25

الخاصّة لعدم اشتراط العجز عن التورية رغم فرض دخل العجز عنها في صدق الإكراه عجيب ولا علاقة لهذا بلزوم حمل العام على الفرد النادر، فان حمل العام على الفرد النادر الذي هو مستهجن يعني صرف العام عن عمومه إلى النادر من أفراده أمّا إذا فرض انّ نفس عنوان العام لا يشمل إلّا الأفراد النادرة فليس هذا من باب ما يقال من حمل العام على الفرد النادر.

وكذلك أورد السيد الخوئي(1) على استدلال الشيخ بحديث عمّار: أوّلا ـ بانّ جلالة قدر عمّار تقتضي انّه ورّى في ذلك ولم يقصد الكفر والتبرّي من النبي (صلى الله عليه وآله)ودينه.

وثانياً ـ بأنَّ التورية في إظهار الكفر ليست فراراً عن الحرام كي يترقّب تنبيه النبي (صلى الله عليه وآله) على ذلك فان نفس إظهار الكفر والتبرّي هتك لله سبحانه وتجاسر لعظمته وهو حرام وذلك سنخ حرمة السب وهتك المؤمن التي لا تنتفي بالتورية.

أقول: إنّ كلّ هذه المناقشات يمكن الجواب عليها: أمّا ثبوت حرمة إظهار الكفر ولو تورية لما فيه من الهتك والتجاسر فهو وإن كان مسلماً لكن تبقى في المقام حرمة اُخرى قد يقال بانّها تختصّ بفرض عدم التورية وهي حرمة الكذب. وأمّا كون عمّار اجلّ شأناً من أن يكون قد كفر حقيقة فهذا ممّا لا غبار عليه، إلّا انّ هذا لا يعني انّه قد ورّى فالمقصود بالتورية أن يكون مستعملا للفظ في غير ظاهره من الكفر، ولنفترض انّه لم يورِّ ولو غفلة أو ذهولا، أو لعدم الاعتقاد بوجود فائدة في التورية فاستعمل اللفظ في معناه الظاهر، لكن استعمال اللفظ في معناه خوفاً من العذاب لدى الغفلة عن التورية أو اعتقاد عدم فائدة فيها شيء وأن يكون قد


(1) راجع المحاضرات 2: 251 ـ 252، ومصباح الفقاهة 3: 306 ـ 307.

26

كفر حقيقة في قرارات قلبه شيء آخر، وعظمة عمّار انّما تنفي الثاني دون الأوّل.

وأمّا ما أورده من انّ التمسّك بأدلّة رفع الإكراه العامّة والخاصّة في غير محله لفرض دخل العجز عن التورية في صدق الإكراه فقد يجاب عليه بلحاظ الأدلّة الخاصّة ان المقصود بالإكراه ليس هو الإكراه على الطلاق الحقيقي مثلا.

وذلك لانّ عدم تجاوز إحاطة المكرِه لدائرة اللفظ والظاهر إلى ما في القلب قرينة عرفيّة على انّ المقصود بالروايات هو الإكراه على اللفظ وإظهار الطلاق سواء حصل صدفة الإكراه على واقع الطلاق لعجز الشخص عن التورية أو لا، وعند ذلك يقال: إنّ حمل هذه الأدلّة على الإكراه على الطلاق الحقيقي للعجز عن التورية حمل على النادر أو خلاف الإطلاق.

ونفس هذا البيان يأتي في الآية الشريفة: ﴿إلّا من اُكره وقلبه مطمئن بالإيمان﴾نعم هذا البيان لا يأتي في الرفع العام وهو حديث رفع الإكراه الذي يكون في كثير من موارده كالإكراه على المحرّمات إكراهاً على الواقع حينما لا يمكن للمكرِه الاحتيال بإظهار خلاف الواقع بإدارةِ الخمر في جيبه مثلا. هذا. وخصوص قضيّة عمّار ان ثبتت سنداً لا مبرّر لحملها على فرض العجز عن التورية لانّ قوله (صلى الله عليه وآله): «إن عادوا عليك فعُد» مطلق يشمل فرض ما لو قدر على التورية، وهذا بنفسه دليل على انّ المقصود بالإكراه في الآية الشريفة الواردة في تلك القصّة هو الإكراه على إظهار الكفر الشامل لفرض التورية.

على انّ هذا الإشكال لو تمّ في روايات الإكراه على الطلاق والعتاق لا يرد في روايات الحلف كاذباً(1) فانّه لم تفترض فيها إرادة الظالم للإكراه على الحلف


(1) الوسائل 16: 134 ـ 137، الباب 12 من أبواب الأيمان.

27

الكاذب حتى يقال انّها لا تشمل فرض القدرة على التورية وانّما افترضت فيها إرادته للإكراه على شيء آخر كدفع العُشر فجوّز له الإمام (عليه السلام)التخلّص من هذا الإكراه بالحلف الكاذب، وهذا يشمل بإطلاقه فرض القدرة على التورية وذلك من قبيل ما عن زرارة بسند تام قال قلت لأبي جعفر (عليه السلام)نمرّ بالمال على العشّار فيطلبون منّا ان نحلف لهم ويخلّون سبيلنا ولا يرضون منّا إلّا بذلك قال: فاحلف لهم فهو أحلّ من التمر والزبد(1).

فانّه من الواضح انّ مقصود العشّار ليس هو بالذات الإكراه على الحلف كي يفترض ان نستظهر من الحديث الإكراه على الحلف الكاذب دون التورية، وانّما مقصوده بالذات هو أخذ العشر من أمواله إن كانت معه أموال، ويرى الحلف أمارة على المال، فالحديث مطلق لغرض القدرة على التورية وعدمها.

ونحو هذه الروايات روايات جواز الكذب في الإصلاح فانّها تشمل بإطلاقها فرض القدرة على التورية(2) من قبيل ما ورد عن معاوية بن عمّار بسند تام عن أبي عبد الله (عليه السلام)قال: المصلح ليس بكذّاب(3). نعم يرد على الاستدلال بروايات الحلف كاذباً أو روايات الكذب للإصلاح ان فرض حليّة الحلف كاذباً، أو الكذب للإصلاح رغم القدرة على التورية ليس دليلا على بطلان بيع المكره إذا قصد المعنى الحقيقي رغم القدرة على التورية، فإنّ هذا قياس خاصّة إذا قلنا إنّ جواز الحلف كاذباً أمام الظالم رغم القدرة على التورية ثابت بمقتضى القواعد بلا حاجة إلى التعبّد بهذه الروايات.

 


(1) الوسائل 16: 137، الباب 12 من أبواب الأيمان، الحديث 6.

(2) راجع الوسائل 8: 578 ـ 580، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة.

(3) الوسائل 8: 578، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3.

28

والوجه في جواز ذلك بمقتضى القواعد أمران:

الأوّل ـ ان يقال: إنّ التورية كذب فلا معنى للتفصّي عن الكذب بالتورية وتوضيح الحال في ذلك: انّ الكلام توجد له عادة دلالة على إرادات ثلاث:

1 ـ إرادة استعمال اللفظ في المعنى.

2 ـ إرادة اخطار المعنى لذهن السامع.

3 ـ إرادة المدلول الجدّي من قصد الحكاية أو غير ذلك.

وشرح ذلك موكول إلى محله من علم الاُصول، إلّا انّ هدفي من الإشارة إلى ذلك توضيح انّ الإرادة الاستعمالية هي غير إرادة اخطار المعنى لذهن السامع، خلافاً لما تعارف لدى الأصحاب، ووفاقاً لما عن استاذنا الشهيد (رحمه الله) في تقرير السيد الهاشمي (حفظه الله)(1) بدليل انّه قد يستعمل اللفظ في المعنى من دون إرادة اخطار ذاك المعنى كما في موارد استعمال اللفظ في أحد معانيه المشتركة مع تعمّد إخفائه عن فهم المخاطب بعدم إقامة القرينة عليه فهو بينه وبين نفسه قد قصد معنىً معيناً من اللفظ ولكنه لم يقصد اخطاره إلى ذهن المخاطب، بل قد يقصد إخطار معنى آخر إلى ذهن المخاطب غير ما استعمل اللفظ فيه كما هو الحال في كثير من موارد التورية، إذن فاستعمال اللفظ في المعنى ليس عبارة عن قصد الاخطار وانّما هو عبارة عن نوع فعّالية للنفس بقدرة مودعة فيها من قبل الله تعالى وهي نوع إشارة باللفظ إلى المعنى شبيهة بالإشارة بالاصبع مثلا.

وما عن استاذنا الشهيد (رحمه الله) في تقرير السيد الهاشمي بعد توضيح انّ الإرادة الاستعمالية ليست هي إرادة تفهيم المعنى واخطاره باللفظ من: انّ (الإرادة


(1) بحوث في علم الاُصول 1: 132.

29

الاستعمالية عبارة عن إرادة التلفّظ باللفظ ولكن لا بما انّه صوت مخصوص بل بما انّه دال بحسب طبعه وصالح في ذاته لإيجاد صورة المعنى في الذهن) ان رجع إلى ما قلناه وهو ما سمّيناه بالإشارة إلى المعنى باللفظ فهو صحيح وإلّا لم نفهم المقصود منه فان كون دلالته بالطبع على المعنى المستعمل فيه هي الحيثية التي تعنون بها إرادة التلفّظ لو لم يرجع إلى ما قلناه لا نفهم له محصلا عدا كون هذه الحيثية هي التي دعت إلى إرادة التلفّظ، وهذه الحيثية لا تدعو إلى ذلك إلّا حينما تكون الغاية من التلفّظ إفهام ذاك المعنى وإخطار إلى ذهن السامع، وهذا رجوع مرة اُخرى إلى الإرادة الإخطارية.

إذا عرفت هذه الإرادات الثلاث قلنا: إنّ فرق التورية عن الكذب الذي لا تورية فيه ليس في المعنى الذي يخطره إلى ذهن السامع، ولا في الدلالة التصديقيّة الجدّيّة التي يريد إفهامها للسامع فلو قال للمخاطب الذي يطالبه بالمال مثلا: (والله انّ يدي خالية) قاصداً بذلك صرفه عن مطالبته المال بتخيّل كونه صفر اليدين من المال لم يكن فرق بين ان يقصد كذباً عدم امتلاكه للمال وان يقصد تورية خلو يده من وجود عين مقبوضة في انّه أراد ان يخطر في ذهن السامع المعنى الأوّل، وأن يفهّمه حكاية المعنى الأوّل، وانّما الفرق بينهما في الإرادة الاستعمالية حيث قد يجعل اللفظ بينه وبين نفسه إشارة إلى المعنى الأوّل، وقد يجعله إشارة إلى المعنى الثاني، ولكنّه على كلا التقديرين يريد إظهار المعنى الأوّل للمخاطب إذ من الواضح ان فائدة التورية هي ان يفهم المخاطب غير المعنى الذي قصده المتكلّم باستعماله، أمّا لو فهم المخاطب نفس المعنى المقصود حقيقة فقد فسدت التورية وانتقض الفرض كما هو واضح.

وعندئذ يجب ان نرى انّ المقياس في الكذب ما هو؟ هل هو مخالفة

30

المدلول الجدّي، وهو الحكاية للواقع أو كون الدلالة الإخطارية أو الإرادة الاستعمالية غير منسجمة وغير متناسبة لدلالة جدّية مطابقة للواقع؟

لا شك ولا ريب في انّ مجرّد عدم انسجام الدّلالة الاخطارية أو الإرادة الاستعمالية لدلالة جدّية مطابقة للواقع لا يكفي في صدق عنوان الكذب، فلو استعمل اللفظ في معنى وقصد إخطاره إلى ذهن المخاطب في مجال المزاح لا في مجال الجدّ وكانت القرينة الحالية على ذلك مثلا واضحة فمن الواضح انّ عنوان الكذب لا يصدق في المقام، إذن فمخالفة الإرادة الحكائية للواقع لها ركنيّة في صدق عنوان الكذب حتماً وعندئذ لا يبقى مجال لدعوى خروج التورية عن تحت عنوان الكذب، إلّا بان يدّعى انّ مخالفة الإرادة الحكائية للواقع وإن كانت ركناً وشرطاً في صدق عنوان الكذب ولكن عدم انسجام الإرادة الاستعمالية لإرادة جدّية مطابقة للواقع أيضاً شرط في صدق عنوان الكذب، فتخلّف أحد الأمرين كاف في الخروج عن عنوان الكذب والتورية، وإن كانت لا تختلف عن الكذب في الدّلالة الجدّية لكنها تختلف عنه في الإرادة الاستعمالية، وهذا كاف في نفي عنوان الكذب وذلك بدعوى انّ المتبادر من عنوان الكذب ما اجتمع فيه الشرطان.

إلّا انّنا وإن كنّا لا نملك برهاناً على رفض هذه الدعوى فانّ التبادر أمر وجداني لا يمكن نفيه بالبرهان، لكنّنا لا يتبادر إلى ذهننا من عنوان الكذب عدا مخالفة الإرادة الجدّية الحكائية للواقع.

الثاني ـ انّنا لو لم نقبل ما مضى في البيان الأوّل من انّ مقياس الكذب في مدلوله العرفي انّما هو عدم مطابقة ما اريد تفهيمه من الحكاية للمخاطب للواقع دون دخل شيء آخر فيه، فلا أقلّ من ان المفهوم عرفاً بمناسبات الحكم

31

والموضوع من أدلّة حرمة الكذب انّها تنظر إلى هذا الجانب فحسب، فانّ الكذب كما يحمل حرمة شرعية كذلك يحمل حرمة عقلائية مرتكزة في أذهان العقلاء، ومن الواضح انّه لا قيمة للإرادة الاستعمالية نفياً وإثباتاً في حساب هذا الأمر الارتكازي، وانّما المهم فيه كون الحكاية مضللة للمخاطب وحكايةً لأمر مخالف للواقع، والارتكازات العقلائية لها تأثيرها الكبير على مداليل الألفاظ في الأدلّة اللفظية، فالمنصرف من أدلّة حرمة الكذب انّما هو النظر إلى جانب الإرادة الحكائية فحسب، سواء فرض انّ المدلول اللغوي للكذب يشمل التورية أو لا.

نعم التضليل عن غير طريق الحكاية حينما لا يكون مضرّاً بالأهداف المحلَّلة للآخرين لا يحمل حرمة في ارتكاز العقلاء من قبيل الإنشاء كما لو قال: (بعت) بقصد إبراز الإنشاء في حين انّه لم يكن يقصد الجدّ في ذلك، وكما لو أشعل الكهرباء في بيته الذي سيتركه فارغاً كي تكون لوجود النور في البيت دلالة طبعية لا حكائية على وجود إنسان في البيت كي يؤدّي ذلك إلى امتناع السرّاق عن التخطيط لسرقة ما في البيت، فثبوت مثل هذه الدلالة لغير السرّاق أيضاً لا يكون حراماً في مرتكز العقلاء ما دامت الدلالة طبعية لا حكائية، لا انّه يكون حراماً عقلائياً في ذاته وترتفع الحرمة بالتزاحم مع مصلحة دفع السرّاق مثلا.

والحاصل انّ مقتضى القواعد انّه لا فرق بين التورية والكذب، إمّا لدخول التورية في الكذب موضوعاً كما مضى في الوجه الأول، أو لالتحاقها به حكماً كما عرفته في الوجه الثاني.

نعم لا نمنع عن رجحان الالتزام بالتورية في كل مورد جاز فيه الكذب على أساس أمر تربوي، وهو بقاء ملكة التحرّز عن الكذب في النفس وعدم تعوّد النفس على التهاون بالكذب، فصحيح انّ التورية هي كذب في واقعها حقيقة أو

32

حكماً لكن الإيحاء النفسي له أثره التربوي، فحينما يتقيّد بالتورية رغم حليّة الكذب وكأنَّما يوحي إلى نفسه انّه هرب من الكذب إلى الصدق، فهذا الإيحاء بنفسه له أثره المرغوب فيه.

أدلّة عدم لحوق التورية بالكذب:

وقد يستدلّ ببعض الآيات أو الروايات على جواز التورية وعدم التحاقها بالكذب من قبيل:

قوله تعالى: ﴿ثمّ أذّن مؤذّن ايّتها العير انّكم لسارقون﴾(1) حيث تُحمل على التورية بمعنى انّهم سرقوا يوسف (عليه السلام).

وقوله تعالى: ﴿فنظر نظرة في النجوم * فقال انّي سقيم﴾(2) حيث تفسّر بمعنى السقم في الدين أو السقم في الحسين (عليه السلام). وقوله تعالى: ﴿بل فعله كبيرهم هذا فسئلُوهم إن كانوا ينطقون﴾(3) وقد وردت بهذه التفاسير بعض الروايات(4) الواردة في مقام إخراج هذه الآيات عن الكذب، إلّا انّ تلك الروايات ضعيفة السند والآية الثانية غير واضحة في الكذب فلعلّ قواعد النجوم كانت مشيرة حقيقة إلى انّه سيكون سقيماً كما انّ الآية الثالثة واضحة في عدم الكذب، بقطع النظر عن فرض التورية، إذ من الواضح لكلّ عاقل بالقرينة الحالية


(1) يوسف: 70.

(2) الصافات: 88 و 89.

(3) الأنبياء: 63.

(4) راجع تفسير البرهان 2: 261، الحديث 6، 7، 8، في تفسير قوله تعالى: ﴿أ يّتها العير إنّكم لسارقون﴾ و 3: 65، الحديث 3، في تفسير قوله تعالى: ﴿بل فعله كبيرهم﴾ و 4: 25، الحديث 1 و 5، في تفسير قوله تعالى: ﴿إنّي سقيم﴾.

33

المكتنفة بالكلام انّه ليس المقصود الإخبار الجدّي عن أنّ كبيرهم هو الذي كسر الأصنام فانّ الكل يفهم انّ كبيرهم لا يمكن أن يكون قد كسرها، وانّما المقصود الجدّي بيان انّ الأصنام إن كانت عاجزة عن عمل من هذا القبيل لفقدانها للوعي والشعور والإرادة والقدرة فكيف يمكن أن تكون آلهة حقّاً؟! وأمّا ما ورد في الآية الاُولى من حملها على إرادة سرقة يوسف دون سرقة متاع بالفعل كالصواع على انّ الروايات الواردة في تفسير قوله تعالى: ﴿ايّتها العير انّكم لسارقون﴾بالتورية وبعض روايات تفسير قوله تعالى: ﴿انّي سقيم﴾ لم تصرّح بكون التورية فراراً عن الكذب فيمكن حملها على الأمر التربوي الذي أشرنا إليه وهناك روايات اُخرى وردت في تفسير هذه الآيات بتفسير آخر كالتفسير بالكذب المصلحي(1).

وهناك رواية رواها ابن ادريس في آخر السرائر نقلا من كتاب عبد الله بن بكير بن أعين عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يستأذن عليه فيقول للجارية: قولي: ليس هو هاهنا قال: لا بأس ليس بكذب(2).

فقد تحمل على معنى انّ التورية ليست بكذب، وعلى أيّة حال فسند ابن ادريس إلى كتاب عبد الله بن بكير غير معلوم عندنا.

وهناك رواية اُخرى وردت في روضة الكافي(3) وفيها انّ أبا حنيفة ذكر أمراً فقال الإمام (عليه السلام) اصبت والله يا أبا حنيفة ثم خطّأه الإمام (عليه السلام) بعد خروجه


(1) راجع تفسير البرهان 2: 260 و 3: 65 و 4: 25.

(2) الوسائل 8: 580، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 8.

(3) روضة الكافي 8: 292، الحديث 447.

34

فقال له الراوي وهو محمد بن مسلم جعلت فداك فقولك أصبت وتحلف عليه وهو مخطئ؟! قال نعم حلفت عليه انّه أصاب الخطأ.

إلّا انّ سند الحديث ضعيف بأبي جعفر الصائغ، على انّ هذا الحديث قابل للحمل على النكتة التربوية التي أشرنا إليها، وللحمل على انّ النظر إلى حلّ مشكلة الحلف التي قد يقال: إنّها لا ترتبط بإفهام المخاطب معنى مخالفاً للواقع، بل ترتبط بكون المراد الاستعمالي معنى مخالفاً للواقع، فلو حلف أحد بالله كاذباً من دون وجود مخاطب يفهمه فقد فعل حراماً، وهذا الإشكال ينحلّ بالتورية التي توجب تغيير المراد الاستعمالي من الكذب إلى الصدق. وفي ذهني بعض روايات اُخرى في المقام لم أفحص عنها من قبيل ما ورد بشأن الشيخين من انّهما إمامان عادلان، يعني العدول عن الحقّ لو تمّت سنداً أمكن حملها ـ على الأكثر ـ على ما مضى من النكتة التربوية.

التفصيل بين التورية الابتدائيّة وغيرها:

هذا. وكان يقول استاذنا الشهيد (رحمه الله) بالتفصيل بين التورية الابتدائية والتورية في مقام الفرار عن بيان الحقيقة لدى الجواب على سؤال السائل(1) ولا أعرف ماذا كان مدركه (رحمه الله) لهذا الرأي وهل ثبت عليه إلى آخر حياته أو لا؟

ويمكن توجيه هذا التفصيل بوجوه:

الأول ـ أن يقال ـ بعد عدم قبول ما مضى من إلحاق التورية بالكذب


(1) الذي يفهم من تعليقته (رحمه الله) على منهاج الصالحين للسيد الحكيم (قدس سره) هو جواز التورية حيث افتى السيد الحكيم بذلك ولم يعلّق عليه استاذنا بشيء وذلك في تعليقته للجزء الثاني الصفحة 15.

35

موضوعاً أو حكماً ـ: انّ التورية الابتدائية تعتبر عقلائياً نوعاً من الخداع القبيح في الارتكاز العقلائي الثابت حرمته ولو بإمضاء الارتكاز على أساس عدم الردع أمّا التورية في مقابل إحراج السائل للمجيب بطرحه للسؤال فلا تحمل هذا القبيح الارتكازي أو الحرمة العقلائية، حيث انّ السائل لا يملك على المجيب ان يجيبه ببيان الواقع فكأنّ العقلاء يرون أنّه من حقّه بعد ان أحرج بالسؤال أن يورّي لكي ينجو من بيان الواقع من دون تورّط في الكذب.

إلّا انّ هذا النوع من التفصيل لو تمّ فانّما يتمّ بعد نفي ما مضى من لحوق التورية بالكذب موضوعاً أو حكماً وقد وضّحنا في ما سبق لحوقها به موضوعاً أو حكماً.

الثاني ـ أن يقال ـ بعد تسليم حرمة التورية في نفسها ـ إنّ إحراج السائل للمجيب بسؤاله هو الذي يحلّلها على أساس قاعدة نفي الحرج.

إلّا انّ هذا أخصّ من المدّعى إذ قد لا يصل الأمر إلى مستوى الحرج على انّه إن وصل الأمر إلى مستوى الحرج فلماذا لا يحلّ الكذب وتخلّ التورية؟! ومن هنا يتّضح انّه لو قيل بانّ مجرّد هذا الإحراج كاف في التحليل بلا حاجة إلى الوصول إلى مستوى الحرج الفقهي وذلك من قبيل(1) جواز الكذب لدى الظالم العشّار ولو لم يكن إعطاء العشر حرجياً قلنا: إنَّ هذا لا يثبت المطلوب أيضاً لانّه يحلّل الكذب الصريح لا خصوص التورية ولعلّ هذا كان مقصوداً لاستاذنا (رحمه الله)


(1) ومن قبيل جواز الكذب في الوعد مع الزوجة على ما ورد في بعض الروايات ولعلَّها غير تامّة سنداً راجع الوسائل 8: 578 ـ 579، الباب 141 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 2 و 5.

36

ولكنّه كان يذكر حلية التورية في المقام ولم يكن يبرز حليّة الكذب بلحاظ النكتة التربوية التي أشرنا إليها.

الثالث ـ أن يقال بعد تسليم كون مقتضى القاعدة حرمة التورية: انّه خرجت التورية التي تكون في مقام جواب السائل بالنص وهو ما مضى ذكرها من رواية ابن ادريس في السرائر إلّا انّك عرفت عدم تماميتها سنداً.

الرابع ـ أن يقال: انّ مَن يورّي ابتداءاً فالداعي له هو إفهامه للمخاطب قصد الحكاية عن أمر كان خلاف الواقع وهذا هو الملحق بالكذب موضوعاً أو حكماً ولو لم يكن له هذا الدّاعي ولا يقصد عدا مجرّد إخفاء الواقع دون إبراز خلاف الواقع لاكتفى بالسكوت أمّا مَن يورّي في مقام الجواب على سؤال السائل فانّما هدفه إخفاء الواقع دون إبراز خلاف الواقع وانّما لم يكتف بالسكوت لانّ سؤال السائل هو الذي الجأه إلى الجواب فجوابه التوروي وإن كان يفهم المخاطب الحكاية عن أمر خلاف الواقع لكن هذا ليس مراداً للمتكلّم وإن وقع قهراً وانّما كان مراده إخفاء الواقع دون إبراز خلاف الواقع فهذا ليس كذباً ولا ملحقاً بالكذب.

إلّا انّ هذا البيان أخصّ من المدّعى إذ قد يقصد المجيب إظهار خلاف الواقع خاصّة إذا لم يكن السائل يقنع بالجواب إلّا إذا أظهر له خلاف الواقع أي انّ الإجمال لم يكن يقنعه فالسائل الذي يسأل عن وجود فلان في الدار قد لا يرفع يده عن إلحاحه على أخذ الجواب إلّا إذا اُجيب بجواب عرف منه عدم وجوده في الدار ولو بالتورية بأن يشير المجيب إلى نقطة ليس فيها فلان فيقول: ليس هاهنا. فالمجيب يقصد عادة إبراز خلاف الواقع للسائل بهدف ان يقتنع بالجواب مع بقاء الواقع مستوراً وإن شئت فعبّر بانّ المجيب وإن كان هدفه إخفاء الواقع لكنّه يقصد

37

إخفاء الواقع عن طريق إبراز خلاف الواقع فليس المفروض الافتاء بحليّة التورية على الإطلاق لدى الجواب على السؤال.

فروع بحث الإكراه:

وفي ختام البحث عن شرط الرضا أو مانعيّة الإكراه نتعرّض لبعض الفروع.

الإكراه على الجامع:

الفرع الأوّل ـ لو اُكره على بيع إحدى العَينين أو على طلاق إحدى الزوجتين أو على بيع داره أو طلاق زوجته مثلا فالافتاء ببطلان ما يختاره من أحد فردي المكره عليه واضح يشبه المسلمات في الفقه رغم ما نسب إلى القواعد من القول بالصحّة وأوّل بإرادة فرض قناعة المكره بطلاق احداهما على الإبهام الذي هو باطل في ذاته(1) فيعود الأمر إلى دعوى انّ وجود المندوحة يصحّح العقد.

وعلى أيّة حال فرغم وضوح القول بالبطلان فقهيّاً في ذلك قد اُثير بوجهه إشكال فنّي وهو انّ الفرد الذي يختاره من أحد الأمرين المكره على الجامع بينهما انّما اختاره بمحض اختياره إذ لم يكن مكرهاً عليه بالخصوص فلماذا يبطل العقد مع عدم صدق الإكراه عليه أو مع صدق الطيب والرضا مثلا.

وأجاب الشيخ الانصاري (رحمه الله) على ذلك(2) تارة بالنقض بانّ الإكراه دائماً يكون على الجامع ولا يتّفق عادة الإكراه على الجزئي الحقيقي من جميع الجهات فلازم الإشكال في المقام هو انكار مبطليّة الإكراه للعقد خارجاً على الإطلاق لعدم وقوعه عادة.


(1) راجع المكاسب 1: 120، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة الشهيدي.

(2) راجع نفس المصدر.

38

واُخرى بالحل بصدق الإكراه لغة وعرفاً لانّ ما وقع منه يعتبر مكرهاً عليه بلحاظ القدر المشترك بين العملين اللذين خُيِّر المكرِه بينهما ويعتبر مختاراً بلحاظ الخصوصية فمتى ما اختصّ الأثر بإحدى الخصوصيتين لا يعتبر الإكراه رافعاً لذاك الأثر لانّ الإكراه انّما تعلّق بالقدر المشترك لا بالخصوصية فلو اكره على الجامع بين البيع الصحيح والبيع الفاسد فاختار البيع الصحيح صحَّ البيع ولم يبطله الإكراه وفي باب الحكم التكليفي لو اكره على الجامع بين شرب الخمر وشرب الماء فاختار شرب الخمر ثبت الحدّ والعقاب لانَّ الأثر مخصوص بإحدى الخصوصيتين ومتى ما لم يختصّ الأثر بإحدى الخصوصيتين كان الإكراه رافعاً للأثر كما لو اكره على طلاق إحدى زوجتيه أو على شرب أحد الخمرين.

وذكر (رحمه الله): انّه لو اكره على الجامع بين البيع وإيفاء مال غير مستحق أو الجامع بين البيع وشرب الخمر فاختار البيع كان الإكراه رافعاً لأثر البيع لانّه انّما اختار البيع فراراً من بدله أو وعيد المكرِه المضرّين ولو اكره على الجامع بين البيع وإيفاء مال مستحق لم يكن الإكراه رافعاً للأثر وصحّ البيع لانّ القدر المشترك بين الحقّ وغيره إذا اكره عليه لم يبطل وإلّا لبطل الحق أيضاً.

وأوردالسيد الخوئي(1) على الجواب النقضي الذي ذكره الشيخ الانصاري (رحمه الله)بأنّ رافعية الإكراه على الجامع للأثر حينما يكون الأثر أثراً للجامع وإن كان واضحاً إلّا انّنا نتكلّم في ما إذا لم يكن الأثر أثراً للجامع وانّما كان أثراً للخصوصية وكلتا الخصوصيتين كانتا ذا أثر كما لو اكره على الجامع بين بيع داره وطلاق زوجته فأثر البينونة خاص بالطلاق وأثر خروج الدار عن الملك خاص


(1) راجع المحاضرات 2: 253، أمّا ما جاء في مصباح الفقاهة بهذا الصدد في المقام فهو مشوش راجع مصباح الفقاهة 3: 309.

39

بالبيع وهنا يقال ببطلان ما اختاره من البيع أو الطلاق فيرجع الإشكال مرّة اُخرى وهو انّ الخصوصية لم تكن مكرهاً عليها فلماذا يفتي بارتفاع الأثر؟ ولا معنى لنقض ذلك بالقول بانّ الإكراه دائماً على الجامع إذ لا يتفق عادة الإكراه على الجزئي الحقيقي من جميع الجهات.

وهذا البيان بنفسه يبطل الجواب الحليّ الذي ذكره الشيخ أيضاً فالتفصيل بين أثر القدر المشترك والأثر الخاص بإحدى الخصوصيتين لا يحلّ الإشكال في المقام لانّه وإن كان الأثر في مفروض الافتاء بالبطلان ثابتاً على كلتا الخصوصيتين وغير مختص باحداهما لكنّه ليس أثراً للقدر المشترك وانّما هو أثر للخصوصية فلماذا يرتفع بالإكراه رغم انّ الإكراه لم يتعلّق إلّا بالقدر المشترك وهو الجامع الانتزاعي مثلا دون الخصوصية؟!

إلّا انّ الشيخ الانصاري (رحمه الله) جاءت في عبارته في المقام بعض الكلمات ممّا يمكن حمله على جواب على هذا الإشكال يكمّل به جوابه الحليّ بان يقال: إنّ الإكراه صادق في المقام عرفاً ولغة وذلك بان يدعى انّ الأثرين وإن كانا أثرين للخصوصيتين ولكن بعد ان شمل الأثر كلتا الخصوصيتين يعتبر أثراً للجامع وقد تمّ الإكراه على الجامع إذن فقد صدق الإكراه على ما فيه الأثر فيرتفع الأثر بالإكراه وهذا بخلاف ما لو كان الأثر مختصّاً بإحدى الخصوصيتين والاُخرى فاقدة للأثر فهنا لا يسند الأثر إلى الجامع وأمّا في خصوص ما إذا اكرهه على الجامع بين العقد وفعل الحرام فالإكراه صادق بالنسبة للعقد لانّه يصدر من الخوف من وعيدين احدهما الوعيد الاخروي على الحرام والآخر وعيد المكرِه على ترك الجامع فبما انّ المكرِه دخيل في تمامية الوعيد صدق الإكراه عليه وليس الإكراه صادقاً بالنسبة لفعل الحرام لانّه كان بإمكانه اختيار العقد الذي لا عقاب عليه.

 

40

وأمّا ما ذكره السيد الخوئي في المقام(1) فهو ان الإكراه وإن كان إكراهاً على الجامع والأثران أثران للخصوصيتين فلا إكراه على ماله الأثر ولكن في مقام التطبيق العملي والاتيان بالجامع فراراً من وعيد المكرِه يكون مضطراً إلى الاتيان بإحدى الخصوصيتين لاستحالة تحقيق الجامع من دون الخصوصيتين فايّاً منهما اختاره ارتفع أثره بالاضطرار وإن لم يرتفع أثره بالإكراه وحديث رفع الاضطرار انّما كنّا نقول في سائر موارد الاضطرار من قبيل مَن اضطر إلى بيع داره لعلاج ابنه بانّه لا يبطل العقد لانّ البطلان هناك كان خلاف الامتنان وهذا بخلاف ما نحن فيه.

وعليه فان اكره على أحد العقدين كبيع داره أو طلاق زوجته فهو مكره على الجامع ومضطر إلى اختياره إحدى خصوصيتين ذات أثر فيرتفع الأثر بالاضطرار في حين انّه لو اكره على الجامع بين عقد ذي أثر وعمل لا أثر له كشرب الماء أو عقد باطل فهو غير مضطر إلى اختيار إحدى خصوصيتين ذات أثره إذ بإمكانه ان يختار الخصوصية التي لا أثر لها وكذلك نقول: إنّه لو اكره على الجامع بين حرامين متساويين في الحرمة فهو مضطر إلى اختيار حرام فترتفع عنه الحرمة بالاضطرار في حين انّه لو اكره على الجامع بين حرام وحلال فهو ليس مضطراً إلى اختيار حرام كي ترتفع عنه الحرمة إذ بإمكانه ان يختار المباح ولو اُكره على الجامع بين حرامين احدهما أشدّ فهو بالقياس إلى مقدار الزيادة ليس مضطرا إذ بإمكانه ان يختار أخفّ الحرامين.

أقول: أوّلا ـ إن كان المقصود بهذا الكلام التفصيل بين الإكراه والاضطرار بدعوى انّ الإكراه انّما يتعلّق بالجامع والاضطرار يتعلّق بإحدى الخصوصيتين


(1) راجع المحاضرات 2: 254 ـ 256، ومصباح الفقاهة 3: 310 ـ 311.

41

فهذا غريب فكما انّه قد اضطر إلى إحدى الخصوصيتين كذلك المكره قد يكرهه على إحدى الخصوصيتين فان قلنا: إنّ (إحدى الخصوصيتين) عبارة عن الجامع فكما انّ الإكراه اكراه على الجامع كذلك الاضطرار اضطرار إلى الجامع وان قلنا إنّ هذا العنوان يحكي عن شيء أكثر من الجامع فالإكراه أيضاً تعلّق بشيء أكثر من الجامع.

وإن كان المقصود بهذا الكلام التفصيل بين ما يتعلّق به الإكراه أو الاضطرار ابتداء وبين الاضطرار الحاصل لدى تطبيق الجامع بدعوى انّ الإكراه وكذلك الاضطرار لو تعلّق صدفة بالجامع فلدى التطبيق يتحقّق الاضطرار إلى إحدى الخصوصيات لاستحالة وجود الجامع مجرّداً عن الخصوصيات كما يشهد لهذا المعنى ما ورد في المحاضرات من عطف الاضطرار على الإكراه في تعلّقه ابتداء بالجامع إذا وجد كالإكراه فهذا أيضاً غريب إذ لا يوجد لدينا عالَمان للاضطرار أحدهما المفهوم الجامِع بقطع النظر عن التطبيق والثاني عالَم التطبيق كي يتعلّق الاضطرار أوّلا بالجامع ثم يتعلّق الاضطرار في عالم التطبيق بإحدى الخصوصيتين بل من أوّل الأمر يكون الاضطرار اضطراراً إلى الإيجاد والإيجاد إيجاد لاحدى الخصوصيتين فإمّا ان نقول: إنّ (إحدى الخصوصيتين) جامع فالاضطرار متعلّق بالجامع أو نقول:إنّه أكثر من الجامع فالاضطرار تعلّق بأكثر من الجامع.

وثانياً ـ لو فرض انّ الاضطرار يسري لدى التطبيق إلى واقع الخصوصية ولا يقف على الجامع فلا مبرّر للتفصيل بين ما إذا كانت كلتا الخصوصيتين محرّمة أو ذات أثر أو لا بأن يقال إن كانت كلتا الخصوصيتين كذلك قيل: إنّه تمّ الاضطرار إلى الحرام أو إلى ذات الأثر فتنتفي الحرمة أو يبطل الأثر وإلّا قيل: إنّه لا اضطرار

42

إلى الحرام أو إلى ذات أثر لتمكّنه من اختيار المباح أو غير ذات الأثر بل المفروض ان الاضطرار سار إلى ذات الخصوصيتين ويقال على الإطلاق: إنّ الإكراه على الجامع أو الاضطرار إليه يؤدّي لدى التطبيق إلى الاضطرار إلى إحدى الخصوصيتين لانّ الجامع يستحيل وجوده مجرداً عنهما وإذا تمّ الاضطرار إلى شيء انتفت حرمته أو بطل أثره فلا يصحّ التفصيل المذكور.

أمّا الشيخ ميرزا جواد التبريزي (حفظه الله) فهو يرى(1) انّ الإكراه يقف على الجامع وانّ الأثرين الثابتين على الخصوصيتين لا تصعدان إلى الجامع ولكن مع هذا يكون الإكراه رافعاً للأثر أو الحرمة حينما يثبت في كلتا الخصوصيتين ولا يكون رافعاً له حينما يختصّ بإحدى الخصوصيتين والوجه في ذلك ان رفع الإكراه نقيض وضعه وتحميله على المكلّف فالإكراه وإن كان إكراهاً على الجامع لكنّه يؤدّي لا محالة بالنسبة لمَن يهرب من وعيد المكرِه إلى الابتلاء بأحد الأثرين أو إحدى الحرمتين حينما لا يختصّ الأثر أو الحرمة باحداهما فلو ظلّت الشريعة الإسلامية مصرّة على بقاء الحرمة أو الأثر بالنسبة لكلتا الخصوصيتين كان هذا تحميلا ووضعاً لثقل الإكراه على المكلّف فيشمله حديث الرفع أو لو اختصّ الأثر أو الحرمة باحداهما وظلّت الشريعة الإسلامية مصرّة على بقاءِ الحرمة أو الأثر لم يكن هذا تحميلا ووضعاً لثقل الإكراه عليه إذ بإمكانه ان يختار الفرد الذي لا حرمة له أو لا أثر له.

أقول: إنّ هذا الكلام ينبغي ان يرجع في روحه إلى دعوى ان المختار في حديث الرفع هو ان رفع الإكراه يقصد به رفع لكل أثر ينتهي ولو في سلسلة علله


(1) راجع إرشاد الطالب 2: 248 ـ 250.

43

إلى الإكراه وبقاؤه وضع للإكراه أمّا بناء على كون المختار رفع أثر الشيء المكره عليه مباشرة وان وضع الإكراه هو وضع ذاك الأثر فلا يتمّ هذا الكلام فان الأثر قد فرض أثراً للخصوصية والحرمة حرمة لها بينما الإكراه قد فرض متعلّقاً بالجامع لا بالخصوصية.

وتحقيق الحال في المقام: إنّ الإكراه وإن كان إكراهاً على الجامع لا على واحدة من الخصوصيتين لكن ليس المقصود بالجامع جزءً مشتركاً بين الفردين غير الخصوصيتين وانّما المقصود به الجامع بين الخصوصيتين المعبّر عنه بتعبير (احداهما) فهذا الجامع إمّا مكره عليه كما لو كان الوعيد على تركهما أو مضطر إليه كما لو كان الوعيد على ترك جزء مشترك لا ينفك خارجاً عنهما وهذا الجامع يحمل لا محالة الأثر المشترك أو الحرمة المشتركة فأحد الحرامين حرام لا محالة وأحد المؤثرين مؤثّر لا محالة فانّ الجامع المنتزع من شيئين موصوف بجميع الأوصاف المشتركة بينهما إذن فيرتفع بالإكراه عندئذ الأثر أو الحرمة وهذا هو توجيه كلام الشيخ الانصاري (رحمه الله)الذي مضى.

أمّا إذا اختصت الحرمة أو الأثر بواحد من الأمرين فالجامع بينهما ولو بمعنى (أحدهما) ليس متصفاً بالحرمة أو بذاك الأثر فالجامع بين الحلال والحرام ليس حراماً والجامع بين ذي الأثر وغير ذي الأثر ليس مؤثراً وهذا هو السرّ في انّه لو اكرهه على الجامع بين الحرام والحلال لم تسقط عنه الحرمة ولو اكرهه على الجامع بين حرام خفيف وحرام شديد لم تسقط عنه الشدّة لانّ الجامع بين شديد الحرمة وخفيفها ليس شديد الحرمة أمّا لو اكرهه على الجامع بين البيع وما ليس له أثر كشرب الماء أو بين البيع الصحيح والبيع الفاسد أو بين البيع وأداء الدين المستحق فاختار البيع فهنا نقول ببطلان البيع لا بصحّته وذلك لا لأجل ان الإكراه

44

رفع أثر الجامع حتى يقال ـ كما مضى عن الشيخ ـ: انّ هذا يستلزم بطلان الحق أيضاً بل لأجل انّ البيع كما يكون الإكراه مانعاً عن صحّته كذلك يكون طيب النفس شرطاً في صحّته وهنا لم يقع البيع عن طيب النفس بل وقع هرباً من وعيد المكرِه ومن إيفاء الحقّ الذي لا يريد إيفاءه ولو عصياناً أو هرباً من وعيد المكرِه ومن شرب الماء الذي لا يشتهيه نعم قد تكون سهولة المندوحة قرينة عرفية إثباتية على طيب النفس كما مضى منّا في ما سبق وهذا مطلب آخر.

بقي الكلام في ما إذا اكرهه على الجامع بين البيع وفعل الحرام وقال السيد الخوئي في ذلك: إنّ الحرمة لا ترتفع لعدم الإكراه على الحرام إذ بإمكانه اختيار الحلال وهو البيع ولكن البيع يبطل لعدم الطيب وثبوت الخوف الجامع بين الإكراه والاضطرار ـ على حدّ تعبير المحاضرات(1) ـ أو للإكراه وعدم الطيب ـ على حدّ تعبير المصباح(2) ولعل صدق الإكراه عنده على خصوص البيع في المقام (لو صحّ تعبير المصباح) يكون لأجل انّ البيع صدر عن خوف أحد العقابين الدنيوي والاخروي وبما انّ أحدهما كان بتهديد المكرِه اذن صَدَق الإكراه في رأي السيد الخوئي في حين انّ فعل الحرام لا يصدر منه سبب الخوف من أحد العقابين إذ لو اختار البيع نجى من كِلا العقابين فلا يصدق الإكراه بلحاظ الحرام.

أمّا لو أخذنا بتعبير المحاضرات فظاهره انّ الإكراه بعنوانه غير صادق حتى على البيع وانّما الصادق هو الخوف الجامع بين الإكراه والاضطرار وانّما قال ببطلان البيع هنا بعدم الطيب ولم يقل به في سائر موارد وجود المندوحة لانّ مقياس


(1) راجع 2: 256.

(2) راجع مصباح الفقاهة 3: 313 ـ 314.

45

الطيب وعدمه في رأيه هو الخوف وعدمه فإن كان العقد صدر عن الخوف لم يثبت الطيب وإلّا ثبت الطيب فبما انّ البيع هنا صدر عن خوفه لأحد العقابين الدنيوي والاخروي لم يصدق طيب النفس بالبيع وبهذا يبطل البيع بخلاف سائر موارد المندوحة فلو اكرهه على الجامع بين البيع وإيفاء الحقّ مثلا فاختار البيع صحّ البيع لثبوت طيب النفس إذ كان بإمكانه ان يختار إيفاء الحق وقد عدل عنه إلى البيع بمحض اختياره ورضاه ولكن لو اكرهه على الجامع بين البيع والحرام فاختار البيع بطل البيع لانّ عنصره الخوف هنا دخيل في اختيار البيع.

أقول: قد عرفت فيما مضى منّا أنّ الفرق بين باب الإكراه والموارد المتعارفة من الاضطرار هو ان المضطر يطيب نفساً بالنتيجة ولذا لو اُخبر ببطلان البيع لأغتمَّ بذلك في حين انّ المكره لو اُخبر ببطلان البيع لفرح بذلك وهذه آية عدم الطيب وهذه الحالة ثابتة حتى مع فرض المندوحة المحلّلة بل المندوحة الواجبة فلو أكره على الجامع بين البيع وإيفاء الحق فاختار البيع هرباً من إيفاء الحق ومن الوعيد بطل البيع لا للإكراه على الجامع حتى يقال إنّ هذا يستلزم بطلان إيفاء الحقّ أيضاً بل لعدم طيب النفس بالنتيجة إذ لو اُخبر ببطلان البيع لفرح بذلك.

وعلى أيّة حال فلو قلنا بعدم صدق الإكراه على البيع في مثال إكراهه على الجامع بين البيع وفعل الحرام لزم من ذلك ان دليل بطلان بيع المكره لو كان مختصاً بحديث رفع الإكراه لما أمكن التفصيل في المقام بين الحرام والبيع فكما انّ الحرمة لا ترتفع بالإكراه على الجامع كذلك البيع لا يبطل بذلك وهذا غريب.

أمّا على مبنى الشيخ ميرزا جواد (حفظه الله) الذي مضى فاوّل ما يخطر بالبال هو ارتفاع الحرمة وبطلان البيع لانّ بقاءهما تحميل عليه ناتج عن الإكراه

46

فرفعهما رفع للإكراه إلّا انّه (حفظه الله) فصّل بين الحرمة والبيع بدعوى ثبوت الحرمة وبطلان البيع ولعله لأجل غرابة القول بعدم التفصيل إلّا انّه لم يعرف من كلامه وجه فنّيٌ، لهذا التفصيل عدا انّ البيع بطل بالاضطرار لانّه اختاره فراراً من أحد العقابين(1) ولكنّه لم يبيّن انّه لماذا لا يوجب الإكراه على الجامع ارتفاع الحرمة وأثر البيع معاً في حين انّه على مبناه الماضي وهو كون المقياس صدقُ التحميل المستند إلى الإكراه قد يتّجه القول بذلك لانّ ثبوت الحرمة وصحّة البيع معاً تحميل، لنتيجة الإكراه عليه فليرتفعا في عرض واحد.

وكان بإمكانه (حفظه الله) حلّ المطلب ببيان انّ البيع بعد ان بطل بدليل مستقل عن رفع الإكراه وهو رفع الاضطرار أو عدم الطيب انتفى التحميل فلم يبق عندئذ موجب لرفع الحرمة بحديث رفع الإكراه.

ولو أمكنه عدم قصد الإنشاء ومع ذلك قصد الإنشاء فلئن لم يصدق الاضطرار عندئذ لوجود المندوحة كفى عدم الطيب.

ولكن هذا البيان لا يدفع الإشكال فيما إذا كان المكرِه يطبّق الأثر الخارجي للبيع لو اختاره المكرَه رغم بطلان البيع أي انّه سيخرج المبيع من يده قهراً عليه ويسلّمه للمشتري فهنا بقاء الحرام على حرمته تحميل على المكرَه لنتيجة الإكراه فالمفروض على مبنى الشيخ ميرزا جواد (حفظه الله) الافتاء في هذا الفرض بزوال الحرمة وهو غريب على ان لازم ذلك أيضاً انّ دليل بطلان بيع المكره لو فرض انحصاره في حديث رفع الإكراه لما أمكن التفصيل في باب الإكراه على الجامع بين حرمة الحرام وصحّة البيع بارتفاع الثانية دون الاُولى.


(1) راجع إرشاد الطالب 2: 249.

47

والصحيح في المقام انّ الجامع هو المكره عليه وليس حراماً وما هو حرام ليس مكرهاً عليه فلا ترتفع الحرمة بالإكراه أمّا البيع فيبطل بالإكراه لانّه فرار من أحد عقابين ويكون واحد من العقابين عقاباً بشرياً وهذا كاف في صدق الإكراه وكذلك يصدق الاضطرار وعدم الطيب أمّا لو كان قادراً على عدم قصد الإنشاء وقد قصد الإنشاء فالوجه في بطلان البيع عندئذ منحصر في عدم الطيب دون الإكراه او الاضطرار هذا. وهناك وجوه اُخرى غير الوجوه الماضية ذكرت لمعرفة أثر الإكراه على الجامع بين ما له الأثر وما ليس له الأثر أو بين شيئين كلٌّ منهما ذو أثر من قبيل:

1 ـ ما ذكره المحقّق الخراساني (رحمه الله)(1) من انّ الإكراه على الجامع يسري إلى الفرد ويقع التعارض بين دليل رفع الإكراه ودليل الأثر الثابت لذاك الفرد سواء فرضنا اختصاص الأثر بذاك الفرد الذي اختاره المكرَه أو فرضنا كون كل منهما ذا أثر لكن يمكن أن يقال: إنّ دليل أثر ذي الأثر عند اختصاصه بأحدهما أظهر من دليل رفع الإكراه فيقدم عليه أمّا لدى اشتراكهما في الأثر فدليل رفع الإكراه أظهر من دليل الأثر فيقدم عليه.

ويرد عليه بعد منع صدق الإكراه على غير القدر الجامع: انّه لو سلّم ما ذكره في الأظهريّة قلنا انّ دليل رفع الإكراه حاكم على دليل الأثر والدليل الحاكم يقدم على المحكوم من دون ملاحظة الأظهر والظاهر.

2 ـ ما جاء عن المحقّق النائيني (رحمه الله) في منية الطالب(2) للشيخ موسى


(1) في تعليقته على المكاسب: 49.

(2) منية الطالب 1: 191.

48

النجفي الخونساري (قدس سره) وكذلك في كتاب المكاسب والبيع للشيخ محمّد تقي الآملي (رحمه الله)(1) من انّ الإكراه على الجامع يسري إلى الفرد عند تساوي الفردين في الأثر أمّا عند عدم التساوي كما إذا كان أحدهما ذا أثر والآخر غير ذي أثر أو كان أحدهما أخفّ حرمة والآخر أشدّ حرمة فالإكراه انّما يسري إلى غير ذي الأثر أو إلى الأخفّ حرمة.

وهذا الكلام غريب، فانّ الإكراه وسريانه أو عدم سريانه أمر تكوينيّ ووجود الأثر شرعاً وعدمه ليس له أيّ دخل في ذلك.

3 ـ ما ذكره الشيخ موسى الخونساري في تعليقه تحت الخط على ما تقدّم من كلام استاذه حيث قال: إنّ الإكراه يسري إلى الفرد المختار مِنْ قِبَل المكرَه بلا تفصيل وبه يبطل البيع الذي يختاره لو كان أحد فردي المكره عليه لكن في خصوص باب الحرمة نرى انّ الإكراه لا يرفع الحرمة مع وجود المندوحة وحلية أحد الفردين وكذلك لا يرفع حرمة الفرد الأشدّ حرمة مع وجود فرد أخفّ حرمة.

أقول: إنّ وجه هذا التفصيل غير واضح إلّا ان يتمسك في باب البيع بشرط الطيب ويقال بانّ المستظهر من دليل الإكراه بمناسبات الحكم والموضوع هو كون الهدف من رفع الإكراه إخراج المكلَّف من المأزق ومع وجود المندوحة ليس المكلف في مأزق ومع وجود الأخفّ حرمة ليس المكلف في مأزق بلحاظ الأشديّة في الحرمة الثابتة للفرد الآخر ولكن الواقع ان عدم كونه في المأزق هو معنى عدم صدق الإكراه وهو ليس في مأزق بلحاظ خصوصية كل من الفردين حتى فيما لو فرضت حرمتهما نعم هو في مأزق عندئذ من جامع الحرام.


(1) المكاسب والبيع 1: 439 ـ 440.

49

بقي الكلام فيما لو اكرهه على الجامع بين فردين طوليين كالإكراه على البيع في هذه الساعة أو البيع في الساعة الثانية أو الإكراه على فعل الحرام في هذه الساعة أو الساعة الثانية.

فصّل المحقّق النائيني (رحمه الله) بين باب المحرمات وباب المعاملات(1) بدعوى انّ المقياس في البطلان في باب المعاملات هو الإكراه والإكراه صادق بلحاظ جميع الأفراد ان أيّ فرد اختاره المكرَه من أفراد الجامع فقد صدر منه عن إكراه ولو كان هو الفرد الأوّل فتبطل المعاملة من دون فرق في ذلك بين الأفراد في حين انّ المقياس في رفع الحرمة في باب المحرَّمات ليس هو الإكراه الصادق حتى بلحاظ الفرد الأوّل بل هو عدم المناص وهو غير صادق إلّا بلحاظ آخر الأفراد ففي زمان الفرد الأوّل بإمكانه ان يتهرّب من فعل الحرام بتأجيله إلى آخر الزمان ثم في آخر الزمان لا يبقى له مناص عن الارتكاب فيحلّ له عندئذ الحرام ولم يعرف ما هو دليله (رحمه الله) على التفصيل في المقياس بين البابين.

أمّا السيد الخوئي فقد انكر الفرق بين البابين وذكر(2): انّ الإكراه مقياسه الخوف وانّ الخوف هو الجامع بين الإكراه والاضطرار وان هذا لا يتحقّق إلّا بلحاظ الفرد الأخير فلو ترك الفرد الأوّل لم يكن عليه خوف لانّ الظالم سوف لن يبطش به باعتبار انّ الوقت لا زال واسعاً وانّما يتحقّق الخوف عند ضيق الوقت حيث انّه عندئذ لو ترك الفرد الأخير سيحلّ عليه بطش الظالم فهنا يتمّ الخوف ويحلّ الحرام أو تبطل المعاملة نعم في التكليفيّات إذا كان الثاني أهمّ وجبت


(1) راجع منية الطالب 1: 190 ـ 191، وكتاب المكاسب والبيع 1: 440 ـ 441.

(2) راجع المحاضرات 2: 257 ـ 258، ومصباح الفقاهة 3: 315 ـ 316.