291

المطلوب قبلها، ولو لم يثبت ذلك في الرتبة السابقة على اللطف إذن أمكن الجواب على شبهة الطاعن على الدين بأنّ هذا إشكال على فتاوى العلماء، ولم يعلم كون رأي الدين متمثّلاً في هذه الفتاوى، فلعلّ رأي الدين يخالف رأي هؤلاء العلماء جميعاً.

الثاني: أنّنا عرفنا بالتجربة أنّ الله تعالى جرت عادته على التلطّف بعباده بعدم حجب المصالح التشريعيّة عنهم، ولذا نرى أنّه أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وجعل أوصياء للرسل، وأمر العلماء بتبليغ الأحكام، والجهلاء بتعلّم الأحكام وما إلى ذلك، ومن هنا نعلم أنّ الحكم المجمع عليه لو كان باطلاً، لتلطّف على عباده بإظهار خلافه.

ويرد عليه: أنّ التجربة في حدود ما رأيناه من سدّ أبواب العدم من ناحية عدم إرسال الرسل والكتب، وجعل الأوصياء، وإيجاب التبليغ على العلماء والتعلّم على الجهّال لا تدلّ على بنائه تعالى على سدّ الباب الناتج من قصور الناس أو تقصيرهم في تلقّي الأحكام وإيصالها للآخرين. هذا مضافاً إلى إشكالات اُخرى تظهر ممّا سبق(1).

 

2 ـ الكشف على أساس العقل النظريّ:

وأمّا المبنى الثاني ـ وهو مبنى كشف الإجماع عن واقع الحكم على أساس العقل النظريّ ـ: فهو يتمّ عند تماميّة فرضين:

الأوّل: أن يعلم ـ ولو بتصريح المجمعين ـ أنّ مصبّ الإجماع هو واقع الحكم لا جامع الوظيفة الملائم لواقع الحكم ولثبوت الحجّة التعبّديّة عليه.

والثاني: أن يكون الحكم المجمع عليه بنحو لو كان الواقع خلافه، لشاع ذلك الواقع وذاع؛ لتوفّر الدواعي إلى ذلك، وقد مرّ توضيح قوانين هذه الفكرة في بحث السيرة.


(1) يظهر ممّا سبق أنّ سدّ أكثر أبواب العدم التي سدّت كان مؤثّراً في المصلحة التي هي في طول الحكم، وهي مصلحة التعبّد والانصياع للمولى، واحتمال الفرق بين هذه المصلحة والمصلحة التي تكون قبل الحكم موجود.

292

مثال ذلك مسألة خمس أرباح المكاسب، فهي مسألة عامّة الابتلاء للشيعة، ووجوب الخمس فيها مؤونة زائدة عليهم وعلى خلاف الطبع، وتتوفّر الدواعي على التفتيش والسؤال عن ذلك، وعلى فرض كون الجواب الصحيح هو النفي فداعي الإجابة على ذلك بشكل واضح وعلنيّ موجود لدى الإمام(عليه السلام)؛ لأنّ الحكم ليس خلاف التقيّة، بل هو على وفق مذاق العامّة وعلى طبق الظروف الخارجيّة التي كان الإمام(عليه السلام) مبتلى بها، إضافة إلى أنّ ارتباط الشيعة في دفع الخمس كان بالإمام(عليه السلام) أو وكلائه على ما يقتضيه طبع هذا الحكم، فإنّ وجوب الخمس ليس حاله حال وجوب قراءة السورة في الصلاة ـ مثلاً ـ الذي هو عمل فرديّ للمصلّي ولا يتطلّب احتكاكاً بالإمام أو وكلائه، وإنّما معنى وجوب الخمس وجوب إعطائه للإمام أو وكلائه، وقد ثبت بالتواتر الإجماليّ أنّه كان للإمام(عليه السلام)وكلاء في البلاد التي كانت تسكن فيها الشيعة، فمع كلّ هذا يكون اختفاء حكم ذلك على الشيعة مستبعداً جدّاً. فهذه كلّها أمارات تدلّ على أنّه لو كان الحكم الواقعيّ هو عدم وجوب الخمس في أرباح المكاسب، لشاع ذلك ولم يعقل وقوع الإجماع من الشيعة على الوجوب، فهذا الإجماع في مثل هذا المورد ـ بالرغم من عدم الاعتماد في موارد اُخرى على الإجماع المحتمل المدركيّة أو المظنون المدركيّة ـ يكون دليلاً قطعيّاً على الحكم، بل لا حاجة في مثل هذا المورد إلى الإجماع وتكفينا الشهرة، فلا يضرّنا نقل الخلاف من ابن أبي عقيل أو شخص آخر في خمس أرباح المكاسب إن صحّ ذلك.

وهناك وجه آخر لدلالة الإجماع بالعقل النظريّ على صحّة متعلّقه لا يختصّ بما إذا كان متعلّقه واقع الحكم، بل يشمل ما إذا كان متعلّقه جامع الوظيفة الملائم أيضاً لفرض وجود حجّة تعبّديّة عليه. فهذا الوجه كما يناسب المقام كذلك يناسب ما سيأتي: من المقام الثاني، ونحن نؤجّل بحثه بكلا شقّيه إلى المقام الثاني؛ إذ لا فرق في الحقيقة في البحث عن ذلك بين الشقّين إلّا في اُمور جزئيّة ننبّه عليها ـ إن شاء الله ـ في ذلك المقام.

293

 

3 ـ الكشف على أساس التعبّد الشرعيّ:

وأمّا المبنى الثالث ـ وهو مبنى الكشف عن الحكم الواقعيّ بالإجماع على أساس التعبّد والدليل الشرعيّ ـ: فالذي ينبغي أن يذكر ممّا يتوهّم كونه دليلاً على ذلك هو ما روي عن طريق العامّة عن النبيّ(صلى الله عليه وآله): من أنّ اُمّته لا تجتمع على ضلالة. وقد وردت روايات عديدة محصّلها ما ذكرناه، وكيفيّة الاستدلال بذلك على وجه يندفع به بعض الإشكالات هي: أنّ ظاهر هذه الرواية أنّ المنافرة تكون بين نفس الاجتماع والضلالة، لا بين شخص معيّن منهم وهو المعصوم والضلالة، ولهذا جعل ذلك من مميّزات هذه الاُمّة. أمّا المعصوم فكان موجوداً في تمام الاُمم، فما اُورد على الاستدلال بذلك: من أنّ الاُمّة لا تجتمع على الخطأ قطعاً؛ لأنّ فيها المعصوم وهو لا يوافق مع غيره على الضلال، غير صحيح؛ فإنّ الظاهر أنّ المقصود بهذا الحديث هو عدم اجتماع غير المعصومين على الضلالة ممّن يتصوّر في كلّ واحد منهم بخصوصه الضلال.

ويرد على الاستدلال بهذه الرواية:

أوّلاً: سقوطها سنداً، ليس عندنا فحسب باعتبار ورودها عن طريق العامّة بواسطة أفراد مجهولة الحال لدينا، بل هي ساقطة حتّى على اُصولهم، فهذه الرواية لم ترد في الصحاح الستّ، وذكرها الحاكم في مستدركه على صحيح البخاريّ ومسلم مشيراً إلى عدم نقاء السند(1).

 


(1) توضيح الكلام في المقام: أنّ الحاكم وإن التزم في مستدركه على العموم بإخراج الأحاديث بأسانيد قد احتجّ بمثلها الشيخان أو أحدهما، ولكن في خصوص المقام أشار

294


إلى ضعف أسانيد هذه الرواية محاولاً العلاج بما لا فائدة فيه. وبيان ذلك: أنّ الحاكم روى في مستدركه هذه الرواية عن ثلاثة: ابن عمر، وابن عبّاس، وأنس بن مالك:

وما رواه عن ابن عمر فقد رواه عن المعتمد بن سليمان بأسانيد سبعة: أوّلها ما يلي: قال: «حدّثنا أبو الحسين محمّد بن أحمد بن تميم الأصمّ ببغداد، حدّثنا جعفر بن شاكر، حدّثنا خالد بن يزيد القرنيّ، حدّثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه، عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): لا يجمع الله هذه الاُمّة على الضلالة أبداً ...».

ثُمّ قال: «خالد بن يزيد القرنيّ هذا شيخ قديم للبغداديّين، ولو حفظ هذا الحديث لحكمنا له بالصحّة»، يعني بذلك: أنّ هذا الحديث من خالد بن يزيد إلى رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) صحيح السند، فلو كان قد وصلنا من خالد بشكل صحيح لتمّ سند الحديث، وهذا ـ كما ترى ـ يعني الضعف في السند بالنسبة للمقطع الواقع بين حاكم وبين خالد.

ثُمّ يسترسل في ذكر باقي الأسانيد إلى المعتمر بن سليمان إلى أن يصل إلى السند الخامس، وهو ما يلي: حدّثنا أبو الحسن عبد الصمد بن عليّ بن حكرم البزاز ببغداد، حدّثنا محمّد بن غالب، حدّثنا خالد بن عبد الرحمن، حدّثنا المعتمر عن سلم ابن أبي الذيال، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر «قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): لا يجمع الله هذه الاُمّة، أو قال: اُمّتي على الضلالة...».

ثُمّ قال: «وهذا لو كان محفوظاً من الراوي ـ يعني المعتمر ـ لكان من شرط الصحيح»، وهذا أيضاً ـ كما ترى ـ تضعيف للمقطع الذي بينه وبين المعتمر.

وأمّا باقي الأسانيد غير الأوّل والخامس فقد وقع فيها شخص بين معتمر بن سليمان

295


وعبد الله بن دينار(1) غير مَن مضى في السند الأوّل وهو أبوه، أو الخامس وهو سلم ابن أبي الذيال. وهذا الشخص عبّر عنه تارةً بأبي سفيان المدينيّ، واُخرى بسفيان أو أبي سفيان، وثالثة بأبي سفيان سليمان بن سفيان المدنيّ، ورابعة بسليمان المدنيّ، وخامسة بسليمان أبي عبدالله المدنيّ.

وقال الحاكم: «قال الإمام أبو بكر ابن محمّد بن إسحاق: لست أعرف سفيان وأبا سفيان هذا».

وقال الحاكم ـ في سبيل التخلّص عن ضعف السند ـ ما مضمونه: إنّ هذه أسانيد سبعة إلى المعتمر بن سليمان، وهو أحد أركان الحديث لا يسعنا أن نحكم أنّ كلّها محمولة على الخطأ، لأجل عدم معرفة سليمان بن سفيان المدنيّ الواقع بين المعتمر وعبد الله بن دينار، ونحن إذا قلنا هذا القول نسبنا الراوي ـ يعني المعتمر ـ إلى الجهالة فوهّنّا به الحديث، ولكنّا نقول: إنّ المعتمر بن سليمان أحد أئمّة الحديث، وقد روي عنه هذا الحديث بأسانيد يصحّ بمثلها الحديث، فلابدّ من أن يكون له أصل بأحد هذه الأسانيد.

أقول: كأنّه يقصد بهذا الكلام أنّ سند الحديث إلى المعتمر ثابت بالاستفاضة أو التواتر، فلا يضرّ ضعف الأسانيد السبعة، ومجهوليّة سليمان بن سفيان المدنيّ عندنا الواقع بين المعتمر وعبدالله بن دينار لا تضرّنا؛ لأنّ المناقشة في السند لأجل هذا الأمر تعني نسبة الراوي ـ أي: المعتمر ـ إلى الجهالة، فلابدّ أن يكون قد سمع هذا الحديث من ثقة، بأن يكون ابن سفيان ثقة أو أن يكون قد رواه عن أبيه، أو عن سلم ابن أبي ذيال كما ورد في بعض النقول السبعة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وفي أحدهما ـ بحسب ما رأيته من النسخة ـ عمرو بن دينار بدلاً عن عبد الله بن دينار، وأظنّه خطأ في النسخ.

296


ولكنّه لا يذكر: أنّه بأيّ دليل كان يجب على المعتمر أن لا يروي إلّا عن ثقة؟! وهل هناك قاعدة تقول: إنّ الثقة لا يروي إلّا عن ثقة بحيث نلتزم بوثاقة كلّ من روى عنه ثقة؟! وهذا ما لم يلتزم به أحد.

ثُمّ قال الحاكم لتأييد حديث المعتمر: «وجدنا للحديث شواهد غير حديث المعتمر لا أدّعي صحّتها ولا أحكم بتوهينها، بل يلزمني ذكرها لإجماع أهل السنّة على هذه القاعدة من قواعد الإسلام». وهنا ينقل الحاكم تارةً الحديث عن ابن عبّاس عن النبيّ(صلى الله عليه وآله)بسندين، والمتن في أحدهما ما يلي: (لايجمع الله اُمّتي أو قال: هذه الاُمّة على الضلالة أبداً، ويد الله على الجماعة). وفي الآخر: (لايجمع الله اُمّتي على ضلالة أبداً، ويد الله على الجماعة).

واُخرى عن أنس بن مالك عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) بسند فيه مبارك أبو سحيم، والمتن كما يلي: (أنّه (صلى الله عليه وسلم) سأل ربّه أربعاً: سأله أن لا يموت جوعاً فاُعطي ذلك، وسأل ربّه أن لا يجتمعواعلى ضلالة فأُعطي ذلك، وسأل ربّه أن لا يرتدّوا كفّاراً فاُعطي ذلك، وسأل ربّه أن لا يغلبهم عدوّهم فيستبيح بأسهم فاُعطي ذلك، وسأل ربّه أن لا يكون بأسهم بينهم فلم يعط ذلك). ثُمّ يقول الحاكم: «أمّا مبارك بن سحيم (يقصد به نفس مبارك أبو سحيم) فإنّه ممّنلا يمشي في مثل هذا الكتاب، لكنّي ذكرته اضطراراً». راجع كتاب المستدرك للحاكم النيسابوريّ، المجلّد الأوّل، ص 115 إلى ص 117 بحسب الطبعة المذيّلة بالتلخيص للحافظ الذهبيّ.

أقول: فقد اتّضح لك أنّ الرواية الواردة عن ابن عمر غير تامّة سنداً حتّى على اُصولهم. وأمّا الواردة عن أنس بن مالك فقد اعترف الحاكم نفسه بأنّ في سندها مَن لا يمشي في مثل كتاب المستدرك وهو مبارك بن سحيم. وأمّا الواردة عن ابن عبّاس فهي مشمولة

297

وأمّا تعدّد الرواية فلا ينفعنا في المقام بدعوى الاستفاضة؛ فإنّنا نحتمل قويّاً اختلاقاً بنكتة عامّة لتصحيح الإجماع الذي تخيّل أنّه يصحّح أساس مذهبهم، ومع احتمال نكتة عامّة في الاختلاق لا يتحقّق شرط الاستفاضة أو التواتر، ولعلّ مَن يلاحظ ظروف نقل هذه الروايات وحال رواتها يزداد ظنّاً باختلاقها بنكتة عامّة في الجميع.

وثانياً: أنّ الضلالة إنّما هي العدول عن الحقّ عن عمد وتقصير، وأمّا مَن خالف حكماً من الأحكام في مسألة من المسائل عن اجتهاد بلا تقصير في ذلك فلا يعدّ من الضالّين، خصوصاً مع رجوعه إلى حكم شرعيّ ظاهريّ في المقام الذي هو حكم الله أيضاً بشأنه بعد عدم وصوله إلى الحكم الواقعيّ، فكيف يعتبر ضالّاً مع أنّه تمسّك بحكم شرعيّ تمّ له موضوعه واقعاً، وهو عدم العلم بالحكم الواقعيّ؟!

 


لقوله: «لا أدّعي صحّتها ولا أحكم بتوهينها»؛ إذ هي ممّا لم تثبت صحّته. وأمّا إذا أراد من سرد هذه الروايات إثبات استفاضتها فهي ـ كما ترى ـ ترجع كلّها إلى روايات ثلاث عن ابن عمر، وابن عبّاس، وأنس بن مالك، فكيف تتمّ الاستفاضة بثلاث روايات؟ هذا إضافة إلى ما ذكره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في المتن: من احتمال اختلاق هذه الروايات بنكتة سياسيّة مشتركة. كما لا يفيدنا أيضاً بعض المراسيل الشيعيّة التي نقلها صاحب كشف القناع(رحمه الله) ـ ص 6 ـ نقلاً عن الاحتجاج وتحف العقول.

وكذلك لا يفيد ما ورد في البحار ـ المجلّد الثامن من المجلّدات القديمة في الفتن والمحن، الباب الخامس، احتجاج أمير المؤمنين(عليه السلام) على أبي بكر في أمر البيعة، الحديث الأوّل: الصفحة 78، نقلاً عن الخصال ـ بسند مشتمل على مجاهيل عن الصادق(عليه السلام)، عن أبيه عن جدّه في قصّة احتجاج عليّ(عليه السلام) على أبي بكر، حيث تمسّك أبوبكر في تلك القصّة بقول رسول الله(صلى الله عليه وآله): «إنّ الله لا يجمع اُمّتي على ضلال»، وعليّ(عليه السلام) ناقشة في الصغرى ولم يناقش أصل الصدور.

298

 

كشف الإجماع عن الدليل التعبّديّ

المقام الثاني: يبحث فيه ـ بعد إضافة ما حوّلناه في المقام الأوّل إليه ـ عن صحّة ما انعقد عليه الإجماع، سواء كان عبارة عن واقع الحكم، أو عن جامع الوظيفة، ونقصد بصحّة الحكم المعنى المناسب أيضاً لفرض قيام الحجّة على الحكم، وطريق الاستدلال على كاشفيّة الإجماع في هذا المقام هو العقل النظريّ.

وقد ذكر الأصحاب: أنّ الإجماع يكشف عن صحّة ما انعقد عليه لو تمّت بينهما ملازمة عقليّة أو عاديّة أو اتّفاقيّة، ومثّلوا للملازمة العقليّة بالتلازم بين التواتر وصحّة الخبر، وللعاديّة بالتلازم بين اتّفاق ا على شيء ورأي رئيسهم؛ إذ عادةً لا يصدر الاتّفاق منهم على شيء إلّا عن رأي الرئيس، وللاتّفاقيّة بالتلازم بين الاستفاضة وصحّة الخبر. وإذا آمنّا بالملازمة الاتّفاقيّة بين الإجماع وصحّة متعلّقه فهو لا يكشف عن صحّة متعلّقه دائماً، كما هو الحال على الفرضين الأوّلين، بل يكشف عنها أحياناً، كما هو الحال في باب الاستفاضة التي قد تورث القطع بمتعلّقها، وقد لا تورث ذلك على اختلاف الموارد والخصوصيّات.

أقول: ما ينبغي أن يقصد بكلمة الملازمة العقليّة والعاديّة والاتّفاقيّة يجب أن يكون هو التقسيم بلحاظ مصبّ الملازمة لا بلحاظ ذات الملازمة وحقيقتها. توضيح ذلك: أنّ الملازمة في الحقيقة دائماً عقليّة، فهي دائماً تكون على أساس العلّيّة والمعلوليّة وهي عقليّة لا محالة، وملازمة شيء لشيء تعني استحالة انفكاكه عنه. نعم، يختلف الأمر باختلاف مصبّ الملازمة بالقياس إلى ما يؤخذ بعين الاعتبار، فتارةً يفترض أنّ الملازمة وقعت بين ذات الشيء وشيء آخر بلا قيد أو شرط، كاستلزام وجود جسم في مكان لعدمه في مكان آخر، وهذه نسمّيها بالملازمة العقليّة، واُخرى يفترض أنّ استلزامه للشيء الآخر مشروط بشرائط وخصوصيّات. وعندئذ تارةً يفترض أنّ تلك الشرائط والخصوصيّات مقترنة

299

للملزوم في عالمنا دائماً أو غالباً، كما في استلزام دوام العمر بمقدار مئة سنة ـ مثلاً ـ للهرم، وهذه هي الملازمة العاديّة، والملازمة في الحقيقة ليست بين ذات دوام العمر بهذا المقدار والهرم، وإنّما هي بين دوام العمر بهذا المقدار ضمن خصوصيّات معيّنة والهرم، وبرفع تلك المقارنات في عالم الآخرة تختفي الملازمة بين العمر والهرم، كما هو الحال في الدنيا أيضاً حينما يتّفق انتفاء تلك المقارنات، كما اتّفق بالنسبة لمولانا صاحب الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف، واُخرى يفترض أنّ مقارنة تلك الشرائط والظروف للملزوم اتّفاقيّة وليست دائميّة أو غالبيّة، كما في استلزام التعايش في البلاد الحارّة للابتلاء بمرض السلّ مثلاً، وهذه هي الملازمة الاتّفاقيّة.

فإذا اتّضح ذلك، قلنا: إنّ حصول العلم من إجماع العلماء، أو تواتر المخبرين، أو استفاضتهم، أو اتّفاق المرؤوسين على رأي ممّا يدلّ على رأي الرئيس، ليس على أساس الملازمة العقليّة، ولا العاديّة، ولا الاتّفاقيّة.

ولتوضيح المطلب نركّز الكلام على أجلى هذه الأمثلة فيما ادّعوه من الملازمة وهو التواتر، فنقول: إنّ تواتر الأخبار بموت زيد يورث القطع بموته، ولكن ليس ذلك على أساس الملازمة بين إخبار هؤلاء وموت زيد؛ وذلك لأنّ خبر كلّ واحد من هؤلاء وحده نحتمل عدم اقترانه بالصدق ولم ندرك ملازمة بينه وبين موت زيد، والفرد المردّد لا وجود له، وجميع الأخبار ليس إلّا عبارة عن نفس تلك الأفراد ولم ندرك تمانعاً بين كذب البعض أو كذب بعض آخر حتّى يصبح المجموع ملازماً للصدق، وعنوان اجتماع آلاف الأكاذيب ليس إلّا أمراً انتزاعيّاً ينتزع من نفس جميع أفراد الكذب، فليس فيه محذور آخر غير محذور الجميع(1).


(1) شرح ذلك بكلّ تفصيل موجود في كتاب الاُسس المنطقيّة للاستقراء لاُستاذنا الشهيد(رحمه الله) فراجع.

300

ولا ينتقض ما ذكرناه بمثل فتح الجيش للبلد، حيث إنّ كلّ فرد منهم وحده غير قادر على فتح البلد ولكنّهم جميعاً يفتحون البلد، فإنّ الملازمة في هذا المثال قائمة على أساس علّيّة عمل هؤلاء لفتح البلد، ومن المعقول أن يكون كلّ فرد منهم جزء العلّة والجميع تمام العلّة، فلا يترتّب الفتح على الفرد؛ لأنّه جزء العلّة لاتمامها، ويترتّب على الجميع؛ لأنّه تمام العلّة. أمّا فيما نحن فيه فليست أخبار هؤلاء علّة لموت زيد حتّى نفرّق في ذلك بين الجميع والفرد بجزء العلّة وتمامها.

إذن، فالكشف القطعيّ للتواتر ليس على أساس الملازمة بأحد أقسامها الثلاثة، وإنّما هو على أساس الاحتمالات، حيث إنّ لاحتمال ثبوت داعي الكذب بالنسبة لكلّ واحد من هؤلاء قيمة خاصّة، وبضرب مجموع القيم بعضها في بعض تظهر قيمة كذب الجميع، وهي ضئيلة جدّاً لا محالة، وحينما يتضاءل الاحتمال في النفس بدرجة معيّنة يذوب في النفس ضمن قواعد وشروط معيّنة(1).

وعين ما ذكرناه في التواتر يأتي بالنسبة لباقي الأمثلة: من اتّفاق المرؤوسين على رأي، والاستفاضة، والإجماع.

وبهذا اتّضح أنّه يجب تغيير منهج البحث في باب الإجماع، فإنّه إذا كان خطأ كلّ واحد من المجمعين محتملاً فالقطع بعدم اجتماعهم على الخطأ لا معنى له، إلّا إذا فرض التمانع بين خطأ البعض وخطأ بعض آخر، ونحن لاندرك تمانعاً من هذا القبيل، فإن كان الإجماع مورثاً للقطع فهذا القطع قائم على أساس حساب الاحتمالات.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ تضاؤل احتمال الاشتباه في باب الإجماع وضعفه متدرّجاً بتكثّر الأفراد أبطأ بكثير من تضاؤل احتمال الاشتباه في باب الإخبار عن الحسّ، وقد يتّفق أن يصل الضعف إلى مرتبة ولا يشتدّ الضعف بعد ذلك بضمّ الأفراد الآخرين بخلاف باب الإخبار.


(1) تفصيل ذلك موكول إلى كتاب الاُسس المنطقيّة للاستقراء لاُستاذنا الشهيد(رحمه الله).

301

 

أهمّ الفروق بين الإجماع والتواتر:

والسرّ في كون تضاؤل احتمال الخطأ في باب الإجماع أبطأ منه في باب الإخبار اُمور عمدتها خمسة:

الأوّل: أنّ أصل الاحتمال الذي يتدرّج في الضعف بحسب ترتيب الضرب بين القيم الاحتماليّة ـ وهو احتمال الاشتباه ـ يكون في باب الاجتهاد والحدس أقوى بكثير منه في باب الحسّ؛ وذلك لحساب احتمالات سابق في كلا البابين، وهو: أنّ أسباب الخطأ في باب الحسّ نادرة، وأسباب الخطأ في باب الحدس والاجتهاد كثيرة.

الثاني: أنّ الاشتباهات حينما تصبّ على مصبّ واحد يكون اجتماعها أضعف منه(1) حينما تصبّ على اُمور متفرّقة، فلو أخبر ثلاثة أشخاص عن كون قبّة معيّنة حمراء ـ مثلاً ـ كان احتمال خطئهم أبعد في الوجدان من احتمال خطأ ثلاثة أشخاص كلّ في إخباره بلون قبّة غير القبّة التي أخبر عنها الآخران.

وهذا يكوّن فارقاً بين باب الحدس وباب الحسّ، ففي باب الإخبار عن الحسّ تكون الاشتباهات غالباً في دائرة واحدة، فلو أخبر جمع كثير عن رؤية زيد في مكان خاصّ فاشتباههم عبارة عن خطأ الكلّ في دائرة واحدة، وهي الصورة التي تنتزع من زيد، أمّا توافق جمع كثير على لزوم قراءة السورة في الصلاة ـ مثلاً ـ إن كان خطأ، فمن المحتمل أن يرجع إلى أخطاء متفرّقة في دوائر عديدة؛ لكثرة المقدّمات الدخيلة في استنباط الرأي، فقد يخطأ هذا في مقدّمة، ويخطأ ذاك في مقدّمة اُخرى، فهذا يتخيّل ـ مثلاً ـ حديثاً مّا صحيحاً سنداً بينما كان ذاك الحديث


(1) هذا إشارة إلى المضعّف الكيفيّ المشروح في كتاب الاُسس المنطقيّة للاستقراء.

302

ضعيف السند، وذاك يتخيّل الحديث الآخر تامّ الدلالة على المطلوب بينما ليس كذلك، وآخر يتخيّل كون المرجع في باب الأقلّ والأكثر الارتباطيّين هو لزوم الاحتياط بينما ليس الأمر كذلك، وهكذا.

الثالث: أنّه في باب الإخبار لا يحتمل عادةً كون إخبار بعض دخيلاً في حسّ الآخر، بينما في باب الاجتهاد كثيراً مّا يؤثّر اجتهاد السابق في اجتهاد اللاحق(1)بحسن ظنّه، وإذا اتّفق جماعة من المجتهدين في عصر على شيء فقد يتابعهم المتأخّرون باعتقاد أنّ هذا المطلب أصبح إجماعيّاً، وأنّ الإجماع حجّة بلا أن يتكلّفوا تصحيح دليل هذه الفتوى، وإذا احتمل بشأن المتأخّر كون إفتائه قائماً على أساس إجماع السابقين فموافقته لهم لا توجب ضعفاً لاحتمال خطئهم، ولا تؤثّر شيئاً إلّا بمقدار قليل لا يذكر. أمّا إذا علم بكون موافقته على هذا الأساس ـ كما لو صرّح به ـ لم يبق لموافقته أثر في تضعيف احتمال خطأ السابقين أصلاً، فإذا كان كلّ الموافقين المتأخّرين من هذا القبيل، لم يؤثّر ذلك في تضعيف احتمال خطأ السابقين.

الرابع: أنّه في باب الحسّ يكون المقتضي للإصابة محرزاً غالباً من الحواسّ الظاهريّة مع المدركات الأوّليّة للعقل، ويبقى فقط احتمال المانع: من رمد في العين، أو وجع في الرأس، أو اشتغال البال ونحو ذلك، بينما في باب الاجتهاد والحدس قد يقع الشكّ في أصل وجود المقتضي للإصابة، كما إذا احتملنا نشوء الخطأ من عدم خلق قدرة فهم النكتة الدقيقة الدخيلة في الاستنباط الصحيح في نفس هذا المستنبط.


(1) فيدخل احتمال خطأ الاجتهاد الثاني في باب الاحتمالات المشروطة. وشرح الكلام فيها موجود في كتاب الاُسس المنطقيّة للاستقراء.

303

الخامس: أنّ احتمال وجود نكتة مشتركة تكون بحيث لو تمّت تفسّر لنا مجموع الصدف يقلّل من استبعاد اجتماع تلك الصدف، فاحتمال اقتران موت زيد بموت عمرو، وبموت بكر، وخالد وغيرهم في وقت واحد يقلّ ضعفه حينما عرفنا ـ مثلاً ـ أنّهم كانوا في سيّارة واحدة، وأنّه من المحتمل موتهم جميعاً بحادث اصطدام، وهذا يفسّر لنا فرقاً آخر بين باب الحسّ وباب الحدس، ففي باب الحسّ قلّما يتّفق فرض نكتة مشتركة يحتمل كونها هي السبب في خطأ الكلّ، كما لو احتملنا أنّ هؤلاء الذين أخبرونا برؤية زيد في مكان خاصّ أخطأوا جميعاً، بنكتة أنّ عمراً تشبّه بزيد وارتدى زيّه ولبس ثيابه وحضر ذاك المكان، أو بنكتة أنّ أخاً لزيد يشبهه تماماً قد حضر ذاك المكان، ففي الغالب لا توجد نكتة عامّة من هذا القبيل توجب خطأ الجميع في الحسّ، وحينما توجد يخفّ ضعف احتمال خطئهم جميعاً، بينما في باب الحدس والاجتهاد يكثر وجود نكتة عامّة توجب خطأ الجميع، وهي عبارة عن نقطة سير الفكر البشريّ في خطّ الاجتهاد والحدس، أو مستوى قوّتهم الفكريّة، أو ظروفهم المشتركة ومعلوماتهم العامّة التي كانوا يعيشونها جميعاً ونحو ذلك، فلو أجمع العلماء الأقدمون على حكم يكون مقتضى قاعدة الترتّب خلافه، فإجماعهم لا يدلّ على ثبوت الحكم على خلاف القاعدة تعبّداً؛ لعدم استبعاد غفلتهم جميعاً عن قاعدة الترتّب بحسب نقطة السير في التفكير التي وصلوا إليها في ذاك الزمان، باعتبار أنّ الترتّب إنّما التفت إليه ـ بحسب سير التأريخ ـ بعد الالتفات إلى باب التزاحم والفرق بينه وبين باب التعارض، ممّا دعا العلماء إلى التفكير في الوظيفة لدى التزاحم وحلّ مشكلاته، فاتّجهت أنظارهم إلى الترتّب، كما أنّ الالتفات إلى التزاحم أيضاً كان متفرّعاً على تولّد التفريعات في الفقه والتوسّع في ذلك ممّا يؤدّي إلى الالتفات إلى موارد تزاحم الأحكام في الفروع. ولعلّ أوّل كتاب كتب في التفريعات هو كتاب المبسوط للشيخ

304

الطوسيّ(رحمه الله) الذي ذكر في أوّله: «أنّ العامّة كانوا يعيبون على الشيعة بعدم كتاب لهم في التفريعات». إذن فلا تستبعد غفلة العلماء جميعاً قبل تأريخ كتاب المبسوط عن نكتة الترتّب التي كان المفروض وصول سير خطّ التفكير الاجتهاديّ إليه بعد حين.

ولا يتوهّم أنّ النكتة الاُولى من هذه النكات الخمس ـ وهي ضعف احتمال الخطأ أساساً في الحسّ وقوّته في الحدس ـ يجب أن ترجع إلى النكات الاُخرى وليست نكتة مستقلّة، فإنّه وإن كان احتمال الخطأ في الحدس أقوى منه في الحسّ، ولكن السبب في ذلك إنّما هو باقي النكات، فلولا عدم إحراز المقتضي للإصابة في باب الحدس واحتمال نكتة عامّة للخطأ في الجميع وغير ذلك، لما كان هناك مبرّر لكون احتمال الخطأ في الحدس أقوى منه في الحسّ.

ولكن الواقع: أنّ المقصود بالنكتة الاُولى التي بيّنّاها هو أنّ الحدس والحسّ هما منظاران ينظر بهما إلى الواقع، والثاني أصفى من الأوّل بكثير بقطع النظر عن باقي النكات. فلنفرض مورداً يكون المقتضي فيه للإصابة محرزاً ويكون الكلام بشأن رأي شخص واحد لا أشخاص عديدة، كي تتأتّى مسألة النكتة العامّة لكلّ الأخطاء، أو تعدّد الدوائر التي وقعت فيها الأخطاء ويكون الكلام في رأي أوّل شخص، كي لا تأتي مسألة الاعتماد على رأي الآخرين، ومع ذلك كلّه يكون احتمال الاشتباه في باب الحدس أقوى منه في باب الحسّ باعتبار أنّ منظار الحسّ أصفى من الحدس، وأنّ الغفلة في باب الحدس أقرب إلى النفس منها في باب الحسّ، كما علم ذلك بالتجربة.

ولا ينبغي إغفال نكتة سادسة في تقييم الإجماع في غاية الأهمّيّة أيضاً، وحسابها بحاجة إلى مزيد تعب في الفحص والتتبّع، وهي: أنّ الإجماعات المتأخّرة عن الشيخ الطوسيّ(رحمه الله) معتمدة على الإجماعات السابقة، والإجماعات

305

السابقة على الشيخ الطوسيّ بحاجة إلى الفحص الكامل عن وصفها كي نطّلع بقدر الإمكان على عدد العلماء الموجودين في تلك الأزمنة في كلّ عصر، ومقدار طول باعهم وسعة اطّلاعهم ومستوى فهمهم وذكائهم، كي يعرف بذلك مدى قيمة إجماعاتهم.

وهذه النكات الستّ هي النكات المهمّة في المقام لإتمام النكات(1)، وقد تكتشف بالتحقيق والتدقيق نكات اُخرى غير مهمّة.

وإذا وجد مورد يسلم فيه الإجماع عن النكات الخمس أو الستّ فيكون مورثاً للقطع، يقع الكلام عندئذ بشأن الإجماع المفترض فيه، تارةً في الإجماع الثابت محصّلاً، واُخرى في الإجماع المنقول:

 

الإجماع المحصّل:

أمّا الإجماع المحصّل: فهناك نقاش صغرويّ فيه، باعتبار أنّنا لسنا قادرين على الاطّلاع على آراء الجميع بالنسبة لأيّ عصر من العصور، ولا نقطع بعدم وجود


(1) أفاد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في الحلقة الثانية من كتابه (دروس في علم الاُصول) ما نصّه:

«ويتأثّر حساب الاحتمالات في الإجماع بعوامل عديدة، منها: نوعيّة العلماء المتّفقين من الناحية العلميّة ومن ناحية قربهم من عصر النصوص. ومنها: طبيعة المسألة المتّفق على حكمها وكونها من المسائل المترقّب ورود النصّ بشأنها، أو من التفصيلات والتفريعات. ومنها: درجة ابتلاء الناس بتلك المسائل وظروفها الاجتماعيّة، فقد يتّفق أنّها بنحو يقتضي توفّر الدواعي والظروف إشاعة الحكم المقابل لو لم يكن الحكم المجمع عليه ثابتاً في الشريعة حقّاً. ومنها: لحن كلام اُولئك المجمعين في مقام الاستدلال على الحكم ومدى احتمال ارتباط موقفهم بمدارك نظريّة موهونة. إلى غير ذلك من النكات والخصوصيّات».

306

فقيه وقتئذ يخالف الرأي الذي وصلنا من ذاك العصر إلّا في الضروريّات وما يتلو تلوها، فكم من فقيه لم يكتب فتواه، وكم ممّن كتب فتواه لم يصل كتابه إلينا. وغاية الأمر أن نفترض أنّ أقوال العلماء الذين وصلت إلينا أقوالهم أورثت لنا القطع بأنّ العلماء الآخرين الذين كانوا واقعين في خطّهم والتلامذة الذين تربّوا على أيديهم أيضاً كانوا يرتأون نفس الرأي، ولكن كيف نعرف آراء الآخرين الذين كانوا معاصرين لأساتذتهم وكانت لهم تحقيقات وأتباع إلّا أنّهم انقرضوا وانتهت مدرستهم وبقي هذا الخط العامّ؟! مثل ما وقع في الزمان القريب، حيث كان الشيخ هادي الطهرانيّ في عصر المحقّق الخراسانيّ والسيّد محمّد كاظم اليزديّ، وكانت له آراء وطلاّب ولكن انقرضت مدرسته وبقي هذا الخطّ الموجود الآن.

ولكن لا يخفى أنّنا لا نؤمن بالإجماع بما هو إجماع على أساس بعض المباني القديمة من الإجماع الدخوليّ أو اللطفيّ كي يقال: من المحتمل كون مَن لم نعرف رأيه هو الإمام، أو من المحتمل كون مَن لم نعرف رأيه مخالفاً لهذا القول، فلم يلزم الإجماع على الخطأ، وإنّما نؤمن بالإجماع على أساس حساب الاحتمالات واستبعاد اشتباه الجميع، فقد يحصل العلم من نفس آراء الجماعة الذين وصلت إلينا آراؤهم(1).

ثمّ إنّنا لو اكتشفنا مدرك الإجماع بتصريحهم بذلك، أو بأيّ طريق آخر: فإن كان المدرك تامّاً عندنا، كفى لنا مدركاً للحكم، وإن كان فاسداً عندنا، فمعنى ذلك


(1) أفاد (رضوان الله عليه) فيما لم أحضره في الدورة الأخيرة ـ على ما نقل عنه ـ: أنّه بما ذكرنا يظهر أنّه قد يتمّ الإجماع حتّى في مورد الخلاف فيما إذا كان المخالف نوع شخص لا يطعن بحساب الاحتمالات، بخلاف ما إذا كان المخالف ممّن هو في صميم المرتكزات الشرعيّة والمتشرّعيّة، كالمفيد والصدوق ونحوهما.

307

أنّنا قطعنا بخطئهم في نكتة إفتائهم بما أفتوا به، فلا معنى لإجراء حساب الاحتمالات لنفي الخطأ، وبالتالي لا يفيدنا إجماعهم شيئاً. وكذلك الحال فيما إذا احتملنا مدركيّة ذاك المدرك لهم، فإنّ معنى ذلك احتمال نكتة إفتائهم بما أفتوا به، ومع فرض احتمال الخطأ بالفعل لا معنى لكاشفيّة الإجماع. نعم، قد ينفعنا حساب الاحتمالات لنفي مدركيّة هذا المدرك، ونستبعد كون جميعهم معتمدين على هذا المدرك الفاسد، وعدم التفاتهم جميعاً ـ من باب الصدفة ـ إلى فساده(1).

وإذا لم نجد ما نحتمل كونه مدركاً للمجمعين فهنا قد يكشف إجماعهم بحساب الاحتمالات عن مدرك صحيح لم يصلنا وبه يثبت الحكم. وتوضيح ذلك(2): أنّنا إذا افترضنا أنّ علماء الإماميّة في عصر الغيبة الصغرى، أو بعده إلى فترة، كزمان المفيد والطوسيّ ممّن يعبّر عنهم بـ (قدماء الأصحاب) قد أجمعوا على رأي واحد ولم نجد لهم مدركاً، فعندئذ يقال: إنّه ليس من المحتمل إفتاء هؤلاء بلا مدرك، فإذا لم يكن من المحتمل غفلة هؤلاء عن أنّ هذا الرأي لا يكون موافقاً للقاعدة كي لا


(1) كما أنّه قد ينفعنا حساب الاحتمالات لإثبات صحّة المدرك الذي تمسّكوا جميعاً به إذا كنّا شاكّين في صحّته وفساده.

وأفاد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) فيما لم أحضره في دورته الأخيرة ـ على ما هو منقول عنه ـ: أنّ كشف الإجماع عن صحّة المدرك الذي تمسّكوا به يبتلي غالباً ببعض نقاط الضعف السابقة. نعم، لو افترضنا أنّ حدوس الفقهاء في المسألة كانت قريبة من الحسّ لكان للتمسّك بذلك وجه، كما إذا استظهروا جميعاً من اللفظ معنىً واحداً من دون إعمال قواعد التعارض والكبريات الظهوريّة المعقّدة، ففي مثل ذلك يحصل الوثوق عادةً بذاك الظهور لولا وجود نكتة خاصّة تمنع عن حصول الوثوق.

(2) من هنا إلى آخر بحث الإجماع المحصّل مأخوذ ممّا نقل عنه (رضوان الله عليه) ممّا لم أحضره في دورته الأخيرة.

308

يحتاج إلى مدرك خاصّ، فعندئذ يحصل الجزم بوجود مدرك لم يصلنا، وهذا المدرك إن كان هو دليلاً لفظيّاً لدوّنوه حتماً في مقام الاستدلال أو في مقام جمع الأحاديث، إذن فالمدرك ليس هو دليلاً لفظيّاً من هذا القبيل، بل هو ارتكاز عامّ في الطبقة التي كانت فوقهم من أصحاب الأئمّة(عليهم السلام)، وهذا الارتكاز يكشف بصورة إجماليّة عن جامع السنّة، أعني: قول المعصوم وفعله وتقريره.

والارتكاز المذكور شيء قريب من الحسّ لو لم يكن حسّيّاً، والخطأ فيه غير محتمل عادةً(1)، فيحصل بذلك القطع بالحكم الشرعيّ لكن ضمن شروط وتحفّظات يجب أخذها بعين الاعتبار.

وهناك إشكالات قد تتّجه إلى حجّيّة الإجماع نذكر منها ما يلي:

الإشكال الأوّل: أنّ فقهاء عصر الغيبة كانوا محرومين من مصاحبة الإمام، فليس إجماعهم كاشفاً عن رأي المعصوم.

والجواب: أنّنا نمتلك وسيطاً بين إجماع الفقهاء الأقدمين ورأي المعصوم، وهو الارتكاز لدى الرواة والأصحاب من المعاصرين للأئمّة(عليهم السلام)بالبيان الذي مضى.

الإشكال الثاني: ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) من أنّ غاية ما يمكن أن يقال في تقريب حجّيّة الإجماع: أنّه من الغريب افتراض إفتائهم بلا رواية، إذن فقد عرفوا رواية تامّة لم تصلنا، ولكن توجد في قبال ذلك غرابة اُخرى، وهي أنّه لماذا لا نرى تلك الرواية في مدوّناتهم؟ على أنّه لا ضمان لنا لافتراض أنّ ما تمّ عندهم من حديث سنداً ودلالة يتمّ عندنا أيضاً سنداً ودلالة لو وصلنا.


(1) يحتمل أن يكون المقصود بذلك أنّ الارتكاز قائم على أساس الحسّ، كما يحتمل أن يكون المقصود به أنّ الإجماع قائم على أساس الإحساس بالارتكاز، وكلاهما صحيح.

309

وقد ظهر جواب هذا أيضاً بما حقّقنا: من أنّ الوسيط بين الإجماع والسنّة هو الارتكاز لا الرواية، وهذا الاستغراب بنفسه دليل على أنّ المدرك لم يكن رواية، بل كان ارتكازاً.

الإشكال الثالث: من قِبَل بعض مَن حصر الدليل الشرعيّ بالكتاب والسنّة بدعوى استفادة ذلك من روايات حصر المرجعيّة بالقرآن والسنّة، والإجماع خارج عن هذا الحصر.

وقد سبق الكلام في هذا الحصر في بحث حجّيّة الدليل العقليّ، ونقول هنا بعد فرض تسليم الحصر: إنّنا لا نرى الإجماع في عرض الكتاب والسنّة، بل نراه كاشفاً بواسطة الارتكاز عن السنّة وهي الحجّة.

هذا. ويمكن تلخيص أهمّ الخصوصيّات التي يجب أن تتواجد حتّى تتمّ كاشفيّة الإجماع في أربعة اُمور:

الأوّل: أن يكون الإجماع مشتملاً على فتاوى الأقدمين من فقهائنا الإماميّة، فإن لم تكن المسألة إجماعيّة عند الأقدمين فلا يفيدنا مجرّد إجماع الفقهاء المتوسّطين.

الثاني: أن لا يعلم استناد أصحاب الإجماع على مدرك معيّن، بل لايحتمل ذلك أيضاً احتمالاً معتدّاً به؛ إذ لو كان كذلك لكان تمحيص هذا الإجماع بتمحيص ذاك المدرك. نعم، قد يكون الإجماع مقوّياً ومؤدّياً لدليليّة الدليل.

الثالث: أن لا تكون هناك قرائن تنفي وجود الارتكاز الذي أردنا كشفه بواسطة الإجماع، وإلّا لكانت مزاحمة لكاشفيّة الإجماع، ومن أمثلة ذلك ما ذكرناه في مسألة طهارة الكتابيّ، حيث استندنا على قرائن عديدة تدلّ على عدم وجود الارتكاز على نجاسة الكتابيّ، من قبيل سنخ الأسئلة الواردة في الروايات على ألسنة الرواة، كالسؤال عن جواز الأكل معهم إذا علمنا بأنّهم يشربون الخمر.

310

الرابع: أن تكون المسألة مسألة لا يترقّب حلّها إلّا ببيان من الشارع، كنجاسة الثعلب مثلاً، أمّا ما كان يترقّب حلّها بغير تصدّي الشارع، كما إذا كانت المسألة عقليّة أو تطبيقيّة، فمن المحتمل أنّ المجمعين اعتمدوا على غير الدليل الشرعيّ.

ثُمّ الإجماع الذي تتوفّر فيه هذه الاُمور قد يكون لمعقده قدر متيقّن وإطلاق، وينبغي أن يلتفت إلى أنّ كاشفيّة الإجماع عن القدر المتيقّن في المعقد أقوى من كاشفيّته بلحاظ الإطلاق، وإن كان الإجماع قائماً على المطلق فإنّ خطأ المجمعين في تشخيص أصل الارتكاز أبعد من خطئهم في حدود هذا الارتكاز. هذا تمام الكلام في الإجماع المحصّل.

 

الإجماع المنقول:

وأمّا الإجماع المنقول ـ بعد فرض الفراغ عن أنّ الإجماع لو كان محصّلاً لكان كاشفاً عن الحكم الشرعيّ ـ: فهنا نتكلّم تارةً في نقل الكاشف وهو الإجماع، واُخرى في نقل المنكشف وهو الحكم اعتماداً على الإجماع، وثالثة في نقل جزء الكاشف بأن ينقل الناقل ـ مثلاً ـ أقوال عشرة من العلماء وكان الكاشف لدينا قول مئة مثلاً، فأضفنا إلى العشرة ما حصّلناه من قول تسعين من العلماء كي يتمّ الكاشف، فالكلام يقع في ثلاثة مسائل:

 

1 ـ نقل الكاشف:

المسألة الاُولى: في نقل الكاشف وهو أقوال العلماء، وثبوت الحكم بذلك يتوقّف على أمرين: أحدهما: حجّيّة هذا النقل لإثبات أقوال العلماء، والثاني: الملازمة بين أقوالهم والحكم الشرعيّ أو ما يقوم مقام الملازمة، كي ننتقل عن هذا الطريق إلى ثبوت الحكم الشرعيّ، أمّا مجرّد أقوال العلماء ما لم ينته إلى الحكم

311

الشرعيّ بالملازمة مثلاً، فمن الواضح أنّه لا معنى لحجّيّتها. فالكلام يقع هنا في مقامين:

المقام الأوّل: في ثبوت أقوال العلماء بخبر الواحد وعدمه. لا إشكال في ثبوتها به إلّا من ناحية كثرة التسامحات الواقعة من قِبَل ناقلي الإجماع، كما أشار إليها الشيخ الأعظم(قدس سره) في الرسائل، وقد اُشير في بعض الكتب إلى أنّ عُشراً من معشار ما وقع من المسامحات كثير فضلاً عن جميعها.

وجميع تلك المسامحات ترجع إلى المسامحة في إحدى نقاط ثلاث:

الاُولى: المسامحة في معقد الإجماع. فالإجماع واقع على كبرى من الكبريات، وهذا الناقل ينقل الإجماع على شيء يراه نتيجة لتلك الكبرى، بينما هي نتيجة لكبرى اتّفاقيّة وصغرى خلافيّة.

والثانية: المسامحة في حدود الإجماع. فالناقل يحصل له القطع بالحكم بسبب مقدار من الأقوال فيسمّي ذلك إجماعاً.

والثالثة: المسامحة في أصل الإجماع. فيرى الناقل ـ مثلاً ـ مقداراً من الأقوال، فيقطع بموافقة الآخرين على ذلك، أو يرى مدرك الحكم في غاية الوضوح، فلا يحتمل مخالفة أحد في ذلك فينقل الإجماع.

ولو اكتفينا بهذا المقدار من البيان في تقريب الإشكال فقد يجاب عليه بأنّ ظاهر كلام الناقل هو نقل الإجماع بلامسامحة، وظهور الكلام حجّة ما لم يثبت خلافه، ففي أيّ مورد عرفنا مسامحة الناقل في النقل يسقط نقله عن الاعتبار، وتبقى لنا الموارد التي لم نعلم فيها بذلك فنتمسّك فيها بظاهر النقل، ولم يثبت تغيّر مصطلحهم في الإجماع بأن يفترض أنّهم أصبحوا يقصدون بالإجماع المعنى المسامحي له، بل الظاهر من كلماتهم في الاُصول بقاؤهم على المصطلح السابق في الإجماع. إذن فما يصدر منهم في الفقه من نقل الإجماع مع المسامحة إنّما هو

312

خروج عن المصطلح ومجاز في التعبير، وليس من باب تغيير المصطلح، وعليه فمهما شككنا في هذا التجوز أخذنا بظاهر الكلام.

ولكن التحقيق: أنّ هذا الإشكال مسجّل على نقل الإجماع؛ وذلك لأنّنا حينما رأينا سبعين بالمئة ـ مثلاً ـ من نقول الإجماع مشتملة على المسامحة أوجب ذلك الاطمئنان بوقوع المسامحة في الجملة ضمن الثلاثين الباقية، فتتعارض الظهورات الثلاثون فيما بينها وتتساقط(1).

لايقال: إنّ العلم الإجماليّ بالتسامح وإن كان موجوداً ولكن يوجد أيضاً في نفس الوقت العلم الإجماليّ بعدم التسامح في بعضها، فيكون نقلهم للإجماع مثمراً عن طريق هذا العلم الإجماليّ.

فإنّه يقال: لو ثبت هذا العلم الإجماليّ لم يكن منجّزاً في المقام؛ لأنّ بعض


(1) بل لا حاجة إلى فرض العلم الإجماليّ في المقام، فإنّ ما شاهدناه: من المسامحة في الموارد السبعين مثلاً، إمّا يعني: كثرة تورّطهم في الخطأ والغفلة في خصوص نقل الإجماع، وبه تسقط أصالة عدم الغفلة العقلائيّة، ودليل حجّيّة خبر الواحد لو كان يدلّ على نفي احتمال الغفلة فإنّما هو أيضاً في حدود أصالة عدم الغفلة العقلائيّة، فهو أيضاً لايشمل المقام، أو يعني: أنّه جرى دأبهم وديدنهم في باب نقل الإجماع على المسامحة في التعبير وإرادة خلاف الظاهر، وعند هذا يسقط البناء العقلائيّ على حجّيّة الظهور، وليس هذا حاله حال مجرّد الظنّ الشخصيّ بالخلاف الذي لا يسقط الظهور عن الحجّيّة، وما ذكرناه هنا هو سنخ ما ذكره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)بالنسبة لفرض جريان دأب الشارع وديدنه على كثرة الاعتماد على المقيّدات والمخصّصات المنفصلة: من أنّ أصالة الظهور العقلائيّة تسقط عندئذ، ولكن يبقى لنا التمسّك بسيرة المتشرّعة القائمة على العمل بالعمومات والإطلاقات الشرعيّة، بفرق أنّه فيما نحن فيه ـ وهو الإجماعات المنقولة ـ لا معنى للتمسّك بسيرة المتشرّعة، فتسقط الإجماعات عن الحجّيّة.

313

أطرافه لا يستنبطن إلزاماً جديداً، إمّا لثبوت الإلزام بقطع النظر عن الإجماع، أو لكونه إجماعاً على الترخيص لا الإلزام.

نعم، لو وجد نقل للإجماع سالم عن الطرفيّة للعلم الإجماليّ بالخلاف بسبب الاطّلاع ـ مثلاً ـ على الاهتمام الكثير لناقله بالفحص والتتبّع عن واقع الحال، لم يرد عليه هذا الإشكال.

المقام الثاني: في أنّه بعد فرض حجّيّة نقل الإجماع لو كان ذلك يؤدّي ولو بالملازمة إلى أثر شرعيّ كيف يمكن أن نثبت في المقام الانتهاء إلى الأثر الشرعيّ؟

والإشكال في المقام هو: أنّنا لو بنينا على افتراض الملازمة بين الإجماع والحكم الشرعيّ كان نقل الإجماع نقلاً بالملازمة للحكم الشرعيّ وكان حجّة، ولكنّنا قلنا فيما سبق: إنّ كشف الإجماع والتواتر ونحوهما عن صحّة الحكم المجمع عليه، أو صدق الخبر المتواتر ليس بالملازمة، وإنّما هو بحساب الاحتمالات، وحساب الاحتمالات إنّما يؤثّر أثره في الإجماع أو التواتر المعلومين وجداناً، أمّا مجرّد نقل الإجماع أو التواتر فلا يكوّن لنا حساباً للاحتمال مؤدّياً إلى إثبات صحّة المصبّ. وبتعبير آخر: إنّ الملازمة لم تكن بين الإجماع أو التواتر وصحّة الحكم أو الخبر كي يثبت الثاني بنقل الأوّل، وإنّما كانت الملازمة بين العلم بالإجماع أو التواتر والعلم بصحّة الحكم أو الخبر، ونقل الإجماع والتواتر لم يورث العلم بحسب الفرض.

ويوجد لحلّ هذا الإشكال عدّة طرق:

الأوّل: أنّنا لو بنينا على مبنى جعل الطريقيّة والعلم التعبّديّ، فخبر الواحد الدالّ على التواتر أو الإجماع قد جعل من قِبَل الشارع علماً تعبّداً، ومعنى ذلك ترتيب تمام آثار العلم وفرض أنفسنا عالمين بما أخبر به الثقة. فيثبت بذلك تعبّداً العلم

314

بصحّة الخبر أو الحكم الشرعيّ؛ إذ لو كنّا عالمين حقّاً بالتواتر أو الإجماع لعلمنا بصحّة الخبر أو الحكم الشرعيّ بلا إشكال.

ويرد عليه: أنّنا لو سلّمنا مبنى جعل الطريقيّة فنتيجته ـ كما يتّضح بمراجعة ما مضى في بحث قيام الأمارات مقام العلم ـ إنّما هي التنجيز والتعذير المترتّبين على العلم الطريقيّ، والتعبّد بالآثار الشرعيّة المترتّبة على العلم الموضوعيّ، دون التعبّد بالآثار والملازمات التكوينيّة للعلم، فمن كان علمه بحياة ولده يورث له السرور، ودلّ خبر الواحد على حياته لم يكن معنى حجّيّة هذا الخبر أن يتعبّد بكونه مسروراً ويرتّب الآثار الشرعيّة للسرور مثلاً.

الثاني: أنّه وإن لم تكن هناك ملازمة بين الإجماع أو التواتر وصحّة المصبّ ولكن تكفينا الملازمة بين العلم بالإجماع أو التواتر والعلم بصحّة المصبّ؛ لأنّ إخبار الثقة بالإجماع أو التواتر كاشف عن استعداده للإخبار بالحكم أو الخبر، وهذا الإخبار وإن لم يكن إخباراً عن الحسّ، لكنّه إخبار عن حدس يقرب من الحسّ، وهو الحدس الذي يشترك فيه جميع الناس وهو حجّة بلا إشكال. وهذا البيان إنّما يتمّ فيما إذا كان ما نقله: من الإجماع أو التواتر، بمستوى لو ثبت لأوجب لدى عامّة الناس العلم بصحّة المجمع عليه أو الخبر المتواتر، دون ما لو كان بمستوى يراه بعض الناس تواتراً مفيداً للعلم أو عدداً كافياً من آراء الفقهاء للحدس القطعيّ بالحكم، ولا يراه عامّة الناس كذلك؛ إذ عندئذ لو فرضنا أنّ الناقل كان ممّن يرى كفاية ذلك في ثبوت الحكم أو الخبر فلا يعدو إخباره عن كونه إخباراً عن حدس غير قريب من الحسّ.

ولو كان ما نقله: من الإجماع أو التواتر، بمستوى يوجب العلم لعامّة الناس بصدق الخبر أو صحّة الحكم، كفى ذلك في ثبوت الخبر والحكم، ولو فرض الناقل صدفة غير قاطع بصحّة الخبر المتواتر أو الحكم المجمع عليه لابتلائه بالوسوسة

315

وكونه بطيئاً في حصول القطع والقناعة؛ لأنّ العبرة في باب حجّيّة خبر الثقة إنّما هي باستعداده للتأكيد على الخبر على تقدير الحالة الاعتياديّة للعقلاء. وهذا حاصل في المقام، ولا يضرّ بذلك عدم تأكّده هو من الخبر على أساس وسوسة غير اعتياديّة.

أمّا إذا افترضنا أنّ ما أخبر به: من عدد آراء العلماء وأخبار الناس، لم يكن كافياً لدى عامّة الناس ـ على تقدير علمهم به ـ لحصول العلم بالمجمع عليه أو المخبر به، ولكنّه كان كافياً لذلك لدى بعض الناس ومنهم المنقول إليه، ففي حدود هذا المقدار من البيان الذي بيّنّاه تأتي شبهة أنّ هذا لا يكفي لإثبات الحكم أو الخبر سواء اقتنع الناقل بذلك أو لا، أمّا إذا لم يقتنع الناقل به فواضح؛ إذ ليس لديه إخبار بالحكم أو الخبر، وليس عدم قناعته به لأجل وسوسة غير اعتياديّة؛ لما افترضناه: من أنّ المقدار المنقول لايكفي التأكّد منه لدى عامّة الناس لحصول العلم بمصبّ الإجماع أو الخبر، وأمّا إذا اقتنع الناقل به فلا يعدو إخباره بذلك عن كونه إخباراً عن حدس غير قريب من الحسّ.

الثالث: أنّ نقل الإجماع أو التواتر أو نحو ذلك ممّا لو ثبت بالعلم المنقول إليه لَعَلِم بالحكم أو الخبر كاف لثبوت ذاك الحكم أو الخبر لديه، سواء كان ثبوت ذلك لدى عامّة الناس كافياً للعلم بالحكم أو الخبر، أو لم يكن كذلك إلّا لدى بعض الناس. وتوضيح ذلك: أنّه لا يحتمل عدم تحقّق ذاك الحكم أو الخبر إلّا من زاويتين:

الاُولى: أن يكون ما نقل إليه من الإجماع أو التواتر غير ثابت في الواقع.

والثانية: عدم ثبوت الحكم أو الخبر رغم الإجماع والتواتر.

والاحتمال الثاني مرفوض من قِبل المنقول إليه بالقطع واليقين بحسب الفرض، والاحتمال الأوّل منفيّ بحجيّة خبر الثقة.