383

آراء الأعلام في المسألة

 

بقي الكلام فيما أفاده الأعلام من الأجوبة عن ذلك، وعمدتها وجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: ما يظهر من كلام الشيخ الأعظم(رحمه الله): من أنّ الاُصول إذا كانت موضوعيّة فهي حاكمة(1) على وجوب الالتزام؛ لأنّها ترفع موضوع الحكم الذي يجب أن يلتزم به.

وإذا كانت حكميّة، وكان وجوب الالتزام حكماً شرعيّاً(2) مترتّباً على تلك الأحكام التي نفتها الاُصول، فأيضاً تكون الاُصول حاكمة على وجوب الالتزام؛ لأنّها نفت موضوعه، وهو الحكم الذي يجب الالتزام به. نعم، إذا كانت الشبهة حكميّة، وكان وجوب الالتزام حكماً عقليّاً، أصبح وجوب الالتزام مانعاً عن جريان الاُصول، ولا يمكن تقديم الاُصول عليه بالحكومة؛ فالاُصول لاتحكم على وجوب الالتزام لا مباشرة برفع موضوعه ـ (وهو الحكم الذي يجب الالتزام به)؛ لأنّ الحكومة إنّما تعقل بين أحكام حاكم واحد، ولا تعقل حكومة(3) حكم شرعىّ على حكم عقلىّ ـ ولابواسطة حكومتها على الحكم الذي يجب الالتزام به برفع موضوعه؛ لأنّ المفروض أنّ الأصل حكمىّ، وليس موضوعيّاً(4).

ويرد عليه: أنّ وجوب الالتزام إن فرضناه وجوباً شرعيّاً موضوعه الأحكام الشرعيّة، فالاُصول لاتنفيه بالحكومة؛ فإنّ حكومة الاُصول على الأحكام الواقعيّة ظاهريّة، وليست واقعيّة، ومع العلم بثبوت موضوع وجوب الالتزام واقعاً نعلم بثبوت هذا الوجوب واقعاً، فيجب امتثاله، ولا مورد للحكم الظاهرىّ بهذا اللحاظ.

وإن فرضناه وجوباً عقليّاً، فإن كان معلّقاً على عدم ترخيص الشارع، فالاُصول تنفيه


(1) كلمة (الحكومة) غير واردة هنا في الرسائل، ولعلّ المقصود هو الجامع بين الحكومة والورود.

(2) الموجود فيما عندي من نسخة الرسائل هو دعوى تقديم الاُصول على وجوب الالتزام في الشبهات الحكميّة ـ أيضاً ـ برفع موضوعه، من دون تفصيل بين كون وجوب الالتزام شرعيّاً أو عقليّاً.

(3) لا تعقل الحكومة في طرف التضييق بمعناها الخاصّ لا بالمعنى الشامل للورود، وأمّا الورود فمعقول إذا كان حكم العقل تعليقيّاً، أي: معلّقاً على عدم الترخيص.

(4) وحتّى لو كان موضوعيّاً لا تعقل الحكومة بالمعنى الخاصّ على حكم عقلىّ برفع موضوعه. نعم، تعقل الحكومة بالمعنى الشامل للورود فيما لو فرض الرفع حكماً واقعيّاً لا ظاهريّاً، أو فرض حكم العقل بوجوب الالتزام تعليقيّاً.

384

بالورود بلا فرق بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة، وإن كان تنجيزيّاً، فلايمكن رفع هذا الحكم العقلىّ التنجيزىّ بالاُصول، لا ابتداءً ولا برفع موضوعه وهو الحكم الواقعىّ: أمّا الأوّل فلأنّ المفروض تنجيزيّة الحكم العقلىّ في المقام، وكون العلم الإجمالىّ علّة تامّة لوجوب الالتزام، وأمّا الثاني فلما قلنا: من أنّ حكومة الاُصول على الأحكام الواقعيّة ظاهريّة(1)، والمفروض الفراغ من عدم المنافاة بين الحكم الواقعىّ والظاهرىّ. ولعلّه(رحمه الله)يشير إلى ما ذكرناه في نفي حكومة الاُصول على وجوب الالتزام بما ذكره في آخر عبارته من قوله: (ولكنّ التحقيق: أنّه لو ثبت هذا التكليف، أعني: وجوب الأخذ بحكم الله والالتزام مع قطع النظر عن العمل، لم تجر الاُصول؛ لكونها موجبة للمخالفة العمليّة


(1) أمّا لو كانت واقعيّة، فلامعنىً ـ أيضاً ـ للحكومة بمعناها الخاصّ على الحكم العقلىّ بتقليصه عن طريق نفي موضوعه تعبّداً، ولا فرق في عدم معقوليّة الحكومة بالمعنى الخاصّ بين الحكومة بالمباشرة بنفي موضوع وجوب الالتزام وهو الحكم الشرعىّ تعبّداً، والحكومة بواسطة الحكومة على الحكم الشرعىّ الذي يجب الالتزام به بنفي موضوع الحكم الشرعىّ تعبّداً. نعم، لو كان نفي موضوع الحكم الشرعىّ تعبّداً واقعيّاً لا ظاهريّاً، أنتج ذلك بالحكومة نفي الحكم الشرعىّ واقعاً، ويكون هذا وارداً على حكم العقل بوجوب الالتزام بالحكم الشرعىّ برفع موضوعه تكويناً.

وعلى أيّ حال، فلاإشكال في أنّ حكم العقل بوجوب الالتزام لو كان تنجيزيّاً، لم يعقل رفعه بالاُصول؛ لأنّه خلف تنجيزيّته، ولو كان تعليقيّاً، ارتفع بالاُصول.

ولعلّ هذا هو مقصود صاحب الكفاية(رحمه الله) فيما جاء في نسخة (حقائق الاُصول) من قوله بعد بيان عدم المانع عن جريان الاُصول من قبل لزوم الالتزام: «كما لا يدفع بها محذور عدم الالتزام به، إلّا أن يقال: إنّ استقلال العقل بالمحذور فيه إنّما يكون فيما إذا لم يكن هناك ترخيص في الإقدام والاقتحام في الأطراف، ومعه لا محذور فيه، بل ولا في الالتزام بحكم آخر».

إلّا أنّ نسخة المشكينىّ تشير إلى بيان مسألة عدم رافعيّة الاُصول لوجوب الالتزام لو كان تنجيزيّاً في صياغة الدور، حيث جاءت العبارة كما يلي:

«كما لا يدفع بها محذور عدم الالتزام به، بل الالتزام بخلافه لو قيل بالمحذور فيه حينئذ أيضاً، إلّا على وجه دائر؛ لأنّ جريانها موقوف على عدم محذور في عدم الالتزام اللازم من جريانها، وهو موقوف على جريانها بحسب الفرض. اللّهمّ، إلّا أن يقال: إنّ استقلال العقل بالمحذور فيه...» إلى آخر ما مضى.

وهناك نسخة ثالثة بناءً على ما ذكره المشكينىّ(قدس سره) في تعليقته حذفت فيها تمام العبارة، وذكر المشكينىّ(رحمه الله)أنّ اُستاذه نقل: أنّ المحقق الخراسانىّ ضرب القلم على هذه العبارة.

أقول: إنّ بيان الإشكال على رفع وجوب الالتزام بجريان الاُصول بناءً على تنجيزيّته في صياغة الدور لابأس به؛ فإنّ جريان الاُصول متوقّف على عدم حكم العقل تنجيزيّاً بوجوب الالتزام، فلو كان هو في نفس الوقت رافعاً لذلك، للزم الدور، إلّا أنّنا لسنا بحاجة إلى إشكال الدور؛ فإنّ حكم العقل إن كان تنجيزيّاً، فنفس تنجيزيّته كافية في وضوح عدم ارتفاعه بالاُصول؛ لأنّ ذلك خلف تنجيزيّته، وإن كان تعليقيّاً، فيرتفع لا محالة بجريان الاُصول بلا لزوم دور في المقام.

385

للخطاب التفصيلىّ، أعني: وجوب الالتزام بحكم اللَّه، وهو غير جائز حتّى في الشبهة الموضوعيّة كما سيجيء، فيخرج عن المخالفة العمليّة).

الوجه الثاني: ما جاء في (الدراسات): من أنّه لا يجب الالتزام بالحكم بعنوانه التفصيلىّ حتّى يمنع ذلك عن جريان الاُصول في الأطراف، بل يكفي الالتزام به بعنوانه الإجمالىّ.

وهذا الجواب غير صحيح، سواء قرّبنا المانعيّة بفرضيّة: أنّ جريان الاُصول ينافي وجوب الالتزام، أو قرّبناها بفرضيّة أنّ إجراء الاُصول يجعل الالتزام بالحكم المعلوم غير ممكن.

أمّا على التقريب الأوّل، فأجنبيّة الجواب الذي ذكره عمّا نحن فيه في غاية الوضوح؛ فإنّ من يرى مانعيّة وجوب الالتزام عن جريان الاُصول بهذا التقريب يرى أنّ جريان الاُصول في تمام الأطراف والترخيص فيها جميعاً يوجب الترخيص في ترك الامتثال الجنانىّ للحكم المعلوم ثبوته في أحد الأطراف، ومن المعلوم: أنّه لا فرق في ذلك بين فرض كون الامتثال الجنانىّ عبارة عن الالتزام بالحكم بعنوانه التفصيلىّ وفرض كونه عبارة عن الالتزام بالحكم بعنوانه الإجمالىّ(1). ولعلّ نظر السيّد الخوئىّ في الجواب إلى التقريب الثاني من تقريبي المانعيّة، لا التقريب الأوّل الذي تكون أجنبيّة الجواب عنه في غاية الوضوح.

وأمّا على التقريب الثاني، فالصحيح ـ أيضاً ـ أنّ الجواب المذكور في غير محلّه؛ فإنّ منشأ دعوى التنافي بين الاُصول والالتزام هو توهّم أنّ الالتزام بشيء مع التعبّد بضدّه ظاهراً التزام بالضدّين(2)، مع توهّم أنّ الالتزام بالضدّين محال. وهذا ـ أيضاً ـ لا يفرّق فيه بين فرض الالتزام بالعنوان التفصيلىّ والالتزام بالعنوان الإجمالىّ؛ فإنّ الالتزام بشيء سواء كان بعنوانه التفصيليّ، أو الإجمالىّ مع الالتزام بما يضادّه التزام بالمتضادّين المفروض استحالته.


(1) لو قصد بالالتزام بالحكم بعنوانه الإجمالىّ الالتزام بالجامع، وقيل: إنّ الاُصول في الأطراف إنّما تنفي وجوب الالتزام بخصوصيّة الأفراد، فالإشكال غير وارد.

(2) أو اعتقاد أنّ الأصل يوجب علينا ظاهراً الالتزام بواقعيّة الحكم المنافي للمعلوم بالإجمال، كما يتّجه ذلك على بعض الشقوق، وقد مضى.

386

الوجه الثالث: ما ذكره المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله)، وإليك نصّ عبارته:

«ثمّ لا يذهب عليك أنّه على تقدير لزوم الموافقة الالتزاميّة ـ لو كان المكلّف متمكّناً منها ـ تجب ـ ولو فيما لا يجب عليه الموافقة القطعيّة عملاً، ولا يحرم المخالفة القطعيّة عليه كذلك أيضاً؛ لامتناعها، كما إذا علم إجمالاً بوجوب شيء أو حرمته ـ للتمكّن من الالتزام بما هو الثابت واقعاً والانقياد له والاعتقاد به بما هو الواقع والثابت، وإن لم يعلم أنّه الوجوب أو الحرمة. وإن أبيت إلّا عن لزوم الالتزام به بخصوص عنوانه، لما كانت موافقته القطعيّة الالتزاميّة ـ حينئذ ـ ممكنة، ولما وجب عليه الالتزام بواحد قطعاً؛ فإنّ محذور الالتزام بضدّ التكليف عقلاً ليس بأقلّ من محذور عدم الالتزام به بداهة، مع ضرورة أنّ التكليف لو قيل باقتضائه للالتزام، لم يكد يقتضي إلّا الالتزام بنفسه عيناً، لا الالتزام به أو بضدّه تخييراً. ومن هنا انقدح: أنّه لا يكون من قبل لزوم الالتزام مانع عن إجراء الاُصول الحكميّة أو الموضوعيّة في أطراف العلم، لو كانت جارية مع قطع النظر عنه».

وظاهر العبارة أنّ كلمة «من هنا» في آخر عبارته إشارة إلى كلّ ما مضى، إذن فمقصوده(رحمه الله) هو الجواب عن مشكلة مانعيّة وجوب الالتزام عن جريان الاُصول:

أوّلاً: بأنّ الالتزام الواجب إنّما هو الالتزام بالواقع على إجماله، لا الالتزام به بعنوانه التفصيلىّ، والالتزام بالواقع على إجماله لا ينافي جريان الاُصول.

وثانياً: بأنّه لو تنزلنا وافترضنا كون الواجب هو الالتزام بالواقع بعنوانه التفصيليّ: «لما كانت موافقته القطعيّة الالتزاميّة ـ حينئذ ـ ممكنة؛ ولما وجب عليه الالتزام...» إلى آخره.

إلّا أنّ المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) فسّر العبارة بتفسير غريب، وهو: أنّه مع الاعتراف بأنّ الواجب هو الالتزام بالواقع على إجماله يصبح وجوب الالتزام مانعاً عن جريان الاُصول؛ لأنّ وجوب الالتزام ثابت حتّى في حالة دوران الأمر بين المحذورين، فيمنع عن جريان الاُصول على رغم عدم محذور عملىّ؛ لعدم إمكانيّة الموافقة القطعيّة ولا المخالفة القطعيّة، أمّا إذا افترضنا أنّ الواجب هو الالتزام بالواقع بعنوانه التفصيلىّ، إذن لا يشكّل هذا محذوراً عن جريان الاُصول في موارد دوران الأمر بين المحذورين؛ إذ على هذا الفرض «ما كانت موافقته القطعيّة الالتزاميّة ـ حينئذ ـ ممكنة...» إلى آخر عبارة الكفاية.

387

وعلى أىّ حال، فلو كان مقصود صاحب الكفاية هو الذي نحن فهمناه من عبارته: من افتراض عدم وجوب الالتزام بالعنوان التفصيلىّ، وكفاية الالتزام بالواقع على إجماله جواباً مستقلّاً عن مانعيّة وجوب الالتزام عن إجراء الاُصول، فهذا هو عين الجواب الذي نقلناه عن الدراسات، وقد عرفت تعليقنا عليه.

أمّا الذي نريد بحثه هنا، فهو جوابه عن تقدير وجوب الالتزام بالواقع بعنوانه التفصيلىّ.

وظاهر عبارته(رحمه الله): أنّه على هذا التقدير له جوابان. إلّا أنّ الذي يقتضيه الفنّ هو أن يكونا شقّين لجواب واحد عن فرضين مختلفين، بأن يقال:

تارة يفترض أنّ التكليف يتطلّب الالتزام به بعينه، ولكنّنا نتنزّل من الموافقة القطعيّة إلى الموافقة الاحتماليّة بالالتزام بأحد الطرفين؛ لعدم القدرة على الموافقة القطعيّة باعتبار استحالة الالتزام بالضدّين.

واُخرى يفترض أنّ التكليف ابتداءً لا يتطلّب عدا الالتزام به، أو بضدّه تخييراً.

فإن فرض الأوّل، قلنا: إنّ الالتزام بأحدهما كان موافقة التزاميّة احتماليّة، لكنّه في نفس الوقت يحتمل أن يكون التزاماً بضدّ التكليف، وليس محذور الالتزام بضدّ التكليف عقلاً بأقلّ من محذور عدم الالتزام بالتكليف.

وإن فرض الثاني، قلنا: إنّ إشكال حرمة الالتزام بضدّ التكليف لايكون وارداً؛ لأنّ المفروض أنّ التكليف هو الذي يتطلّب منّا تخييراً الالتزام به أو بضدّه، إلّا أنّ هذا الفرض في نفسه ضرورىّ البطلان؛ بداهة أنّ التكليف لو كان يقتضي الالتزام، فإنّما يقتضي الالتزام به عيناً، لا الالتزام به أو بضدّه تخييراً.

ويرد عليه: أنّ فرضيّة عدم كون محذور الالتزام بضدّ التكليف عقلاً أقلّ من محذور عدم الالتزام بالتكليف، لا تكفي لإسقاط وجوب الالتزام في المقام. نعم، يمكن إسقاطه لو فرض كون محذور الالتزام بضدّ التكليف أقوى، أمّا مع التساوي فستترجّح كفّة وجوب الالتزام بالتكليف على كفّة قبح الالتزام بضدّ التكليف؛ لأنّ في ترك الالتزام بشيء من الحكمين مخالفة قطعيّة لوجوب الالتزام، وفي الالتزام بأحدهما مخالفة احتماليّة لقبح الالتزام بضدّ التكليف، والمخالفة الاحتماليّة أهون من المخالفة القطعيّة.

388

توضيح ذلك(1) أنّنا تارة نتكلّم على مبنى علّيّة العلم الإجمالىّ لوجوب الموافقة القطعيّة وتعلّقه بالواقع، واُخرى على مبنى اقتضائه وتعلّقه بالجامع. أمّا على الثاني فلا تزاحم بين الحقّين أصلاً؛ لتمكّنه من الموافقة القطعيّة لكليها: بأن يلتزم بالجامع، ولا يلتزم بخصوصيّة أحد الفردين.

فالذي ينبغي فرضه في المقام هو المبنى الأوّل الذي هو مبنى المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله). وعليه نقول: إنّ هناك حقّين عقليّين للمولى قد تزاحما:

الحقّ الأوّل: هو حقّ الالتزام بحكم المولى، وبعد فرض عدم إمكان الموافقة القطعيّة بالالتزام بالضدّين، وفرض بقاء هذا الحقّ، وعدم سقوطه على رغم عدم إمكان الالتزام بالضدّين، لابدّ من افتراض تبدّل محور الحقّ، وتنزّله من الالتزام بالحكم بنحو الموافقة القطعيّة إلى الالتزام به بنحو الموافقة الاحتماليّة، وذلك بغضّ النظر عن الحقّ الثاني المزاحم لهذا الحقّ، وبمجرّد نكتة عدم إمكانيّة الموافقة القطعيّة وبقاء الحقّ في نفس الوقت.

الحقّ الثاني: هو حقّ ترك الالتزام بضدّ التكليف، وهذا الحقّ بغضّ النظر عن مزاحمه،


(1) هذا التوضيح في الحقيقة جواب عن إشكال قد يورد في المقام: وهو أنّ المخالفة القطعيّة لوجوب الالتزام بالواجب توأم مع الموافقة القطعيّة لحرمة الالتزام بضدّ الواجب، والمخالفة والموافقة الاحتماليّة لأحدهما توأم للمخالفة والموافقة الاحتماليّة للآخر، فالكفّتان متعادلتان.

ويمكن الجواب عن ذلك بوجهين:

الأوّل: ما قد يقال في موارد اشتباه عمل واجب بعمل آخر محرّم: من أنّه يجب التنزّل من الموافقة القطعيّة لأحدهما التوأم للمخالفة القطعيّة للآخر إلى الموافقة الاحتماليّة لكلّ منهما، فإذا كان الأمر كذلك في موارد اشتباه الواجب بالحرام، فكذلك الحال في المقام.

إلّا أنّ هذا غير تامّ في المقام لأمرين:

أوّلاً: أنّ هذا الرأي مبتن على أنّ العلم الإجمالىّ متعلّق بالجامع بحدّه الجامعىّ، لا الواقع بحدّه الواقعىّ، وأنّ العلم الإجمالىّ أصبح بذلك علّة تامّة لوجوب الامتثال بقدر الجامع، إذن فترجح كفّة الموافقة الاحتماليّة لكلا الطرفين المساوقة للإتيان بكلا الجامعين على كفّة الموافقة القطعيّة لأحدهما والمخالفة القطعيّة للآخر، في حين أنّنا في المقام نتكلّم على مبنى تعلّق العلم الإجمالىّ بالواقع، كما جاء توضيح ذلك في المتن.

ثانياً: أنّ كون العلم الإجمالىّ بناءً على تعلّقه بالجامع علّة تامّة لتنجّز الجامع فقط إنّما يعقل في العلم بالتكليف، لا في العلم بالحقّ العقلىّ؛ فإن مفهوم الحقّ قد استبطن فيه التنجّز، فمجرّد احتماله ينجزّه بحدّه الواقعىّ.

الثاني: ما جاء في المتن بتعبير (توضيح ذلك...) إلى آخره.

389

وهو الحقّ الأوّل، ليس فيه تنزّل عن الترك بنحو الموافقة القطعيّة إلى الترك بنحو الموافقة الاحتماليّة؛ وذلك لقدرة المكلّف على الموافقة القطعيّة بترك الالتزام بهما معاً.

فإذا كان الحقّ الأوّل بذاته متنزّلاً إلى حقّ الالتزام بنحو الموافقة الاحتماليّة بخلاف الحقّ الثاني، تبيّن لك: أنّ في الالتزام بأحد الطرفين موافقة قطعيّة لحقّ الالتزام، ومخالفة احتماليّة لحقّ ترك الالتزام بضدّ الواجب، وفي ترك الالتزام بهما معاً موافقة قطعيّة لحقّ ترك الالتزام بضدّ الواجب، ومخالفة قطعيّة لحقّ الالتزام بالواجب. إذن فكلا الفرضين يشتركان في موافقة قطعيّة، ويختلفان في أنّ أحدهما يشتمل على مخالفة احتماليّة، والآخر يشتمل على مخالفة قطعيّة، والمخالفة الاحتماليّة أهون من المخالفة القطعيّة.

إن قلت: بعد البناء على قبح التجرّي يكون للمولى فيما نحن فيه حقوق عقليّة ثلاثة:

1 ـ حقّ الالتزام بأحد الحكمين.

2 ـ حقّ ترك الالتزام بالوجوب.

3 ـ حقّ ترك الالتزام بالحرمة.

وباعتبار وجود التناقض بين متعلّقي الحقّين الآخرين بمجموعهما، ومتعلّق الحقّ الأوّل، يستحيل اجتماع الحقّين الآخرين مع الحقّ الأوّل، لا للتزاحم، وعجز المكلّف عن الجمع فحسب، بل لعدم تعقّل تعلّق الحقّ بالنقيضين في ذاته، فيتساقط الحقّ الأوّل مع أحد الحقّين الأخيرين، ويتحوّل الحقّان الأخيران إلى حقّ ترك الالتزام بأحدهما تخييراً.

قلت: مركز حقّ عدم الالتزام بضدّ الحكم إنّما هو ابتداءً عبارة عن أصل الحكم الواقعىّ المعلوم، ويجب ملاحظة حاله عند التزاحم مع حقّ الالتزام بالتكليف، فلو تقدّم عليه، وصلت النوبة إلى تحقّق حقّين بعدد الموافقتين الاحتماليّتين له، بناءً على كون القبح في الحقيقة للجامع بين التجرّي والمعصية، ولو تقدّم حقّ الالتزام عليه كما عرفت، لم تصل النوبة إلى ذلك(1) هذا.

 


(1) وينبغي ـ أيضاً ـ بيان أنّ مصبّ حقّ وجوب الالتزام بالتكليف ـ أيضاً ـ كان من أوّل الأمر هو ذات التكليف المعلوم، ولكن بما أنّ هذا الحقّ لو بقي محوره عبارة عن ذات التكليف، لوجبت موافقته القطعيّة بالالتزام بكلّ واحد من الحكمين؛ لأنّ مفهوم الحقّ مستبطن لمفهوم التنجّز، واحتمال المنجّز منجّز لا محالة، والاحتمال قائم في كلا الطرفين، في حين أنّ المفروض عدم إمكانيّة الموافقة القطعيّة. فالمفروض: أنّ محوره


390

وكأنّ منشأ اشتباه المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) أنّه لاحظ كلّاً من الفردين على حدة، ورأى أنّ في الالتزام به احتمال حصول الالتزام بالحكم الواقعىّ، واحتمال حصول الالتزام بضدّه، والمفروض: أنّ حسن الأوّل ليس بأشدّ من قبح الثاني.

وعلى أىّ حال، فالذي يهوّن الخطب أنّ عنوان الحرام ليس هو الذي ذكره(قدس سره) في كلامه من الالتزام بضدّ التكليف، بل الذي دلّ على حرمته العقل والنقل هو التشريع الذي يكفي في تحقّقه بالإسناد والالتزام مجرّد الشكّ في كون هذا من الشارع.

ثُمّ إنّ ما أفاده(رحمه الله): من عدم التمكّن من الموافقة القطعيّة بناءً على وجوب الالتزام بالعنوان التفصيلىّ للحكم غير صحيح؛ فإنّ اجتماع الضدّين لاشكّ في استحالته، لكن الالتزام بهما ليس محالاً؛ فإنّ الالتزام بمعنى عقد القلب والاستسلام القلبيّ أمر اختيارىّ للقلب يحصل حتّى تجاه ما يعلم باستحالته كالضدّين، والضدّيّة بين الشيئين لا تسري إلى الالتزامين.

 

 

 

 


قد تبدّل من الواقع المعلوم إلى أحد محتملي الواقعيّة على سبيل التخيير، لا أنّ مصبّ الحقّ ابتداءً كان عبارة عن كلا محتملي الواقعيّة، وسقط أحدهما بالعجز؛ كي يقال: إنّه إذن في مقابل ذلك يكون حقّ ترك الالتزام بضدّ التكليف ـ أيضاً ـ ابتداءً عبارة عن حقّ ترك الالتزام بهذا، وحقّ ترك الالتزام بذاك، فرجعنا إلى فرضيّة الحقوق الثلاثة.

ثُمّ إنّني أعتقد أنّ هذا الإشكال على ما اُعمل فيه من دقّة وتحقيق غير واضح الورود على صاحب الكفاية؛ فإنّه لم يفترض التساوي بين حقّ ترك الالتزام بضدّ التكليف وحقّ الالتزام بنحو الموافقة الاحتماليّة بالتكليف، وإنّما افترض التساوي بين حقّ الالتزام بضدّ التكليف وحقّ الالتزام بذات التكليف، ومن حقّه أن يدّعي أنّ حقّ الالتزام بذات التكليف حينما يتحوّل (على أساس العجز عن الموافقة القطعيّة الالتزاميّة) إلى حقّ الالتزام بنحو الموافقة الاحتماليّة، سيكون الحقّ المتحوّل إليه أخفّ من الحقّ الأصلىّ، وأنزل درجة بقدر ما يوجد من مستوى الفرق بين درجة الموافقة القطعيّة والموافقة الاحتماليّة.

391

بحث القطع

6

 

 

 

الدليل العقلىّ

 

 

 

○ تمهيد.

○ القُصور في عالم الجَعل.

○ القُصور في عالم الكشف.

○ القُصور في عالم الحجّيّة.

 

 

 

 

 

393

الدليل العقليّ

1

 

 

تمهيد

 

 

○  تحرير محلّ النزاع.

○  طرق استنباط الحكم الشرعىّ من العقل.

 

 

395

 

 

 

لنمهّد قبل الدخول في البحث ـ عمّا وقع الخلاف فيه بين الاُصوليّين والأخباريّين من حجّيّة القطع بالأحكام الشرعيّة عن طريق العقل ـ مقدّمتين:

 

المقدّمة الاُولى في تحرير محلّ النزاع

 

إنّ كلمات بعض المتقدّمين في بيان ما هو المراد من الدليل العقلىّ في غاية التشويش، كتفسيرهم ذلك بالاستصحاب، والبراءة، وغير ذلك، إلّا أنّ الصحيح في ضابط محلّ النزاع هو: أنّ الخلاف قد وقع في إمكانيّة الاعتماد على استنباط الحكم الشرعىّ بدليل عقلىّ قطعىّ وعدمها.

وهذا غير النزاع الثابت بين الإماميّة والعامّة في حجّيّة الدلالة العقليّة المتقدّم تأريخيّاً على هذا النزاع، حيث ادّعى السنّة حجّيّة الظنون العقليّة في الاستنباط، ومنع الإماميّة عن ذلك، ولعدم التمييز بين النزاعين اتّهم بعض الأخبارييّن الاُصوليّين باتّباعهم الظنون العقليّة في استنباط الأحكام.

والواقع: أنّ الشيعة بأجمعهم أنكروا حجّيّة هذه الظنون تبعاً لأئمّتهم الذين كثر عنهم الردع عن ذلك، كقولهم: «دين الله لا يصاب بالعقول»، كما أنّه يكفي في عدم حجّيّتها بغضّ النظر عن العمومات والإطلاقات الرادعة عن العمل بالظنّ مجرّد أصالة عدم الحجّيّة.

وبعد هذا تطوّر النزاع إلى نزاع آخر بين الشيعة أنفسهم في مدى إمكانيّة الاعتماد في استنباط الحكم الشرعىّ على دليل عقلىّ مورث للقطع، وليس المقصود بإدراك العقل ـ الذي وقع الخلاف في الاعتماد عليه في استنباط حكم الشرع ـ الإدراكات العقلانيّة بالقوّة الخاصّة من قوى النفس المسمّاة بالقوّة العقليّة عند الفلاسفة، وإنّما المقصود هو: الإدراك المقرون بالجزم، سواء كان حصيلة تلك المرتبة الخاصّة، أو حصيلة سائر المراتب والقوى الموجودة في النفس.

كما ينبغي الإشارة إلى أنّ المقصود هو الإدراك العقلىّ الذي هو في عرض الكتاب والسنّة؛ فإنّ الكلام إنّما هو في استنباط الحكم من العقل على حدّ استنباطه من الكتاب

396

والسنّة، وليس الكلام في الحكم العقلىّ الذي هو في الرتبة المتقدّمة على الكتاب والسنّة، والذي به يثبت وجود الكتاب والسنّة أو حجيّتهما، ولا في الحكم العقلىّ في المرتبة المتأخّرة عن حكم الشرع، كحكمه بحسن الإطاعة وقبح المعصية، فكلّ هذا خارج عن محلّ النزاع. نعم، لو اُريد إثبات وجوب الإطاعة وحرمة المعصية شرعاً عن طريق حكم العقل بحسن الإطاعة وقبح المعصية بناءً على قاعدة الملازمة، فهذا داخل في محلّ النزاع.

والخلاصة: أنّ الأخباريّين يدّعون أنّ العقل ليس دليلاً على الأحكام الشرعيّة في قبال الكتاب والسنّة.

 

المقدّمة الثانية في أقسام أو طرق استنباط الحكم الشرعىّ من العقل

 

قد يقسّم العقل إلى النظرىّ والعملىّ، ويقال في الفرق بينهما: إنّ العقل النظرىّ عبارة عمّا يدرك ما هو واقع في نفسه، كالوجوب والإمكان، والعقل العملىّ عبارة عمّا يدرك ما ينبغي أن يقع، أو يقال:

إنّ الأوّل عبارة عمّا يدرك ما ينبغي أن يعلم، والثاني عبارة عمّا يدرك ما ينبغي أن يعمل.

والأولى أن يقال: إنّ الأوّل عبارة عمّا يدرك الواقع بنحو ليس له اقتضاء التأثير مباشرة في مقام العمل، ولو أثّر في ذلك بالواسطة، كإدراك العقل لوجود الله الذي يؤثّر في مقام العمل بتوسّط إدراك حقّ المولويّة له سبحانه، والثاني عبارة عمّا يدرك ما يقتضي إدراكه التأثير المباشر في العمل، وهو إدراك الحسن والقبح.

والحكم الشرعي تارة يستنبط من العقل النظرىّ بلا دخل للعقل العملىّ في ذلك، واُخرى يكون للعقل العمليّ دخل فيه.

أمّا القسم الأوّل: وهو الذي يستنبط بالعقل النظرىّ بلا دخل للعقل العملىّ فيه، فله طريقان:

الأوّل: تطبيق قوانين الإمكان والاستحالة على الحكم الشرعىّ؛ إذ هو ـ أيضاً ـ من الاُمور الخاضعة لتلك القوانين، وهذا يفيد ابتداءً في مقام نفي حكم شرعىّ محتمل، كأن تنفى ملكيّة الورّاث لمال المورث بالإشاعة بمعنى التبعيض في المملوك، بعد فرض كون

397

نسبة سببيّة موت المورث لملكيّة الوارث إلى تمام الأجزاء على حدّ سواء، وفرض كون بقاء هذه العين بلا مالك خلاف الضرورة الفقهيّة، فيقال ـ حينئذ ـ: إنّ ملكيّة الوارث للتركة بالإشاعة بأحد معنييها: وهو التبعيض في المملوك غير معقولة، سواء فرض المملوك لكلّ فرد من أفراد الوارث جزءاً معيّناً، أو جزءاً مردّداً، أو كلّيّاً في المعيّن:

أمّا الأوّل: فلاستحالة الترجيح بلامرجّح بعد أن فرضنا نسبة سببيّة الموت لملكيّة الوارث إلى تمام الأجزاء على حدّ سواء.

وأمّا الثاني: فلاستحالة الترديد في الواقع ؛ إذ الوجود الواقعىّ مساوق للتشخيص.

وأمّا الثالث: فلاستلزامه بقاء ذات العين بلا مالك، وهو خلاف الضرورة الفقهيّة، إذن فالمعنى الأوّل للإشاعة منفيّ في المقام.

هذا هو كيفيّة استنباط نفي الحكم الشرعىّ من الدليل العقلىّ النظرىّ.

وقد يقع ذلك في طريق استنباط الحكم الشرعىّ في جانب الإثبات؛ وذلك بأن يضمّ ـ مثلاً ـ هذا الحكم العقلىّ باستحالة الإشاعة بهذا المعنى إلى دليل شرعىّ دلّ على سببيّة موت المورث لملكيّة الوارث، ويستنبط من ذلك ثبوت الإشاعة بمعناها الآخر(1).

وخلاصة الكلام: أنّ استنباط الحكم عن طريق تطبيق قوانين باب الإمكان والاستحالة إنّما يفيد بلا واسطة في جانب النفي فقط، وإذا ضمّ إلى دليل شرعىّ دلّ على الجامع بين الممكن والمحال، أفاد تعيّن الممكن.

الثاني: تطبيق قوانين العلّيّة على الحكم الشرعىّ بالمستوى الذي يمكن تطبيقه على الأفعال الاختياريّة، وذلك يكون في ثلاثة أبواب:

1 ـ ما يناسب أن يسمّى بباب (المستقلّات العقليّة): وهو ما إذا كان الحكم الشرعىّ معلولاً لشيء وقد أدرك العقل العلّيّة والعلّة، أو كان الحكم الشرعىّ علّة لشيء وقد أدرك العقل العلّيّة والمعلول:

أمّا الأوّل: فكما لو أدرك العقل المصلحة التامّة في أمر، (أي: مصلحة لا معارض لها)، وأدرك علّيّة ذلك للحكم بقانون تبعيّة الأحكام الشرعيّة للمصالح والمفاسد.

وأمّا الثاني: فكما هو الحال في السيرة العقلائيّة وسيرة المتشرّعة، حيث يستنبط منها الحكم الشرعىّ بعد درك العقل بالقرائن التاريخيّة وغيرها ثبوت هذه السيرة بمرأىً


(1) وهو تصوير ملكيّات متعدّدة ناقصة على مملوك واحد.

398

ومسمع من الشارع، ودركه لكون السيرة معلولة للحكم الشرعىّ، أو كون عدم الردع معلولاً له؛ إذ لولاه لردع الشارع عنها. على تحقيق وتفصيل يأتي في محلّه إن شاء الله تعالى.

2 ـ باب الملازمات العقليّة، كباب وجوب مقدّمة الواجب. وفي هذا الباب يدرك العقل العلّيّة فقط، ويضمّ ذلك إلى الدليل الشرعىّ الدالّ على وجود العلّة، فمثلاً: العقل يدرك علّيّة وجوب الشيء لوجوب مقدّمته، والشرع يدلّنا على وجوب ذلك الشيء، فيثبت وجوب مقدّمته.

3 ـ باب قياس الأولويّة والمساواة. والعلّيّة هنا تؤخذ من الشرع، وتضمّ إلى إدراك العقل لوجود العلّة في المقيس، فيقال ـ مثلاً ـ: إنّ الحزازة التي أصبحت علّة للتحريم في (الأفّ) في الآية الكريمة موجودة في أىّ شتم أو ضرب، فيحرم الشتم والضرب.

وأمّا القسم الثاني: وهو الذي يستنبط بالعقل العملىّ، فهو المصطلح عليه بباب المستقلّات العقليّة. والعقل العملىّ وحده لا يمكن أن يدرك الحكم الشرعىّ، بل يجب تتميمه بالعقل النظرىّ، سواء طبّقنا العقل العملىّ على أفعالنا، أو طبّقناه على أفعال المولى:

أمّا الأوّل: فكما إذا حكم العقل العملىّ بقبح ضرب اليتيم، وضمّ إلى ذلك قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ـ وهي قاعدة مستفادة من العقل النظرىّ ـ فنستنتج من ذلك حرمة ضرب اليتيم شرعاً.

وأمّا الثاني: فكما إذا حكم العقل العملىّ بقبح ترخيص المولى في المعصية، فيستفاد من ذلك ـ بضميمة ما دلّ عليه العقل النظرىّ من استحالة صدور القبيح عن الحكيم ـ نفي ترخيص المولى فيها.

وبعد الانتهاء من هاتين المقدّمتين نشرع في أصل البحث، فنقول:

إنّ دعوى انسداد باب العلم بالأحكام الشرعيّة عن طريق العقل يمكن أن تكون ناظرة إلى إحدى مراحل ثلاث:

1 ـ دعوى قصور الحكم في مرحلة الجعل، فلا يشمل الجعل فرض العلم بالحكم عن طريق العقل.

2 ـ دعوى قصور الأدلّة العقليّة بحسب عالم الاستكشاف.

3 ـ دعوى القصور في عالم الحجّيّة.

إذن فيقع الكلام في ثلاث مراحل:

399

الدليل العقليّ

2

 

 

 

القُصور في عالم الجعل

 

 

 

 

 

401

 

 

 

 

المرحلة الاُولى: مرحلة الجعل، وقد حمل المحقّق النائينىّ(رحمه الله) كلام الأخباريّين على دعوى القصور في هذه المرحلة، لابمعنى نفي حجّيّة كشف الحكم الشرعىّ عن طريق العقل؛ فإنّه لوكشف الحكم الشرعىّ عن طريقه، لم يمكن سلب حجّيّته عندئذ، بل بمعنى تقييد أصل الجعل عن طريق متمّم الجعل؛ فإنّ هذا بمكان من الإمكان، فكأنّ هذا حمل لكلام الأخباريّين على أمر ممكن، وإخراج له عن فرضيّة إسقاط القطع عن الحجّيّة الذي هو غير ممكن.

أقول: قد مضى منّا بيان إمكانيّة جعل العلم عن طريق ما ـ كالعلم عن طريق العقل ـ مانعاً بلاحاجة إلى متمّم الجعل، وكذلك يمكن جعل العلم عن طريق الشرع ـ مثلاً ـ شرطاً بمعنى أخذ العلم بالجعل شرطاً للمجعول بلا حاجة ـ أيضاً ـ إلى متمّم الجعل.

ولكنّه يقع الكلام هنا في أنّ هذا التقييد هل يفيد لردع من توصّل إلى حكم شرعىّ عن طريق العقل عن العمل بدليله العقلىّ؛ كي نستطيع أن نسند عدم جواز الاعتماد على الدليل العقلىّ إلى هذا التقييد، أو لا؟

والجواب: أنّ هذا غير ممكن؛ إذ لو تمّ لدى هذا الشخص الكشف، فهذا يعني:أنّه ـ مثلاً ـ اعتقد الحصول على العلّة التامّة للحكم، فاعتقد ـ مثلاً ـ أنّ ضرب اليتيم قبيح، وأنّ القبح العقلىّ علّة حتميّة للحرمة الشرعيّة، فلو قيل له: إنّ الحرمة الشرعيّة منتفية بشأنك باعتبار حصول العلم لك بها عن طريق العقل، لا يستطيع أن يصدّق بذلك؛ إذ هو مساوق عنده لانفكاك المعلول من علّته التامّة.

ولو لم يتمّ لديه الكشف؛ لعدم اعتقاده بالعلّيّة التامّة مثلاً، فبإمكانه التصديق بمانعيّة العلم العقلىّ عن الحكم: بأن يكون ما أدركه مقتضياً للحكم فحسب، قابلاً لاقترانه بهذا المانع، ولكن يكفي ـ عندئذ ـ لعدم حجّيّة دليله العقلىّ عدم تماميّة الكشف، وإضافة عدم الحجّيّة إلى تقييد الحكم بغير حالة العلم العقلىّ ليست إلّا إضافة تبرّعيّة، وعليه فتوجيه كلام الأخباريّين بهذا التفسير ليس حملاً لكلامهم على أمر ممكن(1).


(1) اللّهمّ، إلّا أن يكون مقصود الأخبارىّ إلفات نظر الاُصولىّ إلى أنّ ما اكتشفه الاُصولىّ ليس علّةتامّة للحكم؛ لأنّ نفس حصول العلم به عن طريق العقل مانع عن ثبوت الحكم، بأمل أن يلتفت الاُصولىّ إلى ذلك، فيزول علمه بالحكم وكشفه له.

403

الدليل العقليّ

3

 

 

القُصور في عالم الكشف

 

 

○ العقل النظرىّ.

○ العقل العملىّ.

 

 

 

405

 

 

 

 

المرحلة الثانية: مرحلة الاستكشاف، وعمدة(1) ما يوجد في المقام لتزييف مرحلة الكشف: هي القول بأنّنا نواجه كثيراً خطأ العقل في استنتاجاته، وهذا ما يسقطه عن الاعتبار، لا بمعنى سلب الحجّيّة عنه الذي يرجع إلى بحث المرحلة الثالثة، بل بمعنى عدم إمكان الاعتماد على طريق يكثر فيه الخطأ.

وهذا الكلام هو من سنخ كلام الفلاسفة الشكّاكين، لا من سنخ كلام الفلاسفة المادّيّين المنكرين للأدلّة العقليّة.

وتوضيح ذلك: أنّ الفلاسفة المادّيّين يرجع لبّ كلامهم إلى دعوى حصر مصدر المعرفة بالتجربة، لا إلى التشكيك في استنباط العقل على الإطلاق، فهم يقولون: إنّ المصدر الوحيد الذي يكون من حقّ العقل استقاء المعارف منه هو التجربة، وحتّى أبده البديهيّات، كقولنا: الكلّ أعظم من الجزء، والواحد نصف الاثنين، إنّما يعرف عن طريق التجربة التي مضت في عصر حياة الإنسانيّة ككلّ، أو تجربة الفرد الموجود من الإنسان بنفسه.

أمّا الفلاسفة الشكّاكون فهم يشكّكون في أصل إدراك العقل، سواء فرضناه مستمدّاً من التجربة، أو لا.

وكلام الأخباريّين في المقام يشبه هذا المدّعى دون مدّعى المادّيّين، فهم ينكرون أن يكون من حقّ العقل ـ مثلاً ـ درك وجوب مقدّمة الواجب ولو عن طريق التجربة: بأن نفترض إيقاع التجارب على أكبر عدد ممكن من أفراد الإنسان، فنعرف أنّ انقداح حبّ الشيء في النفس وإرادته يستلزم انقداح حبّ مقدّمته فيها وإرادتها.


(1) قد يكون مراد بعض الأخباريّين مجرّد إلفات نظر الاُصولىّ إلى أنّه لا ينبغي حصول الجزم بالأحكام الشرعيّة عن طريق العقل؛ لبعد مناشئها ـ وهي الملاكات ـ عن متناول العقل؛ وذلك بأمل أن يزول من الاُصولىّ جزمه بالحكم حينما يلتفت إلى هذا الكلام.

فإذا كان هذا هو مقصود الأخبارىّ، ينبغي لفت نظره إلى الموارد التي قد يكون الحكم فيها قريباً من متناول العقل، كما في الملازمات العقليّة، مثل: وجوب المقدّمة، أو تحريم ما قبّحه العقل، وتحبيذ ما حسّنه العقل.

406

هذا. ولا يفترق الحال ـ في مدى صحّة أو عدم صحّة شبهة الأخباريّين ـ بين القول بأنّ الأخطاء التي تقع في علوم البشريّة ترجع إلى زلّة قوّة واحدة في عملها واستنتاجها، أو القول بأنّها ترجع إلى الخلط بين القوى، بمعنى: أنّ كلّ قوّة من القوى لا تخطأ في عملها، ولكن بما أنّ جميع تلك القوى تمركزت في مصبّ واحد: وهو النفس يقع الخطأ من ناحية ما يصدر عن النفس من عمليّة التركيب وجعل المحمول المستنتج من إحدى القوى لموضوع مستنتج من قوّة اُخرى، فهذا الكلام سواء صحّ تماماً، أو في الجملة، أو لم يصحّ أصلاً: بأن افترضنا أنّ كلّ خطأ ينشأ من قوّة واحدة لا من الخلط بين القوى، فهذا لايؤثّر فيما نحن بصدده من دعوى أنّ كثرة الخطاء في الأدلّة العقليّة تمنع عن الاعتماد عليها.

وعلى أىّ حال، فالكلام في تحقيق حال هذه الشبهة ومدى صحّتها وبطلانها يقع في مقامين:

الأوّل: في العقل النظرىّ.

والثاني: في العقل العملىّ.

 

407

 

 

 

 

العقل النظرىّ

 

أمّا المقام الأوّل: وهو الكلام في العقل النظرىّ، فلا إشكال في كثرة الأخطاء الواقعة في العلوم المستنتجة من العقل النظرىّ، والمدّعى للأخباريّين بحسب الفرض ثبوت القصور لذلك في عالم استكشاف الحكم الشرعىّ منه.

ويرد على ذلك:

أوّلاً: النقض بالأحكام العقليّة الواقعة في الرتبة السابقة على الكتاب والسنّة ممّا يثبت به أصل حجّيّة الكتاب والسنّة، كدليل نبوّة الرسول(صلى الله عليه وآله) التي لابدّ من رجوع إثباتها إلى العقل النظرىّ، أو ما تثبت به نفس الكتاب والسنّة؛ فإنّ ثبوت ذلك: إمّا يكون بالتواتر، أو بالآحاد مع ثبوت حجّيّة خبر الآحاد بالتواتر، أو ما في حكمه، وليس التواتر عدا اجتماع آحاد كثيرة على أمر واحد يحكم العقل النظرىّ بأنّه يستحيل ـ بحسب الواقع العملىّ ـ خطؤها مثلاً مع ما لها من خصوصيّات عدديّة وغيرها، وكذا ما بحكم التواتر، كالسيرة العقلائيّة لابدّ من رجوع الاستدلال به إلى العقل النظرىّ.

وثانياً: النقض باستنباط الأحكام من نفس الكتاب والسنّة؛ فإنّه كثيراً ما يحتاج إلى إعمال العقل النظرىّ في مقام إيقاع النسبة بين الأدلّة المتعارضة، خصوصاً إذا كانت أزيد من اثنين، ونحو ذلك ممّا وقع الخطأ فيه كثيراً. على أنّه لا حاجة إلى فرض كثرة الخطأ فيه، بل تكفي كثرة الخطأ في سنخه، فما دمنا رأينا أخطاءً كثيرة في الاستنباطات العقليّة ولو في غير هذا المورد، فالمفروض سلب الاعتماد ـ مثلاً ـ عن ذلك حتّى في هذا المورد.

وأمّا الجواب الحلّىّ عن الإشكال، فالمتعارف في ذلك هو القول بأنّ العقل البشرىّ بحدّ ذاته يتورّط في أخطاء كثيرة، لكن يوجد لدينا قانون يعصمه من الخطأ حينما يلتزم الإنسان به، وهو قانون المنطق.

وكأنّ المحدّث الأستر آباديّ(رحمه الله) كان يهدف الجواب عن هذا الكلام حينما قال: إنّ علم المنطق إنّما يعصم من الخطأ في صورة الدليل، لكن تبقى الموادّ غير مضمونة الصحّة.