابل للتنجيز وغير القابل له غير قابل للتنجيز.

وهذه الشبهة دعت الشيخ الأعظم إلى القول بعدم التنجيز في بعض الشقوق ـ

181

على ما في التقريرات ـ، ودعت المحقّق العراقيّ (1) إلى إبراز علم إجماليّ آخر منتزع عن هذا العلم الإجمالي يكون بين حكمين فعليّين، فينسب التنجيز إلى هذا العلم الإجمالي الثاني. وذلك ببيان أنّ العلم الإجمالي بأحد الحكمين الآن أو مستقبلاً وإنْ لم يكن علماً بالحكم الفعليّ على كلّ تقدير، ولكن يتولّد من ذلك علم اجمالي بأنـّه إمـّا يجب عليه الحكم الأوّل الفعليّ، أو يجب عليه بالفعل حفظ القدرة للواجب الثاني؛ لأنـّه قد ثبت بوجه من الوجوه وجوب حفظ القدرة للواجبات الاستقباليّة، وبه يتغلّب على مشكلة المقدّمات المفوّتة، وهذا العلم الإجمالي يكون علماً بين حكمين فعليّين، ويكون منجّزاً.

أقول: يردُ على ذلك: أوّلاً ـ أنّ وجوب المقدّمات المفوّتة حكم عقليّ كما يعترف هو (قدس سره) بذلك، وذلك من باب حكم العقل بالتنجيز، فلا يجب حفظ القدرة للواجب الاستقباليّ إذا لم يكن منجّزاً، كما إذا لم يكن طرفاً للعلم الإجماليّ، بل كان مشكوكاً بالشك البدويّ، فوجوب حفظ القدرة في المقام فرع تنجّز هذا الحكم بالعلم الإجماليّ الأوّل، فإن لم يكن منجِّزاً لم يتولّد العلم الثاني، وإن كان منجِّزاً فلا حاجة إلى دسّ مسألة حفظ القدرة (2) في المقام، فملاك ما هو المركوز في ذهنه (قدس سره)ليس هو ذلك.


(1) راجع القسم الثاني من الجزء الثالث من نهاية الأفكار، ص 325.

وذكر (رحمه الله) هناك ـ أيضاً ـ وجهاً آخر لحلّ إشكال عدم تعلّق العلم الإجمالي بتكليف فعليّ على كلّ تقدير، وهو أنّ الأحكام في رأيه (قدس سره) كما هي في رأي اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) فعليّة منذ البدء، وإنـّما الذي يتأخّر إلى حين مجيء الشروط هو فاعليّتها، إذن فالعلم الإجمالي في المقام علم إجمالي بتكليف فعليّ على كلّ تقدير.

أقول: إنّ هذا الوجه غيرصحيح، فإنـّنا لو أردنا أن نتكلّم بهذه اللغة، قلنا: إنّ العلم الإجماليّ إنـّما يكون مؤثّراً إذا كان علماً بتكليف فاعل على كلّ تقدير، أمّا إذا كان علماً بتكليف فعليّ مردّد بين أن يكون فاعلاً بالنسبة لي أو غير فاعل بالنسبة لي إلى الأبد؛ لعدم تحقّق موضوعه فيّ، فأيّ قيمة لهذا العلم الإجمالي؟ إذن فالمهمّ في الجواب توضيح أنـّه تكفي فعليّة الحكم أو فاعليته (على اختلاف لغات المدارس الاُصولية) في وقته، وإن كان مستقبلاً.

(2) ويمكن الإيراد ـ أيضاً ـ على المحقّق العراقيّ (رحمه الله) بأنّ العلم الإجمالي المردّد بين حكم العقل وحكم الشرع لا يقبل التنجيز؛ لأنّ حكم العقل المحتمل بنفسه لا مؤمّن له، فاحتمال التنجيز منجّز، ويبقى الطرف الآخر، وهو الحكم الشرعي مشكوكاً بالشكّ البدويّ، ومجرىً لقاعدة (قبح العقاب بلا بيان).

182

وثانياً: أنّ هذا لا يأتي في غير موارد وجوب حفظ القدرة، وذلك في موردين:

الأوّل: ما إذا فرضت القدرة على الواجب في زمانه دخيلة في الملاك، ففي مثل هذا الفرض لا يجب حفظ القدرة، ولذا نقول بجواز إراقة الماء قبل الوقت مع القطع بعدم إمكان تحصيل الماء للوضوء في الوقت؛ لأنّ القدر المتيقّن من ثبوت الملاك هو فرض القدرة في نفس الوقت.

والثاني: ما إذا فرض عدم تمكّنه قبل الوقت من التعجيز عن العمل حين الوقت، كما لو علم أنـّه نذر أن لا يأكل الجبن في هذا اليوم أو غداً، ونحو ذلك ممّا لا يتمكّن فيه عادة من تعجيز نفسه عن الامتثال في الوقت، وإذا لم يجب حفظ القدرة في هذين الموردين لم يتشكّل العلم الإجمالي بوجوب حفظ القدرة أو الواجب الأوّل، مع أنـّه (قدس سره) يقول بالتنجيز، ولزوم الإتيان بكلا العملين في جميع الموارد.

وثالثاً: أنـّه لو سُلّم أنّ العلم الإجمالي الأوّل ليس منجِّزاً، وأنّ العلم الإجمالي الثاني موجود ومُنجِّز، فهو إنـّما يصلح للتنجيز بمقدار سدّ باب العصيان الناشىء من تفويت القدرة قبل الوقت، فإنّ هذا هو المقدار الذي وقع طرفاً للعلم الإجمالي، ولا ينجِّز بلحاظ سدّ باب العصيان الناشىء من التصميم على الترك بعد دخول الوقت.

وبعد هذا نرجع إلى أصل الإشكال في المقام (1)، وهو أنّ الحكم الاستقبالي


(1) يمكن أن يشقّ الإشكال إلى تقريبين:

الأوّل ـ تلحظ فيه فعلية الحكم أو فاعليّته، فيقال: إنّ العلم الإجمالي إنـّما ينجّز إذا تعلّق بتكليف فعلي، أو فاعل على كلّ تقدير، وهنا أحد التكليفين ليس فعليّاً أو فاعلاً في الوقت الحاضر.

ويجاب عنه: بأنـّه تكفي فعليّة أو فاعليّة الحكم الثاني في ظرفه.

والثاني ـ أن يقال: إن الحكم المستقبليّ يستحيل تنجّزه من الآن لأنّ المردّد بين ما يتنجّز وما لا يتنجز لا يتنجز.

ويجاب عنه بما في المتن، وبالإمكان أن يصاغ الإشكال بصياغة النقض، بأنْ يقال: إنْ كان المقياس هو فعليّة الحكم في ظرفه فَلِمَ لا يُؤثّر العلم الإجمالي بتكليف مردد بين ما مضى وما هو حاضر، مع أنّ ما مضى حكم فعليّ في ظرفه؟ وإن كان المقياس قابليّة التنجيز، بمعنى قبح المخالفة الثابت أزلاً، حتى قبل القدرة، فكذلك هو ثابت أبداً حتى بعد زوال القدرة، فلِمَ لا يُؤثّر العلم الإجماليّ بتكليف مردّد بين ما مضى وما هو حاضر؟

والجواب: انّ المقياس هو قابليّة التنجيز، والحكم لا يقبل التنجيز، إلّا بعلم معاصر، والعلم الإجمالي بتكليف فعليّ أو مستقبليّ ينجّز الطرفين؛ لأنـّه يعاصرهما، لأنّ العلم سيبقى إلى

183

ليس فعليّاً الآن، فلا يقبل حكم العقل بالتنجيز، فنقول: إنـّنا لا نفهم من هذا الكلام معنىً متحصّلاً، وإنـّما نتفوّه به كألفاظ، فإنّ حكم العقل بالتنجّز ليس واقعاً عبارة عن الحكم والإلزام، حتى يقال: إنّ هذا حكم وإلزام موضوعه حكم الشارع وإلزامه، ولا يتقدّم عليه، كما يقال في المقدّمة ـ بناءً على وجوبها شرعاً ـ: إنّ وجوب المقدّمة لا يتحقّق قبل ذيها، ولا يترشّح من وجوب ذي المقدّمة قبل وجوبه، وإنـّما المقصود بحكم العقل بالتنجّز هو إدراكه لقبح هذه المخالفة؛ لكونها مخالفة لما هو داخل في حقّ المولى ودائرة مولويته، ومن المعلوم أنّ قبح القبيح ثابت أزلياً، وإنـّما الشيء الذي يتأخّر هو نفس الإتيان بالقبيح، فلا معنى للقول: بأنّ هذا الحكم حيث إنـّه ليس بفعليٍّ، فلا يقبل التنجّز الآن، بل نقول: إنـّه يقبل التنجّز الآن، بمعنى أنـّه تقبح مخالفته بحكم العقل، ويكون قبحها ثابتاً بالفعل، وإنْ كانت قدرة العبد على الإتيان بهذا القبيح متأخّرة زماناً، وغير ثابتة الآن، وبالجملة: كما أنّ المعلوم بالعلم الإجماليّ في غير التدريجيّ يدخل في دائرة حقّ المولى، كذلك المعلوم بالعلم الإجماليّ في التدريجيّ يدخل في تلك الدائرة، وليس في ذلك محذورٌ أصلاً؛ إذ دخوله فيها عبارة عن قبح المخالفة، وقبح المخالفة ثابت بالفعل على كلّ حال.

هذا، ويمكن إثبات عدم منجِّزيّة العلم الإجماليّ في التدريجيّات ببيان آخر غير البيان الذي ذكرناه وأبطلناه، وذلك بأنْ يقال: إنّ العلم الإجماليّ في التدريجيّات ليست له قابليّة التنجيز للطرف المتأخّر، كما يظهر ذلك بمقدّمتين:

المقدّمة الاُولى: أنّ العلم الإجمالي لا ينجِّز حكماً متأخّراً عن زمان تعلّق العلم به بوجوده الحدوثيّ، وإنـّما ينجّزه بوجوده البقائيّ ولذا لو تبدّل العلم في زمان ذلك الحكم إلى الشكّ الساري، لا يكون ذلك الحكم منجّزاً.

المقدّمة الثانية: إنّ العلم الإجماليّ بوجوده البقائيّ فيما نحن فيه غير قابل لتنجيز الحكم المتأخّر؛ لأنـّه في زمان الحكم المتأخّر يكون متعلّقاً بما يتردّد بين


الزمان المستقبل، وكذلك الحال لو بدّلنا لغة التنجيز بلغة ارتكاز التضادّ بين الترخيص الشامل لكلّ الأطراف والغرض الإلزامي المعلوم بالإجمال، فإنّ هذا الارتكاز أيضاً مشروط بمعاصرة العلم للتكليف على كلّ تقدير، والعلم الإجماليّ بتكليف حاليّ، أو مستقبليّ معاصر للتكليف على كلّ تقدير؛ لأنـّه سيبقى إلى الزمان المستقبل، أمـّا العلم الإجمالي بتكليف ماض أو تكليف فعلي، فهو غير معاصر للتكليف الماضي حسب الفرض.

184

الخارج عن محلّ الابتلاء، وهو الحكم الماضي الداخل في محلّ الابتلاء، وهو الحكم الفعلي، ولذا لو تعلّق ابتداءً علم إجمالي بحكم مردد بين ما مضى وقته وسقط، وما يكون ثابتاً بالفعل، لم يكن منجِّزاً.

وبالجمع بين هاتين المقدّمتين يظهر أنّ العلم الإجماليّ فيما نحن فيه غير قابل لتنجيز المتأخّر، إذ هل ينجّزه بوجوده الحدوثيّ أو بوجوده البقائيّ؟ أمـّا الأوّل فهو خلف المقدّمة الاُولى من أنّ العلم لا ينجّز شيئاً متأخّراً عنه بوجوده الحدوثيّ، وإنـّما ينجّزه بلحاظ بقائه إلى ذلك الوقت، وأمـّا الثاني فهو خلف المقدّمة الثانية من أنّ العلم الإجمالي فيما نحن فيه يكون بوجوده البقائيّ حاله حال العلم الإجماليّ الذي تعلّق ابتداءً بالمردّد بين الماضي والحاضر، وهو غير منجِّز. وإذا لم يكن العلم الإجماليّ قابلاً لتنجيز الطرف المتأخّر، فهو غير قابل للتنجيز أصلاً (1) .

والجواب: أنّ المقدّمة الاُولى وإن كانت صحيحة إلّا أنّ المقدّمة الثانية غير صحيحة، فإنّ قياس العلم الإجماليّ بوجوده البقائيّ ـ فيما نحن فيه ـ بالعلم الإجماليّ الحدوثيّ المردّد بين الماضي والحاضر قياس مع الفارق، وتوضيحه: أنّ التحميل الذي ينشأ من قِبَل العلم على المكلّف يستحيل أنْ يتقدّم على نفس المحمّل، وهو العلم، والعلم الإجماليّ الحدوثيّ لو تردّد بين الماضي والحاضر، وحمّل على المكلّف العمل بالحكم الأوّل قبل حدوثه، لزم منه تقدّم التحميل على المحمّل الذي هو العلم . وأمـّا فيما نحن فيه فالعلم ثابت في كلا الحالين، وعاصَرالحكم الأوّل، والحكم الثاني، فينجّز الحكم الأوّل؛ لكونه معاصراً له وعدم لزوم تقدّم التحميل على المحمّل، وينجّز الحكم الثاني أيضاً؛ لكونه معاصراً له.

هذا والجواب بهذا اللّسان إنـّما يناسب مذهب الأصحاب من كون المحذور عقليّاً، ولا يناسب مسلكنا، وإن شئت تعميم الجواب قلت: إنـّه في العلم الإجماليّ الحدوثيّ المردّد بين الماضي والحاضر لا معارض للأصل النافي، لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال على الحاضر، لعدم جريان أصل ناف لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال على الماضي، لا بلحاظ زمان الماضي؛ لعدم معلوم بالإجمال فيه، ولا بلحاظ هذا الزمان؛ لمضيّ ذلك وخروجه عن محلّ الابتلاء. وأمـّا فيما نحن فيه


(1) مضى منّا في بحث الانحلال الحكمي في الردّ على إثبات الاحتياط بالعلم الإجماليّ شرح لعدم قابليّة الجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبله للتنجيز.

185

فالأصل النافي للحكم الثاني بلحاظ زمانه معارض للأصل النافي للحكم الأوّل بلحاظ زمانه.

هذا، والنكتة في كلّ ما ذكرناه هي تعاصر العلم الإجماليّ لكلا الحكمين، سواء فرض علماً إجماليّاً واحداً، كما كان هو المفروض حتى الآن، أو فرض علمين، كما لو علم إجمالاً بثبوت حكم عليه: إمـّا في اليوم الأوّل أو في اليوم الثالث، وعلم أنـّه سوف يزول علمه الإجمالي في اليوم الثاني، ويرجع في اليوم الثالث، فالطرفان في مثل هذا الوجه يتنجّزان.

ولا يقال: إنّ العلم الأوّل ليست له قابليّة تنجيز الحكم الثاني، والعلم الثاني ليست له قابليّة تنجيز الحكم الأوّل، فيسقط كلاهما عن التأثير.

فإنـّه يقال: إنّ غاية الأمر هي كون تأثير العلم الإجماليّ مشروطاً بقابلية المعلوم بالإجمال للتنجيز في أيّ واحد من الطرفين، ولا يلزم أنْ يكون ذلك بعلم واحد، بل العلم الأوّل ينجّز الطرف الأوّل، والعلم الثاني ينجّز الطرف الثاني، أو تقول: إنّ الأصلين في الطرفين ينفي كلّ واحد منهما بلحاظ زمان مجراه احتمال انطباق التكليف المعلوم بالإجمال، ويلزم من ذلك الترخيص في المخالفة القطعيّة القبيح عقلاً، أو المناقض للغرض الإلزاميّ عقلائيّاً، فيتعارضان ويتساقطان.

بقي في المقام شيء وهو أنـّه إذا علم الشخص بوجوب أحد شيئين عليه، مع تأخّر أحد الحكمين، فتارةً يفرض له العلم بأنـّه سيبقى له هذا العلم الإجماليّ التدريجيّ إلى زمان الحكم الآخر، واُخرى يفرض له العلم بأنـّه سوف يزول منه هذا العلم الإجمالي، فهو يدري على سبيل الترديد أنـّه تحصل له إحدى حالات ثلاث: فإمـّا تظهر له حال الحكم الآخر ويعلم بثبوته، أو تظهر له حاله، ويعلم بعدم ثبوته، أو يخرج عن طرفيّته للعلم الإجماليّ، ويشكّ فيه شكّاً بدويّاً بأن يعلم تفصيلاً بثبوت الحكم الأوّل، ويشكّ بدويّاً في ثبوت الحكم الثاني، وثالثة يفرض له الشكّ في أنـّه هل سيبقى له هذا العلم الإجماليّ، أو يزول، فهذه ثلاثة أقسام:

أمـّا القسم الأوّل: فهو القدر المتيقّن ممّا مضى من منجّزيّة العلم الإجماليّ في التدريجيّات.

وأمـّا القسم الثاني: فالصحيح هو عدم منجّزيّة العلم الإجماليّ فيه؛ لأنّ الأصل في طرف الحكم الأوّل ليس له معارض بحسب اعتقاد العالم؛ لأنّ الأصل في طرف الحكم الثاني بلحاظ زمان الحكم الأوّل غير جار؛ إذ لا أثر له، وبلحاظ زمان الحكم

186

الثاني إمـّا أنـّه غير جار لعلمه بذلك الحكم في ذلك الزمان إثباتاً أو نفياً، أو أنـّه جار بشكل غير معارض؛ لعدم كونه بلحاظ احتمال الانطباق الذي هو عدل احتمال الانطباق الحاليّ؛ لأنّ المفروض تبدّل العلم الإجماليّ في ذلك الظرف إلى العلم التفصيليّ، والشكّ البدوي، فالآن له أن يجري الأصل في هذا الطرف، ويخالف الحكم الأوّل المحتمل، ثمّ يأتي عليه زمان الحكم الثاني، فيرى ماذا حصل له من تغيّرالحال، فإن رأى أنـّه صار عالماً بثبوت الحكم الثاني، أو بانتفاءه، عمل وفق عِلمه، وإنْ رأى أنـّه صار شاكّاً في ذلك بالشكّ البدويّ نفاه بالأصل، وإنْ تبيّن له أنّ ما كان يتخيّله ـ من أنـّه سوف ينحلّ علمه الإجماليّ ـ كان اشتباهاً، وبقي علمه الإجماليّ على حاله، فأيضاً لا بأس بأنْ يجري الأصل، ويترك العمل بهذا الحكم؛ لأنّ العلم الإجماليّ في الزمان الأوّل لم يؤثّر في تنجيز الطرفين، والآن يكون علماً إجمالياً مردداً بين ما مضى وقته وما لم يمض ِ وقته، فالآن ـ أيضاً ـ لا أثر له.

إنْ قلت: إنـّه بعد أنْ رأى بقاء العلم الإجماليّ انكشف له أنّ الأصل في الزمان الأوّل كان جزءاً من الترخيص في المخالفة القطعيّة، فبناءً على مبنى الأصحاب من قبح الترخيص في المخالفة القطعيّة قد انكشف: أنّ هذا كان جزءاً من القبيح فلم يكن جارياً.

قلت: المفروض أنـّه في الزمان الأوّل كان يقطع بأنّ هذا الأصل ليس جزءاً من الترخيص في المخالفة القطعيّة، فلم يكن قبيحاً وترخيصاً في القبيح، فإنّ القبيح هو المخالفة القطعيّة الواصلة بالعلم أو بمطلق الوصول.

وأمـّا القسم الثالث: فالعلم الإجمالي فيه منجِّزٌ بناءً على أنّ الوجه في عدم جريان الاُصول في الأطراف هو حكم العقل بقبح الترخيص في المخالفة القطعيّة، فإنـّه ـ عندئذ ـ يشكّ في أنّ جريان الأصل في الطرف الفعليّ هل هو جزء من القبيح أو لا؟ وقد تقيّد دليل الأصل بأنْ لا يلزم من إجرائه الترخيص في المخالفة القطعيّة في أطراف العلم الإجمالي، فالتمسّك بدليل الأصل هنا يكون تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقيّة بناءً على ما لا يبعد أنْ يقال ـ على القول بقبح الترخيص في المخالفة القطعيّة ـ من أنـّه يكفي في قبحه كونها واصلة ولو احتمالاً، وأقول: (لا يبعد) لأنـّي لم أدركْ أصل قبح الترخيص في المخالفة القطعيّة.

ولا يتوهّم أنّ هذا البيان بعينه يجري في القسم الثاني؛ إذ يحتمل أنّه سوف يشكّ بدويّاً في الطرف الآخر، وينفيه بالأصل، فيلزم نفي كلا الطرفين بالأصل، فإنـّه

187

هناك لم تلزم المخالفة القطعيّة من إجراء الأصلين في طرفي العلم الإجمالي، وإنـّما لزمت من نفس إجراء الأصل الأوّل؛ لتبيّن وجوب ما نفاه به، وهذا من قبيل ما إذا احتمل بدويّاً وجوب شيء، ونفاه بالأصل، مع أنـّه كان يحتمل أنْ سوف يحصل له العلم بأنّه كان واجباً، ثمّ حصل له ذلك العلم فلزمت المخالفة القطعيّة، وهذا لا بأس به.

هذا، وأمّا إذا قلنا: إنّ الوجه في عدم جريان الاُصول في الأطراف ليس هو المحذور العقليّ، وإنـّما هو الارتكاز العقلائيّ للمناقضة بين الترخيصات والإلزام المعلوم بالإجمال، فعندئذ يجب أنْ نرجع إلى سعة دائرة هذا الارتكاز وضيقها؛ لنرى أنّ ارتكاز المناقضة ثابت حتى في مثل هذا الفرض الذي يحتمل أداء إجراء الأصل إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة في أطراف العلم الإجمالي، وذلك بأن يبقى العلم الإجماليّ على حاله، ويحتمل عدم أدائه إلى ذلك، وذلك بأن لا يبقى العلم الإجمالي على حاله، أو أنّ الارتكاز في مثل ذلك غير ثابت؟ فان ثبت فلا يجري الأصل، وإلّا جرى (1)، ومع الشكّ في ذلك ـ أيضاً ـ لا يمكن إجراء الأصل.

ثم إنّ كلّ ما ذكرناه إنـّما هو فيما إذا لم يكن للحكم الثاني أثر لزوميّ في الزمان الأوّل، بأن كان من الممكن تفويت القدرة في زمانه عليه في الزمان الأوّل، وإلّا جرى الأصل النافي لذلك الحكم في الزمان الأوّل، وأصبح معارضاً للأصل النافي للحكم الأوّل، ويتساقطان، كما أنـّه إذا كان ذلك الحكم في الزمان الثاني موضوعاً لحكم آخر في الزمان الأوّل، حصل العلم الإجمالي بالحكم الأوّل، أو هذا الحكم المترتّب على الحكم في الزمان الثاني، ومنع ذلك عن نفي الحكم الأوّل بالأصل النافي.

ثم إنـّه يمكن أنْ يفترض أنّ العالم بالإجمال في التدريجيّات يعلم بأنّ هذا


(1) لا يبعد التفصيل في ذلك بين ما إذا كان احتماله لزوال العلم الإجمالي في المستقبل بنحو يبطل جزمه بكون الأصل الذي يجريه فعلاً لنفي الطرف الحالي جزءاً من الترخيص في المخالفة القطعيّة، وما إذا لم يكن كذلك، ففي الفرض الأوّل لا يكون الارتكاز ثابتاً، ويجري الأصل فعلاً لنفي التكليف الحاليّ، وذلك كما لو احتمل زوال العلم الإجمالي في المستقبل بحصول العلم التفصيليّ بالحكم الثاني، وفي الفرض الثاني يكون الارتكاز ثابتاً ولا يجري الأصل في المقام، وذلك كما لو لم يحتمل زوال العلم الإجماليّ في المستقبل بحصول العلم التفصيلي بالحكم الثاني، وإنـّما احتمل زواله بحصول العلم التفصيليّ بالحكم الأوّل، أو بالشكّ الساري في أصل المعلوم بالإجمال.

188

العلم سيزول في الزمان الثاني بالشكّ الساري، وعندئذ:

تارةً يفرض أنّ عدم جريان الاُصول في أطراف العلم الإجماليّ يكون بملاك القبح العقلي للترخيص في المخالفة القطعيّة، فهنا لا بأس بجريان الاُصول؛ إذ لا تلزم مخالفة قطعيّة لا في الزمان الأوّل؛ لأنّه لم يحن وقت الحكم الثاني، ولا في الزمان الثاني؛ لأنـّه يتبدّل علمه في ذاك الزمان إلى الشكّ في أصل التكليف.

نعم، إذا كان الحكم المتأخّر له أثر في زمان الحكم السابق، وهو وجوب حفظ القدرة والإتيان بالمقدّمات المفوّتة، فعندئذ إنْ احتمل أنـّه لو حفظ قدرته الآن فسوف يمتثل الحكم الثاني في زمانه بالرغم من تبدّل علمه إلى الشكّ، فالآن لابدّ له من الإتيان بالواجب الأوّل، وحفظ القدرة للواجب الثاني، ثم إذا جاء زمان الواجب الثاني، وزال عنه علمه جاز له ترك ذلك الواجب، وأمّا إنْ علم بأنـّه سوف لا يمتثل الحكم الثاني في زمانه، بل يتركه اعتماداً على الأصل، فعلمه الآن لا ينجّز عليه شيئاً.

ولو لم يعلم بأنـّه سوف يتبدّل علمه إلى الشكّ الساري، ولكن احتمل ذلك، جاء هنا ما مضى من شبهة التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

واُخرى يفرض أنّ عدم جريان الاُصول يكون بملاك ارتكاز المناقضة، فلعلّه يمكن أنْ يقال ـ عندئذ ـ بأنّ الارتكاز هنا غير موجود، فإنّ صيرورة الحكم الثاني طرفاً للعلم الإجمالي ليست (1) بأعظمَ من القطع بثبوت حكم في زمان متأخّر، مع العلم


(1) صحيح أنّ هذه ليست بأعظم من ذاك، ولكن في فرض القطع بثبوت حكم في زمان متأخّر يكون مصبّ المحذور ـ لو كان ـ هو الأصل المتأخّر وحده، والمفروض أنّ ذاك الأصل غير جار بلحاظ زمان يوجد فيه العلم، إذن فلا محذور فيه. وأمّا فيما نحن فيه، فالمحذور ـ لو كان ـ هو محذور الارتكاز القائم بمجموع الأصلين بسبب كون أحدهما جارياً بلحاظ زمان يوجد فيه العلم، وهو الأصل الأوّل، والظاهر أنّ هذا كاف في ثبوت الارتكاز ما دام الأصل الأوّل يعتقد تأثيره في الترخيص في المخالفة القطعيّة، وهذا الارتكاز لا يؤدّي إلى سقوط كلا الأصلين؛ وذلك لأحد أمرين:

(الأوّل): أنّ الارتكاز إنـّما يحكم بعدم جريان مجموع الأصلين، وإنـّما يؤدّي ذلك إلى سقوطهما معاً بنكتة أنّ التمسّك بدليل الأصل في أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح، وهذه النكتة غير موجودة في المقام؛ لأنّ احتمال سقوط خصوص الأصل الملحوظ فيه زمان زوال العلم، وبقاء الأصل الملحوظ فيه زمان العلم غير موجود، بخلاف العكس، وبهذا يتعيّن الأصل الملحوظ فيه زمان العلم للسقوط، ونتمسّك بإطلاق دليل الأصل لإثبات الأصل الآخر، سنخ ما

189

بأنـّه سوف يتبدّل في ذلك الزمان هذا القطع إلى الشكّ، وفي هذا الفرض نحكم بالفعل بشمول إطلاق دليل الأصل للشكّ في الزمان المتأخّر، إذن فلا بأس بجريان الاُصول.

هذا ما يمكن أنْ يقال في المقام، لكن المسألة بحاجة إلى ما لم يسعني الآن من مزيد من التفكير، ويشكل إجراء الأصل للعلم بأنّه سوف يتبدّل العلم الإجماليّ إلى الشكّ الساري، وأشكل منه إجراءه لاحتمال هذا التبدّل.

 

 


مضى سابقاً، بقطع النظر عن بعض النصوص الخاصّة من أنّ أحد طرفي العلم الإجماليّ إن كان على تقدير كونه هو الواقع أهمّ من الآخر، فمقتضى القاعدة التمسّك بإطلاق دليل الأصل في الطرف غير الاهم، ومن المعلوم أنّ تلك النصوص الخاصّة لا علاقة لها بما نحن فيه.

(والثاني): أنـّنا إنْ لم نقبل ما مضى في الأمر الأوّل فانتهينا إلى التعارض والتساقط، قلنا: إنّ هذا التعارض والتساقط إنـّما يكون في أصل يشمل بإطلاقه لولا التعارض أطراف العلم الإجماليّ، ويبقى مثل حديث الرفع الذي لا يشمل أطراف العلم الإجماليّ، فهذا لا يجري في الطرف الأوّل لمكان العلم، ويجري في الطرف الثاني لأنّ العلم سيزول.

190

 

 

 

الاضطرار في بعض الأطراف

 

التنبيه التاسع: في الاضطرار إلى المخالفة في أحد الأطراف، والكلام فيه يقع في مقامين؛ لأنّ الاضطرار تارةً يكون في أحدهما المعيّن، وأُخرى في أحدهما لا بعينه.

 

الاضطرار في طرف معيّن

المقام الأوّل: في الاضطرار إلى أحدهما المعيّن، وهذا الاضطرار تارةً يحصل قبل سبب الحكم، وقبل العلم بالحكم، ونحوه فرض المقارنة للسبب أوْ له وللعلم، وأُخرى يحصل بعدهما، وثالثة يحصل بعد السبب وقبل العلم أو معه، فالاضطرار إلى الماء مثلاً تارةً يحصل قبل وقوع قطرة دم في واحد من إنائي الماء والدبس، وأُخرى يحصل بعد وقوعها وبعد العلم بذلك، وثالثة يحصل بعد وقوعها وقبل العلم بذلك.

أمـّا القسم الأوّل ـ وهو حصول الاضطرار قبل سبب التكليف أو مقارناً له، فلا إشكال في عدم التنجيز فيه؛ لعدم العلم بالتكليف، لأنّ أحد الطرفين ـ وهو الماء ـ مرخّص فيه ومباح إمّا بالعنوان الأوّلي أو بالاضطراري(1)، والطرف الآخر


(1) قد تقول: إنّ ما نحن فيه ـ بناءً على عدم دخل القدرة في الملاك ـ مورد للاحتياط؛ لأنـّه من موارد كون الشكّ في التكليف ناتجاً من الشكّ في القدرة، وفي مثل هذا الفرض يحكم العقل ـ بناءً على عدم دخل القدرة في الملاك ـ بالاشتغال، ولا تجري البراءة العقليّة، وينصرف عنه إطلاق البراءة الشرعية، وأيّ فرق بين ما لو علمنا تفصيلاً بتكليف ما على تقدير عدم العجز ولكن احتملنا العجز وما لو علمنا إجمالاً بأحد تكليفين على تقدير عدم العجز، ولكن قطعنا بالعجز عن أحدهما المعيّن؟ ففي كلا الفرضين يكون الشكّ في التكليف ناتجاً من الشكّ في القدرة، فإذا وجب الاحتياط في الفرض الأوّل لغرض عدم دخل القدرة في الملاك وجب في الفرض الثاني أيضاً.

191

مشكوك الحرمة.

وأمـّا القسم الثاني: وهو حصول الاضطرار بعد العلم بالحكم، فيمكن أن يتخيّل فيه الانحلال، وجريان الأصل بعد طروّ الاضطرار؛ إذ قد خرج أحد طرفي العلم الإجماليّ عن الطرفيّة بعد حصول الاضطرار بالقطع بالترخيص والإباحة، فليس هنا علم إجماليّ بالتكليف، نعم كان يوجد لنا قبل الاضطرار علم إجماليّ بالتكليف مردّد بين هذا وذاك، ولكن ذاك العلم الإجماليّ لا ينجّز الطرف غير المضطرّ إليه في زمان الاضطرار إلى الطرف الآخر، لأنّ العلم الإجمالي لا ينجّز الحكم في الزمان الثاني بوجوده الحدوثيّ، وإنـّما ينجّزه بوجوده البقائيّ.

ويرد عليه: ما ذكره المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله) في حاشيته على كفايته، وأوضحه(1) المحقّق العراقيّ (قدس سره) من أنّ هذا يكون من قبيل العلم الإجماليّ بأحد تكليفين: أحدهما طويل، والآخر قصير، فإنـّا علمنا إجمالاً بوجوب الاجتناب عن الماء من الساعة الاُولى إلى الساعة الثانية التي جاء فيها الاضطرار، أو وجوب


والجواب: أنّ مصبّ البراءة في مورد العلم التفصيليّ هو نفس ما علمنا بالملاك فيه، وبمطلوبيّته على تقدير القدرة، فيقال فيه بحكم العقل بالتنجيز، وانصراف أدلّة الاُصول الشرعيّة عنه، ويكون التكليف فيه قابلاً للتنجيز على كلا التقديرين، أمّا على تقدير ثبوت القدرة، فالتكليف يقبل التنجيز بمقدار الامتثال، وأمّا على تقدير العجز فلأنّ العجز غير محرز، فالتكليف قابل للتنجيز بمقدار محاولة الامتثال، وأمّا في المقام فالمعلوم هو الجامع بين ما لا يقبل التنجيز يقيناً، وهو الطرف المضطر إليه، وما يقبل التنجيز، وهو الطرف الآخر، وهذا العلم لا ينجّز عقلاً، كما أنّ الاُصول الشرعية غير ساقطة بالتعارض؛ لعدم التعارض، وغير منصرفة عن المورد؛ لأنـّنا نجريها عمّا شككنا في التكليف وفي الملاك فيه، وهو الطرف غير المضطرّ إليه، لا عمّا علمنا بالملاك وبالطلب فيه على تقدير القدرة مع الشكّ في القدرة، كما في مورد العلم التفصيليّ.

(1) المحقّق العراقيّ (قدس سره) ذكر في المقام: أنّ المسألة تدخل في العلم الإجمالي تدريجيّات، راجع نهاية الافكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 254 و 350، والمقالات: ج2، ص 91 و 67 ـ 68)، ولكنّه لم يذكر ذلك بعنوان توضيح كلام المحقّق الخراسانيّ، فلعلّ مقصود اُستاذنا (رحمه الله)هو أنّ المحقق العراقي وضّح أصل المطلب، لا أنـّه وضّح كلام المحقّق الخراسانيّ، أو لعلّه وقع اشتباه في عبارته (رحمه الله) أو في قلمي بين المحقّق العراقيّ والمحقّق الاصفهانيّ، فإن المحقّق الاصفهانيّ هو الذي شرح في تعليقته على الكفاية ما أورده المحقّق الخراسانيّ في تعليقته عليها، فراجع المجلّد الثاني من تعليقة المحقّق الاصفهانيّ على الكفاية، ص250 ـ 251.

192

الاجتناب عن الدبس إلى ما بعد الساعة الثانية، وهذا علم إجمالي حدث من زمان التكليف القصير، وبقى إلى آخر زمان التكليف الطويل، فأثره باق إلى الآخر ببقائه.

نعم، هنا شيء، وهو أنّ القول بالتنجيز هنا هل يتوقّف على القول بالتنجيز في العلم الإجماليّ في تدريجيّات، أو لا؟

وتحقيق الحال في ذلك: أنـّه إن فرض التكليف واحداً مجموعيّاً لا ينحلّ إلى أحكام عديدة، كما لو كان ترك الشرب في مجموع الزمان حكماً واحداً، فالقول بالتنجيز هنا لا يتوقّف على القول بالتنجيز هناك، بل يمكن تسليمه هنا مع فرض عدم تسليمه هناك، وأمـّا إذا كان أحكاماً عديدة، فالمنجِّز للحكم الثاني الذي هو حكم ما بعد الاضطرار إنـّما هو العلم الإجماليّ بوجوب الشيء في الزمان الأوّل المضطرّ إلى مخالفته في الزمان الثاني، أو وجوب الشيء الآخر في الزمان الثاني، فإن فرضت الأحكام العديدة التي انحلّ التكليف إليها وجوبات متدرّجة زماناً في نفس الوجوب، فالقول بالتنجيز فيه يتفرّع على القول بالتنجيز في العلم الإجماليّ في التدريجيّات، بمعنى كون التدريج في نفس الوجوب، وإنْ فرض أنّ تلك الأحكام متعاصرة وكلّها ثابتة في الزمان الأوّل، وإنـّما التدرّج في الواجب ومتعلّق العلم، فالقول بالتنجيز فيه يتفرع على القول بالتنجيز في العلم الإجمالي في التدريجيّات، بمعنى التدرّج في نفس الواجب على نحو الواجب المعلّق لا في نفس الوجوب.

وأمـّا القسم الثالث: وهو تأخّر الاضطرار عن سبب التكليف وتقدّمه على العلم به أو مقارنته أيّاه، فهل يلحق بالقسم الأوّل، وهو تقدّمه عليهما في عدم تنجيز العلم الإجمالي فيه، أو بالقسم الثاني، وهو تأخّره عنهما في تنجيزه فيه؟ نقل في التقريرات: أنّ المحقّق النائينيّ (قدس سره) كان يبني في الدورة السابقة على التنجيز ثمّ عدل إلى عدم التنجيز.

وشبهة التنجيز تقرّب بتقريبين:

التقريب الأوّل: ما ذكره السيّد الاُستاذ في الدراسات(1) من أنـّه بعد طروّ الاضطرار قد علم بثبوت تكليف عليه قبل الاضطرار، ولا يدري هو الفرد القصير الذي انقضى بالاضطرار، أو الفرد الطويل الباقي، فيجري استصحاب الكلّيّ من


(1) راجع الدراسات: ج3، ص248 ـ 249 . وراجع ـ أيضاً ـ مصباح الاُصول: ج 2، ص386 ـ 388.

193

القسم الثاني، نظير استصحاب الحدث بعد الوضوء عند التردّد بين الحدث الأصغر والأكبر، وهذا وإن كان لايثبت ذاك التكليف الطويل؛ لأنّ ذلك تعويل على الأصل المثبت، لكنّه بعد أن ثبت بالاستصحاب توجّه تكليف إلى العبد، فالعقل يحكم بلزوم الخروج عن عهدته جزميّاً، وهذا لا يكون إلّا بالعمل بالتكليف الطويل.

ثم أجاب عن هذه الشبهة بأنّ استصحاب الكلّيّ من القسم الثاني إنـّما يتمّ فيما إذا لم يمكن نفي الفرد الطويل بالأصل المؤمّن، كما في مثال الحدث، حيث إنّ استصحاب عدم الحدث الأكبر معارض باستصحاب عدم الحدث الأصغر، فيرجع إلى استصحاب الكلّيّ. وأمـّا فيما نحن فيه فأصالة البراءة الجارية في طرف الفرد الطويل لا معارض لها؛ إذ التكليف في الطرف ساقط قطعاً بعد الاضطرار، وقبله كانت الشبهة بدويّة غير مقرونة بالعلم الإجماليّ، والأصل في طرف الفرد الطويل حاكم على استصحاب الكلّيّ؛ لأنّ الشكّ في بقاء الكلّيّ ناشىء من الشكّ في الفرد الطويل، وبهذا ندفع شبهة استصحاب الكلّيّ في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين بعد الإتيان بالأقلّ.

أقول: إنّ هذا الكلام كلّه ممّا لا يناسب السيّد الاُستاذ، فإنّ استصحاب الكلّيّ هنا في نفسه غير جار بقطع النظر عن وجود حاكم عليه، إذ الجامع بين التكليف الطويل والتكليف القصير الخارج عن تحت(1) القدرة لا يقبل التنجيز؛ لأنـّه جامع بين ما يقبل التنجيز، وهو التكليف الطويل، وما لا يقبل التنجيز ولا يدخل تحت دائرة حقّ المولى ولو صرّح المولى به، وهو التكليف بغير المقدور، ولهذه النكتة ـ أيضاً ـ نقول بعدم جريان استصحاب الكلّيّ في دوران الاُمر بين الأقلّ والأكثر بعد الإتيان بالأقلّ، أو دوران الأمر بين المتباينين بعد الإتيان بأحدهما؛ لأنّ الجامع بين ما يقبل التنجيز وهو الأكثر، أو الفرد الآخر، وما لا يقبل التنجيز وهو الحكم الممتثل غير قابل للتنجيز، والحكم بعد الامتثال لا يعقل أن يكون داخلاً في دائرة حقّ المولى لامتثال ثان، وهذا بخلاف مثال الحدث، فإنـّه في مثال الحدث نستصحب الكلّيّ لا لتنجيز وجوب الغسل، بل لإثبات الأثر الشرعي الذي أُخذ في موضوعه جامع الحدث،


(1) أفاد رحمه الله: أنّ الكلام فعلاً نفرضه في الاضطرار البالغ حد العجز عقلاً أو شرعاً، ثمّ نتكلّم في أحد تنبيهات بحث الاضطرار في الاضطرار المنفي شرعاً بمعنى مجرّد الترخيص في الخلاف.

194

وهو حرمة مسّ الكتاب مثلاً.

والخلاصة: أنّه مهما كان استصحاب الكلّيّ من القسم الثاني لأجل ترتيب أثر شرعي مترتّب على الجامع، فهو جار، ومهما لم يكن للجامع أثر شرعي، وإنـّما كان المقصود تنجيز الطرف الآخر لا يجري، وأمّا استصحاب ذات الإلزام الواقعيّ على ما هو عليه، فهو استصحاب للفرد المردد بين ما يقطع بزواله ومايقطع بعدم زواله، وذلك غير جار، ولو جرى لجرى ـ أيضاً ـ في فرض سبق الاضطرار على سبب التكليف، غاية الأمر أنـّه يجري فيه بنحو الاستصحاب الموضوعي، فيستصحب عدم طروّ الاضطرار على واقع ما هو متعلّق الحرمة.

وقد تحصّل بما ذكرناه: انـّه لا يجري فيما نحن فيه استصحاب الكلّي في نفسه.

ثمّ على تقدير جريانه لا يحكم عليه الأصل في طرف الفرد الطويل؛ إذ الكلّيّ ليس حكماً للفرد الطويل ينفى ظاهراً بنفي موضوعه بالأصل، فإنّ الكلّيّ إنْ فرض عين الفرد فلا تعدّد في المقام، حتى بفرض سببيّة أحدهما للآخر، وموضوعية أحدهما للآخر، وإنْ فرض غير الفرد ومسبّباً عن الفرد، فهذا مسبّب عقليّ لا أثر شرعيّ ينفى ظاهراً بنفيه بالأصل، على أنـّه لو كان أثراً شرعيّاً له، فإنّما يمكن نفيه بنفي موضوعه بمثل الاستصحاب، لا البراءة التي لا تنفي الموضوع، وإنـّما شأنها التأمين من قِبَل ما يجري بلحاظه.

ولعلّه وقع هنا في الدراسات خلط واشتباه، فإنّه على ما أتذكّر يقول السيّد الاُستاذ في باب الاستصحاب بعدم حكومة استصحاب عدم الفرد الطويل على استصحاب الكلّيّ، فكيف يقول هنا بحكومة البراءة عن الفرد الطويل عليه؟!

التقريب الثاني: ما ذكره المحقّق النائينيّ (قدس سره) من أنـّه قد علم بعد حصول الاضطرار بتحقّق التكليف واشتغال الذمّة، وشكّ في سقوط التكليف، ومع الشكّ في السقوط لا في أصل التكليف تجري أصالة الاشتغال.

وهذا ـ أيضاً ـ غير صحيح، وتوضيح ذلك: أنـّه لو علم الإنسان بتكليف وشكّ في سقوطه لاحتمال إتيانه به، أو احتمال طروّ العجز عنه، فهنا يحكم العقل بلزوم الاحتياط، وأمـّا لو علم بطروّ العجز عن شيء، وثبوت القدرة على شيء، وشكّ في أنّ تكليفه هل هو تكليف لما طرأ العجز عنه يقيناً، فهو ساقط، أو تكليف بالشيء الآخر الثابت تحت قدرته، فهو باق حتى الآن، كما هو الحال فيما نحن فيه، فهذا

195

يكون مجرىً للبراءة عن التكليف الآخر، لا لأصالة الاشتغال. هذا إذا كان مقصوده في المقام التمسّك بقاعدة الاشتغال. وأمّا إذا كان مقصوده التمسّك بالاستصحاب، فالاستصحاب إنـّما يجري في مثل ما إذا وجب الجلوس في المسجد إلى أن ينزل المطر مثلاً، فشكّ في نزول المطر، وأمـّا في مثل ما نحن فيه فلا يجري على ما عرفته آنفاً في مناقشاتنا لما في الدراسات.

 

الاضطرار في طرف غير مُعيّن

المقام الثاني: في الاضطرار إلى المخالفة في أحد الطرفين لا بعينه.

ذهب صاحب الكفاية (رحمه الله) إلى أنّ (1) الترخيص التخييريّ الثابت بواسطة الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه ينافي التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال، فيرتفع ذلك، فيرتفع العلم، فلا تنجيز في المقام، وبعد أنْ رفع الاضطرار بارتكاب أحد الطرفين ارتفع الترخيص التخييري، وجاء احتمال التكليف في الطرف الآخر، لكنّه شكّ بدويّ ينفى بالأصل.

هذا، وينبغي تقييد كلامه (قدس سره) بفرض عدم تأخّر طروّ الاضطرار عن العلم.

وعلى أيّ حال، فليس مُدّعاه (قدس سره) كون الترخيص هنا واقعيّاً ينافي التكليف الواقعيّ، وإنـّما هو ترخيص ظاهريّ؛ إذ لم ينشأ من محض الاضطرار، بل تدخّل فيه الجهل بالحرام، ولو كان عالماً لم يجز له ارتكابه، وكان عليه رفع الاضطرار بالآخر، ويرى هو (قدس سره): أنّ هذا الترخيص الظاهريّ ينافي ذلك التكليف الواقعيّ المعلوم بالإجمال، ولم يذكر في عبارته النكتة في هذه المنافاة(2) .

 


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 212 حسب الطبعة المشتملة على تعليق المشكينيّ.

(2) الظاهر أنّ مقصود المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله): أنّ الترخيص ينافي فعليّة الحكم الواقعيّ بالمعنى الذي يقول به من الفعليّة، فيسقط العلم الإجماليّ عن كونه علماً إجماليّاً بالتكليف، كما يقول في مورد الشكّ البدويّ أيضاً، وبأنّ البراءة الشرعيّة تسقط فعليّة التكليف، ومن هنا يتّضح أنـّه لا نكتة لتقييد كلامه (قدس سره) بفرض عدم تأخّر طروّ الاضطرار عن العلم.

وعلى أيـّة حال، فإنْ كان هذا هو مراد المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله) في المقام، فقد أورد عليه اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) بأنّ هذا الكلام لا يتمّ لا في مورد العجز التكوينيّ، ولا في مورد العجز التشريعيّ، أمـّا الأوّل ـ وهو ما لو اضطر بمستوى العجز التكوينيّ إلى مخالفة أحد طرفي العلم

196

والمحقّق النائينيّ (رحمه الله) ذهب في تقرير الشيخ محمد علي الكاظميّ(قدس سره)(1) إلى منع المنافاة بين هذا الترخيص وذاك التكليف الواقعيّ؛ لأنّ المنافاة إمّا أنْ تُدّعى بينه وبين التكليف الواقعي بما هو، أو تدّعى بينه وبين التكليف الواقعيّ المعلوم، فإنْ ادّعي الأوّل فهذا ما اُبطل في جواب شبهة المنافات بين الأحكام الواقعيّة والظاهريّة، وتبيّن أنـّه مع الشبهة البدويّة يمكن الترخيص تعييناً من دون أنْ ينافي الحكم الواقعيّ على تقدير وجوده، وإنْ ادّعي الثاني فالترخيص في المخالفة الاحتمالية في أطراف العلم الإجمالي لا بأس به، سواء كان تعيينيّاً أو تخييريّاً.

إذن فلا منافاة بين التكليف الواقعيّ والترخيص التخييريّ، فالعلم الإجماليّ بالتكليف ثابت على حاله، غاية الأمر أنـّه هنا لا يمكنه أنْ ينجّز بدرجة وجوب الموافقة القطعيّة، لفرض الترخيص في ارتكاب أحدهما، لكنْ يبقى على تنجيزه لدرجة حرمة المخالفة القطعيّة، وهذا ما يسمى بالتوّسط في التنجيز.

وذهب المحقّق العراقيّ (قدس سره) إلى أنّ الترخيص التخييريّ في المقام لا ينافي التكليف المعلوم إجمالاً بناءً على الاقتضاء، وأمـّا بناء على العلّية، فهو ينافيه لأنّ المفروض أنـّه لا يمكن الترخيص في أطراف العلم الإجماليّ بالتكليف؛ لكونه خلف العلّيّة التامّة لوجوب الموافقة القطعيّة، فيكشف الترخيص عن رفع اليد عن التكليف، لكنّ هذا لا يوجب رفع اليد عن أصل التكليف رأساً؛ لأنـّنا إنـّما قلنا برفع اليد عنه باعتبار المنافاة بينه وبين الترخيص التخييريّ، فلابدّ من أنْ نقتصر فيه على مقدار المنافاة، وهذا الترخيص إنـّما ينافي إطلاق التكليف لا أصله، فيتقيّد التكليف، وبذلك يصير العلم علماً بالتكليف المقيّد بذلك القيد، ومنه يسري النقص إلى مرحلة التنجيز أيضاً، وهذا ما يسمى بالتوسّط في التكليف، إذ النقص طرأ ابتداءً على نفس التكليف(2) .

 


الإجمالي تخييراً ـ؛ فلأنّ الترخيص فيه عقليّ، ويشبه البراءة العقليّة لا البراءة الشرعيّة، ولا ينافي فعلية الحكم، وأمـّا الثاني؛ فلأنّ هذا الحكم هنا وإن لم يكن فعليّاً من جهة العجز الشرعيّ، أي: في قبال الوجوب الاهمّ، وهو وجوب حفظ النفس مثلاً، بمعنى أنّ المولى لا يريد صرف العبد إليه، حتى عن الأهمّ، لكنّ فعليّته من سائر الجهات تكفي لمنجّزيّة العلم بمقدار فعليّته، ومقصود المحقّق الخراسانيّ من شرط الفعليّة من جميع الجهات لا تسقط الفعليّة، بمعنى فقدان المطالبة الحقيقة بجهة من الجهات كالجهل.

(1) فوائد الاُصول: ج 4، ص 31 ـ 32.

(2) راجع المقالات: ج 2، ص 91 . ونهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص351 ـ 352. والقسم الأوّل من الجزء الثالث: ص 155.

197

أقول: أمّا ما ذكره ـ من تسليم المنافاة في الجملة بين التكليف الواقعي وهذا الترخيص؛ لكون العلم الإجماليّ علّة تامّة لتنجيز وجوب الموافقة القطعيّة ـ فيرد عليه: أنّ معنى كون العلم الإجماليّ علّة تامّة لتنجيز وجوب الموافقة القطعيّة هو كونه كالعلم التفصيليّ فيما له من أثر في مقام التنجير من دون أنْ يكون أثره معلّقاً على عدم مجيء الترخيص، لكنّ العلم ـ سواء كان تفصيليّاً أو إجماليّاً ـ وإن كان دخيلاً في التنجيز، إلّا أنـّه يوجد شيء آخر دخيل في التنجيز أيضاً، وهو القدرة، فلو كلّف المولى عبده بما لا يقدر على بعض مراتب امتثاله، أو تمامها عقلاً أو شرعاً، وعلم العبد بذلك لم تتنجّز عليه تلك المرتبة من الامتثال، أو تمامها؛ إذ لا حقّ للمولى على العبد في خارج نطاق قدرته، وفيما نحن فيه لا يقدر العبد على مرتبة الامتثال القطعيّ إما عقلاً وإمـّا شرعاً، كما إذا كان ترك ارتكاب أحد الطرفين مؤدّياً إلى هلاك النفس، وكان حفظ النفس واجباً أهمّ ومقدّماً على هذا التكليف، وعليه فالتكليف هنا موجودٌ، ولا يتنجّز بمرتبة وجوب الموافقة القطعيّة، لا لنقص في تأثير العلم حتى يقال: إنّ العلم علّة تامّة للتنجيز، بل لانتفاء الشرط الآخر لتنجّز هذه المرتبة، وهو القدرة عليها، فيتنجّز بمرتبة حرمة المخالفة القطعيّة، وهذا هو التوسّط في التنجيز.

وأمـّا ما ذكره من أن هذا الترخيص ينافي إطلاق التكليف لا أصله، فيتّجه التوسّط في التكليف، فهذا ما يلتقي فيه كلام المحقّق العراقيّ (رحمه الله)مع كلام المحقّق النائينيّ (قدس سره) في أجود التقريرات(1)، حيث يختار هناك التوسّط في التكليف، لكنّه لوجه آخر غير وجه المحقّق العراقيّ (رحمه الله)، فإنّ الوجه فيما اختاره المحقّق العراقيّ (رحمه الله)للتوسّط في التكليف هو مسألة علّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة، كما عرفت، لكنّ المحقّق النائينيّ (رحمه الله) لا يقول بالعلّيّة، إلّا أنّه يقول هنا بأنّ الاضطرار وإنْ كان متعلّقاً بالجامع، لكن أيّ فرد اختاره المكلّف، فكأنّ العرف يرى أنّ الاضطرار ثابت بالنسبة لذلك الفرد، فيكون الترخيص الواقعي فيه، فيقع المنافاة بينه وبين


(1) أجود التقريرات: ج 2، ص 270 ـ 271. واختاره أيضاً المحقّق العراقيّ لإثبات التوسّط في التكليف، حتى على مسلك الاقتضاء، حسب ما ورد في نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 353.

198

إطلاق التكليف، فيحصل التوسّط في التكليف.

أقول: أمّا الوجه الأوّل للتوسّط في التكليف، وهو العلّيّة التامّة لتنجيز العلم الإجماليّ، فقد عرفت ما فيه، وأمـّا الوجه الثاني، وهو فرض انطباق الاضطرار على هذا الفرد عرفاً، فهو أيضاً ممنوع، ولا يكون الاضطرار إلّا بمقدار الجامع، ولا وجه لفرض سريانه إلى الفرد، فالتكليف الواقعيّ ثابت على حاله، ويكون التوسّط في التنجيز.

ثمّ على تقدير المنافاة في الجملة بين التكليف الواقعيّ وهذا الترخيص في أحد الفردين، يقع الكلام في أنّه هل يبقى مقدار من التكليف يوجب العلم به التنجيز بالنسبة للفرد الآخر، أو لا؟ وكيف نتصور بقاء ذلك؟ قد اختلف هنا تصوّر المحقّق النائينيّ (قدس سره) في أجود التقريرات، وتصوّر المحقّق العراقيّ (رحمه الله).

أمـّا المحقّق النائينيّ (رحمه الله)، فقد ذهب في المقام إلى أنّ التكليف يصبح مشروطاً بعدم اختيار الحرام الواقعيّ في مقام دفع الاضطرار، وفصّل (قدس سره)في استلزام ذلك لتنجّز الفرد الآخر بين ما لو فرض هذا الشرط شرطاً متأخّراً ـ أي: أنـّه مهما اختار الفرد الحرام لدفع الاضطرار يكشف ذلك عن أن هذا لم يكن حراماً عليه من أول الامر ـ أو فرض شرطاً مقارناً ـ اي: أنـّه من آن الاختيار ترتفع حرمته ـ، فإنْ فرض الأوّل فلا تنجيز في البين؛ للشكّ في التكليف بالشكّ في ثبوت شرطه (1)، وإنْ فرض الثاني فأصل التكليف معلوم بلحاظ ما قبل الاختيار، غاية الأمر هي التردّد بين الفرد الطويل والقصير، فيثبت التنجيز، واختار هو (قدس سره) الفرض الثاني، أعني كونه شرطاً مقارناً، حيث إنّ القدر المتيقّن من سقوط التكليف هو آن الاختيار، وأمـّا قبله فيتمسّك بإطلاق دليل التكليف.

والسيّد الاُستاذ(2) أشكل على الفرض الثاني، وهو كونه شرطاً مقارناً، وظاهره أنـّه يوافق المحقّق النائينيّ (رحمه الله) بالنسبة للفرض الأوّل في أنـّه لا يثمر التنجيز، وإشكاله على الفرض الثاني هو أنـّه لا يتعقّل تكليف مغيّىً باختيار مخالفته، فإنّ التكليف إنـّما يكون لتوجيه اختيار المكلّف، وعدم اختياره، فلو جعل مغيّىً باختيار مخالفته يلغو،


(1) فيما إذا كان الاضطرار قبل حدوث التكليف، أو قبل العلم به، كما جاء هذا القيد في أجود التقريرات: ج 2، ص 271.

(2) راجع الدراسات: ج 3، ص 252، والمصباح: ج 2، ص 392.

199

ويصبح غير صحيح.

أقول: إنّ الصحيح: أنّ كلاًّ من الفرضين يفيد التنجيز، ولا يرد على شيء منهما هذا الإشكال، إلّا أنّ ذلك بعد توجيه، وذلك بأنْ يكون المقصود بالشرط (وهو شرط عدم اختيار الفرد الحرام واقعاً) هو عدم اختياره وحده، بأنْ تثبت الحرمة في فرضين: فرض اختيار الآخر، وفرض اختيارهما، وهذا مساوق لكون الشرط عدم اختيار الفرد الآخر، وهذا التوجيه يرفع من الفرض الأوّل جهة عدم التنجيز، وجريان الاُصول، إذ جريان الاُصول يصبح ترخيصاً في المخالفة القطعيّة؛ لأنّ مخالفة تمام الأطراف تساوق القطع بحصول الشرط، وبالتالي القطع بثبوت التكليف ومخالفته كما يرفع من الفرض الثاني إشكال كون الحكم مغيّىً باختيار مخالفته، فإنّ هذا مغيّىً بحصّة خاصّة من مخالفته، وهي مخالفته مع عدم ارتكاب الفرد الآخر، وإنْ شئت فقل: إنـّه مغيّىً بعدم ارتكاب الفرد الآخر، وهذا لا يوجب سقوط التكليف عن كونه توجيهاً لاختيار المكلف، وعدم اختياره، وبقطع النظر عن هذا التوجيه الذي ذكرناه يرد ما ذكره من الإشكال على كلا الفرضين، لا على الفرض الثاني فقط.

هذا تمام الكلام حول ما أفاده المحقّق النائينيّ (رحمه الله) في المقام.

وأمـّا المحقّق العراقيّ (قدس سره) فلم يذهب إلى جعل التكليف مشروطاً، بل أورد القيد على متعلّق التكليف، فمتعلّق وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعيّ ليس هو سدّ جميع أبواب عدمه، بل هو سدّ بعض أبواب عدمه، بنحو كأنـّه ينقلب وجوب الاجتناب ـ وإنْ كان لا يرضى المحقّق العراقيّ(قدس سره) بهذا التعبير ـ من التعيينيّة إلى التخيير، ومن الخطاب بالفرد المعيّن إلى الخطاب بالجامع، فالعبد مخاطب بترك أحد الأمرين الطاهر أو النجس، فيتنجّز عليه ترك أحدهما، في حين أنـّه يجوز له شرب أحدهما. وكأنـّه (رحمه الله) لم يذكر الصورة التي ذكرها المحقّق النائينيّ من جعل التكليف مشروطاً فراراً من إشكال إنقلاب الوجوب المطلق إلى الوجوب المشروط، والانتهاء إلى شكّ بدويّ وعدم التنجّز، أو من إشكال عدم صحّة تقيّد التكليف باختيار المكلف، ونحن قد عالجنا هاتين المشكلتين.

وعلى أيّ حال، فرجوع الخطاب التعيينيّ إلى الخطاب التخييريّ أمر معقول ثبوتاً، لكن يبقى الكلام في أنـّه ما هو الدليل على ذلك إثباتاً ؟ فإنّ الخطاب الذي دلّ عليه الدليل خطاب تعيينيّ، وقد سقط بمنافاته للترخيص التخييريّ، والخطاب التخييريّ خطاب آخر يحتاج إلى دليل مستقلّ غير موجود، وهذا بخلاف ما اختاره

200

المحقّق النائينيّ (قدس سره) من جعل التكليف مشروطاً، فإنّ هذا على طبق القاعدة، ولا يحتاج إلى دليل خاصّ؛ إذ إطلاق التكليف سقط قطعاً لمنافاته للترخيص، ووجود أصل التكليف في الجملة أمر محتمل، فيثبت ذلك بنفس دليل التكليف.

وهذا الإشكال وإنْ لم يعالجه المحقّق العراقيّ(قدس سره) لكنّ أكبر الظن أنـّه لو أورد عليه، لأجاب بأنّ الدليل عليه هو نفس دليل الوجوب التعيينيّ، لأنـّه بالمطابقة يدلّ على الوجوب التعيينيّ، وبالالتزام يدلّ على الملاك، وقد سقطت دلالته المطابقيّة عن الحجّيّة، لكنّ الدلالة الالتزاميّة غير تابعة عنده في الحجّيّة للدلالة المطابقيّة، فدلالته على ثبوت الملاك باقية على حالها، وعندئذ يستكشف من الملاك خطاب يسدّ بعض أبواب العدم، بعد أنْ وجد مانع عن الخطاب الذي يسدّ جميع أبواب العدم. وهذا نظير ما يقال في جملة من الموارد التي لا يكفي المدلول المطابقي للدليل، لتحصيل الملاك من استكشاف الخطاب من ناحية فعليّة الملاك، كما يقال بذلك في خطاب وجوب حفظ القدرة.

إنْ قلت: إنّ البراءة في أطراف العلم الإجماليّ إنـّما لم تجر عند المحقّق العراقيّ (قدس سره) للمحذور العقليّ، وهو قبح الترخيص في مخالفة العلم، لا لكون الملاك يهتمّ به حتماً بنحو لا تجري في مورده البراءة، وإلّا فكثيراً ما يتّفق في مورد الشبهات البدويّة أنّ المولى يعلم بوجود الملاك والحكم، ومع ذلك يجعل البراءة، فليكن الملاك الثابت بالدلالة الالتزامية فيما نحن فيه ممّا لا يهتمّ به بدرجة يمنع عن جريان البراءة.

قلت: الدليل الأوّليّ للخطاب قد دلّ على أُمور: فقد دلّ على ثبوت الملاك في نفسه، وقد دلّ على الاهتمام به في مقابل عدم سدّ شيء من أبواب العدم، وقد دلّ على الاهتمام التامّ به في مقابل جعل بعض أبواب العدم مفتوحاً، وهذا الأخير ساقط قطعاً؛ لفرض انفتاح أحد أبواب العدم بالترخيص التخييريّ، لكنّ الأوّل والثاني لم يثبت سقوطهما، فنبني على ثبوتهما بظاهر الدليل، ومع العلم بثبوت الملاك والاهتمام به بهذا المقدار، لا معنى لجريان البراءة، ويثبت هنا ـ أيضاً ـ نفس المحذور العقليّ في الترخيص في المخالفة القطعيّة لمثل هذا الملاك المهتمّ به ـ لو كان محذور عقليّ في الترخيص في سائر الموارد ـ والمفروض تقديم ظهور دليل المعلوم بالإجمال على دليل البراءة، وإلّا لأخذ بدليل البراءة في سائر موارد العلم الإجمالي مطلقاً ولو باستكشاف رفع اليد عن أصل الحكم؛ لمكان المنافاة بينه وبين

201

البراءة، فكما يقدّم هناك ظاهر دليل المعلوم بالإجمال على دليل البراءة، إمّا لكون دليل البراءة ظاهراً في كونه مبيِّناً للوظيفة في طول الحكم الواقعي، فلا يمسّ نفس الحكم الواقعي، أو لأيّ سبب آخر، كذلك يقال هنا بتقديم دليل المعلوم بالإجمال على دليل البراءة.

ثمّ لا يخفى أنـّه لا حاجة إلى هذا الخطاب الجديد بعد ما عرفت من سلامة فكرة تقييد إطلاق التكليف؛ وذلك لأنّ ثبوت أصل التكليف بعد القطع بارتفاع إطلاقه لصورة اختيار الحرام وحده، أو لصورة عدم شرب الآخر يكون على القاعدة، وإذا ثبت أصل التكليف على القاعدة فأي حاجة الى فرض خطاب جديد(1)؟!

 


(1) لا يخفى أنّ المحقّق العراقي (رحمه الله) لم يذكر تبديل فكرة تقييد الإطلاق بفكرة كون الحكم سدّاً لبعض أبواب العدم؛ لالتمام الأبواب فيما نحن فيه، وإنـّما ذكر ذلك في باب التزاحم بين الضدين الواجبين . راجع المقالات: ج 1، ص 120. ونهاية الأفكار: الجزء الأوّل والثاني، ص 367. حيث ذكر: أنـّه إذا لم يمكن اجتماع الأمرين بالضدين على شكل الأمر بأمرين متغايرين غير متضادّين، فقد يعالج الموقف بتقييد كلّ منهما بفرض عدم الإتيان بالآخر، وقد يعالج الموقف بجعل كلّ من الإيجابين ايجاباً ناقصاً، فليس أحدهما مقيّداً بفرض عدم الإتيان بالآخر، لكنّه في نفسه ناقص يسدّ بعض أبواب العدم، اي يصرف المكلف عن سائر الاُمور إلى المأمور به إلّا عن ذاك الضد الواجب، واختار (رحمه الله) العلاج الثاني على العلاج الأوّل، وعلّل هذا الاختيار في نهاية الأفكار بغير ما علّله به في المقالات، ففي نهاية الأفكار عللّ ذلك بأنّ تقييد كلّ من الأمرين بفرض عدم الآخر لايعالج مشكلة الأمر بالضدين، لبقاء المطاردة بملاحظة تحقق القيد قبل الإتيان بواحد منهما، على تحقيق وتفصيل مذكور في نهاية الأفكار.

وهذا ـ كما ترى ـ تعليل بمحذور ثبوتي، وأمـّا في المقالات، فلم يعلّل الأمر بمحذور ثبوتي، بل علّله بمحذور إثباتي، وهو أنّ التقييد خلاف الإطلاق، ولا داعي إليه بعد امكان توجّه الطلب الناقص الذي لا يوجب سدّ جميع أبواب العدم، بما فيها باب الضدّ الواجب، وبه يرتفع المحذور.

وهذا يعني أنـّه (رحمه الله) إمـّا يرى أنّ تفسير الطلب بالطلب الناقص أقلّ محذوراً في مرحلة الإثبات من محذور التقييد، أو يرى أنّ كون الطلب ناقصاً أمر لا بدّ منه على كلّ حال؛ لأنّ التقييد ـ أيضاً ـ يجعل الطلب ناقصاً، فدار الأمر بين الاكتفاء بنقص الطلب أو التقييد، والثاني منفيّ بالإطلاق، وذلك غفلةً منه عن أنّ نقص الطلب بسبب التقييد ليس فيه محذور زائد على أصل التقييد، فالأمر دائر بين محذورين متباينين.

وعلى أيّة حال، فهل من الضروري لمن يُؤوّل الأمر في المتزاحمين إلى الطلب الناقص،

202

وقد تحصل من تمام ما ذكرناه أنّ الصحيح هو التوسط في التنجيز، وبعد التنّزل عنه بفرض المضادّة بين الترخيص والتكليف الواقعي في الجملة تصل النوبة إلى التوسط في التكليف، وأمـّا عدم التنجيز رأساً فضعيف جداً.

 

 


أنْ يقولَ بمثل ذلك فيما نحن فيه أيضاً أو لا؟

الواقع هو أنـّنا لو أخذنا بالمحذور الثبوتي، الذي ذكره في نهاية الأفكار، فهذا لا يوجب بالضرورة القول بذلك فيما نحن فيه أيضاً، لأنّه لو قيد تحريم النجس مثلاً في المقام، بفرض شرب الماء الآخر لم يلزم منه محذور الأمر بضدين، أي أنّ ذاك المحذور الثبوتي غير موجود هنا، ولو أخذنا بالمحذور الإثباتي الذي ذكره في المقالات، فمن الضروري أنْ يقال بمثل ذلك في المقام أيضاً، لأنّ التقييد في المقام أيضاً خلاف أصالة الإطلاق.

وبهذا العرض اتّضح أن المحقّق العراقي (رحمه الله) لا يرى الأمر الذي يسدّ بعض أبواب العدم لا جميعه خطاباً جديداً حتى يقال في مقابله في المقام: إنّ بقاء الخطاب الأوّل لا محذور فيه وأنّ المتيقن هو سقوط إطلاق الخطاب الأوّل، ولكنْ لا وجه لفرض سقوط أصله، فلا نحتاج إلى اكتشاف هذا الخطاب الجديد، بل يرى أنّ هذا الخطاب هو نفس الخطاب السابق، ولذا يرى في المقالات أنـّه لا داعي إلى ارتكاب محذور التقييد، ما دام يمكن فرض الخطاب ناقصاً، أمـّا لو فرض خطاباً جديداً، فمن الواضح أنّ محذوره الإثباتي اشدّ من محذور التقييد، وعليه فليست المسألة في نظره (رحمه الله) داخلة في استكشاف الملاك، بعد سقوط الخطاب من باب عدم استتباع الدلالة الالتزمية للمطابقية في الحجّية.

ولم يكن له نظر أصلاً إلى العدول عن التقييد إلى الطلب الناقص، بنكتة الفرار من إشكال الوجوب المطلق إلى الوجوب المشروط، المستتبع للشكّ البدوي، وعدم التنجّز، أو إشكال عدم صحة تقييد التكليف باختيار المكلّف.

203

 

تنبيهات

بقي التنبيه على أُمور:

 

أقسام الاضطرار

الأمر الأوّل: إنّ الاضطرار يكون على ثلاث درجات:

1 ـ العجز التكويني.

2 ـ العجز التشريعي. كما لو اضطر إلى شرب النجس، لأجل حفظ النفس الذي هو واجب أهم.

3 ـ فرض الترخيص من دون عجز، لنكتة كالحرج والضرر.

والقسم الأوّل غير قابل للترخيص الشرعي أصلاً، وإنـّما الترخيص فيه عقلي نعم يمكن للشارع التصرف في الترخيص بصرفه إلى طرف معيّن.

القسم الثاني: وإنْ كان يكفي فيه علم العبد بالمزاحمة للاهم، ولا حاجة مع ذلك إلى الترخيص الشرعي، لكنّه قابل للترخيص الشرعي، ولو بداعي إيصال اهمّيّة المزاحم إلى المكلّف.

والقسم الثالث: لا يكون الترخيص فيه إلّا شرعيّاً.

وكلامنا حتّى الآن كان في القسم الأوّل والثاني، والمقصود هنا أنْ نرى أنـّه هل يتأتّى في القسم الثالث كلّ ما مضى من النكات والخصوصيّات في القسمين الأوّلين، أو لا؟ فنقول: إنّ الاضطرار بهذا النحو تارةً يكون إلى طرف معيّن، واُخرى إلى أحد الطرفين تخييراً.

أمـّا الاضطرار إلى طرف معيّن، كما لو اضطر إلى شرب الماء للعطش البالغ حدّ الضرر والحرج، وعلم إجمالاً بنجاسة الماء أو الدبس، فهذا حاله في تمام النكات والخصوصيّات حال الاضطرار في القسمين الأوّلين، وإذا كان الاضطرار سابقاً على التكليف فلا محالة ينحلّ العلم الإجمالي؛ لانتفاء التكليف قطعاً في الطرف المرخّص فيه، وإذا كان متأخّراً عن العلم بالتكليف كان ذلك لا محالة علماً بالتكليف المردّد بين الطويل والقصير، وهو منجِّز، وإن كان متوسّطاً بين التكليف

204

والعلم، يأتي هنا ما ذكرناه من لحوقه بالقسم الأوّل، وتأتي شبهة استصحاب كلّيّ التكليف، ويأتي الجواب بأنّه مردّد بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبله؛ وذلك لأنّ التكليف في الطرف المضطرّ إليه وان كان العبد غير عاجز عنه عقلاً أو شرعاً حتّى يخرج عن دائرة حقّ المولويّة من هذه الناحية، لكنّه قد وصل إلى العبد الترخيص الشرعيّ فيه، والتكليف الذي يصل إلى العبد الترخيص الشرعيّ في خلافه ليس من حقّ المولى عليه امتثاله.

وأمـّا الاضطرار إلى غير المعيّن، كما لو كان كلا الطرفين ماءً، وهو مضطرّ إلى شرب الماء بدرجة الضرر والحرج، فهنا يكون الكلام في مقامين: أحدهما: في أنّ هذا الاضطرار هل يوجب الترخيص، أوْ لا ؟ والثاني: في أنّ هذا الترخيص إن ثبت هل يكون حاله حال الترخيص في القسمين الأوّلين، أو لا؟

أمـّا المقام الأوّل: وهو في جريان دليل نفي الضرر والحرج عند الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجمالي لا بعينه، فهذا ما مضى تفصيل الكلام فيه في بحث الانسداد، حيث إنّ المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله)بنى هذه المسألة هناك على كون مفاد دليل نفي العسر والحرج والضرر نفي الحكم الناشىء منه الحرج، كما هو مبنى الشيخ الأعظم (قدس سره) أو نفي الموضوع الحرجيّ بلحاظ نفي حكمه، فعلى الأوّل تجري القاعدة؛ لأنّ الحكم المعلوم بالإجمال حكم حرجيّ نشأ منه العسر والحرج ولو بواسطة إجماله وعدم تعيّنه، وعلى الثاني لا تجري؛ لأنّ موضوع الحكم الشرعيّ ليس فيه أيّ حرج وضرر، وما يكون في الإتيان به حرج وضرر هو تمام الأطراف الذي هو موضوع حكم العقل، والقاعدة إنما تحكم على الأحكام الشرعية لا الأحكام العقليّة .

هذا ما ذهب اليه المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله) .

وقد يقال: إنّ هنا إشكالاً في رفع الحكم الشرعيّ بالقاعدة، حتى بلحاظ مبنى الشيخ الأعظم (رحمه الله) ، وهو أنّ الحكم الشرعيّ هنا إنـّما يكون منشأ للحرج إذا قلنا: إنّ العلم الإجماليّ علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة، وإلّا فالجزء الأخير لعلّة الحرج والضرر هو عدم الترخيص في بعض الأطراف، والقاعدة إنـّما تنفي الأحكام الوجوديّة الحرجيّة، لا عدم الحكم الحرجيّ من قبيل عدم الترخيص في المقام.

وعلى أيّة حال، فقد قلنا هناك أنّ الصحيح عندنا مبنىً آخر في القاعدة، غير مبنى الشيخ الأعظم، ومبنى المحقّق الخراسانيّ (قدس سرهما) وهو أنّ دليل نفي الضرر ينفي