90

العطش.

والصحيح في الجواب: أنّ التعهّد ليس من سنخ الإرادة، بل من سنخ الالتزام وجعل المسؤوليّة على نفسه من قبيل النذر، وهو فعل نفسيّ يكون بنفسه ذا مصلحة، ومصلحته حصول الدلالة للّفظ، حيث يقول أصحاب مبنى التعهّد: إنّ هذا التعهّد يجعل اللفظ دالاًّ على المعنى.

فظهر: أنّ هذا الإشكال المشهور غير وارد على مسلك التعهّد. والصحيح في ردّ هذا المسلك هو ما مضى في الكلمتين السابقتين.

هذا تمام الكلام في مسلك التعهّد.

 

مسلك الاعتبار:

وأمّا المسلك الثاني: وهو مسلك الاعتبار، فيتشعّب إلى عدّة شعب على أساس اختلاف أرباب هذا المسلك فيما تعلّق به الاعتبار، فهنا عدّة وجوه يُفرض ما هو المُعتبر ـ أي: متعلّق الاعتبار ـ في بعضها غير ما هو المعتبر في البعض الآخر:

الوجه الأوّل: أنّ متعلّق الاعتبار في الأوضاع اللُغويّة هو الوضع الخارجيّ، وتوضيح ذلك:

إنّه لا إشكال في أنّ وضع شيء على شيء خارجاً يكون في كثير من الأحيان دالاًّ على شيء، فمثلاً ينصبون الأعلام على الأرض في أمكنة متباعدة بين فرسخ وفرسخ مثلاً لتعيين رؤوس الفراسخ، أو يُنصب علم على بئر لمعرفة وجود البئر هنا ونحو ذلك. وفي باب الأوضاع اللغويّة أيضاً يقصد وضع شيء على شيء، أي: وضع اللفظ على المعنى لتتمّ الدلالة، إلاّ أنّ الوضع الخارجيّ غير ممكن هنا حقيقة، فيوجد هذا الوضع الخارجيّ اعتباراً، أي: يعتبر أنّ اللفظ وضع على المعنى فتتمّ

91

بذلك الدلالة(1).

وأورد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على ذلك:

أوّلاً: أنّه لو فرض في باب الأوضاع اللغويّة اعتبار الوضع الخارجيّ الثابت في موارد وضع شيء على شيء خارجاً للدلالة، للزم أن يكون هذا الوضع الاعتباريّ كذاك الوضع الخارجيّ، إلاّ أنّ ذاك حقيقيّ وهذا اعتبار لذاك في حين أنّ الأمر ليس كذلك وتوضيح المقصود: أنّه في باب الوضع الخارجيّ توجد عندنا ثلاثة أشياء: الموضوع وهو العلَم مثلاً، والموضوع عليه وهي الأرض، والموضوع له وهو كون هذا المكان رأس الفرسخ مثلاً. وأمّا في باب اللغة فقد فرض وضع اللفظ على المعنى، فاللفظ موضوع، والمعنى موضوع عليه، ولا يوجد شيء ثالث يكون موضوعاً له، فكيف صار هذا اعتباراً للوضع الخارجيّ، في حين يكون الوضع الخارجيّ للدلالة ذا أركان ثلاثة، وهذا لا يكون له إلاّ ركنان؟!(2).

وثانياً: ما ينقدح من الأوّل، وهو: أنّه لا إشكال في باب الأوضاع اللغويّة في أنّ اللفظ موضوع والمعنى موضوع له، بينما لازم هذا البيان أنّ المعنى موضوع عليه وليس موضوعاً له، فهذا كيف يكون؟(3).

أقول: إنّ صاحب هذا الوجه بإمكانه أن يدفع كلا هذين الإيرادين، وذلك بأن


(1) راجع نهاية الدراية في شرح الكفاية، ج 1، ص 47 بحسب طبعة آل البيت.

(2) راجع تقرير الشيخ الفياض، ص 47 بحسب طبعة موسوعة الإمام الخوئيّ، ج 43 من تلك الموسوعة.

(3) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 11 ـ 12 بحسب الطبعة المعلّق عليها من قبل السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، وراجع محاضرات الفيّاض الطبعة والمجلّد والصفحة المشار إليها في تخريجنا السابق.

92

يقول: إنّ الموضوع له والموضوع عليه في الوضع الخارجيّ قد يكونان متعدّدين في الوجود الخارجيّ، وقد يكونان متعدّدين بالتحليل لا بالوجود الخارجيّ، فمثلاً قد ينصب علَم على أرض للدلالة على وجود السبع في هذه الأرض، فيكون الموضوع عليه هو الأرض والموضوع له هو السبع، وهما متعدّدان بحسب الوجود الخارجيّ، وقد ينصب علَم على أرض للدلالة على رأس الفرسخ، فيكون الموضوع عليه هو الأرض والموضوع له هو رأس الفرسخ، وهما متّحدان في الوجود الخارجيّ متعدّدان بالتحليل، فالأرض بما هي هي وبغضّ النظر عن تحديدها تعتبر موضوعاً عليه، وبما هي رأس الفرسخ تعتبر موضوعاً له، فليكن ما نحن فيه من هذا القبيل، وذلك بأن يفرض لفظ « الأسد » مثلاً موضوعاً، والمعنى المستعمل فيه على إجماله وبغضّ النظر عن تحديده وتعيينه موضوعاً عليه، وكون ذاك المعنى هو الحيوان المفترس موضوعاً له، فتعدّد الموضوع عليه والموضوع له بالتحليل، وصار الوضع هنا أيضاً ذا أركان ثلاثة، فارتفع الإشكال والاستغراب الأوّل، وهو: أنّه كيف أصبح هذا الوضع ذا ركنين؟ فإنّك عرفت أنّه أيضاً ذو أركان ثلاثة، غاية ما هناك: أنّه يكون التعدّد بين الموضوع له والموضوع عليه بالتحليل، وهذا ما يكون في كثير من موارد الوضع الخارجيّ أيضاً.

وبهذا يتّضح الجواب على الإشكال الثاني أيضاً، وهو: أنّ المعنى يجب أن يكون موضوعاً عليه، فإنّك قد عرفت أنّ المعنى وهو الحيوان المفترس موضوع له، وإنّما الموضوع عليه هو المستعمل فيه على إجماله.

فقد ظهر: أنّ صاحب هذا الوجه بإمكانه دفع هذين الإشكالين.

إلاّ أنّ الصحيح: أنّ أصل هذا الوجه لا يعدو أن يكون مجرّد تلاعب بالألفاظ. وتوضيح ذلك: أنّ هذا الوجه يفترض أنّه قد اعتبر في الأوضاع اللغويّة الوضع

93

الخارجيّ الموجود في مثل وضع العلَم على الأرض للدلالة على شيء، ولكنّنا نحن ننقل الكلام إلى نفس موارد الوضع الخارجيّ الحقيقيّ لكي نرى هل أنّ وضع العلَم على مكانه بذاته ـ بلا أيّ مؤونة اُخرى ـ يدلّ على رأس الفرسخ أو على وجود البئر أو السبع ونحو ذلك؟ طبعاً لا؛ ولهذا ترى لو أنّ النائم ونحوه جعل العَلَم من دون وعي على مكان لم يدلّ على شيء. إذن، فهذه الدلالة تكون ببركة ضمّ مؤونة اُخرى من بناء نفسيّ مثلاً على جعل الأعلام على رؤوس الفراسخ، أو من شيء آخر. فإذا كان الوضع الخارجيّ بوجوده الحقيقيّ لا يدلّ وحده على شيء فما ظنّك بوجوده الاعتباريّ؟! إذن، فلابدّ من صرف عنان الكلام إلى معرفة حقيقة تلك المؤونة الاُخرى التي لولاها لا تتمّ الدلالة.

الوجه الثاني: أنّ المعتبر هو كون اللفظ نفس المعنى. فلفظة « أسد » مثلاً وإن كانت حقيقة غير واقع الحيوان المفترس لكن الواضع يعتبر اللفظ عين المعنى لكي تتمّ بذلك الدلالة(1).

 


(1) من الطريف: أنّ بعض الكتابات فرضت أنّ العلاقة الوضعيّة عبارة عن حصول الهوهويّة الحقيقيّة أو التوحّد الحقيقيّ بين صورة اللفظ وصورة المعنى، وأنّه على هذا الفرض يتمّ ما يقال من فناء اللفظ في المعنى أو مرآتيّته له. أمّا اعتبار هو هو أو تخصيص اللفظ بالمعنى أو جعل الملازمة بينهما أو التعهّد أو نحو ذلك فكلّها من مقدّمات تحقّق الهوهويّة بين صورتَي اللفظ والمعنى، وقد أعرض وأطول في إثبات ذلك بالشواهد والأدلّة (راجع الرافد، ج 1 المدّعى كونه تقريراً لبحث آية الله السيّد السيستانيّ حفظه الله، ص 144 فصاعداً).

وطبعاً هو لا يقصد التوحّد بين واقع اللفظ وواقع المعنى الخارجيّين، فإنّ بطلان ذلك من أوضح الواضحات، وإنّما يقصد التوحّد بين صورتيهما الذهنيّة. ولا أدري كيف

94

وأورد على ذلك السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بأنّه لو كان اللفظ منزّلاً منزلة المعنى لكن اللفظ حاملاً لأثر المعنى، فإنّ تنزيل شيء منزلة شيء آخر إنّما يعني تنزيله منزلته في الأثر وإسراء الأثر من المنزّل عليه إلى المنزّل، في حين نرى أنّ شيئاً من آثار المعنى لا يترتّب على اللفظ، فواقع الحيوان المفترس مثلاً يأكل ويشرب ويمشي ويزأر وما إلى ذلك، ولا يترتّب شيء من هذه الآثار على لفظة أسد(1).

وهذا الكلام من قبل السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ مردّه في الحقيقة إلى مجموع أمرين:

أحدهما: تفسير الاعتبار بالتنزيل بلحاظ الآثار. والثاني: دعوى عدم ترتّب أثر من آثار المعنى على اللفظ.

ويمكن المناقشة في كلا هذين الأمرين:

أمّا الأمر الأوّل: فلأنّ الاعتبار لا ينحصر معناه في التنزيل، بل يمكن أن يقصد به الفرض والاعتبار بمعنىً يقابل التنزيل، ونظير ذلك: أنّ مدرسة المحقّق النائينيّ(قدس سره) ادّعت في باب الأمارات أنّ دليل الحجّيّة اعتبرها علماً وجعلها طريقاً. وأورد على ذلك بأنّ تنزيل الأمارة منزلة العلم غير معقول؛ لأنّ أثر العلم الطريقي وهو التنجيز والتعذير إنّما هو أثر عقليّ لا يمكن للشارع إسراؤه منه إلى غيره. وكان الجواب على ذلك من قبل مدرسة المحقّق النائينيّ(رحمه الله) أنّنا لا نقصد بجعل


يستطيع أن يصدّق توحّد الصورتين حقيقةً رغم تعدّد ذي الصورة، مع وضوح: أنّ كلّ ذي صورة إنّما يشعّ صورته هو دون صورة شيء آخر؟!

(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 12 تحت الخطّ.

95

العلم والطريقيّة تنزيل الأمارة منزلة العلم، بل نقصد بذلك إيجاد فرد اعتباريّ للعلم بالجعل والاعتبار، فيكون للعلم فردان: فرد حقيقيّ وفرد اعتباريّ، فليكن ما نحن فيه من هذا القبيل بأن نقصد أنّ الواضع اعتبر اللفظ نفس المعنى، أي: جعله وفرضه ادّعاءً نفس المعنى من قبيل الادّعاء السكاكيّ لكي تتمّ الدلالة، وهذا غير التنزيل.

وأمّا الأمر الثاني: فلأنّ أحد آثار المعنى هو أنّ الإحساس به يوجب تصوّره في الذهن، وقد سرى هذا الأثر بالوضع إلى اللفظ، فالإحساس به يوجب تصوّر المعنى.

نعم، الصحيح: أنّ هذا الوجه أيضاً تلاعب بالألفاظ؛ فإنّ مجرّد فرض أنّ الوضع عبارة عن اعتبار اللفظ متّحداً مع المعنى لا يكشف السرّ في المقام، فإنّ المشكلة هي: أنّنا نرى أنّ مجرّد اعتبار شيء متّحداً مع شيء آخر وجعله هو بالفرض والاعتبار لا يوجب سراية سائر آثاره منه إليه، فلو اعتبر الماء ناراً مثلاً لا نرى أنّه يحرق، ولو اعتبر لفظة « الأسد » واقع الحيوان المفترس لم يترتّب عليه سائر آثاره التكوينيّة. فالسؤال هو: أنّه كيف صار من بين الآثار خصوص هذا الأثر سارياً إلى اللفظ بمجرّد فرض واعتباره نفس المعنى؟ فالمهمّ في المقام إنّما هو حلّ هذا اللغز، وفهم أنّه كيف ترتّب أحد الآثار التكوينيّة للمعنى على اللفظ؟!

الوجه الثالث: أنّ الواضع اعتبر اللفظ أداةً للدلالة على المعنى. فأداتيّة شيء لشيء قد تكون ذاتيّة وتكوينيّة ككون الصابون والماء أداة وآلة للنظافة، وقد تكون بالجعل والاعتبار كجعل اللفظ أداة وآلة للدلالة.

وهذا الوجه أيضاً ليس إلاّ تلاعباً بالألفاظ فإنّنا نريد أن نعرف أنّ شيئاً لم يكن سبباً لشيء كيف صار سبباً له بمجرّد الفرض والاعتبار، بينما نحن نعرف أنّ سائر

96

الآثار التكوينيّة لا تترتّب على شيء بمجرّد الفرض والاعتبار؟ وليس حلّ سرّ الدلالة في باب الوضع بمجرّد فرض اعتبار في المقام سواء فرض المعتبر عبارة عن الوضع الخارجيّ أو عن كون اللفظ نفس المعنى أو عن كونه آلة للدلالة على المعنى، فإنّه على أيّ تقدير من هذه التقادير نتساءل: أنّ الاعتبار والجعل كيف أوجد سببيّة تكوينيّة بين الإحساس باللفظ وتصوّر المعنى؟

 

مسلك الجعل الواقعيّ:

وأمّا المسلك الثالث: وهو مسلك الجعل الواقعيّ، فبيانه: أنّ ثبوت الشيء يكون على ثلاثة أقسام:

1 ـ الثبوت في الخارج من قبيل الجواهر والأعراض.

2 ـ الثبوت الاعتباريّ، وقوامه يكون بنفس الاعتبار والفرض والخيال، وينعدم بمجرّد انعدام الاعتبار، كما لو اعتبرنا وجود بحر من زئبق، فيكون لهذا البحر وجود اعتباريّ وفرضيّ ينعدم برفع اليد عن هذا الاعتبار.

3 ـ ثبوت الشيء في الواقع من دون أن يكون له وجود خارجيّ كالجواهر والأعراض، ولا أن يكون ثبوته بمجرّد الاعتبار والخيال كالبحر من زئبق، وذلك من قبيل إمكان الإنسان مثلاً؛ فإنّه ليس مجرّد أمر اعتباريّ وفرضيّ، فإنّ الإنسان ممكن الوجود واقعاً سواء وجد معتبر وفارض أو لا، وليس أمراً موجوداً في الخارج كنفس الإنسان، وإلاّ لاحتاج إلى إمكان آخر وهكذا إلى أن يتسلسل، وإنّما هو أمر له حظّ من الواقعيّة من دون أن يكون موجوداً في الخارج أو اعتباراً صِرفاً، ومن هذا القبيل جميع الملازمات والسببيّات، فسببيّة النار للإحراق مثلاً تكون أمراً واقعيّاً ثابتاً في لوح الواقع، لا أمراً اعتباريّاً وليس لها وجود خارجيّ

97

من سنخ وجود الجواهر والأعراض. ومن جملة هذه السببيّات سببيّة سماع اللفظ لخطور المعنى في الذهن، فهذه السببيّة أمر واقعيّ لا موجود خارجيّ ولا شيء اعتباريّ. وعمليّة الوضع عبارة عن جعل هذه السببيّة الواقعيّة، وإيجادها للّفظ حقيقةً(1).

وأورد على ذلك السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بأنّه هل يفرض أنّ الواضع جعل السببيّة في حقّ خصوص العالم بالوضع، أو يفرض أنّه جعلها مطلقاً من دون فرق بين العالم والجاهل؟ فإن فرض الثاني لزم ثبوت الدلالة حتّى عند الجاهل بالوضع، بينما ليس الأمر هكذا. وإن فرض الأوّل لزم أخذ العلم بالوضع في موضوع الوضع، أي: أنّ اللفظ ليس سبباً لتصوّر المعنى إلاّ في حقّ العالم بالسببيّة، وهذا تهافت ودور، حيث إنّ السببيّة توقّفت على العلم بها توقّف الشيء على موضوعه، بينما العلم بها متوقّف عليها توقف العلم على معلومه(2).

أقول: لو كنّا نحن وهذا الإشكال لأمكن لصاحب هذا المسلك أن يصبّ مسلكه بصياغة لا يرد عليها هذا الإشكال، وذلك بأن يقال: إنّ سبب الانتقال إلى المعنى مركّب من جزءين: أحدهما: اللفظ والآخر: العلم بالوضع، والواضع جعل اللفظ جزء السبب لا تمام السبب، وقد جعله جزء السبب مطلقاً من دون فرق بين الجاهل بالوضع والعالم به، إلاّ أنّ الجاهل بالوضع لا تثبت عنده الدلالة؛ لعدم انضمام الجزء الآخر من السبب وهو العلم بالوضع إلى الجزء الأوّل وهو اللفظ، فالسببيّة التامّة موقوفة على العلم بالوضع، والعلم بالوضع موقوف على السببيّة


(1) ربّما يكون هذا التفسير للوضع مأخوذاً من نهاية الأفكار، ج 1، ص 26، أو المقالات، ج 1، ص 62 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.

(2) راجع المحاضرات للشيخ الفيّاض، ج 1، ص 39.

98

الضمنيّة لا السببيّة التامّة، فلا دور ولا تهافت(1).

إلاّ أنّ هذا الكلام أيضاً لا يعدو أن يكون مجرّد عبارة فارغة كالمسلك السابق، فإنّنا نقول: ماذا يقصد بدعوى: جعل الواضع اللفظ سبباً للانتقال إلى المعنى؟ هل يقصد بذلك خلقه للسببيّة الذاتيّة في اللفظ، أي: جعل اللفظ سبباً ذاتيّاً للانتقال إلى المعنى على حدّ سببيّة النار للحرارة؟ أو يقصد بذلك جعل السببيّة العرضيّة للّفظ، بمعنى: أنّه يوجد في اللفظ ما هو سبب ذاتاً للانتقال إلى المعنى، من قبيل جعل الماء سبباً عرضيّاً للحرارة، بمعنى: أن يوجد فيه ما هو سبب للحرارة، وذلك بجعل الماء على النار مثلاً لكي يكسب الحرارة، ويكون سبباً بالعرض للحرارة، والسبب الحقيقيّ لها هو الحرارة التي أُوجدت في الماء، حيث إنّ الحرارة تولّد الحرارة؟

فإن قصد الأوّل، قلنا: من الواضح أنّ السببيّة في ذات الأسباب لا تقبل الجعل، وإنّما هي ذاتيّة لها تنبع من حاقّ ذاتها، ولا يمكنك أن تجعل الماء مثلاً سبباً للحرارة على حدّ سببيّة النار للحرارة(2)، وإن قصد الثاني، أي: أنّ الواضع يجعل السببيّة العرضيّة للّفظ، أي: أنّه يوجد في اللفظ شيئاً يكون ذلك الشيء سبباً ذاتيّاً للانتقال إلى المعنى، قلنا: إنّ الذي كان ينبغي بيانه ـ لكي ينكشف سرّ اللغة ـ هو: أنّه ما هو ذلك الشيء الذي يمتلك السببيّة الذاتيّة للانتقال إلى المعنى والذي


(1) وهذا الجواب غير الجواب الذي يذكر في مسألة أخذ العلم بالحكم في موضوع ذلك الحكم من التفكيك بين الجعل والمجعول مثلاً، وأخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول، فلو اُسري ذاك الجواب إلى ما نحن فيه ثبت جوابان على هذا الإشكال.

(2) هذا على المسلك المعروف من ذاتيّة السببيّات للأسباب، أمّا على المسلك القائل بأنّه جرت حكمة الله تعالى ومشيئته على إيجاد المسبّبات متى ما توجد ما تسمّى بالأسباب، فالأمر أيضاً كذلك، فإنّ الواضع لا يستطيع أن يوجِد مشيئة الله في ترتّب انتقال الذهن إلى المعنى على ما لم يكن قبلاً مترتّباً عليه في مشيئة الله، وهو اللفظ.

99

أوجده الواضع في اللفظ حتّى أصبح اللفظ سبباً للانتقال إلى المعنى؟ فصحيح: أنّ سببيّة اللفظ لتصوّر المعنى كسائر السببيّات هي من الاُمور الواقعيّة غير الموجودة في الخارج، ولا مجرّد اعتبار وخيال، وأنّ الواضع أوجد في اللفظ ما يمتلك هذه السببيّة، ولكن الكلام في معرفة ذلك الشيء، ولم يبيّن هذا.

 

المبنى المختار في حقيقة الوضع:

وتحقيق الحال في المقام:

إنّ هناك سببيّة تكوينيّة، وقانوناً تكوينيّاً جعله خالق الكون الذي أوجد الطبيعة وأخضعها للقوانين المسيطرة عليها، وهو: أنّ الإنسان بحسب طبعه وفطرته التي فطره الله عليها متى ما أحسّ بشيء كان إحساسه بذلك الشيء سبباً لانتقال ذهنه إلى الصورة الذهنيّة لذلك الشيء، فإلاحساس بالأسد يوجب انتقال الذهن إلى معنى الأسد مثلاً.

وهناك سببيّتان اُخريان وقانونان ثانويّان تكوينيّان يحكمان على القانون الأوّل حكومة تكوينيّة، وكأنّهما توسيعان لذلك القانون:

الأوّل: أنّ الإحساس بما يشبه شيئاً سبب أيضاً لتصوّر معنى ذلك الشيء، فمن رأى صورة الأسد مرسومةً على الورق ينتقل ذهنه إلى معنى الأسد، وكأ نّ الإحساس بصورة الأسد إحساس بنفس الأسد.

الثاني: أنّ الإحساس بشيء اقترن في الذهن بشيء آخر اقتراناً مخصوصاً يكون أيضاً سبباً لتصوّر ذلك الشيء الآخر، فترى أنّ من أحسّ بزئير الأسد مثلاً انتقل ذهنه إلى معنى الأسد، وكأنّ الإحساس بزئير الأسد إحساس بنفس الأسد. وأقصد بالإحساس بصورة الأسد أو زئيره مثلاً ما يشمل انتقال الذهن إلى صورة

100

الأسد أو زئيره ولو من دون إحساس خارجيّ، وأقصد بالاقتران المخصوص أن تكون للاقتران خصوصيّة كمّيّة من قبيل كثرة اقتران زئير الأسد بالأسد، أو خصوصيّة كيفيّة بأن يكون الاقتران في ظرف مؤثّر وملفت للنظر كما لو اقترن سفر شخص إلى الحلّة مثلاً بمرض شديد، فمتى ما تذكّر السفر إلى الحلّة تذكّر المرض.

والبشر قد استفاد منذ أبعد العصور في مقام التفهيم والتفاهم من هذين القانونين الثانويّين، فمثلاً تراه يفهّم بعض المعاني بإيجاد صورته باليد وغيرها، فلكي يشير إلى كون فلان لابساً للعمامة أو طويلاً أو قصيراً أو غير ذلك يشير باليد بنحو يصوّر صورة شبيهة بذلك، فينتقل ذهن المخاطب إلى المعنى المقصود، وهذا تطبيق للقانون الأوّل. ولكي يفهّم معنى الأسد يزئر كزئير الأسد فينتقل الذهن من هذا الصوت الشبيه بزئير الأسد إلى زئير الأسد تطبيقاً للقانون الأوّل، ومن زئير الأسد إلى معنى الأسد تطبيقاً للقانون الثاني، فيحصل بذلك تفهيم المعنى المقصود، ولكي يفهّم كون فلان شجاعاً مثلاً يزئر زئير الأسد مشيراً إليه، فينتقل ذهن السامع من صوته إلى زئير الأسد تطبيقاً للقانون الأوّل، ومن زئير الأسد إلى الأسد تطبيقاً للقانون الثاني، ومن الأسد إلى الشجاع للشبه الموجود بينهما تطبيقاً للقانون الأوّل، فبهذا يحصل تصوّر المعنى المقصود وهو الشجاع. وإلى هنا أمكن تكوين لغة للبشر يتفاهمون بها من باب الاستفادة من القانونين التكوينيّين من دون أيّ تصرّف من قبل البشر في كبرى القانون بأن يوجد سببيّة ذاتيّة في شيء لم يكن سبباً، ولا في صغرى القانون بأن يوجد الشبه أو المقارنة فيما لا يكون شبيهاً أو مقارناً، وإذا تكرّر إيجاد صوت يشبه صوت الأسد للدلالة على الشجاع ـ مثلاً ـ أصبح بالتدريج نفس ذلك الصوت دالاًّ على الشجاع من دون توسّط دلالته على صوت الأسد، ودلالة صوت الأسد على الأسد، ودلالة الأسد على الشجاع، وذلك

101

لتكرّر المقارنة في الذهن بين هذا الصوت وبين الشجاع، فتوجد بهذه العمليّة صغرى لكبرى القانون الثاني، فيصبح هذا الصوت دالاًّ بكثرة الاستعمال على الشجاع. وهذا حقيقة الوضع التعيّنيّ الذي قالوا عنه: إنّه يحصل بكثرة الاستعمال، ثُمّ أصبح البشر بالتدريج متعوّداً على دلالة الأصوات على المعاني، وعلى الاستفادة من قانون المقارنة، فأصبحت الذهنيّة البشريّة مهيّأة للوضع بمعنى إقران لفظ بمعنى في الذهن للدلالة عليه، فيقرن الإنسان لفظاً بمعنىً من قبيل قرن لفظة « أسد » بمعناه، أو لفظة « حليب » بمعناه ونحو ذلك مرّة واحدة، لكنّه في ظرف مؤثّر من قبيل أن يقول: سمّيت ابني عليّاً، أو وضعت هذا الاسم عليه، أو اعتبرته عليّاً، وذلك أمام جماعة قد أنست أذهانهم من قبل بدلالة الأصوات على المعاني، والاستفادة من القرن، فيصبح هذا القرن في ظرف مؤثّر من هذا القبيل مُلفتاً للنظر، ويجعل اللفظ دالاًّ على المعنى، وتوجد بهذه العمليّة صغرى اُخرى لكبرى القانون الثاني، وهذا حقيقة الوضع التعيينيّ، فالوضع التعيينيّ والوضع التعيّنيّ كلاهما عبارة عن عمليّة إيجاد الاقتران بين اللفظ والمعنى حتّى يوجد بذلك صغرى من صغريات القانون الثاني، والفرق بينهما: أنّ الاقتران ـ الذي مضى: أنّه لابدّ أن يكون بنحو مخصوص حتّى يوجب الدلالة ـ يتمتّع في الوضع التعيّنيّ بخصوصيّة كمّيّة، وفي الوضع التعيينيّ بخصوصيّة كيفيّة، فروح الوضع والسبب الحقيقيّ للدلالة هو القرن بين اللفظ والمعنى في الذهن بنحو مخصوص(1) سواء تحقّق


(1) وفرق هذا البيان عن نظريّة بافلوف الشهيرة في قصّة دقّ الجرس أو نحو ذلك يمكن أن يفترض بأحد شكلين:

الأوّل: أن يقال: إنّ نظريّة بافلوف نظريّة فسلجيّة عضويّة، ونظريّة اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)

102

إنشاء وجعل، أو اعتبار وتنزيل، أو وضع للّفظ على المعنى، أو تحت المعنى، أو لا، فالتفتيش عن نكتة الوضع والدلالة في كون الوضع اعتباراً أو تنزيلاً أو غير ذلك ليس إلاّ مجرّد تلاعب بالألفاظ.

وقد اتّضح ممّا بيّناه عدّة اُمور:

الأوّل: أنّ الصحيح في الوضع هو مسلك الواقعيّة، لكنّه لابدّ من بيان السرّ ونكتة الدلالة والوضع، وهذا ما صنعناه، لا مجرّد أن يقال: « إنّ الواضع يجعل اللفظ سبباً واقعيّاً للدلالة »، وليس روح الوضع عبارة عن أمر إنشائيّ حتّى يتكلّم


نظريّة سيكولوجيّة نفسيّة، فذاك يقول: إنّ الأثر المادّيّ للطعام ـ ويفترضه سيلان اللعاب ـ سرى إلى ما قارن الطعام لدى الكلب (راجع فلسفتنا، ص 372 ـ 374 بحسب طبعة منشورات عويدات ببيروت، واقتصادنا، ص 54 ـ 57 بحسب طبعة دار الفكر ببيروت). وإسراء ذلك إلى الفكر واللغة من قبل بعض الماديّين يعني: أنّ النشاط المخّيّ المادّيّ الذي يحصل بالإحساس بالشيء يحصل أيضاً بسماع اللفظ المقترن بذلك الشيء. وهذا المطلب لا دليل على صحّته، وتجربة بافلوف لا ينحصر تفسيرها بذلك، فبالإمكان أن تفسّر بأنّ سيلان اللعاب لم يكن أصلاً استجابة لذات الطعام المادّيّ بل كان استجابة للصورة الذهنيّة اللامادّيّة التي هي وراء النشاط المخّيّ المادّيّ، وبما أنّ صوت الجرس المقارن لتقديم الطعام أعطى نفس الصورة للذهن حصلت نفس الاستجابة؛ ولذا ترى أنّ ما يكون حقّاً نتيجة لذات المادّة كالموت بالنسبة للسمّ، أو الشفاء بالنسبة للدواء لا يسري إلى ما يقارن تلك المادّة من لفظ أو غيره، وأمّا اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) فإنّما قال بتماثل المتقارنين في خلق الصورة العقليّة الميتافيزيقيّة لدى الفكر اللامادّيّ.

والثاني: أن يفترض أنّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) لا يقول أصلاً بانتقال الأثر من شيء إلى ما يقارنه، وإنّما يقول: بأنّ التقارن الأكيد في الذهن يجعل تصوّر القرين سبباً للانتقال إلى قرينه من دون فرضيّة اكتساب أحد القرينين آثار قرينه الآخر، بينما نظريّة بافلوف هي نظريّة انتقال الأثر من القرين إلى القرين.

103

في أنّه هل هو تنزيل أو اعتبار؟ وأنّه هل يعتبر اللفظ نفس المعنى، أو أداة للدلالة على المعنى، أو فوق المعنى، أو تحت المعنى ونحو ذلك من العبارات والتلاعبات بالألفاظ؟ نعم، كثيراً ما يتّفق أنّ الواضع ينشئ شيئاً من اعتبار أو نحوه، فيقول بقصد الإنشاء: سمّيت ابني عليّاً، إلاّ أنّ هذه العمليّة لها جنبتان: جنبة الإنشاء، كأن ينشئ وضع اللفظ فوق المعنى أو تحته أو نحو ذلك، وجنبة إيجاد اقتران واقعيّ وحقيقيّ في الذهن بين اللفظ والمعنى بنحو مخصوص، والجنبة الثانية هي سرّ الوضع والدلالة دون الاُولى؛ ولذا قد تتمّ الدلالة على أساس الجنبة الثانية مع فقدان الجنبة الاُولى، كما لو سمع الطفل من اُمّه كلمة الحليب مقترنةً بتقديم الحليب له من دون أن يُنشأ أمامه شيء، أو يستطيع أن يتعقّل الإنشاء، فتتمّ في ذهنه الدلالة تارة بتكرّر الاقتران كثيراً، واُخرى بالاقتران مرّة واحدة أو عدداً قليلاً من المرّات إذا كان ذكيّاً، فمتى ما سمع كلمة الحليب انتقل ذهنه إلى معناه.

الثاني: أنّ الوضع يوجب الدلالة التصوّريّة للّفظ ولو سمع من جدار، ولا يوجب الدلالة التصديقيّة، وإنّما الدلالة التصديقيّة تكون وليدة اُمور اُخرى من ظاهر حال وقرائن أحوال ونحو ذلك، وهذا واضح على ما عرفت من أنّ روح الوضع عبارة عن الاقتران في الذهن بين اللفظ والمعنى، وإيجاد الصغرى للقانون الثاني من القانونين التكونيّين الثانويّين، فإنّ من الواضح: أنّ ذاك القانون مفاده إنّما هو انتقال الذهن من أحد المتقارنين إلى الآخر من دون دلالة تصديقيّة، ولا تعقل دلالة اللفظ على المعنى دلالة تصديقيّة إلاّ على مسلك التعهّد، حيث تعهّد الإنسان مثلاً بأن لا يتكلّم بالكلام الفلانيّ إلاّ إذا قصد المعنى الفلانيّ، فكلامه كاشف عن تحقّق ذاك القصد، وأمّا مجرّد الاعتبار كما هو المسلك الثاني، أو خلق سببيّة اللفظ واقعاً لانتقال الذهن إلى المعنى كما هو المسلك الثالث، أو عمليّة القرن

104

كما هو المختار في تعميق المسلك الثالث وتكميله، فكلّ هذا لا يعطي للّفظ الدلالة التصديقيّة، فإنّ مجرّد اعتبار اللفظ معنىً، أو اعتباره على المعنى، أو دالاًّ عليه بعد فرض كفايته لانتقال الذهن إلى المعنى لا ربط له بالتصديق بإرادة المتكلّم لذلك المعنى، وكذلك الإيجاد الواقعي للسببيّة في اللفظ لانتقال الذهن إلى المعنى، فإنّ هذا لا علاقة له بالكشف عن إرادة المتكلّم له، وعمليّة القرن أيضاً إنّما توجب انتقال الذهن من أحد المتقارنين إلى الآخر، لا الكشف عن شيء.

وقد ذكر السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ: أنّ الدلالة التصوّريّة في اللفظ المسموع من الجدار لا يصحّ فرضها دلالة وضعيّة؛ لأنّ الهدف من الوضع إنّما هو التفهيم والتفاهم بين العقلاء، وأمّا الجدار الذي لا يعقل ولا يريد شيئاً، فمدّ الوضع إلى ما يسمع منه لغو ولا فائدة فيه، ويكون خلاف حكمة الواضع(1).

وأنت ترى: أنّ هذا البيان لا موضوع له بناءً على ما بيّناه من أنّ الوضع هو أن يوجد الواضع في اللفظ ما هو سبب ذاتاً للدلالة، وهو الاقتران، وسببيّة الاقتران للدلالة تكوينيّة، ولا تفكيك فيها بين مورد يوجد فيه هدف الواضع ومورد لا يوجد فيه هدفه، فالواضع حينما قرن اللفظ بالمعنى تمّت الدلالة مطلقاً شاء أو أبى، ولا يمكنه أن يفكّك بين ما يُسمع من إنسان فيكون دالاًّ وما يسمع من جدار فلا يكون دالاًّ(2).

 


(1) راجع المحاضرات للشيخ الفيّاض حفظه الله، ج 1، ص 49 و 104 ـ 105.

وقد أتى في الموضع الثاني ـ أعني: ص 104 ـ 105 ـ بهذا البيان لإثبات عدم إطلاق الوضع للّفظ الصادر من لافظ غير ذي شعور حتّى على مسلك الاعتبار، أمّا على مسلك التعهّد فهو ليس بحاجة إلى هذا البيان، أعني: بيان لزوم اللغويّة؛ وذلك لأنّ التعهّد من اللافظ غير ذي شعور لا معنى له.

(2) هذا بناءً على المسلك المختار، وهو مسلك القرن الأكيد. والواقع: أنّنا حتّى لو

105

الثالث: قد اشتهر: أنّ الدلالة على أساس الوضع مشروطة بالعلم بالوضع، وقد اتّضح بما ذكرناه معنى اشتراطها بالعلم. وسرّ ذلك، فإنّك عرفت: أنّ روح الوضع هو اقتران اللفظ بالمعنى في الذهن، إذن ففي الحقيقة لم يتمّ الوضع بعدُ في حقّ الجاهلين بالوضع؛ لعدم تحقّق الاقتران المخصوص بين اللفظ والمعنى في أذهانهم، وتتمّ الدلالة عندهم غالباً بأن يعلموا بالوضع بمعنى: أنّهم إذا علموا بإنشاء اعتبار أو تنزيل مثلاً، أو قرن سابق في ذهن الآخرين بين اللفظ والمعنى، فقد تحقّق الاقتران في أذهانهم أيضاً، وعلموا بالوضع، فتتمّ الدلالة عندهم. وقد تتّفق تماميّة الدلالة من دون علم بالوضع بهذا المعنى، وذلك كما إذا تمّ الاقتران في الذهن من دون اطّلاع من اُريد تعليمه على الوضع، وذلك من قبيل الأطفال الذين تتمّ الدلالة في أذهانهم بمثل قرن كلمة الحليب بالحليب عندهم.

 


تكلّمنا على مسلك الاعتبار مثلاً، فبرهان اللغويّة الذي ذكره السيّد الخوئيّ(رحمه الله) لنفي إطلاق الوضع للّفظ الصادر من غير ذي شعور غير صحيح؛ وذلك لأنّ الإطلاق ليست فيه مؤونة زائدة كي تُنفى باللغويّة.

106

 

تشخيص الواضع

 

وأمّا الجهة الثانية: وهي في تشخيص الواضع، فقد استقرب جملة منالمحقّقين ومنهم المحقّق النائينيّ(قدس سره)(1) كون الواضع هو الله تعالى، ويُستفاد من مجموع كلماتهم استبعادان لكون الواضع هو الإنسان:

الأوّل: أنّه يلزم من فرض الواضع إنساناً أن يكون ذلك الإنسان مطّلعاً على دقائق المعاني وخصوصيّاتها، وشوارد الأفكار، واسع الاطّلاع والالتفات ممّا لا يوجد عادة في غير مثل الأنبياء، وطبعاً يرتفع هذا الاستبعاد حينما نفترض أنّ الواضع هو الله تعالى، وأنّه جلّ شأنه قد ألهم البشر باللغة المشتملة على دقائق وخصوصيّات فائقة مع السعة والشمول(2).

وقد اُجيب على ذلك بأنّنا لا نفترض واضعاً واحداً حتّى يأتي هذا الاستبعاد؛ فإنّ اللغة لم توجد في يوم واحد ودفعة واحدة، بل وجدت على مراحل وبالتدريج حسب حاجات الناس التي تبدأ قليلة ثُمّ تتّسع بالتدريج(3).

الثاني: أنّه لو وضع إنسان لغة لكان ذلك حادثة مهمّة ملفتة للنظر تسجّل في


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 11 ـ 12 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(قدس سره)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 30 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم المقدّسة.

(2) راجع المصدرين السابقين.

(3) راجع ج 43 من موسوعة الإمام الخوئيّ، ص 38 ـ 39.

107

التواريخ، ويعرف أنّ فلاناً هو واضع اللغة الفلانيّة، بينما ليس الأمر هكذا(1).

وقد اُجيب على ذلك أيضاً بأنّنا لا نفترض أنّ إنساناً واحداً خرج من بيته يوماً ما وكان بيده قاموس معيّن، وقال: أيّها الناس، إنّي وضعت لغة جديدة، ولو صنع إنسان هكذا لقيل عنه: إنّه مجنون، بل نقول: إنّ وضع اللغة أمر تدريجيّ، فقد وضع شخص ما شيئاً، وجاء شخص آخر وأضاف شيئاً آخر، وهكذا إلى أن تكوّنت لغة واسعة خلال مدّة مديدة(2).

والصحيح: أنّ الاستبعاد في كون البشر هو الواضع لا ينحصر في هذين الاستبعادين، بل هناك استبعادات اُخرى لابدّ من التأمّل فيها:

الأوّل: أنّه قد يقال: إنّ الإنسان لو غضّ النظر عن إلهام الله تعالى إيّاه، يأتي سؤال: أنّه كيف التفت إلى إمكانيّة خلق الدلالة بأصوات معيّنة؟ وكيف تَوجَّه إلى نكتة دلالة هذه الأصوات على المعاني؟ فإنّ هذه النكتة وإن كانت تبدو الآن واضحة؛ لأنّ كلّ إنسان ينشأ في ظلّ لغة، فيمكن أن يلتفت إلى مسألة الوضع، ولكن الواضع الأوّل كيف التفت إلى الوضع والدلالة بهذا الترتيب؟ وهذا من قبيل ما يقال من أنّه: كيف التفت أوّل فلاّح إلى أنّه لو زرع حنطة وسقاها بكذا مقدار أثمرت بهذا الشكل؟ فقد يقال: إنّ الله تعالى هو الذي ألهم باللغة والوضع، كما يقال: إنّه ألهم الإنسان بالزرع.

ويمكن حلّ هذا الاستبعاد بما مضى من أنّ دلالة الأصوات من قبيل دلالة صوت الزئير على الأسد، والنهيق على الحمار، والصهيل على الفرس، وخرير


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 11 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

(2) راجع ج 43 من موسوعة الإمام الخوئيّ، ص 39.

108

الماء على الماء، وصوت تساقط ورق الأشجار على ذلك وما إلى ذلك دلالات قهريّة ثابتة للإنسان بالقانون الثاني وبالاقتران القهريّ، من دون إعمال أيّ عناية من قبله، فلعلّ هذا هو الذي ألفت الإنسان إلى أنّ الصوت بالإمكان أن يدلّ على معنىً، فانفتح عليه باب الخيرات.

الثاني: مبنيّ على مسالكهم من التعهّد والاعتبار ونحو ذلك، وهو: أنّ الإنسان إذا كان هو الواضع، فطبعاً قد وضع الألفاظ قبل التكلّم والاستعمال؛ لأنّ الاستعمال دائماً في طول الوضع. وهذا معناه: أنّ الإنسان استطاع أن يصل إلى هذه المرتبة من التدقيق بحيث يلتفت إلى الملازمات والمعقولات والتنزيلات الاعتباريّة والتعهّدات قبل أن يتكلّم، ومن البعيد جدّاً أن يصل الإنسان إلى هذه المرتبة من التعقّل والتفكّر والتفلسف قبل أن يتكلّم مع أخيه أو زوجته، بل كان صامتاً وبقي صامتاً إلى أن وصل إلى هذا الحدّ، وأمّا إذا كان الواضع هو الله تعالى فقد ارتفع الاستبعاد.

وهذا الاستبعاد في محلّه جدّاً بناءً على تلك المسالك المعروفة، ومن وصل إلى هذه الدرجة من الذكاء والالتفات كيف سكت طيلة هذه المدّة؟ ألم تكن له حاجات ورغبات؟! وأمّا على مبنانا من أنّ الوضع ليس إلاّ عبارة عن قرن اللفظ بالمعنى، فهذا مطلب يمكن حصوله حتّى من الأطفال، ويمكن الالتفات إليه قبل بلوغ الإنسان إلى مرحلة التكلّم بهذا الترتيب، فقد اقترن قهراً صوت الزئير مع الأسد، وبالتالي اقترن مع الشجاع، وبالتدريج توسّعت اللغة من دون أيّ استبعاد في ذلك.

الثالث: مبنيّ على مسالكهم أيضاً، وهو أنّنا لنفرض أنّهم وصلوا إلى تلك المرحلة من التعقّل والتفلسف قبل الكلام، ولكن كيف أبرزوا هذه التعهّدات أو

109

التنزيلات؟ وكيف قال مثلاً: إنّي تعهّدت بذكر كلمة كذا عند إرادة معنى كذا؟ أليست هذه ألفاظاً تحتاج إلى تعهّدات سابقة، خصوصاً أنّها جملة محتوية على نكات كثيرة من اللغة من الاسم والفعل والحرف والمادّة والهيئة والنسبة التامّة والناقصة، أو قل: إنّها محتويةٌ على نفائس اللغة، خصوصاً أنّ بعض معانيها غير محسوسة كالتعهّدات النفسيّة، ولا يُتوصّل إليها ابتداءً إلاّ بالتشبيه بالمعاني المحسوسة.

وهذا لا يأتي على مبنانا حيث نقول: نشأت اللغة من حيث لا يدري الإنسان، فالزئير دلّ بالاقتران الكثير على الأسد وبالتالي على الشجاع، وتوسّعت اللغة بالتدريج.

الرابع: ما يكون مبنيّاً على مبانيهم أيضاً، وهو: أنّ اللغة ظاهرة تحصل بين المجتمع؛ ولذا تعمّ جماعةً وقطّاعاً من الناس، وهنا يأتي السؤال عن أنّه: كيف يتمّ الاتّفاق بينهم على كلمات معيّنة؟! فإن كان هذا بتوارد الخاطر، فكلّهم كانوا يصبحون الصباح وقد خطر على بالهم أن يسمّوا الماء ماء، فهذا هو الإلهام، وكان الواضع هو الله تعالى، وهو المقصود، وإلاّ فما هو التنظيم الدقيق الذي يجعلهم لا يختلفون، ولا يضع كلّ واحد منهم صدفة غير ما وضع الآخر، بل تنتظم اللغة فيما بينهم؟! ولا يمكن افتراض: أنّ كبيرهم أو رئيسهم هو الذي يضع اللغة، ويتبعه الآخرون مثلاً، فلا يلزم الفوضى؛ وذلك لأنّ ظاهرة اللغة أعمق من ظاهرة السيادة والرئاسة والمرؤوسيّة وما شابه ذلك؛ فإنّ هذه الظواهر إنّما توجد بين الناس بعد أن يتمّ التفاهم بينهم باللغة والتكلّم، ويصلوا إلى مرحلة درك هذه الأشياء وجعلها، وإلاّ احتجنا إلى الإلهام أيضاً.

وهذا الاستبعاد في محلّه، والجواب عليه على مبناهم في غاية الإشكال، وعلى مبنانا نقول: إنّ هناك مناسبات ونكات مشتركة حصلت عندهم جميعاً في

110

وقت واحد، فالزئير مثلاً عند الكلّ صار دالاّ على الأسد، وأخذوا يصوّتون كصوت الزئير للدلالة على الأسد، وللدلالة على الشجاعة التي هي من ملازمات الأسد، وهكذا إلى أن تمّت لغة مختصرة من هذا القبيل، بحيث أمكن تولّد السيادة ومفهوم الأكبر والأصغر ونحو ذلك فيما بينهم، فاستطاعوا وضع اللغة بانتظام بأن يضع شخص ويتبعه الآخرون. وتعدّد اللغات نشأ من اختلاف الجوّ والبيئة والعوامل الطبيعيّة والفسيولوجيّة والهواء والمناخ وما إلى ذلك من قبيل الاختلاف في اللهجات مثلاً، والاختلافات تتجمّع فتوجد لغات متعدّدة.

وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه: أنّه لا استبعاد في فرض الواضع هو البشر.

ولكن لا استبعاد أيضاً في كون الواضع الأوّل هو الله تعالى ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾(1)، وبعد اللغة الاُولى كفّ عن الإلهام، وبعد ذلك أخذ الناس يشعّبونها ويطوّرونها ويوسّعونها، فهذه الفرضيّة أيضاً لا دليل على خلافها بل يقتضيها الذوق الدينيّ.

 


(1) سورة البقرة، الآية: 31. وقد يشهد لذلك أيضاً قوله: ﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ سورة الرحمن، الآية: 4.

111

 

الأقسام الممكنة للوضع

 

وأمّا الجهة الثالثة: وهي في الأقسام الممكنة للوضع، فقد قسّموا الوضع التعييني ـ حسب مبانيهم من كون الوضع أمراً إنشائيّاً ـ إلى أربعة أقسام، ذلك: أنّ الواضع يجب أن يتصوّر المعنى حتّى ينشئ وضع اللفظ له، فإمّا أن يتصوّر معنىً عامّاً، أو يتصوّر معنى خاصّاً، وعلى أيّ حال: إمّا أن يضع اللفظ للعامّ، أو يضعه للخاصّ. وبهذا ينقسم الوضع إلى أربعة أقسام:

1 ـ أن يكون الوضع عامّاً والموضوع له عامّاً.

2 ـ أن يكون الوضع خاصّاً والموضوع له خاصّاً.

والجامع بين هذين القسمين هو أنّ المعنى الذي تصوّر الواضع مع المعنى الذي وضع له اللفظ متّحدان.

3 ـ أن يكون الوضع عامّاً والموضوع له خاصّاً، أي: أنّ الواضع تصوّر معنىً عامّاً ووضع اللفظ لأفراده.

4 ـ أن يكون الوضع خاصّاً والموضوع له عامّاً، أي: أنّه تصوّر معنىً خاصّاً ووضع اللفظ للعامّ.

ولا إشكال في إمكان القسمين الأوّلين، والمشهور في القسم الثالث هو الإمكان، وقيل بالامتناع، والمشهور في القسم الرابع هو الامتناع، وقيل بالإمكان.

ونتكلّم الآن في القسم الثالث، وبتحقيقه يظهر الحال في القسم الرابع.

فنقول: قد ذكروا في تقريب إمكان القسم الثالث أنّ الواضع وإن كان لابدّ له من تصوّر المعنى، لكن ليس عليه أن يتصوّر المعنى تصوّراً تفصيليّاً، فإنّه يكفي في

112

إمكان الحكم على شيء تصوّر ذلك الشيء إجمالاً، وتصوّر الجامع هو تصوّر إجماليّ لأفراده.

هذا هو البيان البدائي لتصوير إمكان القسم الثالث.

وما يعترض به على ذلك أمران:

الأمر الأوّل: ما يكون في الحقيقة مركّباً من أمرين:

الأوّل: أنّ الجامع إنّما يعقل كونه حاكياً عن الأفراد إذا كان منطبقاً عليها بخصوصيّاتها الفرديّة.

والثاني: أنّ الجامع لا يكون منطبقاً على الأفراد بخصوصيّاتها؛ لأنّه إنّما ينتزع من الأفراد بتقشيرها عن الخصوصيّات، فمع إبقاء الخصوصيّات لا يكون جامعاً، فيجب إلغاء الخصوصيّات إلى أن لا يبقى إلاّ الجامع.

وعليه، فالجامع لا يكون حاكياً عن الأفراد بخصوصيّاتها الفرديّة حتّى يكفي تصوّره في مقام الحكم على الأفراد بما هي أفراد.

وتصدّى المحقّق العراقيّ(قدس سره) للجواب على هذا الإشكال(1)، فكأنّه سلّم بالأمر الأوّل وأخذ يناقش في الأمر الثاني، وذلك بالتفصيل فيه بين الجوامع، بدعوى: أنّ الجامع قد يكون أخذيّاً وانتزاعيّاً، أي: أنّ النفس تأخذه وتنتزعه من الأفراد بعد تقشيرها عن الخصوصيّات، من قبيل جامع الإنسان الذي ينتزع من الأفراد بعد إلغاء خصوصيّة الحجم واللون وغير ذلك، وقد يكون إنشائيّاً وإلباسيّاً، بمعنى: أنّ النفس تُنشئ ذاك الجامع إنشاءً، وتُلبسه على الأفراد، وذلك من قبيل عنوان الفرد،


(1) راجع المقالات، ج 1، ص 18 ـ 19 بحسب طبعة المطبعة العلميّة في النجف الأشرف، وص 75 ـ 76 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ في قم.

113

وعنوان الخاصّ، ونحو ذلك ممّا ليس مأخوذاً من الأفراد والخصوصيّات بالتقشير، بل هو عنوان تنشئه النفس إنشاءً وتخترعه اختراعاً، وتُلبسه على الأفراد والخصوصيّات، فالنفس التي هي المنشئِة لهذا الجامع والمخيّطة له تخيطه بنحو ينطبق على الفرد بتمام خصوصيّاته، فجامع من هذا القبيل يعقل أن يكون حاكياً عن الأفراد بخصوصيّاتها، فيتصوّره الواضع ويضع اللفظ للأفراد.

فالمحقّق العراقيّ(رحمه الله) يتّفق مع صاحب الإشكال في القسم الأوّل من الجوامع، وهو ما يكون من قبيل الإنسان على أنّه لا يعقل للواضع أن يتصوّره ويضع اللفظ لأفراده، ويختلفان في القسم الثاني وهو ما يكون من قبيل الفرد والخاصّ.

أمّا جهة الاختلاف بينهما، فالتحقيق: أنّ مثل عنوان الفرد أو الخاصّ لا يعقل أن يكون إنشائيّاً وإلباسيّاً صرفاً، بل حتماً يجب أن تكون له جهة أخذ وانتزاع من الأفراد؛ إذ لو كان مجرّد إنشاء صرف من قبل النفس كما تنشئ بحراً من زئبق مثلاً، لما صحّ حمله على الخارجيّات إلاّ بالعناية، وذلك لأنّ ملاك الحمل هو الاتّحاد(1).

 


(1) لا يخفى أنّ الكلام الذي أبطله اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) هنا من الجامع الإلباسيّ أو الاختراعيّ الذي ينشئه الذهن، ويُلبسه على ما في الخارج قد تمسّك به هو (رضوان الله عليه) في بحث حقيقة العلم الإجماليّ وما يتعلّق به، وهذا ما لا يخلو من نوع من التهافت.

والواقع: أنّه لو قُصِد باختراعيّة الجامع خياليّته البحت حتّى يكون من قبيل بحر من زئبق، فهذا الكلام باطل هنا وهناك، ولو قصد بها كون الجامع جامعاً عَرَضيّاً منتزعاً من الأفراد بكلّ ما لها من قشور، لا ذاتيّاً كي يكون تحصيله بتقشير الفرد، فهذا الكلام صحيح هنا وهناك.

114

وأمّا جهة الاتّفاق بينهما، فنحن وإن كنّا نوافق على أنّ الجامع الذي يكون من قبيل الإنسان لا يعقل فيه الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ كما سيأتي إن شاء الله، ولكنّنا نناقش النكتة التي يؤمن بها صاحب الإشكال والمحقّق العراقيّ(رحمه الله). وتوضيح ذلك: أنّ الفرد له مصطلحان:

الأوّل: الفرد الخارجيّ بما له من خصوصيّات الحجم واللون وغير ذلك. وطبعاً الفرد بهذا المعنى يجب تقشيره حتّى ينطبق عليه الجامع، ولا يكون الجامع حاكياً عنه بخصوصيّاته؛ فإنّ الخصوصيّات غير داخلة في الجامع، وإنّما هي اُمور إضافيّة لابدّ من غضّ النظر عنها عند إرادة اقتناص الجامع.

الثاني: الفرد بمعنى الحصّة المعيّنة من الجامع فمفهوم الإنسان مثلاً جامع، وأفراده بالمعنى الثاني عبارة عن تلك الحصّة من الإنسانيّة الموجودة في زيد، وتلك الحصّة الموجودة في عمرو وهكذا، فإنّ كلّ حصّة من هذه الحصص هي مباينة للحصّة الاُخرى ذاتاً بغضّ النظر عن الخصوصيّات الطارئة على الحصّة من حجم أو لون أو غير ذلك، وإنّما هذه الخصوصيّات تطرأ على الحصّة، فيجب أن تكون ذات الحصّة سابقاً مباينة للحصّة الاُخرى حتّى يطرأ على هذه الحصّة الوصف الفلانيّ، وعلى الحصّة الاُخرى الوصف الآخر، والمفهوم الجامع بين هذه الحصص ينطبق على كلّ حصّة بتمامها؛ إذ ليست فيها خصوصيّة زائدة على أصل طبيعة الإنسانيّة حتّى نحتاج إلى تقشيرها عنها، وما به الاشتراك في هذه الحصص


وإن شئت مراجعة كلام اُستاذنا في تحقيق حقيقة العلم الإجماليّ فراجع كتابنا مباحث الاُصول، الجزء الرابع من القسم الثاني، ص 19 ـ 26 بحسب الطبعة الاُولى في مطبعة إسماعيليان.