435

إثباتاً، وذلك بنكتة ما مضى من أنّ المستفاد عرفاً منها إمكان التفرّع على الثواب في المرتبة السابقة على تلك الأخبار، حيث اُخذ في موضوعها تفريع العمل على ذلك الثواب، ومن المعلوم أنّ هذا التفريع غير معقول مع القطع بالكذب.

ومنه يظهر أيضاً خروج المورد الذي دلّ فيه خبر صحيح على الحرمة؛ إذ عند ذلك يتنجّز الترك على العبد ويصبح بالفعل مستحقّاً للعقاب، فكيف يعقل تفريعه على الثواب؟

أمّا في مورد معارضة الخبر الضعيف لخبر صحيح دالّ على عدم الاستحباب فليس الخبر الضعيف خارجاً عن مدلول تلك الأخبار، لمعقوليّة التفرّع هناك مادام احتمال الصدق موجوداً تكويناً. ودعوى الحكومة لإفادة الخبر الصحيح العلم تعبّداً بعدم الاستحباب في غير محلّها حتّى بناءً على قيام الأمارة مقام العلم الموضوعيّ؛ وذلك لأنّه لم يؤخذ في موضوع تلك الأخبار عدم العلم بعنوانه، كما في (رفع ما لا يعلمون) و (كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام) كي يلتزم بالحكومة من هذه الجهة مثلاً، وإنّما المأخوذ فيها إمكان تفرّع العمل على الثواب، وخروج مورد العلم بالكذب إنّما يكون لعدم إمكان التفرّع فيه، وفي مورد المعارضة للخبر الصحيح الدالّ على عدم الاستحباب يكون التفرّع ممكناً، وبكلمة اُخرى: أنّ إمكان التفرّع لازم تكوينيّ للشكّ التكوينيّ، والعلم التعبّديّ لا يرفع اللوازم التكوينيّة للشكّ.

 

هل يكفي البلوغ للفقيه؟

الأمر الثالث: إذا وصل الفقيه خبر ضعيف دالّ على الاستحباب فهل يجوز له الإفتاء بالاستحباب للعاميّ الذي لم يصله ذلك أو لا؟

436

ذكر المحقّق العراقيّ(رحمه الله)(1): أنّ ذلك متفرّع على ما هو المختار فيما هو مفاد هذه الأخبار، فإن كان المختار فيها جعل الحجّيّة جاز له ذلك؛ لأنّه وإن اختصّ البلوغ بهذا الشخص فصار حجّة لهذا الشخص، لكنّ مفاد ذلك الخبر البالغ الذي صار حجّة هو الاستحباب للكلّ، وإن كان المختار فيها جعل الاستحباب النفسيّ بعنوان البلوغ لم يجز له ذلك؛ لأنّ موضوع هذا الاستحباب هو البلوغ، وهذا الموضوع إنّما تحقّق بشأن هذا الشخص دون ذاك.

أقول: أمّا الشقّ الأوّل من كلامه وهو أنّه على تقدير الحجّيّة يجوز الإفتاء بالاستحباب للجميع، فيرد عليه: أنّه على تقدير اختصاص الحجّيّة بمن بلغه هذا الخبر ـ بحسب ما اعترف(رحمه الله) به ـ يكون جواز الإفتاء بالاستحباب للجميع مع عدم علمه وجداناً بالاستحباب للجميع مبنيّاً على القول بقيام الأمارة مقام القطع الموضوعيّ، ونحن وإن كنّا نقول فيما يكون دليل حجّيّته سيرة العقلاء، أو مثل قوله: (يونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني) بقيامه مقام القطع الموضوعيّ في خصوص حكم الإفتاء والإسناد إلى الشارع، لكن لا نقول بذلك فيما نحن فيه؛ إذ مجرّد دليل الحجّيّة لا يدلّ عندنا على القيام مقام العلم الموضوعيّ، وإنّما يجب أن يستفاد ذلك بمؤونة زائدة، كشمول السيرة لذلك، أو دلالة الأخذ على ذلك، وهذا منتف فيما نحن فيه.

وبعد تسليم قيام الأمارة بدليل حجّيّتها مقام القطع الموضوعيّ نقول: إنّه يمكن الإيراد عليه(قدس سره) بأنّه وإن كان مفاد الخبر البالغ هو الاستحباب للجميع، لكنّه بحسب مقام الثبوت كما يعقل جعل الحجّيّة لتمام مفاد هذا الخبر كذلك يعقل جعل



(1) راجع نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 286، وهو صريح في خلاف ما نقله اُستاذنا(رحمه الله) هنا عنه.

437

الحجّيّة لقطعة من مفاده، وهي الاستحباب لهذا الشخص الذي بلغه هذا الخبر، وإذا كان كلا الأمرين معقولاً بحسب عالم الثبوت قلنا: إنّ المتيقّن بحسب عالم الإثبات هو الثاني؛ لأنّ الحجّيّة هنا إنّما استكشفناها بلسان الترغيب في العمل، والترغيب الموجود في هذه الأخبار ـ كما ترى ـ مختصّ بعمل من بلغه دون عمل الجميع.

لكنّ الإنصاف أنّه بعد تسليم أصل مبنى قيام الأمارة مقام القطع الموضوعيّ يكون الصحيح ما ذكره(رحمه الله) من صحّة الإفتاء بالاستحباب للجميع؛ وذلك لأنّ المرتكز في نظر العقلاء في باب جعل الحجج هو فرض عدم التقطيع في المفاد بحسب الأفراد، وأدلّة جعل الحجج تنصرف ـ لا محالة ـ إلى ما يلائم المرتكزات العقلائيّة في باب الحجج، فتلغى عرفاً خصوصيّة هذا الفرد، ويصحّ بذلك الإفتاء بالاستحباب للجميع.

والتحقيق في المقام: منع اختصاص الحجّيّة المجعولة في هذه الأخبار بخصوص من بلغه الخبر الضعيف، بل تشمل حتّى من لم يبلغه، والسرّ في ذلك أنّ البلوغ في دليل الحجّيّة لم يؤخذ بحسب المتفاهم العرفيّ موضوعاً، وإنّما اُخذ طريقيّاً، فدليل حجّيّة الخبر البالغ يدلّ على حجّيّة أصل ذلك الخبر للجميع، وإنّما البلوغ المأخوذ في الكلام في الحقيقة بلوغ للحجّة.

وأمّا الشقّ الثاني من كلامه، فالإنصاف أنّه إشكال صحيح وارد على المشهور ـ على مانسب إليهم من استفادة الاستحباب النفسيّ من هذه الأخبار ـ حيث يفتون بالاستحباب مطلقاً بقاعدة التسامح في أدلّة السنن.

وإن كان دفع السيّد الاُستاذ ـ على ما أتذكّر(1) ـ هذا الإشكال بأنّ هذا الإفتاء



(1) لم أجد ذلك في الدراسات ولا في المصباح، ولعلّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) يذكر ذلك مباشرة عن اُستاذه.

438

لا بأس به؛ إذ إنّ أيّ شخص وصله هذا الإفتاء صار الإفتاء صدقاً بالنسبة له؛ لحصول البلوغ بنفس وصول هذا الإفتاء إليه، وأيّ شخص لم يصله هذا الإفتاء لا يهمّ أمر هذا الإفتاء بالنسبة لذاك الشخص.

أقول: يرد عليه:

أوّلاً: أنّه يتحقّق محذور الكذب بالنسبة لوصول هذا الإفتاء إلى بعض الأشخاص وإن كان الكذب بلحاظ أشخاص آخرين، فإنّ من وصله هذا الإفتاء قد اُخبِر بالاستحباب حتّى بالنسبة لمن لم يصله.

وثانياً: أنّه لو فرض أنّ المحذور ليس هو محذور الكذب، وينحصر المحذور في محذور الإغراء بالجهل، فأيضاً لا يصحّ هذا الكلام، وتوضيح ذلك: أنّ في المقام استحبابين: أحدهما استحباب ثابت، وهو الاستحباب الذي دلّت عليه أخبار (مَن بلغ)، والآخر استحباب محتمل، وهو الاستحباب الذي دلّ عليه ذاك الخبر الضعيف، وبلوغ هذا الاستحباب موضوع لذاك الاستحباب، ويستحيل أن يكون بلوغ استحباب موضوعاً لنفس ذاك الاستحباب على حدّ استحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع شخص ذلك الحكم.

وعندئذ نقول: إنّ المفتي بالاستحباب إن فرض أنّه أفتى بالاستحباب تعليقاً وبنحو القضيّة الشرطيّة، أي: أنّه قال: (مَن بلغه استحباب هذا العمل صار هذا العمل مستحبّاً له) فهذه القضيّة الشرطيّة لا تُحقِّق شرطها إلاّ إذا فرض أنّه عُرِف من حال الفقيه أنّه يكون مبناه في التكلّم على هذا النحو ـ أي: أنّه يتكلّم بمثل هذه القضيّة الشرطيّة ويقصد بذلك الإخبار بموضوع الشرط ـ ولا كلام لنا بشأن هذا الشخص.

وإن فرض أنّه أفتى بالاستحباب الفعليّ قلنا: إنّ هذا الإفتاء إن كان إفتاءً بالاستحباب الذي دلّ عليه الخبر الضعيف، فالمفروض عدم دلالة أخبار (مَن بلغ) على حجّيّة ذلك الخبر الضعيف، فكيف يفتي بلا حجّة؟ وإن كان إفتاءً بالاستحباب

439

الذي جعل على موضوع البلوغ في أخبار (مَن بلغ)، قلنا: إنّه ما هو المقصود بقولكم: إنّ هذا الإفتاء يوجب بلوغ الاستحباب إلى العاميّ حتّى تترتّب على هذا البلوغ صحّة هذا الإفتاء ويتحقّق الاستحباب بشأنه؟ هل المقصود بذلك حصول بلوغ هذا الاستحباب، أو حصول بلوغ الاستحباب الذي دلّ عليه الخبر الضعيف؟ إن قصد الأوّل ورد عليه ما ذكرناه من أنّ بلوغ الاستحباب يستحيل أخذه في موضوع ذاك الاستحباب، وإن قصد الثاني ـ بدعوى أنّ هذا الإفتاء يدلّ بالالتزام على ورود خبر بالاستحباب؛ لأنّ العاميّ بحسن ظنّه بالفقيه يعرف أنّه لولا ورود خبر بالاستحباب لما أفتى بالاستحباب ـ ورد عليه: أنّ العوام كيف يعرفون أنّ مدرك هذا الإفتاء هو الخبر لا شيء آخر، كالشهرة الفتوائيّة، أو مطلق الظنّ مثلاً، فهل هم مطّلعون على مباني هذا الفقيه، ويرون أنّه لا يقول بحجّيّة الشهرة والظنّ مثلاً، أو يعلمون بعدم وجود الشهرة والظنّ في المقام مثلاً فينتقلون من ذلك إلى أنّ مدرك هذا الفقيه كان خبراً من الأخبار؟

هذا تمام الكلام في مبحث أخبار (مَن بلغ) وقد بقي بعض اُمور جزئيّة في هذا المبحث يظهر حالها بالتأمّل فيما ذكرناه.

 

440

 

البراءة في الشبهات الموضوعيّة

التنبيه الثالث: في البراءة في الشبهات الموضوعيّة.

إنّ جريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة محلّ الوفاق تحقيقاً أو تقريباً بين القائلين بالبراءة في الشبهات الحكميّة والمنكرين لها، ولكنّ هنا بحثين:

أحدهما: أنّه هل يجري في مورد الشبهات الموضوعيّة تمام أقسام البراءة الجارية في الشبهات الحكميّة أو لا؟

والآخر: أنّه بعد الفراغ عن جريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة لدى الشكّ في التكليف وعدمه لدى الشكّ في المكلّف به يتكلّم عن بعض الصغريات المشتبهة، وبيان الضابط في التمييز بين القسمين.

 

أقسام البراءة في الموضوعات

أمّا البحث الأوّل: فبالنسبة للبراءة الشرعيّة لا إشكال في شمول إطلاق بعض أدلّتها للشبهات الموضوعيّة كحديث الرفع، حيث عرفت فيما مضى أنّ المأخوذ فيه سنخ جامع ينطبق على كلّ شيء من الشبهات الحكميّة والموضوعيّة، كقوله تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا﴾ وإن كان بعض أدلّتها لا يشمل الشبهات الموضوعيّة كقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً...﴾ على ما مرّ بيانه فيما سبق.

وممّا يدلّ على البراءة في الشبهات الموضوعيّة بالخصوص، أو بشمول إطلاقه لها حديث: (كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال).

وهنا إشكال في الاستدلال بهذا الحديث على البراءة مبنيّ على دعوى اختصاص مفاده بموارد العلم الإجماليّ، بقرينة قوله: (فيه حلال وحرام) وقوله: (حتّى تعرف الحرام بعينه)، وذلك الإشكال هو: أنّه وإن كان عندئذ يدلّ بالأولويّة

441

على البراءة في مورد الشكّ البدويّ؛ إذ في مورد العلم الإجماليّ يوجد الشكّ بالإضافة إلى العلم، ولا نحتمل أنّ وجود العلم له دخل في تحقّق البراءة، فيدلّ الحديث بالأولويّة أو المساواة على البراءة في الشبهات البدويّة، إلاّ أنّه بناءً على المشهور من عدم معقوليّة جريان البراءة في أطراف العلم الإجماليّ تسقط الدلالة المطابقيّة للحديث عن الحجّيّة، ولابدّ من توجيهها، وتسقط الدلالة الالتزاميّة أيضاً عن الحجّيّة بتبع الدلالة المطابقيّة.

ونحن لا نريد هنا التكلّم في أنّه هل يكون هذا الحديث وارداً في خصوص موارد العلم الإجماليّ أو لا؟ ولا في أنّه هل يعقل جريان البراءة في أطراف العلم الإجماليّ أو لا؟ فإنّ هذين البحثين سنبحثهما ـ إن شاء الله تعالى ـ في مبحث العلم الإجماليّ، بل المقصود هنا بعد تسليم كون هذا الحديث وارداً في خصوص موارد العلم الإجماليّ، وأنّه لا يعقل جريان البراءة في أطراف العلم الإجماليّ هو توضيح أنّ هذا الإشكال في غير محلّه؛ وذلك لأنّه سوف يأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ أنّ تنجيز العلم الإجماليّ مشروط بكون الشبهة محصورة وبغير ذلك من الشروط، فنقول: إن سلّم اختصاص هذا الحديث بموارد العلم الإجماليّ لا نسلّم اختصاصه بفرض كون الشبهة محصورة، وغير ذلك من الشروط، فيخرج من إطلاقه بحكم العقل فرض كون الشبهة محصورة مع اجتماع سائر شروط التنجيز ويبقى الباقي تحت الإطلاق، وتثبت بالملازمة البراءة في موارد الشبهات البدويّة.

وأمّا البراءة العقليّة فنحن قد أنكرناها من أساسها فلا تصل النوبة إلى البحث عن جريان البراءة العقليّة في الشبهات الموضوعيّة وعدمه، إلاّ أنّ الذين ادّعوا حكم العقل بالبداهة بقبح العقاب بلا بيان اختلفوا في الشبهات الموضوعيّة، وكأنّ البداهة لم تكن في حدود هذا الحكم، فادّعى بعضهم عدم جريان هذه القاعدة في الشبهات الموضوعيّة لتماميّة البيان من قبل المولى؛ إذ المفروض من قبل المولى

442

إنّما هو بيان الكبرى، وأمّا بيان أنّ هذا خمر مثلاً أو خلّ، فليس من شأن المولى، وذهب الأكثر إلى جريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة، ولهم في دفع كلام اُولئك الأوّلين مسلكان:

أحدهما: ما ذكره بعضهم من الكلام في معنى لفظ (البيان) من أنّ البيان معناه الإظهار، وظهور الشيء إنّما يكون بظهور كبراه وصغراه معاً، وفي الشبهات الموضوعيّة لم تظهر الصغرى وإن ظهرت الكبرى، فلم يتمّ بيان النتيجة، فكأنّ هؤلاء وقعوا تجاه نصّ في الكتاب أو السنة فأرادوا تفسيره.

وثانيهما: ما ذكره بعضهم من دعوى ثبوت ملاك البراءة في الشبهات الحكميّة في موارد الشبهات الموضوعيّة أيضاً. وتقريبه: أنّ ملاك قبح العقاب بلا بيان ليس هو تقصير المولى في مقام البيان حتّى يقال: إنّ في موارد الشبهات الموضوعيّة لا تقصير من جانب المولى، وإنّ بيان الموضوع ليس من شأن المولى، وإنّما ملاكه هو عدم المقتضي للتحريك الذي هو العلم، وهذا ثابت في الشبهات الموضوعيّة أيضاً، لعدم العلم، فيقبح العقاب لعدم المقتضي للتحريك.

أقول: إنّنا نستفيد من نفس اختلافهم في ذلك تأييد عدم بداهة هذه القاعدة، فإنّ المفروض عند القائلين بالبراءة العقليّة في الشبهات الحكميّة والموضوعيّة معاً أنّ جريانها فيهما بملاك واحد، فلا يعترفون بالملاك الذي أدركه القائلون باختصاص البراءة بالشبهات الحكميّة، والقائلون بالاختصاص لا يعترفون بهذا الملاك العامّ، فهذا يؤيّد عدم بداهة شيء من الملاكين، وبالتالي يشهد لعدم بداهة قاعدة قبح العقاب بلا بيان. أمّا تعليقنا على نفس الكلامين:

فالكلام الأوّل ـ كما ترى وكما أشرنا إليه ـ: كأنّه افترض أنّنا تجاه نصّ شرعيّ اُخذ في موضوعه عدم البيان فأصبح بصدد تفسير كلمة (البيان)، في حين أنّنا تجاه حكم عقليّ نتكلّم في حدوده، ولا أثر لفهم المعنى اللغويّ لكلمة (البيان) في ذلك.

443

وأمّا الكلام الثاني ـ وهو ثبوت الملاك الذي هو عدم المقتضي في الشبهات الموضوعيّة ـ: فتحقيق الكلام في هذا المقام على الإجمال ـ وقد مرّ تفصيله فيما مضى ـ هو: أنّه ينبغي أن يكون المقصود بالمقتضي للتحريك هو المقتضي المولويّ، فمرجع القاعدة إلى قاعدة قبح العقاب بلا مقتض مولويّ للتحريك، ونحن نؤمن بقاعدة قبح العقاب بلا مقتض ونعترف ببداهتها، والمقتضي المولويّ للتحريك عبارة عن تنجّز التكليف بحكم العقل، فمرجع هذه الصيغة إلى صيغة اُخرى وهي قبح العقاب بلا تنجّز للتكليف، وكلّ هذه العبارات كقولنا: (قبح العقاب بلا مقتض)، (قبح العقاب بلا موجب)، (قبح العقاب بلا تنجيز) صحيحة، إلاّ أنّه يجب الالتفات إلى صغراها، وهي أنّه في فرض الشكّ هل يكون المقتضي للتحريك ثابتاً أو لا؟ وهذه الصغرى لاتنقّح بتلك الكبريات، وتنقيحها يكون بالالتفات إلى نقطة أغفلوها في المقام رأساً وهي ملاحظة دائرة المولويّة، وأنّها هل تشمل التكاليف المشكوكة أو لا؟

والمولويّات العرفيّة في المجتمعات البشريّة حيث إنّها مجعولة يجب أن يرجع في فهم سعتها وضيقها إلى جاعلها، وهي عادةً مختصّة بدائرة التكاليف المعلومة، ومن هنا نشأ توهّم قاعدة قبح العقاب بلا بيان بقول مطلق، ومولويّة الخالق المنعم المتفضّل مولويّة حقيقيّة ذاتيّة يجب أن يرجع في فهم سعة دائرتها وضيقها إلى العقل العمليّ الذي هو الحاكم بأصل مولويّته، وليست سعتها وضيقها أمراً برهانيّاً، كما أنّ أصلها لم يكن برهانيّاً، بل كلّ ذلك يجب أن يدرك ببداهة العقل العمليّ، ونحن ندرك بعقلنا العمليّ وجوب الموافقة وحرمة المخالفة بمجرّد احتمال التكليف إذا احتمل أنّ التكليف على تقدير وجوده يكون مهمّاً بدرجة لا يرضى المولى بتفويته حتّى في ظرف الشكّ.

444

 

ضابط الشكّ في التكليف والمكلّف به

وأمّا البحث الثاني: وهو بيان الضابط في الشبهات الموضوعيّة لموارد الشكّ في التكليف، وموارد الشكّ في المكلّف به. فقد ذكر المحقّق النائينيّ(قدس سره) في رسالته في اللباس المشكوك كلاماً يكون مفاده بحسب الصياغة التي صاغها بها غامضاً، فنحن نصوغ جوهر كلامه في صياغة اُخرى توضيحاً لمقصوده(رحمه الله).

فجوهر ما أفاده في المقام هو: أنّ الضابط في جريان البراءة أو الاشتغال في الشبهات الموضوعيّة هو أنّه إن كان الشكّ فيما يستتبع التكليف كان ذلك مجرىً للبراءة؛ إذ الشكّ في المستتبِع يوجب الشكّ في المستتبَع، فيتحقّق الشكّ في أصل التكليف، وإن لم يكن الشكّ فيما يستتبع التكليف بل كان تمام ما يستتبع التكليف معلوماً، كان ذلك مجرىً للاشتغال.

وتفصيل ذلك: أنّ التكليف له أطراف ثلاثة: أحدها المتعلّق كشرب الخمر في (لا تشرب الخمر)، والصلاة في (صلِّ)، وثانيها موضوع التكليف، ومرادنا من موضوع التكليف هنا هو متعلّق المتعلّق، أي: ذاك الشيء الخارجيّ الذي يكون المتعلّق مربوطاً به كالخمر في (لا تشرب الخمر)، والقبلة في (صلِّ إلى القبلة)، وثالثها القيود المأخوذة في نفس التكليف، وهي عبارة عن الشرائط العامّة كالبلوغ والعقل ووجود المكلّف خارجاً، والشرائط الخاصّة كدخول الوقت مثلاً، وكالاستطاعة في الحجّ ونحو ذلك.

والشكّ تارةً يفرض وقوعه في أصل التكليف بقطع النظر عن الأطراف الثلاثة، وهذا خروج عمّا نحن فيه؛ لأنّ الشبهة عندئذ لا يمكن أن تتصوّر بنحو الشبهة الموضوعيّة، واُخرى يفرض وقوعه في الأطراف، وعندئذ يعقل فرض الشكّ بنحو الشبهة الموضوعيّة، وفي هذا الفرض نتكلّم في ضابط جريان البراءة والاشتغال، وهنا نبدأ من الطرف الثالث فنقول:

أمّا الطرف الثالث ـ وهو قيود التكليف وشرائطه العامّة أو الخاصّة ـ: فلا

445

إشكال في أنّه عند الشكّ فيه يرجع إلى البراءة؛ لأنّ الشكّ فيه يستوجب الشكّ فيأصل التكليف؛ إذ قيود التكليف تكون ممّا يستتبع التكليف، فالشكّ فيه داخل فيما مضى من الضابط.

وأمّا الطرف الثاني ـ وهو موضوع التكليف ـ: فتارةً يفرض الموضوع أمراً جزئيّاً فرغ عن وجوده كالقبلة في (الصلاة إلى القبلة)، واُخرى يفرض أمراً كلّيّاً:

فإن فرض الأوّل: فلا معنى للشكّ فيه؛ إذ هو خلف فرض الفراغ عن وجوده.

وإن فرض الثاني: فتارةً يكون ذلك مأخوذاً بنحو صرف الوجود كما في (توضّأ بالماء)، واُخرى يكون مأخوذاً بنحو مطلق الوجود كما في (أكرم العالم):

فإن كان مأخوذاً بنحو صرف الوجود: فتارةً يكون الشكّ في أصل وجود الموضوع ممّا يستتبع التكليف، والشكّ فيه شكّ في أصل التكليف، واُخرى يكون الشكّ في فرد آخر زائداً على الفرد المعلوم، كما لو وجد فرد من الماء وشكّ في فرديّة مائع آخر للماء، وعندئذ لا يكون الشكّ في التكليف؛ إذ التكليف مسلّم بوجود الفرد الأوّل، ولا يستوجب الفرد الثاني زيادةً في التكليف؛ إذ لا يجب الوضوء إلاّ بماء واحد بنحو صرف الوجود، وإنّما الشكّ في الفرد الثاني شكّ في توسعة دائرة الامتثال فتجري ـ لا محالة ـ أصالة الاشتغال دون البراءة.

وإن كان مأخوذاً بنحو مطلق الوجود: فالشكّ في كلّ فرد يكون شكّاً في أصل التكليف؛ لأنّ الحكم ينحلّ إلى عدّة قضايا شرطيّة شرطها تحقّق الموضوع وجزاؤها الحكم على نهج القضيّة الحقيقيّة، فهناك أحكام عديدة كلّ واحد منها إنّما أصبح فعليّاً بتحقّق شرطه ـ أي: بوجود موضوعه ـ فكما أنّ فعليّته تتوقّف على وجود موضوعه، كذلك تنجّزه يتوقّف على العلم بوجود موضوعه، فإذا قال المولى مثلاً: (أكرم العالم) فشكّنا في عالميّة أيّ فرد من الأفراد شكّ في تحقّق تكليف مستقلّ

446

مرتبط بذاك الفرد، والمفروض أنّه ما لم يتحقّق ذاك الشرط لم يصبح التكليف فعليّاً، إذ فعليّته تتبع وجود الموضوع، فلا محالة يقع الشكّ في التكليف فتجري البراءة.

وأمّا الطرف الأوّل ـ وهو المتعلّق ـ: فتارةً يفرض لهذا المتعلّق متعلّق، أي: يفرض أنّ التكليف له موضوع كما في وجوب الوقوف بعرفة، أو حرمة الإفاضة عنها، واُخرى يفرض عدم الموضوع، وكون مصبّ الحكم هو ذات فعل الشخص من دون أن يتعلّق بشيء، كما في حرمة الغناء، وكما لو فرض وجوب ذات التكلّم من دون أن يتعلّق بشيء:

فإن فرض الثاني: فلا معنى للشكّ في المتعلّق؛ إذ هذا المتعلّق تارةً يفرض فعلاً اختياريّاً مباشريّاً للمكلّف، واُخرى يفرض مسبّباً توليديّاً له، فإن كان فعلاً اختياريّاً مباشريّاً له كما في وجوب التكلّم، فلا معنى للشكّ فيه؛ إذ الشخص لا يشكّ في فعله حين صدوره منه، ولا يعقل أن يشكّ في أنّه في هذا الآن هل هو يتكلّم، أو لا؟ نعم، يعقل الشكّ فيه بعد مضيّ زمان الفعل الذي هو مجرىً لمثل قاعدة الفراغ، لكنّه خارج عمّا نحن فيه، وإن كان مسبّباً توليديّاً كما في وجوب قتل الكافر مثلاً الذي يتولّد عن ضربه بالرصاص مثلاً، فالشكّ فيه لا يكون إلاّ من باب الشكّ في المحصّل وهو خارج عمّا نحن فيه، ومن الواضح جدّاً كونه مورداً للاشتغال دون البراءة.

وإن فرض الأوّل: فعندئذ يعقل ثبوت الشكّ في المتعلّق بلحاظ نسبته إلى موضوعه(1)، وذلك كما إذا شكّ في الوقوف بعرفات من ناحية الشكّ في دخول



(1) قد يقال: إنّ هذه الصياغة من التقسيم ليست الصياغة المثلى، فإنّ الشكّ في المتعلّق بلحاظ نسبته إلى الموضوع مع قسم مضى وهو الشكّ في الموضوع بمعنىمتعلّق

المتعلّق دائماً متلازمان ومتصادقان على مورد واحد، فالأولى في مقام البيان هو صياغة التقسيم بالشكل الوارد في اللباس المشكوك للمحقّق النائينيّ(رحمه الله) وهي ما يلي: أنّ متعلّق التكليف إمّا أن يكون فعلاً اختياريّاً غير متعلّق بموضوع خارج الاختيار، أو يكون متعلّقاً به، فالأوّل لا يتصوّر الشكّ فيه من غير مثل جهة النسيان بعد الفراغ إلاّ في المسبّب التوليديّ الذي هو مورد للاشتغال، والثاني إمّا أن يفترض فيه أنّ متعلّق المتعلّق جزئيّ خارجيّ كالقبلة وعرفة والمشعر، أو يفترض كلّيّاً، فإن فرض جزئيّاً فهذا القسم يزداد على القسم الأوّل في أنّه يتصوّر الشكّ فيه من ناحية نسبة الفعل إلى متعلّق المتعلّق، فقد يدور الأمر بين متباينين كما في الصلاة إلى جهتين لدى شكّنا في جهة القبلة، وهنا يجري الاشتغال، وقد يدور الأمر بين الأقلّ والأكثر، ومثاله ما إذا تردّد الموقف في المشعر أو عرفات بين الأقلّ والأكثر من جهة الشبهة الخارجيّة، وهنا فصّل(رحمه الله) بين الشبهة الوجوبيّة كما في وجوب الوقوف، والتحريميّة كما في حرمة الإفاضة. وإن فرض كلّيّاً فهنا فصّل(رحمه الله)بين صرف الوجود ومطلق الوجود، فقال في صرف الوجود بأنّ الشكّ في الفرد الزائد لا يؤدّي إلى الشكّ في التكليف، بل يكون من الشكّ في الامتثال. وأمّا الشكّ في أصل وجود صرف الوجود فيعود إلى الشكّ في القدرة، يلحقه حكم تلك المسألة، وقال في مطلق الوجود بالانحلال وجريان البراءة لدى الشكّ. راجع رسالة المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في اللباس المشكوك، ص 252 ـ 258.

وأمّا كون الضابط في جريان البراءة أو الاشتغال في الشبهات الموضوعيّة كون الشكّ فيما يستتبع التكليف وعدمه، فلم أره في الرسالة.

447

هذه النقطة من الأرض في عرفات بنحو الشبهة الموضوعيّة، كأن يكون منشأ الشكّ هو ظلمة الهواء مثلاً، ولا يكون الشكّ من باب الشكّ في سعة دائرة عرفات وضيقها أساساً بنحو الشبهة الحكميّة كي يكون خروجاً عمّا نحن فيه، وعندئذ

448

يكون الصحيح في جريان البراءة وعدمه التفصيل بين الشبهات الوجوبيّة كما في وجوب الوقوف بعرفات، والشبهات التحريميّة كما في حرمة الإفاضة من عرفات، ففي الاُولى تجري أصالة الاشتغال، وفي الثانية تجري أصالة البراءة.

والسرّ في ذلك أنّ في باب الأوامر تكون مطابقة الفعل لذلك العنوان الذي تعلّق به الأمر داخلة تحت دائرة الطلب، فيطلب المولى كون الوقوف وقوفاً بعرفات، فالشكّ في تحقّق المطابقة شكّ في تحقّق الامتثال، وهذا بخلاف باب النواهي، فإنّ مطابقة الفعل للعنوان المنهيّ عنه ليست داخلة تحت دائرة الطلب، فإنّ المولى لا يطلب منّا المطابقة للعنوان المنهي عنه، وإنّما المولى ينهى عن الفعل بشرط مطابقته لذلك العنوان، فينهى عن الشرب مثلاً على تقدير كونه شرباً للخمر، فالمطابقة في باب النواهي تكون قيداً للتكليف وشرطاً له، فالشكّ فيها شكّ في قيود التكليف الذي مضى أنّه مجرىً للبراءة. هذا كلّه بيان لمقصود المحقّق النائينيّ(رحمه الله)في المقام.

أقول: أمّا ما ذكره من عنوان الضابط في المقام من أنّ الشكّ إن كان فيما يستتبع التكليف كان مجرىً للبراءة، وإلاّ كان مجرىً للاشتغال، فهو من دون تأويل غير صحيح، والصحيح هو ضابط آخر يقتنص ممّا سنذكره ـ إن شاء الله ـ في التفصيلات.

وأمّا ما ذكره من التفصيلات فتحقيق الكلام فيها أن يقال:

إنّ ما ذكره في المتعلّق في فرض عدم وجود موضوع للحكم من أنّه لا يتصوّر الشكّ فيه، يرد عليه: أنّه من الممكن أن يفرض هذا المتعلّق محدّداً بحدود دقيقة بحيث يحصل الشكّ من نفس الفاعل في حال الفعل في ذلك، كما لو حرم على المكلّف ترسيم دائرتين متساويتين، فشكّ المكلّف في حين عمله في أنّه هل هذا ترسيم لدائرتين متساويتين، أو تختلف إحداهما عن الاُخرى ولو بقليل؟ فهذا

449

شكّ يتصوّر في المقام يجب التكلّم في أنّه هل هو مجرىً للبراءة، أو لا؟ ويظهر الحال فيه من حيث جريان البراءة وعدمه من بحثنا في جريان البراءة وعدمه في متعلّق الحكم الذي له موضوع والذي اعترف المحقّق النائينيّ فيه بتصوير الشكّ.

وأمّا ما ذكره في المتعلّق في فرض وجود موضوع للحكم من أنّه إذا كانت الشبهة وجوبيّة لم تجرِ البراءة؛ لأنّ مطابقة الفعل لعنوان المأمور به داخل تحت دائرة الطلب، وإذا كانت تحريميّة جرت البراءة؛ لأنّ مطابقة الفعل لعنوان الحرام لم تجعل تحت دائرة الطلب، بل جعلت قيداً للحكم، فيرد عليه: أنّ مطابقة الفعل للعنوان المتعلّق به الحكم التي هي مفاد (كان) الناقصة تارةً تلحظ بلحاظ ما بعد الوجود، واُخرى تلاحظ بلحاظ ما قبل الوجود. فإن لوحظت بلحاظ ما بعد الوجود فهي كما تكون أمراً داخلاً تحت الطلب في باب الأوامر ـ بمعنى أنّ الطلب يجرّ العبد نحو الامتثال وإيجاد الفعل بنحو مفاد (كان) التامّة، ويساوق ذلك مفاد (كان) الناقصة، فإنّ كون الفعل صلاةً مثلاً بنحو (كان) الناقصة حصيلة لوجود الصلاة بنحو مفاد (كان) التامّة، فكان تحصيل هذا الذي هو مفاد (كان) الناقصة مطلوباً بمطلوبيّة تحصيل مفاد (كان) التامّة ـ كذلك تكون أمراً داخلاً تحت النهي في باب النواهي، حيث إنّ النهي عن الغناء مثلاً بمفاد (كان) التامّة نهي عن إيجاد الغناء، ويكون وجوده مساوقاً لكون الفعل غناءً، أي: أنّ مفاد (كان) الناقصة هنا أيضاً حصيلة مفاد (كان) التامّة المنهيّ عنه.

وإن لوحظت بلحاظ ما قبل الوجود، أو قل: لوحظ مفاد (كان) الناقصة باعتبار ماهيّة الفعل بقطع النظر عن وجودها، فكما أنّه في باب النواهي يكون النهي متعلّقاً بالفعل بقيد كونه معنوناً بذاك العنوان وليس ذلك داخلاً تحت الحكم، كذلك في باب الأوامر يكون الأمر متعلّقاً بالفعل بقيد كونه معنوناً بذاك العنوان، وليس ذلك داخلاً تحت الحكم، فمطابقة الفعل للعنوان المتعلّق به الحكم تكون باعتبار داخلة

450

تحت الحكم في كلّ من بابي الأوامر والنواهي، وباعتبار آخر قيداً للحكم في كلا البابين، فلا وجه للتفصيل بينهما من هذه الناحية.

والتحقيق في المقام: أنّ العبرة في جريان البراءة وعدمه سواء كان الشكّ من ناحية المتعلّق ـ كما هو المفروض فعلاً ـ أو من ناحية الموضوع، أو من ناحية القيود إنّما هي بكون الحكم بنحو البدليّة أو الشموليّة، فإن كان بنحو الشموليّة وحصل الشكّ كان المرجع البراءة، وإن كان بنحو البدليّة وحصل الشك، كان المرجع الاشتغال بلا فرق في ذلك بين باب الأوامر وباب النواهي، وبلا فرق بين فرض ذلك الحكم الشموليّ انحلاليّاً أو حكماً واحداً.

والسرّ في ذلك أنّ الحكم إذا كان بنحو البدليّة فالشكّ ليس في سعة دائرة التحريك المولويّ وضيقها حتّى تجري البراءة ويكون المرجع هو الاشتغال. وأمّا إذا كان شموليّاً فالشكّ يقع في سعة دائرة التحريك المولويّ وضيقها، فتجري البراءة الشرعيّة، وكذا العقليّة بناءً على الإيمان بها بلا فرق بين فرض الحكم انحلاليّاً فيكون الشكّ في تكليف آخر غير التكليف المعلوم، وفرضه غير انحلاليّ، فإنّه عندئذ وإن لم يكن الشكّ شكّاً في التكليف إلاّ أنّه شكٌّ في سعة دائرة التحريك المولويّ وضيقها، فتجري البراءة.

ومن هنا ظهر ما في الضابط الذي ذكره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) في المقام من أنّه إذا كان الحكم واحداً كان المرجع الاشتغال، وإن كان متعدّداً كان المرجع البراءة، فإنّه إن قصد بالوحدة والتعدّد ما ذكرناه من البدليّة والشموليّة ورد عليه: أنّ الشموليّة لا تستلزم التعدّد؛ إذ قد يكون الحكم بنحو المجموعيّة لا الانحلال فلا يكون الحكم متعدّداً. وإن قصد بالتعدّد ما يضادّ المجموعيّة(1) ورد عليه ما عرفت



(1) كلامه(رحمه الله) في التنبيه الثالث من تنبيهات البراءة صريح في هذا المعنى، راجع الكفاية، ج 2، ص 200 بحسب طبعة المشكينيّ.

451

من جريان البراءة في فرض الشموليّة وإن كان على نحو المجموعيّة؛ إذ الشكّ شكّ في سعة دائرة التحريك المولويّ والتحميل على العبد وعدمها.

وممّا ذكرناه ظهر النظر أيضاً فيما أفاده المحقّق النائينيّ(قدس سره)في فرض الشكّ من ناحية الموضوع من أنّه إن كان الموضوع مأخوذاً بنحو صرف الوجود كان المرجع الاشتغال، وإن كان مأخوذاً بنحو مطلق الوجود كان المرجع البراءة؛ لأنّ القضيّة الحقيقيّة المحكوم فيها على موضوع بنحو مطلق الوجود تنحلّ إلى أحكام عديدة مشروطة تكون فعليّة كلّ واحد من تلك الأحكام تابعة لوجود موضوعه في الخارج، فالشكّ في موضوعه شكّ في ذلك الحكم.

فإنّه يرد على ذلك: أنّه إذا فرض الحكم شموليّاً كفى ذلك في جريان البراءة وإن لم يفرض بنحو الانحلال؛ لأنّ الشكّ يقع في سعة دائرة المحرّك المولويّ وضيقها، فتجري البراءة عن غير المقدار المتيقّن.

هذا مضافاً إلى أنّ فرض جريان البراءة ثمرة لتبعيّة فعليّة الحكم لوجود الموضوع خارجاً غير صحيح، فإنّه إذا شكّ في خمريّة شيء مع العلم بحرمة شرب الخمر جرت البراءة، سواء فرض أنّ حرمة شرب الخمر جعلت على تقدير وجود الخمر خارجاً فليست الحرمة فعليّة قبل وجوده في الخارج، أو فرض أنّ حرمة الخمر جعلت غير مشروطة بوجوده بالفعل خارجاً فتكون الحرمة ثابتة قبل وجوده، وثمرة ذلك هي الانزجار مولويّاً من إيجاد الخمر إذا علم أنّه إن أوجده اضطرّ إلى شربه.

هذا والمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الضابط في جريان البراءة وعدمه في الشبهات الموضوعيّة هو الشموليّة والبدليّة.

وأمّا الضابط الذي ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من كون الشكّ شكّاً فيما يستتبع التكليف وعدمه فلا يصحّ إلاّ بإرجاعه إلى ما اخترناه، وذلك بإدخال تأويلين فيه:

452

الأوّل: أن يفترض أنّ المراد بما يستتبع التكليف ما يعمّ استتباعه لسعة دائرة التكليف، لا خصوص مايستتبع التكليف المستقلّ حتّى يشمل ذلك موارد كون التكليف شموليّاً غير انحلاليّ(1).

الثاني: أن يقال: إنّ المراد بما يستتبع التكليف ليس هو استتباعه بوجوده الخارجيّ للتكليف حتّى يخرج بذلك المتعلّق؛ لأنّه بوجوده الخارجيّ لا يستتبع التكليف، بل التكليف يستتبع وجود المتعلّق خارجاً، أو يخرج بذلك أيضاً الموضوع الذي لا تكون فعليّة الحكم متوقّفة على وجوده، كما في مثال حرمة شرب الخمر إذا فرضت الحرمة فعليّة قبل وجود الخمر كي تصبح زاجرة عن إيجاده، بل المراد بذلك أنّ انطباق العنوان الكذائيّ على الشيء المفروض يستتبع التكليف ولو فرض ذلك بقطع النظر عن الوجود الخارجيّ، وهذا ثابت في المتعلّق؛ إذ انطباق عنوان الإكرام مثلاً على العمل الفلانيّ عند وجوب كلّ إكرام يستتبع التكليف به وثابت في الموضوع أيضاً. وإن فرضت فعليّة الحكم قبل وجوده فإنّه لولا انطباق عنوان الخمر على ما سوف يصنعه لم يكن حراماً حتّى ينزجر من صنعه وإيجاده.



(1) ويشهد لكون مقصود المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في اللباس المشكوك ذلك ولو ارتكازاً ما صرّح به في أجود التقريرات ـ ج 2، ص 200 ـ 201 ـ من أنّه إذا كان الحكم التحريميّ بمعنى مطلوبيّة مجموع التروك بنحو العامّ المجموعيّ جرت البراءة أيضاً في مورد الشكّ على ما هو المختار من جريان البراءة عند دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، واستغرب من المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) حيث قال في المقام بالاشتغال مع ذهابه إلى البراءة في مسألة الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

453

ثمّ إنّ المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله)(1) أورد على المحقّق النائينيّ(رحمه الله): أنّ فرض كون البراءة في الشكّ في فرد من أفراد الموضوع إذا كان الموضوع مأخوذاً بنحو مطلق الوجود تابعة لكون القضيّة حقيقيّة في غير محلّه، بل تجري البراءة حتّى مع فرض القضيّة خارجيّة، فلو وجب إكرام كلّ من في العسكر مثلا بنحو القضيّة الخارجيّة، وشكّ في وجود زيد في العسكر وعدمه فهذا حكم انحلاليّ، وتجري البراءة من الحكم بوجوب إكرام زيد.

أقول: إن فرض أنّ المقصود بكون القضيّة خارجيّة كون عنوان (مَن في العسكر) مثلاً مجرّد عنوان مشير، وأنّ الواجب في الحقيقة إكرام اُولئك الأشخاص المعيّنين حتّى لو فرض عدم وجودهم في العسكر، إلاّ أنّهم صدفة اجتمعوا هناك، فالشكّ في وجوب إكرام زيد وعدمه شبهة حكميّة لا موضوعيّة، وهي خارجة عمّا نحن فيه.

وإن فرض أنّ المقصود بذلك أنّه وإن كان لعنوان (مَن في العسكر) دخل في الحكم لكنّ الحكم لا يشمل الأفراد المقدّرة الوجود كمايشمل الأفراد المحقّقة الوجود؛ لأنّ عنوان (مَن في العسكر) ليس هو تمام الدخيل في الحكم، بل هنا جهة اُخرى أيضاً دخيلة في الحكم موجودة في خصوص الأفراد الذين هم بالفعل في العسكر لا في كلّ من قدّر وجوده في العسكر، فعندئذ لمّا كان عنوان (مَن في العسكر) دخيلاً في الحكم فلا محالة تكون القضيّة في قوّة القضيّة الشرطيّة، شرطها عنوان (مَن في العسكر) بالنسبة لأشخاص معيّنين، وجزاؤها الحكم، إلاّ أنّ الشرط مفروض التحقّق، والقضيّة الشرطيّة لا تخرج عن كونها قضيّة شرطيّة بتحقّق شرطها.

وبمراجعة عبارة المحقّق النائينيّ(قدس سره) في المقام يظهر أنّ الذي يستفاد من كلامه



(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 231.

454

ليس هو كون العبرة في جريان البراءة بعنوان كون القضيّة حقيقيّة، وإنّما العبرة في جريانها بكون القضيّة شرطيّة فعليّتها تتبع فعليّة شرطها على نهج الحال في القضايا الحقيقيّة، ولا يخفى الفرق الموجود بين الأمرين. نعم، هو(قدس سره)يرى أنّ الأحكام الكلّيّة الشرعيّة كلّها تكون من باب القضايا الحقيقيّة.

وعلى أيّ حال، فقد عرفت أنّ الضابط في جريان البراءة وعدمه في الشبهات الموضوعيّة هو كون الحكم بدليّاً أو شموليّاً.

وعندئذ نشرع في تطبيق هذا الضابط على موارد الحكم الوجوبيّ والحكم التحريميّ، فنقول: إنّ كلاًّ من الفعل والترك يصلح لأن يقع متعلّقاً للحكم الوجوبيّ تارةً وللحكم التحريميّ اُخرى، فيقع الكلام في مقامين:

 

حالة تعلّق الحكم بالفعل:

المقام الأوّل: في فرض أخذ الفعل متعلّقاً للحكم وجوباً أو تحريماً، وهذا يتصوّر على أقسام باعتبار أنّ الفعل يمكن لحاظه بأنحاء عديدة:

القسم الأوّل: أن يجعل الفعل متعلّقاً للحكم بنحو صرف الوجود، ومرادنا من صرف الوجود هو كون المتعلّق ذات الطبيعة بلا أيّ مؤونة زائدة. وفي هذا القسم أفادوا أنّ الأمر يقتضي الإتيان بفرد واحد والنهي يقتضي ترك جميع الأفراد؛ لأنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد ولا تنعدم إلاّ بانعدام تمام الأفراد.

واستنتج المحقّق العراقيّ(قدس سره) من ذلك:(1) أنّ الأمر يسقط بالامتثال بإتيان فرد



(1) إلاّ أنّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله) سمّى ما سمّـاه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) هنا بصرف الوجود بالطبيعة المبهمة، حيث حمل مصطلح صرف الوجود على ما يساوق أوّل الوجود. راجع المقالات، ج 1، ص 82 ـ 83، وص 121 ـ 122، وراجع نهاية الأفكار، ج 1، ص 403 ـ 406.

455

واحد والنهي لا يسقط بالعصيان بإتيان فرد واحد، بل يبقى النهي بلحاظ باقي الأفراد.

أقول: إنّ هذا خلط بين فرقين ثابتين في باب الأمر والنهي:

الفرق الأوّل: ما يكون مرتبطاً بعالم اقتضاء الأمر والنهي، وهو: أنّ الأمر والنهي لو فرض كلّ واحد منهما حكماً واحداً فالأمر بدليّ ـ أي: أنّه يقتضي إتيان فرد واحد ـ والنهي شموليّ ـ أي: أنّه يقتضي ترك تمام الأفراد ـ وما ذكر من أنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد وتنعدم بانعدام تمام الأفراد نكتة لهذا الفرق.

الفرق الثاني: ما يكون مرتبطاً بعالم الجعل، وهو أنّ الأمر إذا تعلّق بالطبيعة فليس هناك إلاّ حكم واحد، والنهي إذا تعلّق بالطبيعة استفيد من ذلك جعل أحكام عديدة، وسقوط الأمر بإتيان فرد واحد وعدم سقوط النهي بذلك مرتبط بهذا الفرق دون الفرق الأوّل. وعلى أيّة حال ـ أي: سواء فرض النهي شموليّاً بالمعنى الأوّل أو انحلاليّاً ـ فمهما حصل الشكّ في جانب النهي في فرد جرت البراءة؛ لأنّه شكّ في سعة دائرة التكليف، وهذا بخلاف جانب الأمر، فتجري فيه عند الشكّ في فرد قاعدة الاشتغال؛ لأنّ الحكم بدليّ، فالشكّ إنّما يكون في عالم الامتثال.

هذا، ونحن نتكلّم هنا تارةً في الفرق الأوّل، واُخرى في الفرق الثاني، فنقول:

أمّا الفرق الأوّل: فقد ذكروا أنّ طبيعة الأمر تقتضي الإتيان بفرد واحد، وطبيعة النهي تقتضي ترك تمام الأفراد؛ لأنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد، ولا تنعدم إلاّ بانعدام تمام الأفراد. وقد ناقش في ذلك السيّد الاُستاذ والمحقّق الإصفهانيّ(قدس سره):

أمّا السيّد الاُستاذ فقد ذكر في المقام(1): أنّ مردّ الفرق في الحقيقة ليس إلى



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 328 ـ 329 فهو يقارب ما نقله اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) هنا عن اُستاذه، ولكن لم يذكر فيه التعبير بالفناء في فرد واحد وفي تمام الأفراد.

456

طبيعة الأمر والنهي، بل إلى كيفيّة لحاظ الطبيعة، فإنّ الطبيعة تارةً تلحظ فانية في تمام الأفراد، واُخرى تلحظ فانية في فرد واحد، فإن لوحظت فانية في تمام الأفراد كان الحكم المتعلّق به شموليّاً، سواء فرض أمراً أو نهياً. وإن لوحظت فانية في فرد واحد كان الحكم المتعلّق به بدليّاً سواء فرض أمراً أو نهياً.

ويرد على هذا: ما حقّقناه في بحث المطلق والمقيّد من أنّ معنى الفناء هو لحاظ العنوان بما هو خارجيّ لا بما هو هو، وأنّ أيّ عنوان من العناوين لا يفنى بهذا المعنى من الفناء إلاّ في معنونه، فعنوان الطبيعة لا يفنى إلاّ في واقع الطبيعة التي هي الجهة المشتركة بين الأفراد. وأمّا الذي يفنى في واقع أحد الأفراد أو تمام الأفراد، فإنّما هو عنوان أحد الأفراد أو تمام الأفراد.

وأمّا المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) فقد ذكر في المقام(1) أنّه يستحيل أن يفرض شيء


(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 228، و ج 1، ص 260 ـ 261. وحاصل كلامه في المجلّد الأوّل في أوائل بحث النواهي هو: أنّه لا يوجد وجود للطبيعة يكون بوجود واحد، في حين أن يكون بديله عدم الطبيعة بكلّ الأعدام، فإنّ الوجود إن اُضيف إلى الطبيعة المهملة التي كان النظر فيها مقصوراً على ذاتها وذاتيّاتها، فمقابله العدم المضاف إلى الطبيعة المهملة أيضاً، ونتيجة المهملة جزئيّة سواء في جانب الإيجاب أو جانب السلب. وإن اُضيف إلى الفرد فلكلّ وجود من وجودات الفرد عدم هو بديله، وإن لوحظ الوجود بنحو السعة حتّى لا يشذّ عنه وجود فيلحظ العدم أيضاً كذلك، فلا يشذّ عنه عدم ولا يعقل لحاظ وجود للطبيعة يكفيه وجود واحد مع كون بديله كلّ الأعدام. أمّا ما يتوهّم من أنّنا لو لاحظنا الوجود بمعنىً ناقض للعدم الكلّيّ، وطارد للعدم الأزليّ فهو ينطبق على أوّل الوجودات، ولكنّ نقيضه لا يكون إلاّ بتمام الأعدام؛ إذ لو وجد أيّ فرد لانتقض العدم الكلّيّ وانطرد العدم الأزليّ، فجوابه: أنّ طارد العدم الكلّيّ لا مطابق له في الخارج؛ لأنّكلّ

457

يكون وجوده بوجود فرد واحد وعدمه بعدم تمام الأفراد، فإنّ بديل كلّ وجود هو عدمه المطرود به، لا عدم شيء آخر، ووجود فرد لا يطرد إلاّ عدم نفسه لا عدم فرد آخر.

ثمّ أورد(قدس سره) على نفسه بأنّ هناك شيئاً يكون وجوده بوجود فرد واحد، وعدمه بعدم تمام الأفراد، وذلك هو الوجود الأوّل، فإنّ وجوده يكون بوجود واحد، وهو أوّل الوجودات، ولكنّ انعدامه إنّما يكون بانعدام تمام الأفراد؛ لأنّه بمجرّد أن يوجد فرد يتحقّق الوجود الأوّل فصار عدم تمام الأفراد بديلاً عن وجود فرد واحد.

وأجاب على ذلك بأنّ بديل الوجود الأوّل أيضاً ليس إلاّ عدمه المطرود به، ولا يطرد وجوده إلاّ عدم نفسه، غاية الأمر أنّ هناك ملازمة بين عدم الفرد وعدم سائر الأفراد؛ إذ لا يعقل ثان مثلاً بلا أوّل.

أقول: إنّ التقابل بين الوجود والعدم يكون في عوالم ثلاثة:

الأوّل: هو التقابل بلحاظ العالم الخارجيّ، و هنا يتمّ ما أفاده(قدس سره)فإنّهما بلحاظ العالم الخارجيّ متقابلان بملاك الطارديّة والمطروديّة، فالوجود بلحاظ العالم الخارجيّ يطرد العدم، وكلّ وجود طارد بالذات لعدم نفسه دون شيء آخر وإن كان قد يطرد شيئاً آخر بالعرض كطارديّة الشيء لضدّه.

 


وجود يطرد عدمه البديل له لا عدمه وعدم غيره، فأوّل الوجودات أوّل ناقض للعدم، ونقيضه عدم هذا الأوّل. نعم، لازم هذا العدم الخاصّ بقاء سائر الأعدام على حالها، فإنّ عدم الوجود الأوّل يستلزم عدم الثاني والثالث...، لا أنّه عينها، فما اشتهر من أنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد، وتنعدم بانعدام تمام الأفراد ممّا لا أساس له.

458

الثاني: هو التقابل بلحاظ المفاهيم الأفراديّة في الذهن، كمفهوم الإنسان ومفهوم اللا إنسان، فهما متقابلان لكن لا توجد طارديّة ومطروديّة في المقام، فإنّ نسبتهما إلى عالم الذهن على حدّ سواء، ولا يطرد أحدهما الآخر، و إنّما تقابلهما يكون على حدّ تقابل كلّ مفهوم مع مفهوم آخر، كتقابل مفهوم الإنسان مع مفهوم الحجر مثلاً.

الثالث: التقابل بلحاظ عالم القضايا والأحكام، فمثلاً ما مضى من مفهوم الإنسان واللا إنسان تارةً نتصوّرهما بما هما مفهومان ذهنيّان، فهما يتقابلان تقابل كلّ مفهوم مع مفهوم آخر، وهذا ما مضى في لحاظ العالم الثاني، واُخرى نتصوّرهما بما هما مرآتان للخارج بعنوان حكايتهما عن الخارج، فيكونان حصيلتي قضيّتين وهما: الإنسان موجود، والإنسان ليس بموجود، والتقابل بين هذين الأمرين وهاتين القضيّتين أيضاً ليس بملاك الطارديّة والمطروديّة، فإنّ نسبتهما إلى الذهن وكذلك إلى الخارج على حدّ سواء، لكنّه يقع التقابل بينهما في الصدق أو في الصدق والكذب على اختلاف الموارد، فإنّه يختلف مثلاً تقابل الموجبة الكلّيّة مع السالبة الجزئيّة عن تقابلها مع السالبة الكلّيّة، فالأوّل بلحاظ الصدق والكذب، والثاني بلحاظ الصدق فقط.

وحينما يقول المولى: (صلِّ)، أو يقول: (لاتصلِّ) فكأنّه يقول: اجعل قضيّة (الصلاة موجودة) صادقة، أو يقول: اجعل قضيّة (الصلاة غير موجودة) صادقة، فتحقيق الحال هنا يرجع إلى أن نرى أنّ قضيّة (الصلاة موجودة) هل تصدق بوجود فرد واحد أو لا تصدق إلاّ بوجود تمام الأفراد؟، وقضيّة (الصلاة ليست موجودة) هل تصدق بعدم فرد واحد أو لا تصدق إلاّ بعدم تمام الأفراد؟ وكلام المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) كما ترى غير مربوط بذلك، وإنّما هو مربوط بالتقابل في العالم الأوّل.

459

وبكلمة اُخرى: إنّ التقابل المؤثّر في المقام ليس بمعنى الطارديّة والمطروديّة حتّى يقال: إنّ كلّ وجود لا يطرد إلاّ عدم نفسه، فوجود الفرد الواحد للطبيعة لا يقابله كلّ الأعدام، وإنّما هو التقابل في الصدق والكذب، حيث إنّ الأمر بالصلاة في قوّة الأمر بجعل قضيّة (الصلاة موجودة) صادقة، والنهي عنها في قوّة طلب جعل قضيّة (الصلاة غير موجودة) صادقة لا في قوّة أن يحفظ عدم واحد عن شمول الطرد إيّاه.

ولا يصدق عدم وجود الصلاة بمجرّد إبقاء بعض الأعدام وعدم طرده، وإنّما يصدق بانتفاء تمام الأفراد، في حين أنّه يكفي في صدق وجود الصلاة وجود فرد واحد، أي: أنّ ما أفاده المشهور من أنّ الطبيعة توجد بوجود واحد ولا تنعدم إلاّ بانعدام تمام أفرادها صحيح.

وتوضيح ذلك: أنّ الوجود والعدم لا يعرضان على أفراد الطبيعة؛ إذ لا أفراد للطبيعة إلاّ بلحاظ الوجود، وإنّما يعرضان ابتداءً على أصل الطبيعة، ففي المرتبة السابقة على الوجود والعدم لا يكون هناك أفراد، وإنّما تكون هناك الطبيعة وتكون أيضاً حصص الطبيعة، والوجود والعدم يعرضان على طبيعة الصلاة مثلاً، وعلى حصّة من حصصها كالصلاة في المسجد أو الصلاة في البيت ونحوهما، ونسبة الحصّة إلى أصل الطبيعة هي نسبة الكلّ إلى الجزء، فإنّ مفهوم الحصّة مركّب من مفهوم الصلاة ومفهوم تقيّدها بقيد، فمفهوم الصلاة في المسجد مثلاً التي هي حصّة من طبيعة الصلاة مركّب من أصل مفهوم الصلاة ومن مفهوم كون الصلاة في المسجد، والجزء الثاني أخصّ من الجزء الأوّل.

هذا، وهناك قضيّتان ضروريّتان متّفق عليهما بيننا وبين المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره): إحداهما: أنّ الوجود العارض على المجموع المركّب ينسحب على تمام أجزاء ذاك المركّب. والاُخرى: أنّ العدم العارض على المركّب لا ينسحب على تمام أجزاء المركّب، بل يكفي في عدم المجموع عدم جزء من أجزائه. وبهذا البيان