410

معاني الاستحقاق، وعندئذ نقول: إنّ إطلاق قوله: (مَن بلغه ثواب فعمله كان له ذلك الثواب) بعد فرض كون المراد به الثواب الاستحقاقيّ مقيّد عقلاً بصورة الإتيان بداع قربيّ؛ إذ الإتيان به لا بهذا الداعي لا يوجب الاستحقاق كما هو واضح، وبعد تقييد الإطلاق بهذا المقيّد المنفصل نقول: إنّ التمسّك بهذا المطلق عندئذ تمسّك بالمطلق في الشبهة المصداقيّة للمقيّد، ولا يجوز التمسّك بالمطلق في الشبهة المصداقيّة للمقيّد المنفصل أصلاً(1)، وفي باب العامّ لا يجوز التمسّك به في الشبهة المصداقيّة للمخصّص المنفصل إلاّ في بعض موارد مستثناة، ولكن في باب المطلق(2) ليس لعدم الجواز استثناء أصلاً(3)، والوجه في كون التمسّك بالمطلق هناتمسّكاً في الشبهة المصداقيّة هو أنّ للعمل بما بلغه الثواب بداع قربيّ مصداقين: أحدهما مصداق قطعيّ، والآخر مصداق غير قطعيّ.

أمّا الأوّل فهو العمل بداعي الانقياد، وأمّا الثاني فهو العمل بداعي الأمر الموقوف على وجود الأمر، ومع عدمه يلزم التشريع، أو يكون ذلك أمراً غير معقول، والمفروض أنّه بقطع النظر عن أخبار (مَن بلغ) نشكّ في وجود الأمر فنشكّ في هذا المصداق. هذا بعد تنزّلنا عن الإشكال الأوّل، وإلاّ فقد عرفت أنّ وجود الأمر واقعاً لا أثر له أصلاً.



(1) بل قد يقال: إنّ المقيّد هنا متّصل؛ لأنّ اشتراط استحقاق الثواب بالداعي القربيّ عقليّ ارتكازيّ كالمتّصل، ولكن قد يتّضح لك بمراجعة بحث العموم والخصوص أنّ المخصّص اللبّيّ الارتكازيّ يكون في خصوص مسألة التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة كالمنفصل لا كالمتّصل.

(2) بمعنى ثبوت الحكم على الطبيعة لا للأفراد.

(3) مضى الوجه في ذلك من قِبل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث العموم والخصوص فراجع.

411

وأمّا النقطة الثانية التي اختلفوا فيها وهي أنّه هل تكون أخبار (مَن بلغ) شاملة في ذاتها وبقطع النظر عمّا مضى لغير فرض الانقياد أو لا؟

فنقول: إنّ هذا موقوف على أن نرى أنّه هل توجد قرينة في أخبار (مَن بلغ) على تقييدها بفرض الانقياد أو لا؟

وما يذكر قرينة على الاختصاص بفرض الانقياد أمران:

الأوّل: فاء التفريع في قوله: (مَن بلغه ثواب فعمله)، حيث دلّ على كون العمل متفرّعاً على البلوغ.

والثاني: التصريح في بعض تلك الأخبار برجاء المطابقة فيحمل غيره عليه حملاً للمطلق على المقيّد.

أمّا القرينة الاُولى: فقد نوقشت باُمور:

الأوّل: ما ذكره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)(1) من أنّ البلوغ اُخذ بنحو الجهة التعليليّة لا بنحو الجهة التقييديّة كي يوجب وجهاً وعنواناً للعمل.

أقول: إنّ هذا الكلام لا يخلو من إجمال، فإن أراد(قدس سره) بذلك أنّه لمّا كان قيد البلوغ بنحو التعليل لا بنحو التقييد فالعمل يبقى على إطلاقه، ولا يختصّ بالحصّة الانقياديّة والمتفرّعة على البلوغ، فمن الواضح أنّه ليس الأمر كذلك، فإنّه بمجرّد أخذ البلوغ في جانب العمل لا محالة لا يبقى العمل ثابتاً على إطلاقه، بل تضيّق دائرته بذلك سواء فرض البلوغ جهة تعليليّة أو تقييديّة، فإنّ إطلاقه على أيّ حال خلف فرض التفرّع على البلوغ فيه.

وإن أراد بذلك أنّه وإن صار العمل مقيّداً بفرض التفرّع على البلوغ والحصّة



(1) راجع الكفاية، ج 2، ص 197 بحسب طبعة المشكينيّ. ومن المحتمل كون المقصود الحقيقيّ للمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) الوجه الثالث أو الرابع.

412

الانقياديّة، لكنّ الثواب قد جعل على نفس هذا العمل المتفرّع على البلوغ والمنقادبه، ويكون البلوغ والانقياد جهة تعليليّة، ولم يجعل الثواب على الانقياد بأن يكون هذا العمل بما أنّه معنون بعنوان الانقياد ويكون الانقياد وجهاً له مثوباً عليه، فيثبت بذلك أنّ الرواية ليست إرشاداً إلى حكم العقل بحسن الانقياد؛ لأنّ ثواب الانقياد في الحقيقة مترتّب على عنوان الانقياد لا على خصوص ذات الحصّة الانقياديّة من العمل بما هو هو، ورد عليه: أنّه إن صار البناء على هذا التدقيق فعلى فرض الاستحباب وكون العمل من باب الطاعة لا من باب الانقياد أيضاً نقول: إنّه ليس الثواب في الحقيقة مترتّباً على ذات العمل بما هو، بل مترتّب على عنوان الطاعة(1)، فعلى أيّ حال لا يعقل ترتّب الثواب على ذات العمل بما هو سواء فرض ذلك من باب الانقياد أو من باب الطاعة، فلا يكون ما ذكره قرينة على عدم الإرشاد إلى حسن الانقياد، بل يظهر ممّا عرفت أنّه لم يكن المقصود في أخبار (مَن بلغ) فرض العمل موضوعاً للثواب بهذا النحو من الدقّة، وإنّما العمل اُخذ فيها على وجه المورديّة للثواب، ولا ينافيه كون الثواب مترتّباً على عنوان الانقياد أو عنوان الطاعة.

الثاني: ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره)(2)، وهو في الحقيقة ليس مناقشة في قرينيّة (الفاء) للاختصاص بفرض الانقياد، ولم يذكره هو(رحمه الله)بهذا الصدد، وإنّما هو دليل مستقلّ على أنّ أخبار (مَن بلغ) لا تنظر إلى حصّة الانقياد ولا تكون إرشاداً



(1) وذلك بعد استظهار كون الثواب استحقاقيّاً، وإلاّ لانسدّ باب استظهار الاستحباب.

(2) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 221.

413

إلى حكم العقل، وفي مقام بيان ثواب الانقياد، وهذا الدليل مركّب من مقدّمتين:

1 ـ إنّ الخبر الضعيف المفروض دلالته على ترتّب ثواب على عمل ليس مفاده ترتّب الثواب على العمل بداعي الانقياد، وإنّما مفاده عبارة عن الثواب على نفس العمل.

2 ـ إنّ أخبار (مَن بلغ) قد نطقت بثبوت نفس الثواب الذي ذكر في ذلك الخبر الضعيف، وقد كان ذلك ثواباً على نفس العمل بحكم المقدّمة الاُولى، فيثبت بالجمع بين المقدّمتين أنّ أخبار (مَن بلغ) تثبت الثواب على نفس ذلك العمل.

ويرد عليه: أنّه ما هو المقصود بكون مفاد أخبار (مَن بلغ) هو ثبوت عين الثواب المذكور في الخبر الصحيح؟ فإن كان المقصود هو العينيّة من جميع الجهات فهو مفروض العدم على كلّ حال؛ إذ قد اُخذ ـ لا محالة ـ في أخبار (مَن بلغ) عنوان البلوغ سواء فرض بنحو الداعي للفعل والتقييديّة، أو فرض بنحو الموضوع للحكم بالاستحباب والتعليليّة، فعلى أيّ حال يكون للبلوغ دخل في شخص الثواب الموعود، في حين أنّه لم يكن دخيلاً في الثواب المذكور في الخبر الضعيف.

وإن كان المقصود كون الثواب الموعود في أخبار البلوغ عين الثواب المذكور في الخبر الضعيف كمّاً وكيفاً ـ أي: أنّه يعطى له نفس ما وعد إعطاؤه في الخبر الضعيف ـ فهذا صحيح، ولكنّه لا ينافي فرض كون الثواب على عنوان الانقياد لا على ذات العمل.

الثالث: ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) أيضاً(1)، وهو أنّ تفريع العمل على البلوغ لا يقتضي اختصاصه بالحصّة الانقياديّة؛ وذلك لأنّ تفريع العمل على شيء



(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 221.

414

تارةً يكون من باب تفريعه على داعيه، كما تقول: (وجب عليّ كذا ففعلت)، حيث إنّ الوجوب داع للفعل، واُخرى يكون من باب تفريعه على موضوع داعيه، كما تقول: (دخل الوقت فصلّيت)، حيث إنّ الداعي إلى الفعل هو الأمر به ووجوبه، ويكون الوقت موضوعاً لذلك الأمر والوجوب، ففيما نحن فيه أيضاً نقول: تارةً يتفرّع العمل على البلوغ من باب تفريع الشيء على داعيه بأن يكون نفس هذا البلوغ داعياً إلى العمل، وهذا هو الحصّة الانقياديّة، واُخرى يتفرّع على البلوغ من باب تفرّع الشيء على موضوع داعيه بأن يكون الداعي إليه هو الاستحباب الذي يكون موضوعه البلوغ.

ويرد عليه: أنّه وإن كان الأمر كما ذكره ـ أي: أنّ تفرّع العمل على شيء يتصوّر له فردان ـ لكنّ الفرد الثاني لا يمكننا إحرازه بنفس أخبار (مَن بلغ)، وتوضيح ذلك: أنّ أخبار (مَن بلغ) جعلت العمل المتفرّع على البلوغ موضوعاً لترتّب الثواب، حيث قال: (مَن بلغه ثواب فعمله)، ففرّع العمل بالمعنى الحرفيّ على البلوغ، ولنقلب ـ لأجل التوضيح ـ المعنى الحرفيّ إلى المعنى الاسميّ، فلنفترض أنّ الحديث هكذا: (العمل المتفرّع على البلوغ يترتّب عليه الثواب)، وعندئذ نقول: إنّ العمل المتفرّع على البلوغ له فردان: فرد يقينيّ وهو العمل الانقياديّ وبداعي البلوغ، وفرد مشكوك وهو العمل بداعي حكم البلوغ الذي هو الاستحباب، وهذا الفرد مشكوك بقطع النظر عن أخبار (مَن بلغ) بمشكوكيّة أصل الاستحباب، ومن المعلوم أنّه لا يمكن إثبات ذلك بنفس هذه الأخبار بالتمسّك بإطلاقها، فإنّ ثبوت الإطلاق لها فرع ثبوت هذا الفرد، فكيف يثبت ذلك بالإطلاق؟ فذلك من قبيل أن يتمسّك بإطلاق قول: (أكرم العالم) في فرد شككنا في كونه عالماً زائداً على الأفراد المعلومة، وهذا غير ما مضى من الإشكال على النقطة الاُولى من لزوم التمسّك بالمطلق في الشبهة المصداقيّة

415

للمخصّص المنفصل، فإنّ هذا أسوء من الأوّل، ولو سلّم الأوّل لا يسلّم الثاني وهو التمسّك بالمطلق في الشبهة المصداقيّة لنفس المطلق، فإنّ الإطلاق هنا من أوّل الأمر غير ثابت(1).

الرابع: ما قاله بعض من أنّه لم يفرّع العمل في هذه الأخبار على داعويّة احتمال الأمر حتّى يختصّ بالحصّة الانقياديّة، وإنّما فرّع على داعويّة الثواب، حيث قيل: (مَن بلغه ثواب فعمله)، فيكفي في المقام كون ذلك الثواب المحتمل داعياً إلى الفعل، وحيث إنّنا نعلم أنّ الثواب إنّما يترتّب على العمل القربيّ، فهذا الثواب يدعونا إلى أن نأتي بهذا العمل قربيّاً، وقربيّته لا تختصّ بكونه بداعي احتمال الأمر، بل تشمل فرض كونه بداعي الأمر الجزميّ.

والجواب على ذلك: هو سنخ الجواب على المناقشة الثالثة. وتوضيحه: أنّ روح المطلب يرجع بالآخرة إلى أنّ الثواب رتّب في هذه الأخبار على العمل القربيّ، والعمل القربيّ له فردان: أحدهما قطعيّ وهو العمل بداعي احتمال الأمر. وأمّا العمل بداعي الأمر الجزميّ فلا يمكن إثباته بإطلاق هذه الأخبار؛ لأنّ ثبوت



(1) لا يخفى أنّ المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) لم يكن مقصوده بهذا البيان التمسّك بإطلاق أخبار (مَن بلغ)، بل كان مقصوده مجرّد هدم قرينيّة فاء التفريع للاختصاص بفرض الانقياد للواقع المحتمل، كي يثبت بعد سقوط هذه القرينة الاستحباب النفسيّ بالبيان السابق، وهو الوجه الثاني من الوجوه الماضية، وإذن فمجموع الوجه الثاني والوجه الثالث في نظر المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) وجه واحد.

نعم، يمكن الإيراد عليه: بأنّ التفريع على ما يصلح داعياً مباشراً يكون ظاهراً في إرادة الداعويّة المباشرة وهي الفرد الأوّل، دون موضوعيّته للداعي المباشر وهي الفرد الثاني، فظاهر هذه الأحاديث هو أنّ الدافع المباشر إلى العمل كان هو الثواب الموعود به.

416

إطلاق لها فرع ثبوت هذا الفرد(1).

وأمّا القرينة الثانية(2) ـ وهي حمل المطلق على المقيّد ـ: فتحقيق الحال فيها: أنّ لحمل المطلق على المقيّد ملاكات ثلاثة:

1 ـ أن نعلم ـ صدفة من الخارج ـ وحدة الحكم المقصود بيانه تارةً بلسان المطلق، واُخرى بلسان المقيّد، فيقع ـ لا محالة ـ التعارض بينهما، ويقدّم المقيّد على المطلق بحكم قوانين التعارض المذكورة في بحث التعادل والتراجيح.

2 ـ أن يكون للمقيّد مفهوم ينفى به الإطلاق كما إذا كان بنحو القضيّة الشرطيّة،



(1) وقد جاء في تقرير السيّد الهاشميّ (حفظه الله) ـ ج 5، ص 130 ـ جواب آخر بدلاً عن هذا الجواب، وهو أنّ الثواب على المستحبّ النفسيّ بعنوان البلوغ ثواب آخر غير ثواب الواقع، فإن كان العمل بداعي هذا الاستحباب لا بداعي الواقع المحتمل كان هذا خلف داعويّة الثواب البالغ.

وهذا بظاهره يرد عليه ما مضى من أنّ المقصود بعينيّة الثواب ليست هي العينيّة من كلّ الجهات، بل هي العينيّة في كمّيّة الثواب وكيفيّته، فكون الثواب معلولاً للأمر الأوّل أو احتماله تارةً، ومعلولاً للأمر الثاني تارةً اُخرى لا يضرّ بالعينيّة المقصودة في المقام. نعم، ينبغي أن يقال في المقام ـ ولعلّه المقصود وإن قصر عنه التعبير ـ: إنّ (الفاء) قد فرّع العمل على بلوغ الثواب، ويوجد في المقام بلوغان: أحدهما البلوغ الثابت بالخبر الضعيف، والآخر البلوغ الثابت بنفس أخبار (مَن بلغ). ومن الواضح أنّ الفاء قد فرّع العمل على البلوغ الأوّل لا الثاني ومحرّكيّة البلوغ الأوّل تختصّ بالحصّة الانقياديّة، والقول بأنّ البلوغ الأوّل قد يكون موضوعاً للمحرّك لا محرّكاً مباشراً رجوع إلى نكتة المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله).

(2) لا يخفى أنّ الوجه الرابع من وجوه الجواب على القرينة الاُولى لو تمّ يأتي على هذه القرينة أيضاً.

417

كما لو قيل: (أكرم العالم)، وقيل: (أكرم العالم إن كان عادلاً).

3 ـ دعوى استحالة اجتماع حكمين متماثلين أحدهما على المطلق والآخر على المقيّد على خلاف في سعة دائرة هذا الملاك، هل يختصّ بالواجبات أو يعمّ المستحبّات، وذلك نظير استحالة اجتماع الحكمين المتماثلين على موضوع واحد، وهذه الاستحالة قال بها المحقّق النائينيّ(رحمه الله)ومدرسته، وقال بها المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره)على اختلاف بينهما في طريقة إثباتها. والصحيح عندنا بطلان هذه الاستحالة، وتنقيح ذلك موكول إلى محلّه.

هذه هي الملاكات الثلاثة لحمل المطلق على المقيّد، فلنرَ أنّه هل يوجد شيء منها فيما نحن فيه أو لا؟ فنقول:

أمّا الملاك الأوّل: فقد ذكر المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) في المقام أنّ الفقيه بتأمّله في تمام أخبار الباب يعرف أنّ المقصود من جميعها بيان حكم واحد(1).

أقول: إنّ من حصل له القطع بوحدة الحكم في المقام ـ ولو بقرينة اشتراك أخبار الباب في بعض التعبيرات وتقاربها(2) ونحو ذلك ـ تمّ لديه هذا الملاك، ومن


(1) أفاد اُستاذنا الشهيد (رضوان الله عليه): أنّ المقصود كونها في مقام بيان حكم واحد في قبال كون المطلقات في مقام بيان الحكم الشرعيّ والمقيّدات في مقام الإرشاد. وأمّا على تقدير كون الجميع في مقام بيان الحكم الشرعيّ فقد أخذوا وحدة الحكم أمراً مفروغاً عنه، فإنّ حالها عندئذ حال جميع المطلقات والمقيّدات الموجودة في الشريعة التي تحمل على بيان حكم واحد، فيقيّد الأوّل بالثاني من قبيل (اعتق رقبة) و (اعتق رقبة مؤمنة).

(2) أفاد (رضوان الله عليه) في مقام تقريب ذلك: أنّه بعد فرض كون المطلقات في مقام بيان الحكم الشرعيّ لو فرض أنّ المقيّدات أيضاً في مقام بيان ذلك، فاشتراكهمامع

418

لم يحصل له هذا القطع لا يفيده هذا الملاك، وبكلمة اُخرى: أنّ هذا ليس أمراً فنّيّاً، وإنّما هو أمر يرتبط بالذوق وسليقة المستنبط، فمن حصل له القطع هنا بوحدة الحكم حمل المطلق على المقيّد، ومن لم يحصل له القطع بذلك لم يمكنه حمل المطلق على المقيّد عن هذا الطريق.

وأمّا الملاك الثاني: فهو موقوف في المقام على فرض كلمة (مَن) في الأخبار المقيّدة شرطيّة لا موصولة، وفرض دلالة أمثال هذه الأداة من أدوات الشرط على المفهوم، فيدلّ قوله: (مَن بلغه ثواب فعمله رجاء ذلك الثواب كان له ذلك) على انتفاء ذلك الثواب بانتفاء الشرط سواء كان بانتفاء أصل البلوغ، أو بانتفاء العمل، أو بانتفاء كون العمل برجاء المصادفة.

لكنّنا قد أثبتنا في بحث مفهوم الشرط أنّ المفهوم يختصّ بأداة الشرط المتمحّضة في معنى حرف الشرط ـ أي: ربط هيئة الجزاء بهيئة الشرط من قبيل (إن) ـ ولا يثبت لما يدلّ على حصّة معيّنة من الشيء ويجعلها موضوعاً للحكم من قبيل كلمة (مَن)، فهذا الملاك الثاني في المقام منتف.

 


المطلقات في ذكر كلمة (البلوغ)، وكذا تحديد مقدار الثواب بالمقدار البالغ لا يحتاج إلى مؤونة زائدة ونكتة اُخرى غير النكتة التي من أجلها ذكر ذلك في المطلقات. أمـّا لو فرض أنّ المقيّدات للإرشاد فعلى هذا التقدير كان من المحتمل أن لا يذكر فرض البلوغ، بل يذكر مطلق فرض الاحتمال سواء كان منشؤه البلوغ أو غير ذلك، وكان من المحتمل أن لا يحدّد الثواب بهذا النحو، فبحساب الاحتمالات يستبعد تعدّد الحكم، فقد يحصل بذلك لأحد الاطمئنان بأنّهما في مقام بيان حكم واحد إمـّا مولويّ أو إرشاديّ، فيقيّد الأوّل بالثاني.

419

وأمّا الملاك الثالث: فهو غير ثابت فيما نحن فيه، فإنّ الأخبار المقيّدة المختصّة بفرض داعي الرجاء تكون بحسب عقليّة هذا التقريب المشهور لإثبات الاستحباب من أخبار (مَن بلغ) غير دالّة على الاستحباب ومحتملة الإرشاد إلى حكم العقل، فلم يثبت كونها بصدد بيان مثل الحكم الذي بيّن في الأخبار المطلقة، فلا وجه لتقييد المطلقات بها.

ثمّ لو قطعنا النظر عن جميع ما مضى حتّى الآن في هاتين النقطتين من المناقشات، قلنا أيضاً: إنّ من المحتمل كون أخبار الباب بصدد بيان الحكم الطريقيّ لا بمعنى الحجّيّة، بل بالمعنى الذي مضى منّا من كونه من قبيل إيجاب الاحتياط، ولا ينفي هذا ما مضى من فرض استبعاد جزافيّة الثواب في المقام، وأنّ الثواب الاستحقاقيّ يكشف عن الأمر؛ وذلك لأنّنا نمنع كون الثواب منحصراً في هذين القسمين، وهما الثواب الجزافيّ والثواب الاستحقاقيّ، بل هنا قسم ثالث وهو الثواب الترغيبيّ، وقد جعل حتّى يكون الربح جزميّاً، فيرغب المكلّفون في العمل بتمام الأخبار الدالّة على استحباب عمل مّا، فيتحفّظ ضمناً على الأغراض الواقعيّة الموجودة في ضمن مفاد تلك الأخبار.

والتحقيق: أنّ هذا المنهج منهم في البحث كان تبعيداً للمسافة، وإثبات الأمر المولويّ في المقام لا يحتاج إلى اللفّ والدوران. والصحيح في المقام أن يقال ـ مقتنصاً ممّا مضى ـ: إنّ الاحتمال الرابع من الاحتمالات التي ذكرناها في أوّل البحث منفيّ بظهور الأخبار في الترغيب والحثّ على العمل، وهي ظاهرة في ذلك ظهوراً لا يقبل الإنكار، والاحتمال الأوّل من تلك الاحتمالات وهو الإرشاد لا يحتاج في مقام نفيه إلى مثل افتراض أنّ قوله: (فعمله) إخبار بداعي الأمر الظاهر في المولويّة، بل نقول في مقام نفيه: إنّ الترغيب الصادر من المولى ظاهر في المولويّة كالأمر الصادر منه، ولا خصوصيّة للأمر في ذلك،

420

فمطلق الحثّ والترغيب الصادر من الشارع ظاهر في كونه صادراً منه بما هو شارع، سواء أبرز هذا الترغيب بلسان الأمر، أو بلسان آخر، فإنّ كونه بلسان الأمر لا تتصوّر له خصوصيّة في المقام، وإنّما النكتة في هذا الظهور أنّ المولى في مقام حثّه وطلبه لشيء يكون الغالب فيه تقمّصه قميص المولويّة، فينعقد لكلامه ظهور في المولويّة(1)، وهذه النكتة نسبتها إلى كلا اللسانين على حدّ سواء، واحتمال جعل الحجّيّة منفيّ بما في ذيل الأخبار من قوله: (وإن كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) لم يقله) فيبقى في المقام احتمالان: أحدهما الاستحباب النفسيّ، والآخر الحكم الطريقيّ على مستوى جعل الاحتياط، ومجرّد ظهور الأخبار في الحثّ والترغيب لا يعيّن الاستحباب النفسيّ لملائمة ذلك مع الحكم الطريقيّ أيضاً.

وهنا نتكلّم في مقامين:

أحدهما: في عقد الموازنة بين هذين الاحتمالين، وأنّ أيّاً منهما يعيّن في قبال الآخر أو يكونان متساويين؟

والآخر: في أنّه بناءً على الاستحباب النفسيّ لفرض دلالة الترغيب عليه مثلاً، فهل المستحبّ ذات العمل أو العمل بداعي الانقياد ورجاء الموافقة للواقع؟



(1) لا يخفى أنّ الإرشاد حينما يتّصل باُمور الآخرة من الثواب والعقاب ـ كما في الإرشاد بالأمر بإطاعة الله والرسول ـ ليس خلاف شأن المولى، أو قل: إنّ ترغيب المولى في مثل هذا المورد بما هو عاقل ليس شاذّاً بالقياس إلى ترغيبه فيه بما هو مولىً، فمثل قوله: ﴿قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً﴾(1) يحتمل بلحاظ الأهل المولويّة، ويحتمل الإرشاد، وليس أحدهما أولى من الآخر.


(1) السورة 66 التحريم، الآية: 6.

421

 

إجمال الدلالة:

أمّا المقام الأوّل: فالتحقيق أنّ الحديث مجمل مردّد أمره بين الحكم الطريقيّ والاستحباب النفسيّ(1).

ويمكن أن يقال في مقام تعيين الثاني في قبال الأوّل: إنّه لو كان ذلك حكماً طريقيّاً بداعي التحفّظ على الأغراض الواقعيّة الثابتة في موارد الأخبار الدالّة على استحباب جملة من الاُمور لم يكن وجه لمؤونة تقييد العمل في هذه الأخبار بكونه بداعي القربة(2)، فإنّ هذا القيد ليس له أيّ دخل في المطلب، بل مع عدمه يوجب التحفّظ على الأغراض الواقعيّة بنحو أشدّ؛ لأنّ ثبوت الثواب على العمل



(1) والأثر العمليّ بينهما يظهر في مثل ما إذا قلنا بكفاية الأغسال المستحبّة عن الوضوء وكان الخبر الدالّ على استحباب غسل مّا ضعيفاً، فعلى الاستحباب النفسيّ يجزي عن الوضوء، وعلى الحكم الطريقيّ الاحتياطيّ لا يجزي عنه، وما إذا دلّ خبر ضعيف على استحباب غسل المسترسل من اللحية في الوضوء وقلنا بكفاية استحباب ذلك في جواز المسح ببلّته، فيجوز المسح بها على الاستحباب دون الحكم الطريقيّ الاحتياطيّ، وما إذا دلّ خبر ضعيف على استحباب الوضوء لغاية كقراءة القرآن، ولم نقل باستحباب الوضوء في ذاته، فعلى الاستحباب يرتفع الحدث، وعلى الحكم الطريقيّ الاحتياطيّ لا يثبت ارتفاع الحدث.

أمّا الثمرات التي مضت بين القول بجعل الحجّيّة والقول بالاستحباب النفسيّ فلا ترد فيما بين القول بجعل الاحتياط الطريقيّ والقول بالاستحباب النفسيّ، ما عدا الثمرة الأخيرة لو تمّت في نفسها، وسيأتي البحث ـ إن شاء الله ـ عن تماميّتها وعدم تماميّتها.

(2) وهذا التقييد مستفاد من تفريع العمل على داعي الثواب بـ (الفاء)، أو بقوله: (رجاء ذلك الثواب) بناءً على كون الثواب في المقام استحقاقيّاً لا يتمّ إلاّ بالقربة.

422

على الإطلاق يوجب تحرّك العبد نحوه ولو لم يوجد في نفسه داع قربيّ، بأن أتى بذلك العمل لأجل الثواب صِرفاً، نظير عمل الأجير من دون داعي القربة أصلاً. نعم، في خصوص المستحبّات التعبّديّة لابدّ من قصد القربة. وأمّا في المستحبّات التوصّليّة وهي أكثر المستحبّات فيتحقّق الغرض بالعمل بها ولو بدون القربة.

ولكنّ هذا الكلام غير صحيح، فإنّ أصل الاستحباب النفسيّ الذي بلغ بالخبر الضعيف مثلاً لم تكن له محرّكيّة بهذا النحو؛ لما هو محقّق في الفقه من عدم ترتّب الثواب على المستحبّات ولو كانت توصّليّة، إلاّ إذا اُتي بها بداعي القربة، فالمحرّكيّة المولويّة في نفس تلك المستحبّات الواقعيّة ليست بأزيد من هذا المقدار. وأمّا المصلحة التكوينيّة المترتّبة على العمل بذاك المستحبّ ولو من دون قربة لو كانت مصلحة شخصيّة لا نوعيّة، فليست محرّكيّتها من المحرّكيّات المولويّة، ومن المعلوم أنّ الحكم الطريقيّ ليس شأنه التحفّظ على الأغراض الواقعيّة الثابتة في الأحكام النفسيّة بأزيد ممّا تقتضيه نفس تلك الأحكام من التحفّظ والتحريك، وإنّما شأنه تدارك نقص التحريك المولويّ الثابت في ذلك الحكم النفسيّ الحاصل بواسطة الشكّ فيه.

ثمّ لو فرضنا أنّ الثواب في تلك المستحبّات الواقعيّة يترتّب على العمل ولو من دون قربة، فعندئذ لا وجه لدعوى أنّ الثواب في أخبار (مَن بلغ) مختصّ بفرض القربة، فيصبح تقييد العمل في هذه الأخبار بكونه بداعي القربة أوّل الكلام(1).

فالمتحصّل من البحث: أنّ أخبار (البلوغ) عندنا باقية على إجمالها بين الاستحباب النفسيّ والحكم الطريقيّ، وإنّما الثابت لنا إجمالاً هو أنّ الشارع قد



(1) وبكلمة اُخرى: لو لم يكن الثواب في مفاد خبر الضعيف استحقاقيّاً فكذلك لا نكتة لحمل الثواب في أخبار (مَن بلغ) على الثواب الاستحقاقيّ.

423

حثّنا على العمل بكلّ ما وصلنا استحبابه، وأنّه إذا فعلنا ذلك بداعي القربة ثبت نفس الثواب الموعود في ذلك الخبر ولو فرض غير مطابق للواقع، بل أنّ هنا احتمالاً آخر في معنى أخبار (مَن بلغ) غير الاحتمالات الماضية لو لم يمكن استظهار خلافه بطل أصل دلالة هذه الأخبار على الحثّ على ما دلّ خبر ضعيف على استحبابه، وذلك الاحتمال هو أنّها إنّما تكون بصدد الحثّ على العمل بالمستحبّات الحقيقيّة التي بلغنا عليها ثواب معيّن بلوغاً غير قطعيّ، فتلك الأخبار تقول: إنّ الثوابات البالغة على بعض المستحبّات حتّى لو كان بلوغها غير مطابق في علم الله للواقع يضمنها لكم الله ـ تعالى ـ بذلك البلوغ، وعليه فقد فرض في المرتبة السابقة في موضوع هذه الأخبار استحباب شيء من الأشياء وخيريّته، وهذا هو ظاهر من جملة من الأخبار، حيث جاء فيها: «مَن بلغه ثواب على شيء من الخير»(1)، ففرضت الخيريّة مفروغاً عنها، وفرض بلوغ ثواب معيّن على ذلك الخير، وحيث إنّ ذلك البلوغ ليس قطعيّاً فتنقص محرّكيّة الثواب الموعود في ذلك الخبر البالغ تكون هذه الأخبار بصدد تكميل محرّكيّته، وإذا ضمّ شخص إلى ذلك دعوى الاطمئنان بوحدة المراد من تمام تلك الأخبار(2) ثبت بذلك أنّ هذا


(1) هذه الأخبار ضعيفة السند، فخبر صفوان ضعيف بعليّ بن موسى، راجع الوسائل، ج 1، ب 18 من مقدّمة العبادات، ص 59، ح 1. وخبرا عدّة الداعي والإقبال الظاهر أنّهما ينظران إلى الخبر الأوّل ـ راجع نفس الباب، ح 8 و9 ـ ولو استقلاّ عن الخبر الأوّل فلا سند لهما، مضافاً إلى إجمالهما أو إجمال أحدهما، أي: أنّهما أو أحدهما ليس ظاهراً في فرض الخيريّة في المرتبة السابقة.

(2) لا يخفى أنّ الاطمئنان الذي قد يدّعى فيما سبق لا يمكن دعواه هنا؛ لأنّ

424

الاحتمال الأخير هو المقصود من تمام الأخبار في المقام، وبناءً على هذا المعنى يكون التمسّك بأخبار (مَن بلغ) فيما لم يثبت استحبابه في الرتبة السابقة تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقيّة لذلك العامّ.

 

الحصّة الانقياديّة أو طبيعيّ العمل:

وأمّا المقام الثاني: فالتحقيق أنّ الاستحباب النفسيّ ـ لو ثبت ـ لا يختصّ بخصوص الحصّة الانقياديّة؛ وذلك لما مضى في المناقشة الرابعة(1) في قرينيّة


حساب الاحتمالات بلحاظ اتّحاد الأخبار في القيود وإن كان يوجب استبعاد اختلافها في المولويّة والإرشاد، وكذلك اختلافها في افتراض حكمين مولويّين، ولكن في المقام يمكن دعوى أنّها جميعاً بصدد الترغيب إلى أمر واحد وهو الإتيان بالخيرات الواقعيّة سواء كانت معلومة أو كانت محتملة، وهذا الترغيب استوجب في غير ما ثبتت خيريّته سابقاً الجعل الجديد، فاتّحاد القسم المستبطن للجعل الجديد والقسم الخاصّ بالخيرات المعلومة في القيود والخصوصيّات أمر غير مستبعد.

(1) وبالإمكان التمسّك أيضاً في المقام بالمناقشة الثالثة من تلك المناقشات، ولعلّ الاُستاذ الشهيد(رحمه الله) إنّما اختار هنا المناقشة الرابعة دون الثالثة؛ لأنّ الثالثة تدفع فقط محذور فاء التفريع، ولا تدفع محذور التقييد في بعض الروايات بكون العمل برجاء ذاك الثواب في حين أنّ الوجه الرابع يدفع كلا المحذورين.

هذا. ولكن لا يخفى أنّ ما مضى منّا من التعليق على الوجه الثالث وكذا الرابع لا يدع مجالاً في المقام للاستفادة من هذين الوجهين، فقد مضى منّا في التعليق على الوجه الرابع أنّ (الفاء) فرّع العمل على البلوغ الأوّل للثواب، وهذا لا يكون إلاّ في الحصّة الانقياديّة،

425

(الفاء) للاختصاص بالحصّة الانقياديّة من أنّ العمل لم يفرّع في تلك الأخبار على داعي احتمال الأمر، بل فرّع على داعي ذاك الثواب الموعود، وهو أعمّ من الحصّة الانقياديّة، نعم، داعي الثواب يجرّنا إلى إتيان العمل بقصد القربة؛ لعلمنا بعدم ترتّب الثواب على العمل غير القربيّ، وحيث كان مصبّ الحثّ في هذه الأخبار طبيعيّ العمل برجاء الثواب لا العمل برجاء احتمال الأمر، فلا محالة نستكشف استحباب طبيعيّ العمل دون خصوص الحصّة الانقياديّة، وقصد القربة وإن كان لابدّ منه لترتّب الثواب لكن قصد القربة لا ينحصر في قصد ذلك الأمر الاحتماليّ الذي وصلنا بخبر ضعيف مثلاً، بل يكون له مصداق آخر أيضاً وهو قصد الأمر الجزميّ الثابت بنفس أخبار (مَن بلغ)، وهنا ليس المفروض إثبات هذا الفرد بشمول إطلاق الأخبار لغير الحصّة الانقياديّة حتّى يأتي ما مضى من أنّ هذا الإطلاق متوقّف على ثبوت هذا الفرد، فلا يمكن ثبوته بنفس هذا الإطلاق، بل المفروض أنّ الأمر الجزميّ ثابت بهذه الأخبار بظهورها في الحثّ والترغيب مثلاً.

هذا تمام الكلام في أصل مفاد أخبار (مَن بلغ).

 


إلاّ إذا قلنا:إنّه يكفي للتفريع فرض كون البلوغ موضوعاً للمحرّك، ولكن هذا يعني الاستفادة من نكتة المحقّق الاصفهانيّ(رحمه الله) الواردة في الوجه الثالث والتي ناقشناها بظهور التفريع في المحرّكيّة المباشرة.

فالحقّ: أنّ أخبار (مَن بلغ) لو حملت على الاستحباب النفسيّ تختصّ بالحصّة الانقياديّة.

والحقّ: أنّ مفاد أخبار (مَن بلغ) مردّد بين الاستحباب النفسيّ للانقياد الناشئ من ملاك جديد خلقه البلوغ، والاستحباب الطريقيّ الذي لا ملاك له إلاّ الحفاظ على ملاك الواقع ولا يختصّ بحالة الانقياد.

426

 

تنبيهات حول أخبار (مَن بلغ)

بقي هنا التنبيه على اُمور:

 

بلوغ الكراهة:

الأمر الأوّل: في نسبة أخبار (مَن بلغ) إلى الروايات الواردة في باب الكراهة، والكلام في ذلك يقع:

أوّلاً: في أنّ أخبار (مَن بلغ) هل تشمل روايات الكراهة، أو تختصّ بمثل أخبار الاستحباب؟

وثانياً: في أنّه ـ على فرض شمولها لأخبار الكراهة ـ هل تثبت بذلك كراهة الفعل، أو لا يثبت إلاّ مجرّد رجحان الترك؟

وثالثاً: في أنّه إذا ورد خبر دالّ على الاستحباب وخبر آخر دالّ على الكراهة، فما هو أثر أخبار (مَن بلغ) تجاه ذلك؟

فالكلام يقع في مقامات ثلاثة:

المقام الأوّل: في أصل شمول (مَن بلغ) لروايات الكراهة.

ووجه الإشكال في ذلك ليس هو دعوى أنّ الظاهر منها هو النظر إلى جانب الطلب والترغيب لا إلى جانب الزجر، حتّى يقال في المقام: إنّ هذا الإشكال لا يأتي في أخبار الحثّ والترغيب على الترك واستحبابه، أو يقال: إنّ هذا الإشكال يتفرّع على مسألة أنّ النهي هل يكون مفاده طلب الترك، أو الزجر عن الفعل، فعلى الأوّل لا يأتي الإشكال، وعلى الثاني يأتي الإشكال، وإنّما وجه الإشكال في المقام هو انصراف لفظ العمل والفعل ونحو ذلك ممّا يوجد في أخبار (مَن بلغ) عن شموله للترك، ومن هنا يظهر ثبوت الإشكال حتّى في أخبار استحباب الترك.

والتحقيق في المقام: أنّه على فرض الجمود على المعنى المطابقيّ للّفظ وإن كان

427

يتأتّى هذا الإشكال، لكنّ الصحيح أنّ خصوصيّة الفعل تكون ملغيّة عرفاً بمناسبات الحكم والموضوع، وإنّما المطلوب في هذه الأخبار بحسب ما يفهمه العرف في المقام هو العمل بما بلغه الإنسان من الثواب والخير سواء كان فعلاً أو تركاً، فالصحيح شمول هذه الأخبار للروايات الواردة في باب الكراهة خلافاً للسيّد الاُستاذ.

المقام الثاني: في أنّ هذه الأخبار هل تثبت في موارد بلوغ الكراهة مجرّد رجحان الترك، أو تثبت كراهة الفعل؟

التحقيق: هو الأوّل، سواء فرض أنّ مفاد هذه الأخبار هو جعل الحجّيّة، أو فرض أنّ مفادها الاستحباب النفسيّ.

أمّا على الفرض الأوّل: فلأنّها إنّما تنظر إلى جعل الحجّيّة بمقدار بلوغ الثواب وثبوت الخير لا أزيد من ذلك، فلا تثبت كراهة الفعل، وإنّما تثبت رجحان الترك الجامع بين استحباب الترك وكون الترك نقيضاً للفعل المكروه، أو قل: الجامع بين الرجحان الذاتيّ وهو الاستحباب والرجحان العرضيّ بلحاظ كونه نقيضاً للمكروه(1).

وأمّا على الفرض الثاني: فالأمر أوضح، فإنّ المفروض أنّ أخبار (مَن بلغ) تثبت الاستحباب، وفرض إثباتها للاستحباب في موارد أخبار المستحبّات والكراهة في موارد أخبار المكروهات خلاف الظاهر، فإنّها ظاهرة في جعل سنخ واحد من الحكم في تمام الموارد(2).



(1) الفرق بين الأمر بالترك إيجاباً واستحباباً والنهي عن الفعل حرمةً أو كراهة ـ حينما لا يكون مجرّد تفنّن في التعبير ـ هو أنّ الفعل قد يكون هو المقتضي لمفسدة مّا فيصبح مبغوضاً على مستوى الحرمة أو الكراهة، وقد يكون مانعاً عن حصول مصلحة مّا فيكون الترك عندئذ محبوباً لكونه مقدّمة لحصول المصلحة على حدّ مقدّميّة عدم المانع للمعلول، وليس الفعل مبغوضاً إلاّ بنحو مبغوضيّة نقيض المطلوب.

(2) والمفروض أنّها ظاهرة في الحثّ والترغيب المنصرف إلى الاستحباب.

428

المقام الثالث: في أنّه إذا دلّ خبر على استحباب شيء وخبر آخر على كراهته، فما هو مفاد أخبار (مَن بلغ) بالنسبة لهذا المورد؟

ذكر السيّد الاُستاذ: أنّه بناءً على القول باختصاص أخبار (مَن بلغ) بروايات الاستحباب يكون الثابت هنا استحباب العمل بعنوان البلوغ، وليس هناك أيّ معارض أو مزاحم لذلك؛ لأنّ المفروض أنّ أخبار (مَن بلغ) لم تشمل تلك الرواية الضعيفة الدالّة على الكراهة. وأمّا بناءً على القول بعدم اختصاص أخبار (مَن بلغ) بروايات طلب الفعل فعندئذ قد يقال: لا مانع من شمولها لكلتا الروايتين، فيثبت استحباب كلّ من الفعل والترك، إلاّ أنّهما يتزاحمان ولا ضير في ذلك؛ إذ ما أكثر المستحبّات المتزاحمة.

لكنّ الصحيح هو التفصيل بين ما لو كان الخبران الضعيفان دالّين على الحكم التوصّليّ وما لو كان أحدهما ـ على الأقلّ ـ دالّاً على الاستحباب التعبّديّ، ففي الأوّل يقع التعارض ـ لا محالة ـ بين دلالتي أخبار (مَن بلغ)؛ إذ لا يعقل جعل الاستحباب للفعل وللترك معاً؛ لأنّه تلزم من ذلك اللغويّة؛ إذ يستحيل أن يتفاوت حال العبد بعد الأمر عنه قبل الأمر، فإنّه ـ على أيّ حال ـ لا يقدر على الجمع بين الفعل والترك، وصدور أحدهما منه ضروريّ، فيقع التنافي بين الجعلين، وذلك يوجب التعارض في عالم الإثبات والدلالة. نعم، إذا كان أحدهما ـ على الأقلّ ـ تعبّديّاً لم يكن بينهما تعارض؛ إذ الفعل القربيّ مثلاً مع الترك ضدّان لهما ثالث، فيختلف حال العبد بعد الأمر عنه قبله؛ إذ يمكنه ترك كليهما واختيار الثالث، فالأمر يحرّكه نحو الجامع بينهما. هذا ما أفاده السيّد الاُستاذ في المقام(1).

ويرد عليه:

أوّلاً: منع شمول أخبار (مَن بلغ) للرواية الدالّة على الاستحباب المعارضة



(1) راجع الدراسات، ج 3، ص 194 ـ 195.

429

بالرواية الدالّة على الكراهة حتّى بناءً على اختصاصها بروايات الاستحباب، فإنّ تلك الأخبار لا تشمل مثل هذه الرواية لا لمانع وهو التعارض حتّى يقال: إنّه على هذا المبنى لا يوجد تعارض في المقام، بل لعدم المقتضي للشمول في نفسه، والسرّ في ذلك أنّ المفروض في موضوع أخبار (مَن بلغ) ـ كما يدلّ عليه فاء التفريع ـ كون العمل متفرّعاً على داعي الثواب الموعود في تلك الرواية، فتختصّ أخبار (مَن بلغ) ـ بحسب الفهم العرفيّ ـ بفرض معقوليّة تفرّع العمل على داعي الثواب في الرتبة السابقة على هذه الأخبار، وحيث إنّ الثواب إنّما يترتّب على العمل القربيّ، فلابدّ من فرض إمكان التقرّب بالعمل في المرتبة السابقة عليها والتقرّب إلى المولى بالفعل لا يعقل فيما لو كانت نسبة المولى إلى الفعل والترك على حدّ سواء، وحيث إنّه قد ورد الخبر على كلّ من استحباب الفعل والترك، ويحتمل الصدق في كلّ منهما، فنسبة المولى إليهما على حدّ سواء، فلا معنى للتقرّب إليه بالفعل(1).

 


(1) قد يقال: إنّ هذا الكلام ينافي فرض دلالة أخبار (مَن بلغ) على الاستحباب الذي هو مفروض السيّد الخوئيّ على ما تقدّم من اُستاذنا(رحمه الله) من أنّ أخبار (مَن بلغ) بعد تسليم دلالتها على الاستحباب تشمل من عمل بداعي التقرّب بهذا الأمر الجديد، ولا تختصّ بمن عمل بداعي الانقياد؛ إذ بناءً على هذا لا مبرّر لتخصيص مورد هذه الأخبار بفرض إمكانيّة الداعي القربيّ في الرتبة السابقة على أخبار (مَن بلغ).

وقد ورد في تقرير السيّد الهاشميّ (حفظه الله) جواب على ذلك، وهو أنّ أخبار (مَن بلغ) وإن كانت تشمل بالإطلاق فرض داعويّة نفس هذا الأمر الاستحبابيّ، ولكنّ ظهورها في تتميم محرّكيّة ما بلغ يوجب اختصاصها بفرض إمكان التحرّك ممّا بلغ في الرتبة السابقة على هذه الأخبار.

430

نعم، نستثني من ذلك فرض أقوائيّة أحد الجانبين من الآخر احتمالاً أو


أقول: إنّ فرض ظهور هذه الأخبار في تتميم محرّكيّة ما بلغ يناسب فرض دلالة هذه الأخبار على الحجّيّة أو الأمر الطريقيّ بالاحتياط، ولا يناسب فرض دلالتها على الاستحباب النفسيّ الذي مضى من اُستاذنا مبنيّاً عليه دعوى الإطلاق لمن عمل بداعي الأمر الجديد، فإنّ مفاد هذه الروايات لو كان استحباباً نفسيّاً موضوعه البلوغ فلا نكتة لاستظهار كونها بصدد تتميم محرّكيّة ما بلغ. نعم، لو فرض أنّ هذه الروايات جعلت الاستحباب النفسيّ لعنوان الاحتياط والانقياد، فهذا أيضاً يكون متمّماً لمحرّكيّة البلوغ، لكنّ هذا خلف فرض شمول إطلاق هذه الرواية لمن تحرّك بداعي الأمر الجديد فحسب ودون داعي الانقياد. والحقّ ما مضى من اختصاص أخبار (مَن بلغ) بناءً على إرادة الاستحباب بالحصّة الانقياديّة، وتلك لا تتصوّر لدى تعارض خبر الاستحباب بخبر الكراهة من دون ترجيح احتماليّ أو محتمليّ.

نعم، بناءً على كون مفاد أخبار (مَن بلغ) الحجّيّة لا يكون مفادها مختصّاً بالحصّة الانقياديّة، فتشمل الخبر الضعيف الدالّ على الاستحباب ولو كان معارضاً بخبر دالّ على الكراهة أو الحرمة، ولو كان المعارض صحيحاً سنداً فأخبار (مَن بلغ) تجعل الضعيف صحيحاً، ويقع طرفاً للمعارضة مع الخبر الصحيح.

أمّا لو كان مفادها حكماً طريقيّاً على مستوى الاحتياط، فلا تشمل الخبر الضعيف المعارض بخبر صحيح دالّ على الحرمة؛ إذ لا معنى للاحتياط في هذا الفرض، بل ولا تشمل المعارض بما دلّ على الكراهة، أو بخبر ضعيف دلّ على الحرمة ما لم يوجد ترجيح احتماليّ أو محتمليّ لطرف الاستحباب؛ لأنّ الحكم الطريقيّ باستحباب الاحتياط ينصرف إلى فرض إمكانيّة الاحتياط في الرتبة السابقة على ذلك، فكأنّ احتياطاً مفروغاً عن إمكانه حكم عليه بالاستحباب، في حين أنّه لا يمكن الاحتياط في المرتبة السابقة في المقام مع عدم مرجّح احتماليّ أو محتمليّ.

431

محتملاً. فيعقل التقرّب في ذلك الجانب. وأمّا بحسب ما هو طبع القضيّة والحالة الاعتياديّة في المقام فلا يعقل التقرّب، وعندئذ لا يعقل التفرّع على داعي الثواب، فيخرج ذلك عن موضوع هذه الأخبار.

وثانياً: أ نّا لو سلّمنا شمول الأخبار لرواية الاستحباب بقطع النظر عن ناحية التعارض فما ذكره من التفصيل بناءً على شمولها لرواية الكراهة ـ لو تمّ ـ فإنّما يجب أن يكون مركز هذا التفصيل الاستحباب المستفاد من أخبار (مَن بلغ)، لا الاستحباب المستفاد من تلك الرواية الضعيفة، فإنّ المفروض المختار له(1) أنّ أخبار (مَن بلغ) لم تجعل تلك الرواية حجّة حتّى يثبت الاستحباب المستفاد من تلك الرواية، وإنّما جعلت استحباباً نفسيّاً على عنوان البلوغ، فيجب أن يُرى أنّ هذا الاستحباب المستفاد من أخبار (مَن بلغ) هل هو تعبّديّ فلا يحصل التعارض أو التزاحم لوجود الضدّ الثالث، أو توصّليّ فيحصل التعارض أو التزاحم لعدمه، وحيث إنّ المستفاد من أخبار (مَن بلغ)، أو القدر المتيقّن منه هو التعبّديّة؛ إذ قد اُخذ في موضوعها فرض التفرّع على داعي الثواب الذي لا يكون إلاّ في فرض القربة(2)، فلابدّ أن يقول السيّد الاُستاذ ـ بحسب مذاقه ـ بالتزاحم في تمام الموارد لوجود الضدّ الثالث، لا بالتزاحم في بعض الموارد والتعارض في بعض آخر، وكأنّه غفل عن استفادة التعبّديّة، أو كونها قدراً متيقّناً من نفس أخبار (مَن بلغ)، وتخيّل أنّها تجعل متعلّق تلك الرواية الضعيفة مستحبّاً بعنوان البلوغ، ففصّل بين فرض كون مفاد تلك الرواية الاستحباب التعبّديّ، وفرض كون مفادها الاستحباب التوصّليّ.



(1) هذا هو مختار السيّد الخوئيّ(رحمه الله) بحسب ما ورد في الدراسات، ج 3، ص 189. ولكنّ مختاره في المصباح ـ ج 1، ص 319 ـ هو الإرشاد.

(2) بعد فرض كون الثواب استحقاقيّاً، وإلاّ لانسدّ باب استظهار الاستحباب.

432

وثالثاً: أنّ أصل التفصيل الذي ذكره في غير محلّه، فإنّه إذا فرض أحدهما تعبّديّاً والآخر توصّليّاً وقع أيضاً التعارض بينهما، لا أنّه يتحقّق مستحبّان متزاحمان من قبيل مزاحمة زيارة أحد الإمامين لزيارة الإمام الآخر مع استحباب كلّ من الزيارتين؛ وذلك لأنّه إمّا أن يفرض أنّ هذين المستحبّين المتزاحمين مستحبّان بنحو الترتّب، أو يفرض أنّهما مستحبّان بنحو الإطلاق، أو يفرض أنّهما فردان لمستحبّ واحد بأن يكون المستحبّ هو الجامع بينهما.

فإن فرض الترتّب، قلنا: إنّ هذا إنّما يعقل في سائر الموارد التي تكون كزيارة الإمامين، فيعقل استحباب زيارة كلّ من الإمامين في فرض عدم زيارة الآخر. أمّا فيما نحن فيه فلا يعقل أن يكون مثلاً الترك مستحبّاً والفعل مستحبّاً قربيّاً على نحو الترتّب، فإنّ معنى ذلك أنّ الفعل مستحبّ قربيّ في فرض عدم الترك، وفرض عدم الترك مساوق لفرض الفعل، في حين أنّه إذا فرض الفعل في المرتبة السابقة على الإتيان به قربيّاً استحال تعلّق داعي القربة به؛ إذ هو في هذا التقدير ضروريّ الوجود بالفرض. نعم، لو كان كلّ من الفعل والترك قربيّاً لم يأتِ هذا الإشكال؛ لأنّ فرض عدم الترك القربيّ ليس مساوقاً لفرض الفعل.

وإن فرض أنّ كلاًّ منهما مستحبّ حتّى على تقدير الآخر بأن يقال: إنّ الترتّب إنّما التزمنا به في الواجبات المتزاحمة دفعاً لمحذور التكليف بغير المقدور وإحراج المكلّف، وأمّا في المستحبّات المتزاحمة فلا إحراج في البين، لجواز الترك، فنلتزم بإطلاق استحبابها وثبوت استحباب كلّ منهما على تقدير الإتيان بالآخر، قلنا: إنّ الإطلاق في باب المستحبّات المتزاحمة غير معقول بلا فرق بين كونها توصّليّة أو تعبّديّة أو مختلفة، بل لابدّ من الترتّب، فإنّ إطلاق الأمر بشيء لفرض اشتغال المكلّف بضّد ذلك الشيء مساوق لتحريك المكلّف وصرفه عن ذاك الضدّ إلى هذا العمل المأمور به، فإذا فرض ذاك الضدّ أيضاً مأموراً به ومستحبّاً لا

433

يكون أضعف من المستحبّ الأوّل لم يعقل هذا الإطلاق في المستحبّ الأوّل؛ لأنّ صرف المكلّف عن ذاك الضدّ إلى هذا بلا موجب؛ لأنّ المفروض أنّه لا يقلّ عن هذا العمل من حيث المحبوبيّة، فلا يعقل انقداح الإرادة الإطلاقيّة في نفس المولى. هذا في مطلق المستحبّات المتزاحمة.

أضف إلى ما ذكرناه شيئاً في خصوص ما نحن فيه، وهو أنّ التحريك المولويّ مع فرض استحباب الفعل والترك غير معقول، سواء فرض كلاهما توصّليّين أو فرض أحدهما أو كلاهما قربيّاً، وسواء فرض استحبابهما بنحو الإطلاق أو بنحو الترتّب؛ وذلك لأنّه وإن كان بفرض القربيّة يتعقّل الضدّ الثالث، لكنّ الداعي القربيّ يحرّك نحو ذات الفعل أو الترك، وتحريكه نحو أحدهما بالخصوص فرع أن لا تكون نسبة المولى إليهما على حدّ سواء، والمفروض هنا أنّ نسبة المولى إليهما على حدّ سواء، وتحريكه نحو الجامع بينهما غير معقول؛ لضروريّة الجامع، وهذا بخلاف غير ما نحن فيه من سائر المستحبّات المتزاحمة، فإنّه هناك يعقل التحريك نحو الجامع؛ إذ من الممكن ترك الجامع.

وإن فرض أنّ المستحبّ هو الجامع فهذا أيضاً غير صحيح، فإنّه يرد عليه:

1 ـ إنّ مقتضى أخبار (مَن بلغ) ليس هو استحباب الجامع، بل استحباب الفرد بالخصوص، وهذا سنخ ما يقال في الواجبين المتزاحمين من أنّ إرجاعهما إلى الواجبين المشروطين يكون على القاعدة، لكنّ إرجاعهما إلى الواجب التخييريّ بأن يكون الواجب هو الجامع على خلاف القاعدة.

2 ـ إنّ استحباب الجامع في نفسه غير معقول، ولو فرضت القربيّة في أحد الجانبين أو كليهما فإنّ داعي القربة لا يمكنه التحريك نحوالجامع، لضروريّة الجامع بين الفعل والترك، ولا نحو الفرد بخصوصيّته الفرديّة، لخروج الخصوصيّة الفرديّة عن تحت الأمر بحسب الفرض.

434

ورابعاً: أنّه مع غضّ النظر عن كلّ ما مضى لا يتمّ كلامه فيما لو دلّ خبر على الاستحباب ودلّ الخبر الآخر على كراهة الفعل لا على استحباب الترك، وقلنا: إنّ أخبار (مَن بلغ) بشمولها لروايات الكراهة تثبت الكراهة لا مجرّد رجحان الترك؛ وذلك للزوم وحدة مركز الحبّ والكراهة، ولا تنثلم وحدة المركز بأخذ قصد القربة.

 

البلوغ المعلوم الكذب:

الأمر الثاني: ذكر السيّد الاُستاذ ـ كما لعلّه المشهور أيضاً ـ: أنّ أخبار (مَن بلغ) لا تشمل الخبر المعلوم الكذب، وذكر في وجه ذلك دعوى الانصراف، وذكر أيضاً: أنّه يخرج منها الخبر الضعيف المحتمل الصدق المبتلى بالمعارضة لخبر صحيح دالّ على عدم الاستحباب؛ لأنّ ذلك الخبر الصحيح يجعلنا عالمين تعبّداً بالكذب، فيخرج المورد عن تحت أخبار (مَن بلغ) بالحكومة؛ إذ المفروض أنّه اُخذ في موضوعها عدم العلم بالكذب، وذكر أيضاً: أنّ هذه الأخبار منصرفة عن مورد دلّ الخبر الصحيح فيه على الحرمة، ثمّ أرجع هذا الانصراف إلى الانصراف الأوّل ببيان أنّه لمّا كان هذا الخبر الصحيح الدالّ على الحرمة يدلّ بالملازمة على عدم الاستحباب وكذب الخبر الضعيف فقد أصبحنا عالمين تعبّداً بكذبه، فخرج المورد عن تحت أخبار (مَن بلغ) بالحكومة.

أقول: إنّ خروج الخبر المقطوع الكذب عن تحت أخبار (مَن بلغ) ممّا لا محيص عنه؛ وذلك لأنّه وإن كان دخوله فيها ممكناً ثبوتاً؛ إذ المفروض عند السيّد الاُستاذ أنّ هذه الأخبار تدلّ على الاستحباب النفسيّ لا على جعل الحجّيّة حتّى يقال: إنّه لا يعقل جعل الحجّيّة مع القطع بالكذب، ومن المعلوم معقوليّة جعل الاستحباب بعنوان البلوغ ولو كذباً، لكنّه ـ مع هذا ـ خارج عن مفاد تلك الأخبار