214

الإطلاق المقاميّ:

وأمّا المرحلة الثانية: وهي الإطلاق المقاميّ، فنقول:

لو فرضنا عدم تماميّة الإطلاق اللفظيّ كما هو الحال على المسلك الرابع من المسالك التي تكلّمنا عليها في الإطلاق اللفظيّ، وهو مسلك المشهور، فهل يمكن نفي دخل قصد القربة في الغرض بالإطلاق المقاميّ، أو لا؟

هناك تقريبان لإثبات الإطلاق المقاميّ:

التقريب الأوّل: أن نحصل على برهان لعدم دخل قصد القربة في غرض المولى، وذلك البرهان هو: أنّه لو كان دخيلا فيه، كان عليه بيانه ولو بالجملة الخبريّة ببرهان استحالة نقض الغرض.



نعم، على النكتة التي مضت الإشارة إليها منه (رحمه الله): من كون لسان التقييد بياناً عرفيّاً للقربيّة يتمّ التمسّك بالإطلاق.

هذا، وأمّا لو تصوّرنا تعدّد الجعل بالنحو الذي ذكره المحقّق العراقيّ (رحمه الله): من فرض تعدّد المجعول ووحدة الجعل، فهذا إنّما يعقل لو تصوّرنا الجامع بين الواجبين والموضوعين، وحينئذ إن كان العنوان المأخوذ في لسان الدليل هو الجامع بين الفعل وقصد القربة، فأوجب المولى ذلك الجامع بنحو مطلق الوجود، إذن فثبتت العباديّة لا التوصّليّة، وإن كان العنوان المأخوذ فيه هو الفعل، أعني: ذات الصلاة مثلا فقط، فهنا تثبت التوصّليّة لا بالإطلاق، بل بأصالة التطابق بين العنوان المأخوذ في عالم الإثبات والعنوان المأخوذ في عالم الثبوت.

إلّا أنّ هذا المقدار إنّما يكفي لنفي التعبّديّة لو كان شكل العباديّة منحصراً فيما يقترحه المحقّق العراقيّ (رحمه الله): من فرض تعدّد المجعول ووحدة الجعل، بينما هو لا يدّعي الانحصار، وإنّما يدّعي إمكان هذه الصورة.

215

وهذا التقريب يتوقّف على كون عدم بيان الدخل ولو بالجملة الخبريّة نقضاً للغرض، وقد أوضح المحقّق العراقيّ (رحمه الله) بهذا الصدد: أنّ لزوم نقض الغرض في المقام يتوقّف على أحد أمرين(1):

الأوّل: أن يقال: إنّ قصد القربة يكون من القيود المغفول عنها، ولا يلتفت إليه العرف عادةً، ولا يخطر على باله لدقّته.

وعليه، فلو كان دخيلا في الغرض، وسكت عنه المولى ولو بنحو الإخبار فالناس بحسب طبعهم سوف لا يلتزمون به؛ إذ لا يخطر على بالهم احتمال دخله، وبهذا يفوت غرض المولى، فلزم نقض الغرض.

الثاني: أن يقال: إنّ الأصل العمليّ عند الشكّ في دخل قصد القربة في الغرض هو البراءة لا الاشتغال، فحتّى إذا كان قصد القربة قيداً لا يغفل عنه العرف، يلزم من عدم بيانه عدم التزام الناس به، وهو نقض للغرض.

فإن تمّ أحد الأمرين تمّ البرهان، وإلّا فلا يلزم من عدم الإخبار بدخل قصد القربة نقض الغرض؛ إذ لو كان قيد القربة ممّا يلتفت إليه الناس وكان الأصل فيه عند الشكّ هو الاشتغال، كان من حقّ المولى أن يعتمد في مقام استيفاء غرضه على أصالة الاشتغال من دون بيان شيء.

أقول: إنّ هذا التقريب للإطلاق المقاميّ يرد عليه اعتراضان:

الاعتراض الأوّل: أنّ هذا البرهان إنّما يتمّ لو اُحرز عدم بيان المولى لدخل قصد القربة إطلاقاً، بينما في الأغلب لا نحرز ذلك، وغاية ما نحرزه أنّ الآية



(1) الأمر الثاني غير موجود في المقالات. راجع المقالات، ج 1، ص 241 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم، ويحتمل استفادته من نهاية الأفكار على تشويش في العبارة. راجع نهاية الأفكار، ج 1، ص 199 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

216

الفلانيّة أو الرواية الفلانيّة الآمرة بالعمل الفلانيّ لم تتضمّن ذكر دخل قصد القربة في الغرض، وأمّا احتمال ذكر ذلك سابقاً أو لاحقاً في وقت آخر، فغالباً يكون ثابتاً في النفس بلا دافع، ويكفي في عدم نقض الغرض من قبل المولى ذكر ذلك ولو منفصلا، إذن فهذا التقريب لا يثبت الإطلاق المقاميّ بالنحو المطلوب، فإنّ المطلوب هو إثبات الإطلاق المقاميّ لشخص خطاب معيّن حينما نعرف ـ ولو بالشهادة السكوتيّة للراوي ـ أنّه لم يذكر معه دخل قصد القربة، وهذا لا يثبت بهذا البيان.

وبكلمة اُخرى: إنّه يوجد عندنا سكوتان عن ذكر دخل قصد القربة: السكوت المطلق، ومطلق السكوت، والأوّل يكشف عن عدم الدخل ببرهان استحالة نقض الغرض، لكن لا سبيل لنا غالباً إلى إحرازه، والثاني لنا سبيل إلى إحرازه، وهو شهادة الراوي مثلا، ولكن لا يكشف ببرهان استحالة نقض الغرض عن عدم الدخل.

الاعتراض الثاني: مختصّ بكشف الإطلاق عن طريق دعوى: أنّ قيد القربة ممّا يغفل عنه عادةً الناس، وهو: أنّ هذا التقريب إنّما يبرهن على أنّ قصد القربة ليس شرطاً واقعيّاً، أي: دخيلا في الغرض على الإطلاق؛ إذ لو كان كذلك لكان ترك ذكره نقضاً للغرض؛ لغفلة عامة الناس عنه، لكن يبقى احتمال كونه شرطاً ذُكريّاً كبعض الشروط الاُخرى التي تكون شرطاً عند التذكّر والالتفات، فإنّه إذا كان كذلك لم يكن ترك بيانه نقضاً للغرض؛ إذ من لا يلتفت إليه لا غرض في قصده للقربة، ومن يلتفت إليه من دون بيان المولى لا حاجة إلى البيان بالنسبة إليه، فلعلّ قصد القربة شرط عند الذكر والالتفات: إمّا بمعنى: أنّه شرط في حقّ من يلتفت إلى قصد القربة تصوّراً لو قيل بأنّ العرف بعيد عن تصوّره، فمع تصوّره يحتمل تقييد الواجب به، فحال شرطيّة القربة حال مانعيّة نجاسة الثوب مثلا المشروطة بالالتفات إلى النجاسة، أو بمعنى: أنّه شرط في حقّ من يحتمل تقيّد الواجب به لو قيل بأنّ العرف بعيد عن هذا الاحتمال، فحال لزوم قصد القربة حال وجوب القصر

217

على المسافر المشروط بالالتفات إلى هذا الحكم ولو احتمالا، والمرفوع عمّن تخيّل أنّ حكم المسافر هو حكم الحاضر.

وعلى أيّ حال، فعلى الاُصوليّين الملتفتين إلى قصد القربة، وإلى احتمال دخله أن يلتزموا به مثلا، بينما المقصود هو نفي شرطيّة قصد القربة بالإطلاق المقاميّ مطلقاً.

التقريب الثاني: أن يقال: إنّ قوله مثلا: «صلِّ» مفاده الأمر، وظاهر حال المولى كونه في مقام بيان تمام ما يأمر به، لكن لا بأن يكون له نظرة استقلاليّة إلى الأمر بأن يكون في مقام بيان تمام ما أمر به باعتباره بياناً للمأمور به، وإنّما يكون بظاهر حاله بصدد بيان تمام ما يأمر به باعتباره طريقاً إلى بيان غرضه، فالأمر ملحوظ باعتباره كاشفاً عن الغرض، لا بما هو هو، فظاهر حال المولى أنّه في مقام بيان تمام الغرض ولو لم يكن مدلولا مطابقيّاً للأمر، فلو كان أمره قاصراً عن تمام غرضه؛ لعدم إمكان أداء تمامه بالأمر، ولكن بالإمكان تكميل أدائه بضمّ جملة خبريّة إلى الأمر، لأكمل كلامه بضمّ ذلك الخبر إلى هذا الأمر، فإن لم يصنع كذلك انعقد الإطلاق المقاميّ لنفي دخل قصد القربة، لا بلحاظ برهان نقض الغرض، بل بلحاظ ظهور حاله في أنّه في مقام بيان تمام غرضه.

وهذا التقريب صحيح.

الأصل العمليّ:

وأمّا المقام الثاني: وهو الكلام في الأصل العمليّ، فالذي يتبادر إلى الذهن بدواً: أنّ المقام صغرى من صغريات الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، فحاله حال سائر موارد الأقلّ والأكثر الارتباطيّين: من جريان البراءة، أو الاشتغال بحسب الخلاف المعروف.

ولكن تفصيل الكلام في ذلك: أنّه إن بنينا على إمكان تقيّد الأمر به، فحال

218

المقام حال سائر موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، فإنّ الأمر دار بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين بلحاظ نفس الأمر المتعلّق بالصلاة، فلا فرق بين قيد القربة أو أيّ قيد آخر مشكوك.

وأمّا بناءً على مختارنا: من أنّ الأمر التعبّديّ يرجع إلى الأمر بالصلاة وتجدّده متى ما لم يصلِّ بقصد القربة، فإن قلنا في سائر موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر بالبراءة، فلا إشكال هنا أيضاً في البراءة. أمّا البراءة العقليّة لو قيل بها، فتجري عن وجوب الصلاة مرّةً ثانية بعد الإتيان بها من دون قصد القربة؛ لأنّ الواجب الزائد بالدقّة العقليّة عبارة عن صلاة ثانية، وهذا تكليف زائد مشكوك منفيّ بالبراءة. وأمّا البراءة الشرعيّة فأيضاً تجري عن وجوب الصلاة مرّة اُخرى؛ لأنّه تكليف زائد مشكوك.

وبإمكانك أن تعبّر في البراءة الشرعيّة بأنّنا نجري البراءة عن الخطاب بقصد القربة؛ لأنّ البراءة الشرعيّة تجري عن كلّ ما ينتج تسجيل الواقع على عهدة المكلّف، فإنّ البيان العرفيّ للإلزام بصلاة اُخرى كان عبارة عن إيجاب قصد القربة بحسب مقام الإثبات، والخطاب الإثباتيّ بقصد القربة يؤثّر(1) في تسجيل الواقع الذي هو ثبوتاً عبارة عن وجوب صلاة اُخرى على المكلّف، فهو مرفوع بمثل حديث الرفع.

هذا إذا بنينا على البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

وأمّا إذا بنينا على الاشتغال فيه، فهل تجري في ما نحن فيه أيضاً أصالة الاشتغال، أو لا موجب للاشتغال، بل نرجع إلى البراءة؟

هذا يختلف باختلاف المسالك لإثبات الاشتغال في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، وأهمّها مسالك أربعة:



(1) ولو باعتباره إخباراً عن الغرض.

219

الأوّل: دعوى: أنّنا نعلم إجمالا بالأمر بالأقلّ بحدّه الأقلّيّ والأمر بالأكثر، أي: نعلم إجمالا بشرط شيء، ولا بشرط.

وهذا الوجه بهذه الصياغة لا يأتي في المقام؛ للعلم بأنّ الأمر تعلّق بالمطلق، وإمكان إجراء البراءة عن أمرثان بالصلاة.

الثاني: أنّنا سلّمنا: أنّ العلم الإجماليّ منحلّ إلى العلم بالأمر بالأقلّ والشكّ في الأمر بالأكثر على كلام وتفصيل في تقريب الانحلال، لكن بإتيانه بالأقلّ لا يقطع بالإتيان بما ينطبق الأمر بالأقلّ عليه، فإنّه إذا كان أمراً ضمنيّاً فهو غير متعلّق بالمطلق، بل متعلّق بالطبيعة المهملة التي هي في قوّة الجزئيّة، فلا تنطبق على الفاقد للجزء أو القيد المشكوك، ولابدّ له من تحصيل القطع بانطباق الأمر بالأقلّ الذي علم به تفصيلا على فعله، وهذا لا يكون إلّا بأن يأتي بالأكثر.

وهذا التقريب بهذه الصياغة أيضاً لا يأتي في المقام؛ لأنّ الأمر متعلّق بالمطلق، ومنطبق على ما أتى به حتماً، فليُجرِ البراءة عن أمر ثان متعلّق بصلاة اُخرى.

الثالث: أنّنا سلّمنا: أنّ الأمر بالأقلّ متعلّقه ـ على أيّ حال ـ هو ذات الأقلّ، وينطبق على ما أتى به ولو لم يكن في ضمن الأكثر على تفصيل وكلام في محلّه، لكن لابدّ له من إحراز سقوط الأمر بالأقلّ حتّى يرتاح، وسقوطه مشكوك فيه؛ إذ لو كان أمراً ضمنيّاً لكان ملازماً مع الأمر الضمنيّ الآخر في الثبوت والسقوط، ولا يسقط إلّا بإتيان الأكثر.

وهذا الكلام بهذه الصياغة أيضاً لا يأتي في المقام؛ لما عرفت: من أنّ الأمر الأوّل على مسلكنا يسقط بالإتيان بالفعل من دون قصد القربة، ويشكّ في تجدّد أمر جديد بالفعل، فليُجرِ البراءة عنه.

الرابع: أنّه لابدّ له من الجزم بتحصيل غرض المولى، والأمر بالأقلّ إذا كان في ضمن الأمر بالأكثر، لم يحصل الغرض المولويّ منه بالإتيان بالأقلّ، فلابدّ من الاحتياط بالإتيان بالأكثر.

220

وهذا الوجه يأتي في المقام؛ فإنّ الغرض من الأمر الأوّل إذا كان عباديّاً لا يحصل بمجرّد الإتيان بمتعلّقه وإن كان يسقط شخص ذلك الأمر؛ لاستحالة بقائه مع الإتيان بمتعلّقه، ولذا يتولّد أمر جديد، فلابدّ في مقام تحصيل الجزم بحصول الغرض من الصلاة بقصد القربة.

وأمّا إن بنينا في العباديّات على متمّم الجعل، بمعنى: أنّ هناك أمرين تعلّق أحدهما بذات الصلاة والآخر بقصد القربة، فعندئذ إن فرضنا: أنّ الأمر بالصلاة تعلّق بالطبيعة المهملة كما عن المحقّق النائينيّ (رحمه الله)، فحال ذلك حال ما إذا كان نفس الأمر الأوّل قابلا للتقييد، ويكون الأمران تماماً كالأمرين الضمنيّين، فإن جرت البراءة في سائر موارد الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، جرت في المقام، وإن جرى الاشتغال فيها، جرى في المقام أيضاً: إمّا بدعوى العلم الإجماليّ بالإطلاق والتقييد، إلّا أنّه بمعنى نتيجة الإطلاق والتقييد، أو قل: بمعنى الإطلاق والتقييد المنفصل، أو بدعوى: أنّ الأمر بالأقلّ لم يحرز انطباقه على ما أتى به، أو بباقي التقريبات التي عرفت حرفاً بحرف.

وإن فرضنا: أنّ الأمر الأوّل تعلّق بالمطلق، فإن جرت البراءة في سائر موارد الأقلّ والأكثر، جرت هنا بلا إشكال، وإن قلنا بالاشتغال فيها، فإذا كان ذلك بأحد الملاكين الأخيرين، فهما ثابتان في المقام؛ للشكّ في حصول الغرض وعدم سقوط الأمر الأوّل على تقدير وجود الأمر الثاني؛ لأنّه متمّم له، وهما بمنزلة الضمنيّين، وإن كان بأحد الملاكين الأوّلين، فهما غير ثابتين في المقام؛ للعلم التفصيليّ بوجود أمر مطلق متعلّق بالأقلّ، وهو ذات الصلاة منطبق على عمله ولو لم يكن مع قصد القربة، وافتراض أمر آخر بقصد القربة منفيّ بالبراءة.

وأمّا إن بنينا على مبنى المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله): من أنّ الواجب التعبّديّ ليس فيه إلّا أمر واحد متعلّق بذات العمل كالتوصّليّ، إلّا أنّه لا يسقط بالإتيان بذات العمل ما لم يأتِ به بقصد القربة؛ لأنّ الغرض لا يحصل، وسقوط الأمر تابع لحصول

221

الغرض، ومادام الغرض باقياً فالأمر باق، فظاهر كلام المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله) أنّه حتّى لو قلنا بالبراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين نقول بالاشتغال في المقام(1).

ونحن نتكلّم هنا تارةً عن أنّه لو قلنا بالاشتغال في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، فهل يثبت الاشتغال بنفس ملاك الاشتغال في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين أو لا؟

واُخرى عن أنّه هل هناك وجه للقول بالاشتغال في المقام حتّى على تقدير البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين كما يظهر من المحقّق الخراسانيّ، أو أنّه على تقدير البراءة هناك تتعيّن البراءة هنا؟

أمّا الأوّل، فنتكلّم فيه على ضوء ما عرفت من الملاكات الأربعة للاشتغال في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، فنقول:

إنّ الصحيح هو التفصيل بين الملاكين الأوّلين والملاكين الأخيرين، فالملاك الأوّل لا يجري في المقام؛ لوضوح العلم بأ نّ الأمر تعلّق بالمطلق بحسب الفرض، ولا يوجد علم إجماليّ بالإطلاق أو التقييد، وكذلك الملاك الثاني لا يجري في المقام؛ لوضوح انطباق الأمر بالمطلق على فعله ولو لم يكن بقصد القربة، ولكن الملاك الثالث يجري في المقام؛ لعدم الجزم بسقوط الأمر؛ لأنّ المفروض: أنّ الأمر إذا كان تعبّديّاً، فهو لا يسقط بالإتيان بمتعلّقه بدون قصد القربة، وكذلك الملاك الرابع يجري في المقام؛ لوضوح عدم الجزم بسقوط الغرض؛ لأنّ المفروض: أنّه إذا كان الأمر عباديّاً لا يحصل الغرض منه بمجرّد الإتيان بالفعل بلا قصد القربة.

وأمّا الثاني، وهو: أنّه هل هناك وجه لثبوت الاشتغال هنا حتّى على تقدير البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، أو لا؟

فيمكن افتراض جريان الاشتغال في المقام مع فرض البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين بعدّة تقريبات:



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 113 ـ 114 بحسب طبعة المشكينيّ.

222

الأوّل: مبنيّ على أن يختار من ملاكات الاشتغال الملاك الثالث، وهو: عدم إحراز سقوط الأمر، فيقال: إنّ هذا الملاك تامّ في ما نحن فيه؛ حيث إنّه لو صلّى بدون قصد القربة، لم يجزم بسقوط الأمر؛ لاحتمال كونه عباديّاً، لكنّه غير تامّ في سائر موارد الأقلّ والأكثر الارتباطيّين؛ وذلك بدعوى: أنّ البراءة عند الشكّ في سقوط الأمر إنّما لا تجري إذا لم يكن الشكّ في السقوط من تبعات الشكّ في وجود أمر ضمنيّ بالزائد، كما لو علم بوجوب الصلاة ثُمّ شكّ في أنّه هل صلّى أو لا. أمّا إذا كان من تبعات ذلك، كما لو أتى بالأقلّ المعلوم وترك الجزء الزائد المشكوك، فالبراءة عن الأمر الضمنيّ المشكوك جارية، وتكون كافية للتأمين من ناحية احتمال عدم سقوط الأمر، وحيث إنّه في باب قصد القربة ليس الشكّ في سقوط الأمر ناشئاً من الشكّ في أمر ضمنيّ زائد؛ إذ المفروض عدم انبساط الأمر على قصد القربة، فلا مجال للبراءة، وهذا بخلاف الأجزاء والقيود الاُخرى التي ينبسط عليها الأمر.

إلّا أنّ التحقيق: أنّ هذا الوجه غير صحيح؛ وذلك لأنّه بعد أن قبلنا جريان البراءة عن الأمر الضمنيّ المشكوك، وقلنا: إنّ هذا يؤمّن من ناحية احتمال عدم سقوط الأمر الناشئ من احتمال الأمر الضمنيّ بالزائد، ينبغي أن يكون المناط ما هو أعمّ من الأمر، وذلك بأن يقال: إنّ الشكّ في السقوط ينقسم إلى نحوين:

1 ـ الشكّ في سقوط الأمر الناشئ من احتمال مطلب يرجع إلى المولى، ويكون من وظيفة المولى بيانه، سواء كان بصيغة الأمر أو بصيغة الإخبار عن المدخليّة في الغرض.

2 ـ الشكّ في سقوط الأمر الناشئ من جهة ترجع إلى العبد، ولا يكون من وظيفة المولى بيانه، من قبيل الشكّ في أصل الإتيان بالصلاة.

فالقسم الثاني مجرىً لأصالة الاشتغال؛ لرجوع الشكّ إلى جهة ترتبط بالعبد

223

لا المولى، وهي عالم الامتثال. وأمّا القسم الأوّل، فهو مجرىً للبراءة؛ لكون الشكّ في دخل أمر زائد: إمّا في الأمر كما في غير قصد القربة، وإمّا في الغرض كما في قصد القربة.

الثاني: مبنيّ على أن يختار من ملاكات الاشتغال الملاك الرابع، وهو الشكّ في حُصول الغرض، فيقال: إنّ هذا الوجه تامّ في المقام، وليس تامّاً في سائر موارد الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، وذلك بأن يقال: إنّ الغرض للمولى لا يقع في عهدة المكلف عادةً إلّا إذا تصدّى المولى إلى تحصيله تشريعاً، فلو لم يتصدَّ هو إلى تحصيله، لم يكن على العبد أن يكون أكثر حرارةً من المولى في مقام تحصيل أغراضه، فإذا تردّد أمر الواجب بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، من قبيل ما لو شكّ في وجوب السورة في الصلاة، فالقدر المتيقّن من تصدّي المولى وتسبيبه الشرعيّ إلى التحصيل هو الأقلّ، فتجري البراءة عن الزائد بالرغم من الشكّ في حصول الغرض، ولكن لا تجري البراءة إذا كان عدم تسبّب المولى التشريعيّ إلى الوصول إلى غرضه على تقدير دخل القيد الزائد في الغرض ناشئاً من عجز المولى عن ذلك كما لو كان مكمّماً.

وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ قصد القربة على تقدير دخله في الغرض يكون المولى عاجزاً عن الأمر به؛ لما هو المفروض من عدم إمكان تعلّق الأمر بقصد القربة، إذن فلابدّ من الاحتياط؛ للشكّ في حصول الغرض بدون قصد القربة، وعدم إمكان التسبّب التشريعيّ للمولى إلى الوصول إلى غرضه على تقدير دخله فيه.

والجواب: أنّه هنا أيضاً إذا جعل إمكان تسبّب المولى إلى تحصيل الغرض مبرّراً لجريان البراءة، لا ينبغي تخصيص ذلك بالتسبّب بصيغة الأمر، بل يكفي إمكانيّة تسبّب المولى إلى تحصيل غرضه ولو بالإخبار بدخل ذلك في الغرض، ومن المعلوم أنّه بإمكان المولى الإخبار بدخل قصد القربة في الغرض.

الثالث: يختصّ بالبراءة الشرعيّة، فلو أنكرنا البراءة العقليّة: إمّا مطلقاً كما هو الصحيح، أو في خصوص الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، أو خصوص المقام بأحد

224

الملاكين الأخيرين من ملاكات الاشتغال مثلا، بأن قلنا: إنّهما يمنعان عن البراءةالعقليّة فقط، وبقيت البراءة الشرعيّة غير مبرهن على بطلانها، أمكن أن يبرهن على بطلانها أيضاً في المقام مع فرض جريانها في سائر موارد الأقلّ والأكثر، بأن يقال: إنّ أدلّة البراءة الشرعيّة ناظرة إلى التكاليف الشرعيّة والتحميلات الشرعيّة، ومن الواضح: أنّه في المقام لا يحتمل دخل قصد القربة في التكليف بحسب الفرض، وإنّما يحتمل دخله في الغرض، بخلاف سائر موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

وهذا البيان أيضاً في غير محلّه:

أمّا أوّلا: فلأنّه لا يختصّ دليل البراءة بالأحكام الإنشائيّة، بل يشمل كلّ جهة راجعة إلى المولى ولو كان هو الغرض.

وأمّا ثانياً: فلأنّ عناوين الإلزام والتكليف ونحو ذلك من العناوين ينتزع ـ لا محالة ـ من الجملة الخبريّة أيضاً كما ينتزع من الأمر، فلو أخبر بدخل قصد القربة في الغرض، ينتزع من ذلك عرفاً الإلزام والتكليف.

وقد تحصّل: أنّ الصحيح بناءً على جريان البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ـ وهو الحقّ ـ جريان البراءة فيما نحن فيه. هذا.

ومن الكلام في قصد القربة ظهر الكلام في قصد الوجه والتمييز بلا حاجة إلى تخصيص كلام لهذه التوابع(1).

هذا تمام الكلام في التعبّديّ والتوصّليّ.



(1) هناك فرق واحد بين ما كنّا نبحثه من قصد الأمر وبين قصد الوجه والتمييز، وهو: أنّ تقريب الإطلاق المقاميّ في قصد الأمر بدعوى غفلة عامّة الناس عنه أوضح في قصد الوجه والتمييز بكثير، فقد ينكر هناك ولا ينكر هنا.

225

ظهور صيغة الأمر

في النفسيّة والتعيينيّة والعينيّة

الجهة الخامسة: في ظهور صيغة الأمر في النفسيّة والتعيينيّة والعينيّة.

ينقسم الواجب إلى نفسيّ وغيريّ، وإلى تعيينيّ وتخييريّ، وإلى عينيّ وكفائيّ، فهل يقتضي إطلاق الصيغة كون الواجب نفسيّاً، أو تعيينيّاً، أو عينيّاً في مقابل الغيريّة والتخييريّة والكفائيّة، أو لا؟

يقع الكلام في ذلك في عدّة مقامات:

دوران الأمر بين النفسيّة والغيريّة:

المقام الأوّل: في أنّه إذا دار الأمر بين النفسيّة والغيريّة، فماذا يقتضي إطلاق الصيغة؟

المعروف: أنّ الإطلاق يقتضي النفسيّة، وهذا المطلب يمكن أن يبيّن بعدّة تقريبات:

التقريب الأوّل: أن يقال: إنّنا نتمسّك بالإطلاق الأحواليّ لدليل الوجوب في قوله: «توضّأ» مثلا، فإنّ مقتضى إطلاقه وجوب الوضوء على كلّ حال: سواء وجبت الصلاة أو لا، وسواء زالت الشمس أو لا، وهذا يستلزم كونه واجباً نفسيّاً؛ إذ لو كان واجباً غيريّاً لاستحال إطلاقه لفرض عدم وجود الأمر بذي المقدّمة وعدم فعليّة

226

وجوبه، فالنفسيّة بهذا التقريب تكون مدلولا التزاميّاً للإطلاق، لا مطابقيّاً.

واستفادة النفسيّة من الإطلاق بهذا التقريب تتوقّف على تصوير الإطلاق الأحواليّ، وعدم كون الواجب ملازماً لذاك الوجوب النفسيّ لما احتمل كونه ذا المقدّمة.

أمّا لو أوجب الوضوء مثلا في أوّل زوال الشمس، أعني: أنّه قيّد وجوب الوضوء بقيد(1) نفرضه ملازماً دائماً لثبوت وجوب الصلاة، فهذا التقريب لا يتمّ؛ إذ لا يوجد ـ بحسب الفرض ـ إطلاق أحواليّ لصورة عدم وجوب الصلاة.

وقد يقال: إنّه وإن كان هذا الإطلاق قاصراً عن إثبات النفسيّة في هذا الفرض لكن لا أثر لذلك، فإنّ الأثر لكون وجوب الوضوء مثلا نفسيّاً فيما لو قال: «توضّأ» هو وجوبه في تمام الأحوال حتّى قبل الزوال، ولكن لو قيّد وجوب الوضوء بالزوال مثلا، فماذا يهمّنا أن يكون الواجب نفسيّاً أو غيريّاً؟! إذ لو لاحظنا حالة عدم الزوال، لم يجب الوضوء نفسيّاً كان أو غيريّاً، ولو لاحظنا حالة الزوال، فعلى أيّ حال يجب أن يؤتى به بحكم العقل، سواء كان نفسيّاً أو غيريّاً.

ولكن هذا الكلام غير صحيح؛ لأنّه يبقى مع هذا أثر للنفسيّة، فإنّه بناءً على اقتضاء الإطلاق للنفسيّة يكون عليه واجبان نفسيّان بحيث لو تركهما معاً لعوقب بعقابين، بينما لو لم نستفد من إطلاق الصيغة النفسيّة، لم يثبت عليه واجبان نفسيّان بالدليل الاجتهاديّ، ولابدّ من الرجوع إلى الاُصول العمليّة.

التقريب الثاني لإثبات النفسيّة: هو أن نتمسّك بإطلاق المادّة لدليل «صلِّ»



(1) لا أنّه قيّده بنفس وجوب الصلاة، كأن يقول: «إذا وجبت الصلاة فتوضّأ»، وإلّا فلا إشكال في عدم استفادة النفسيّة، ولا يفي شيء من تقريبات استفادة النفسيّة باستفادتها في هذا الفرض، فلا يكون ذلك نقضاً لهذا التقريب.

227

مثلا، لا بإطلاق «توضّأ»، فيقال: إنّ مقتضى إطلاق المادّة في «صلِّ» هو عدم تقيّد الصلاة بالوضوء، إذن فالوضوء ليس واجباً غيريّاً ومقدّمة للصلاة، بل هو واجب نفسيّ، فتكون النفسيّة مدلولا التزاميّاً لإطلاق المادّة في الواجب الذي يحتمل كون هذا مقدّمة له.

وهذا التقريب يتوقّف على افتراض عدّة اُمور:

الأوّل: أن يكون لذلك الواجب النفسيّ الذي يحتمل كون الوضوء مثلا مقدّمة له دليل على وجوبه، لا أن يكون وجوبه أمراً محتملا بنفس دليل الوضوء، كما لو ورد «إذا زرت مسلماً فتوضّأ» ولم يرد أمر بالصلاة عند زيارة المسلم، ولكنّنا بسبب الأمر بالوضوء احتملنا وجوب الصلاة وكون الوضوء مقدّمة له، ففي هذا الفرض لا موضوع لاستفادة نفسيّة وجوب الوضوء من دليل الصلاة.

الثاني: أن يكون الوجوب الغيريّ المحتمل في المقام وجوباً غيريّاً بملاك التقييد الشرعيّ، من قبيل الوضوء بالنسبة للصلاة، لا بملاك التوقّف التكوينيّ، من قبيل نصب السلّم بالنسبة للكون على السطح، أو القيام بالنسبة للتعظيم مثلا، فإنّ الإطلاق إنّما ينفي التقييد الشرعيّ، لا التوقّف الخارجيّ كما هو واضح.

الثالث: أن لا يكون هذا البيان المجمل المردّد بين النفسيّ والغيريّ متّصلا بخطاب الواجب الذي نحتمل تقيّد مادّته به، وإلّا لسرى إجماله إلى ذلك الخطاب، ولم يمكن التمسّك بإطلاق المادّة.

الرابع: أن يكون دليل الواجب الذي يحتمل تقيّد مادّته بهذا الواجب المردّد بين كونه نفسيّاً أو غيريّاً قد تمّ له الإطلاق ومقدّمات الحكمة في نفسه. أمّا لو كان دليلا لبّيّاً لا إطلاق له، أو نحو ذلك، فلا موضوع للتمسّك بإطلاق ذلك الواجب لإثبات نفسيّة الواجب الآخر.

التقريب الثالث: هو إجراء الإطلاق في نفس دليل «توضّأ» بنحو يثبت النفسيّة

228

ابتداءً، لا بالملازمة كما في التقريبين الماضيين، وذلك بأن يقال: إنّ النفسيّة والغيريّة خصوصيّتان في الوجوب، إحداهما عدميّة والاُخرى وجوديّة، فالنفسيّة خصوصيّة عدميّة؛ لأنّ النفسيّ هو الوجوب الذي لم ينشأ من وجوب آخر، والغيريّة خصوصيّة وجوديّة؛ لأنّ الغيريّ هو الوجوب الذي نشأ من وجوب آخر، وكلّما دار الأمر في مدلول كلام المتكلّم بين أن يكون هذا المدلول متخصّصاً بخصوصيّة وجوديّة أو عدميّة تعيّن الثاني، وكان عدم بيان الخصوصيّة الوجوديّة بياناً عرفاً للخصوصيّة العدميّة، ولهذا كان عدم بيان التقييد في اسم الجنس كما في (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) مثلا بياناً للإطلاق.

أقول: إنّ الصحيح في الإطلاق في أسماء الأجناس ـ على ما حقّقناه في محلّه ـ: أنّ مقدّمات الحكمة ليست وظيفتها إثبات الإطلاق اللحاظيّ في مقابل التقييد اللحاظيّ، بل وظيفتها إثبات الحكم للجامع بين المطلق والمقيّد المسمّى بالمطلق الذاتيّ، فالأمر دائر بين الخصوصيّة واللاخصوصيّة، لا بين خصوصيّة وجوديّة أو خصوصيّة عدميّة، فلا يمكن جعل هذا قانوناً في بحث مقدّمات الحكمة.

وعلى أيّ حال، فكبرى تعيّن الخصوصيّة العدميّة في مقابل الوجوديّة متى ما دار الأمر بينهما ليست صحيحة على إطلاقها. نعم، سوف نشير إلى أنّنا نقبل هذه الكبرى في الجملة، لكن لا بهذا العنوان، بل بعنوان آخر، وسيأتي توضيح ذلك في التقريب الرابع.

وأمّا تطبيق هذه الكبرى على المقام صغرويّاً، فهو غير صحيح؛ لأنّ النفسيّة والغيريّة كلتاهما خصوصيّتان وجوديّتان، فالوجوب إن كان ناشئاً من ملاك في غيره، فهذا ما لا يحكم العقل باستحقاق العقاب عليه مستقلاًّ، وهو معنى الغيريّة، وإن كان ناشئاً من ملاك في نفسه، فهذا ما يحكم العقل باستحقاق العقاب عليه مستقلاًّ، وهو معنى النفسيّة، فالنفسيّة أيضاً خصوصيّة وجوديّة لا عدميّة، فإنّها متقوّمة بكون وجوب الشيء ناشئاً من ملاك في نفسه الذي هو أمر وجوديّ.

229

التقريب الرابع: ما يمكن أن يكون تعديلا للتقريب الثالث. وتوضيح ذلك: أنّ الكبرى التي ادّعيت في التقريب الثالث كانت عبارة عن أنّه متى ما دار الأمر بين التقييد بقيد وجوديّ والتقييد بقيد عدميّ، كان السكوت معيّناً للثاني في مقابل الأوّل.

وهذه الكبرى بهذا العنوان غير صحيحة، ولذا ترى: أنّه لو قال: «أكرم العالم»، وعلمنا أنّه مقيّد: إمّا بخصوصيّة العدالة، فلا يمكن إثباتها بالاستصحاب، أو بخصوصيّة عدم الفسق، فيمكن إثباتها بالاستصحاب، لم يمكن تعيين الثاني بالسكوت؛ إذ كلاهما أمر زائد، والإطلاق يدفع كليهما، فلا نكتة لاستظهار الأمر العدميّ في مقابل الوجوديّ، ومنشأ هذا التوهّم هو تخيّل كون هذا هو المنشأ لحمل اسم الجنس على المطلق، بينما قلنا: إنّ الإطلاق في اسم الجنس يدلّ على عدم لحاظ القيد، لا على رفضه ولحاظ عدمه، على أنّه حتّى لو اُريد تعيين الإطلاق اللحاظيّ في قبال التقييد اللحاظيّ، وغضّ النظر عن الإطلاق الذاتيّ، أمكن ذلك بتطبيق الكبرى الاُخرى التي نجعلها بديلا لهذه الكبرى، أو تعديلا لها، فإنّ هذه الكبرى يمكن التعبير عنها بنحو آخر، وهو: أنّه كلّما دار الأمر في مقام الثبوت بين خصوصيّتين وكان كلّ واحدة منهما تناسب خصوصيّة في مقام الإثبات، فحينما نرى إحدى الخصوصيّتين الإثباتيّتين في الكلام نستكشف بذلك: أنّ الخصوصيّة الثبوتيّة هي تلك الخصوصيّة المناسبة لهذه الخصوصيّة الإثباتيّة، وذلك عملاً بأصل عقلائيّ يعطي ظهوراً للكلام، وهو أصالة التطابق بين مقام الإثبات ومقام الثبوت، فإذا دار الأمر مثلا بين التقييد اللحاظيّ والإطلاق اللحاظيّ وهو رفض القيد، وغضضنا النظر عن الإطلاق الذاتيّ، فلحاظ القيد ثبوتاً يناسب ذكره إثباتاً، ورفضه ثبوتاً يناسب السكوت إثباتاً؛ فإنّ رفض القيد في عالم الثبوت يعني شيئاً، لكن في عالم الإثبات لا يعني أكثر من السكوت، وقد فرضنا أنّه سكت، فيثبت الإطلاق بنكتة أصالة التطابق بين مقام الإثبات ومقام الثبوت.

وهذه الكبرى لا تجري فيما نقضنا به على الكبرى السابقة من دوران الأمر بين

230

أخذ خصوصيّة العدالة في العالم وخصوصيّة عدم الفسق؛ فإنّ السكوت لا يناسبشيئاً منهما، بل المناسب لكلّ منهما ذكره، وهذا هو شاهد صدق لما نقول: من أنّ الصحيح إنّما هو هذه الكبرى، وتلك الكبرى غير صحيحة.

ومبنيّاً على هذا يمكن أن يدّعى تطبيق هذه الكبرى في المقام فيما إذا شكّ في واجب أنّه نفسيّ أو غيريّ، بأن يقال: إنّ الوجوب النفسيّ والغيريّ يختلفان ثبوتاً في أنّ الأوّل ملحوظ بنحو المعنى الاسميّ وبالأصالة والاستقلال، والثاني ملحوظ بنحو المعنى الحرفيّ والتبعيّة واستطراقاً إلى غيره، ويناسب الأوّل في مقام الإثبات الأصالة في الإفادة والبيان، ويناسب الثاني في مقام الإثبات التبعيّة في الإفادة والبيان، فلو قال ابتداءً: «توضّأ» ولم يقل: «إذا قمتم إلى الصلاة، فاغسلوا وجوهكم» بحيث يجعل الوضوء تحت الشعاع وبالتبع، فقد جعل في مقام الإثبات لحاظ وجوب الوضوء لحاظاً استقلاليّاً، فمقتضى أصالة التطابق بين المقامين كونه بحسب مقام الثبوت أيضاً ملحوظاً استقلالا، ولهذا لا إشكال في أنّه نفهم من الأمر بالوضوء الوجوب النفسيّ ولو لم يكن فيه، أو في الأمر بالصلاة إطلاق أحواليّ ما لم يكتنف بما يوجب الظهور في التبعيّة أو الإجمال، كأن يقول: «إذا قمتم إلى الصلاة، فاغسلوا وجوهكم».

التقريب الخامس: التمسّك بإطلاق المادّة في الأمر بالوضوء للحصّة غير الموصلة بناءً على ما سوف نحقّقه ـ إن شاء الله ـ من أنّ الوجوب الغيريّ مخصوص بالحصّة الموصلة، فإنّه على هذا يكون إطلاقها للحصّة غير الموصلة مستلزماً لكون وجوبه نفسيّاً.

دوران الأمر بين التخيير والتعيين:

المقام الثاني: في الدوران بين التخيير والتعيين، كما لو قال: «أطعم ستّين مسكيناً» وشككنا في أنّه هل هو واجب تعيينيّ أو هو مخيّر بينه وبين العتق.

والكلام في ذلك يختلف باختلاف المباني في تصوير الواجب التخييريّ،ونحن نذكر هنا ثلاثة مباني:

231

المبنى الأوّل: أنّ مرجع الوجوب التخييريّ إلى الوجوبين المشروط كلّ منهما بترك الآخر، وعليه فمقتضى الإطلاق الأحواليّ هو التعيينيّة؛ إذ لو كان الإطعام مثلا واجباً تخييريّاً، لما وجب حتّى في حال العتق، بخلاف ما لو كان تعيينيّاً.

المبنى الثاني: أنّ مرجع الوجوب التخييريّ إلى وجوب الجامع، وحينئذ يمكن التمسّك بالإطلاق لإفادة التعيينيّة بأحد تعبيرين:

الأوّل: أنّ ظاهر ارتباط مدلول المادّة بمدلول الهيئة في قوله: «أطعم» هو تعلّق الوجوب بالإطعام بعنوانه، لا بعنوان آخر منطبق عليه، وهذا إنّما يتمّ لو كان تعيينيّاً. وأمّا لو كان تخييريّاً بينه وبين العتق مثلا، فالوجوب ليس متعلّقاً بعنوان الإطعام، بل بعنوان آخر منطبق عليه كالإحسان مثلا.

الثاني: التمسّك بالإطلاق الأحواليّ لصورة الإتيان بالفرد الآخر من الجامع بناءً على أنّ كلّ وجوب مقيّد بعدم الإتيان بمتعلّقه(1)، فلا يعقل شمول وجوب الجامع لفرض وقوع الفرد الآخر خارجاً، وهو العتق مثلا.

المبنى الثالث: أنّ الوجوب التخييريّ عبارة عن سنخ طلب مشوب بجواز الترك إلى البدل، فهو مرتبة متوسّطة بين الوجوب التعيينيّ والاستحباب. فالوجوب التعيينيّ كوجوب صلاة الصبح طلب لا يرخّص في تركه مطلقاً، والاستحباب كاستحباب صلاة الليل طلب يرخّص في تركه مطلقاً. والوجوب التخييري كوجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة المخيّر بينها وبين صلاة الجمعة طلب مقترن بالترخيص في الترك، لكن لا مطلقاً، بل بحصّة خاصّة من الترك، وهي الترك إلى البدل. وتمام الكلام في شرح ذلك وتحقيقه موكول إلى محلّه.



(1) إلّا أنّ هذا المبنى باطل عندنا وعند اُستاذنا الشهيد؛ لأنّ الذي يسقط بفعل المتعلّق هو فاعليّة الوجوب لا فعليّته.

232

وعليه، فنسبة الوجوب التخييريّ إلى التعيينيّ كنسبة الاستحباب إلى الوجوب، وتثبت التعيينيّة في مقابل التخييريّة بكلّ ما يثبت به الوجوب في مقابل الاستحباب، فمثلا يقال في باب الوجوب والاستحباب: إنّ الأمر إن لم يكن موضوعاً للوجوب فهو يدلّ على الوجوب بالإطلاق؛ لأنّ مفاده هو النسبة الإرساليّة والإلقائيّة. والإلقاء بوجوده التكوينيّ يسدّ كلّ أبواب العدم، فيكون ظاهر الكلام هو سدّ كلّ أبواب العدم تشريعاً. فهذا البيان يأتي لإثبات التعيينيّة؛ حيث إنّ في الوجوب التخييريّ يبقى بعض أبواب العدم مفتوحاً، بينما في الإلقاء التكوينيّ لا يبقى بعض أبواب العدم مفتوحاً(1).

دوران الأمر بين العينيّة والكفائيّة:

المقام الثالث: في الدوران بين العينيّة والكفائيّة. ونكتفي في ذلك بالتنبيه على أنّ الكلام هنا هو عين ما مضى في المقام الثاني، فيأتي في تصوير الكفائيّة في مقابل العينيّة عين المباني الثلاثة المتقدّمة، وعلى كلّ واحد منها يأتي ما ذكرناه.



(1) ونحن اخترنا فيما سبق دلالة الأمر على الوجوب بالوضع، وهنا أيضاً تكون دلالة الأمر على التعيين بعد فرض تفسير التخيير بمعنى طلب مشوب بجواز الترك إلى البدل بالوضع؛ فإنّ جواز الترك إلى البدل للعتق مثلا مستوىً من مستويات عدم وجوب العتق، فإنّ عدم وجوبيّة الطلب المطلق يكون بناءً على هذا المبنى عبارة عن مشوبيّة الطلب بجواز الترك مطلقاً، والتخيير عبارة عن المشوبيّة بجواز الترك إلى البدل، وهذا مستوىً أنزل من مستوى جواز الترك المطلق.

وبكلمة اُخرى: إنّ الأمر وضع لإفهام سدّ جميع أبواب عدم الفعل تشريعاً، وهذا كما ينفي الاستحباب ينفي التخيير؛ لأنّ أحد بابي العدم وهو باب الترك إلى البدل معه مفتوح.

233

ورود الأمر عقيب الحظر أو في مورد توهّمه

الجهة السادسة: إذا ورد الأمر عقيب الحظر أو في مورد توهّمه، فكأنّما اتّفقوا على عدم ظهوره في الوجوب، ووقع الكلام في أنّه: هل يكون ظاهراً في الإباحة، أو الحكم السابق، أو لا ؟

وذكر السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ: أنّ الانسلاخ من الدلالة على الوجوب ثابت على كلّ حال، سواء قلنا: إنّ تلك الدلالة بحكم العقل، أو بالإطلاق ومقدّمات الحكمة، أو بالوضع؛ وذلك للاكتناف بما يحتمل القرينيّة(1)، وهو كونه في مورد توهّم الحظر، وهو يكفي لرفع الظهور وضعيّاً كان أو غيره، فمثلا لفظة «أسد» ظاهرة وضعاً في الحيوان المفترس، لكن لو اتّصلت بما يحتمل قرينيّته على إرادة الرجل الشجاع، ارتفع الظهور(2).



(1) لو كانت الدلالة بالإطلاق أو الوضع، فبطلانها بما تحتمل فيه القرينيّة واضح، ولكن لو كانت الدلالة بالعقل، فقد يقال: لا معنى لبطلانها بما يحتمل القرينيّة؛ لأنّ الظهور لم يكن لفظيّاً كي يكون اكتنافه بمحتمل القرينيّة موجباً لإجماله، إلّا أنّ السيّد الخوئيّ (رحمه الله)يدّعي: أنّ حكم العقل بالوجوب إنّما يكون إذا لم تقم قرينة على الترخيص، وبما أنّ وقوع الصيغة عقيب الحظر محتمل القرينيّة على ذلك فالوجوب لا يثبت.

(2) راجع المحاضرات، ج 2، ص 205 ـ 206 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

234

وهذا الكلام بهذا المقدار يمكن النقاش فيه بأنّه لماذا يكون وروده في موردتوهّم الحظر صالحاً للقرينيّة على عدم إرادة الوجوب، غايته أن يكون هذا موجباً لاحتمال عدم إرادة الوجوب، ومجرّد احتمال عدم إرادة الوجوب لا يسقط الظهور، وما أكثر الظهورات التي يحتمل عدم إرادتها، فلماذا وعلى أيّ أساس يكون ورود الأمر في مورد توهّم الحظر محتمل القرينيّة على عدم إرادة الوجوب؟

وتحقيق المطلب: أنّ الأمر له مدلول تصوّريّ وهو النسبة الإرساليّة والإلقائيّة ونحو ذلك من التعبيرات، ومدلول تصديقيّ وهو وجود الإرادة الطلبيّة في نفس المولى. والأمر في مورد توهّم الحظر مستعمل في نفس المدلول التصوّريّ، وليس كاستعمال كلمة «أسد» مجازاً في الرجل الشجاع مثلا، فالأمر حتّى في قوله: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) مستعمل في النسبة الإرساليّة، غاية الأمر: أنّ إخطار النسبة الإرساليّة في مورد توهّم الحظر يُناسب مدلولين تصديقيّين، فكما يُناسب إرادة إلقاء المخاطب على المادّة كذلك يناسب كسر تحرّجه من الوقوع على المادّة، فإنّ المتحرّج والمتردّد في الوقوع على المادّة يناسب عرفاً أن يكسر سورة تحرّجه وتحيّره بأن يؤخذ بيده ويلقى على المادّة، فإنّ أتمّ اُسلوب في كسر تحرّج العبد هو إلقاؤه على المادّة، فكون الأمر في مورد توهّم الحظر لم يشكّل قرينة على مستوى المدلول التصوّريّ للكلام حتّى يقال: إنّ وروده مورد الحظر لماذا يكون قرينة على الخلاف، غايته إيجاد احتمال إرادة الخلاف، وإنّما شكّل إمكانيّة مدلول تصديقيّ آخر، بينما إذا لم يكن وارداً في مورد توهّم الحظر، كان المدلول التصديقيّ المناسب له منحصراً في إبراز إرادة المولى وطلبه. أمّا كسر تحرّج العبد، فلا معنى له؛ إذ لم يكن له

235

تحرّج، فالورود مورد توهّم الحظر إنّما هو قرينة توجب الإجمال فيمرتبة المدلول التصديقيّ.

وبهذا يظهر: أنّ الخلاف في أنّه: هل يكون حينئذ له ظهور في الإباحة مثلا، أو لا بلا مورد، فإنّ المدلول التصوّريّ لم يختلف، وهو كما يناسب إرادة كسر التحرّج كذلك يناسب إرادة الطلب والإلقاء، فلا يتكوّن ظهور في إرادة حكم آخر غير الوجوب(1).



(1) هذا الطرز من البيان ناتج من بنائه (رحمه الله) على أنّ دلالة الأمر على الوجوب تكون على أساس دلالته التصوّريّة على النسبة الإرساليّة التكوينيّة السادّة لكلّ أبواب العدم، ودلالته التصديقيّة بحكم أصالة التطابق بين التصوّريّة والتصديقيّة على سدّ تمام أبواب العدم تشريعاً المساوق للوجوب، ولكنّه مضى منّا أنّ الصحيح: كون الدلالة التصوّريّة الوضعيّة للأمر ابتداءً هي النسبة الإرساليّة التشريعيّة السادّة لجميع أبواب العدم، وأنّ دلالة الأمر على الوجوب تكون بالوضع.

فيبقى هنا علينا تخريج عدم دلالة الأمر على الوجوب عند وروده مورد توهّم الحظر أو عقيب الحظر، وهو أنّ الدلالة التصوّريّة الوضعيّة ناتجة من شدّة الاقتران بين اللفظ والمعنى، والدلالة الجدّيّة لنفس المعنى التصوّريّ ناتجة من غلبة جدّيّة نفس ما اُلقيفي الذهن من المعنى التصوّريّ. وهذه الغلبة إذا انكسرت نتيجة وجود معنىً جدّيّآخر مناسب مناسبة قويّة لذاك المعنى التصوّريّ، تنكسر تلك الدلالة لا محالة. وهذا ما وقع في ما نحن فيه، أي: أنّ مناسبة قصد كسر الحاجز النفسيّ عن الفعل للأمر بالفعلبلغت مرتبة مانعة عن غلبة جدّيّة المعنى الأصليّ، فانكسرت الدلالة على الوجوب بلحاظ مرحلة الجدّ والتصديق لا بلحاظ مرحلة التصوّر. أمّا أن يدلّ عندئذ على الإباحة بالمعنى الخاصّ الذي هو مقابل الأحكام الأربعة الاُخر، أو على رجوع الحكم السابق،فلا نكتة فيه.

236

مورد من موارد إجمال صيغة الأمر:

وبمناسبة ذكرنا لكون الأمر في مورد توهّم الحظر قرينة نوعيّة توجب الإجمال سوف نحاول إبراز قرينة نوعيّة اُخرى توجب إجمال الصيغة.

فنقول: إنّ هناك نكتة نوعيّة توجب إجمال الظهور حينما تكتنف به طبّقناها في موارد عديدة من الفقه، وتوضيحها يكون بذكر مقدّمتين:

الاُولى: أنّه كما أنّ احتمال قرينيّة الموجود المتّصل يوجب الإجمال كما لو قال: «رأيت أسداً» وعقّب ذلك بكلمة لم نسمعها، فلم ندرِ هل قال: «يرمي» أو قال: «يزأر»، كذلك احتمال وجود القرينة يوجب الإجمال كما لو قال: «رأيت أسداً» ولم نستطع أن نستمع لنرى: هل عقّب الجملة بكلمة: «يرمي» أو لا خلافاً لما هو المشهور، أو على الأقلّ صاحب الكفاية ومن بعده. وتحقيق ذلك موكول إلى محلّه.

الثانية: أنّ احتمال وجود القرينة المتّصلة لو بقي بلا دافع وإن كان يوجب الإجمال كما قلنا، ولكن إذا كانت القرينة المتّصلة المحتملة الوجود لفظيّة، أمكن دفع احتمال وجودها في رواية نحتمل أنّها كانت متّصلة بقرينة من هذا القبيل بشهادة الراوي، فإنّ ظاهر حاله نقل الرواية مع القرائن المكتنفة بها، فسكوته شهادة بالعدم. وأمّا إذا كانت القرينة المتّصلة المحتملة الوجود عبارة عن ارتكاز متشرّعيّ أو عرفيّ (حيث إنّ ارتكازاً من هذا القبيل باعتباره يعتبر مفروغ الوضوح والانتقاش في ذهن المتكلّم والسامع يعدّ قرينة متّصلة) فلا يمكن دفعه بسكوت الراوي؛ فإنّه ليس من عادته وطبعه نقل القرائن الارتكازيّة، وهذا يوجب إجمال جملة من الظهورات في الروايات؛ حيث يحتمل اكتنافها بارتكاز من هذا القبيل، فإنّ هذا الاحتمال لا يدفع بسكوت الراوي بحكم المقدّمة الثانية، فيوجب الإجمال بحكم المقدّمة الاُولى.

237

وطبعاً مقصودنا باحتمال ارتكاز من هذا القبيل ليس مطلق الاحتمال العقليّ الناشئ من مثل «كلّما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان» حتّى ينفتح من ذلك باب لإجمال الظهورات في موارد كثيرة جدّاً، وإنّما المقصود الاحتمال العقلائيّ الناشئ من منشأ عقلائيّ يعتدّ به.

ومبنيّاً عليه نقول: إنّ صيغة الأمر وإن كانت بذاتها ظاهرة في الوجوب، ولكن قد يحتمل فيها بمنشأ عقلائيّ أنّها كانت مكتنفة بارتكاز يمنع عن ظهورها في الوجوب سنخ اكتناف أمر المجتهد لأحد اليومَ بصلاة الليل بارتكاز يمنع عن ظهورها في الوجوب، ويوجب حملها على النصيحة والإرشاد؛ لوضوح عدم معرضيّة صلاة الليل للافتاء بالوجوب، وأهمّ هذه المناشئ هو أن يكون الاتّجاه العامّ في الفقه الشيعيّ للعلماء قديماً وحديثاً عدم القول بالوجوب، فنرفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب بغضّ النظر عن مسألة الإجماع؛ وذلك لأنّنا نحتمل أنّه كان في زمان الإمام(عليه السلام) ارتكاز عدم وجوب ذلك ووضوحه المتشرّعيّ بشكل كان يعدّ ذلك قرينة متّصلة على عدم الوجوب، ولا يضرّ بهذا الاحتمال فرض خلاف شاذّ بين العلماء من قبل مثل ابن جنيد، أو ابن أبي عقيل، أو مثل الشيخ في أحد كتبه ونحو ذلك، وإنّما المهمّ كون الاتّجاه العامّ في الفقه هو عدم الوجوب، بينما لو وجد قول معتدّ به بين قدماء الأصحاب بالوجوب، كان ذلك مانعاً عن احتمال ارتكاز من هذا القبيل عند أصحاب الأئمّة احتمالا عقلائيّاً؛ إذ يقال: لو كان الأمر كذلك، كيف انقلب الحال في أوائل عصر الإفتاء من قبل العلماء إلى رأي معتدّ به يقول بالوجوب؟!

وبهذا نتخلّص من كثير من الأوامر الواردة في باب الصلاة والصوم والحجّ وغيرها الظاهرة بدواً في الوجوب بلا قرينة متّصلة أو منفصلة على الاستحباب أوجبت بلبلة عند الفقهاء؛ لأنّهم لا يلتزمون بالوجوب، فمن يقول بحجّيّة الشهرة،

238

أو الإجماع المنقول، أو نحو ذلك يعالج المطلب عن هذا الطريق، ولكن من ينكر حجّيّة الشهرة والإجماع المنقول، بل والإجماع المحصّل ما لم يفد الاطمئنان بالحكم، فطريق حلّ المعضل له هو أن يلتفت إلى ما قلناه، فيرى أنّ هناك احتمالا معتدّاً به لافتراض ارتكاز في زمان الإمام(عليه السلام) يمنع عن انعقاد ظهور الصيغة في الوجوب، فبهذا يرفع اليد عن ظهور أوامر غسل الجمعة وغسل الإحرام في الوجوب، وعن أوامر اُخرى كثيرة في الفقه خصوصاً في قسم العبادات.