87

الجيمع مثلاً، أو يرفض اشتراكهم باعتبار أن الهدف من الشورى ليس إلا معرفة أصلح السبل فيمنعنا ذلك عن فهم الاطلاق من الدليل؟ وعلى التقدير الثاني فما هي بالضبط الحدود الفاصلة بين من يحق له الاشتراك في الانتخاب ومن لا يحق له ذلك؟

إن هذه الأسئلة الشاخصة وعشرات غيرها تبقى بلا جواب، وتدع المجتمع ـ أي مجتمع ـ في غمرة من الحيرة في مجال اختيار الشكل الواحد من الأشكال الأخرى للشورى والتي يمكن أن يفترض أنها هي الصحيحة في نفس هذا الزمان وهذا الظرف.

ومن هنا يؤكد الاشكال على أن المرونة الاسلامية إنما تتصور وتصبح مزيّة جليلة للإسلام ـ على فرض قوله بنظام الشورى ـ فيما إذا حدد قواعد هذا النظام ومبادئه بشكل لا يؤدي الى هذه الحيرة العجيبة. اما ترك الأمور على عواهنها وعدم تثقيف الأمة بتلك القواعد والاكتفاء بإشارة من آية قرآنية الى الشورى، فلا يعبر إلا عن نقص فاحش يتبرأ الاسلام من نسبته إليه وإلى مبلغه وجاعله تعالى.

هذا هو السؤال المحير الذي يطرح أمام النظرية السنية القائلة بنظام الشورى، فلنتعرف على ما يمكن أن نجيب به عليه.

ويمكننا هنا ان نتصور الإجابات كما يلي:

88

الجواب الأول:

أن يدعى أن الامامة والدولة وكيفية الحكم أمر دنيوي لا يفترض في الشريعة الاسلامية التدخل فيه، كغيره من الشؤون الدنيوية. ولذا فلا يعتبر عدم تعرض الاسلام لهذا الجانب الدنيوي نقصاً، أما وقد تفضل الاسلام وتعرض له فإن من الطبيعي له أن يكتفي بالإطار العام دون أن يقيده بأي قيود تمنع من تطبيقه في كل زمان ومكان مع اختلاف الظروف الزمانية والمكانية، ولذا أعطت الشريعة المفهوم العام وتركت للأمة أمر تحديد الشكل والخصوصيات المناسبة لها، بعد أن كان للإسلام أن يترك لها حتى حق اختيار نظام الشورى ـ من أصله ـ أو رفضه بلا أن يشكل ذلك أي نقص منطقي فيه لأنه من شؤون الدنيا.

وهكذا يمكن أن نقول: ان ترك التحديد بنحو لا ينسجم مع مختلف الظروف هو حسنة جليلة للاسلام.

ولكن هذا الجواب الأول باطل تماماً للأمور التالية:

أولاً: إن مسألة الحكم والامامة من الضرورات التي لا يمكن غض النظر عنها بعد أن كان حفظ أصل الاسلام وقوانينه في المجتمع متوقفاً عليها؛ فإذا افترضنا الاسلام مهتماً بنفسه وتشريعه وجب أن نفترض وقوفه موقفاً إيجابياً من مسألة الحكم، ولو بإعطاء نظام

89

ذي قواعد مرنة تقبل الانطباق على مختلف الظروف وعدم إيكال هذا الجانب الى العقول الإنسانية التي ينتابها الضعف من مختلف الجوانب فيتيه الناس وينسحق بالتالي أصل الشريعة.

وثانياً: إن الاسلام نظام كامل شامل للحياة، ولم يغفل تنظيم شؤون الحياة الانسانية الدنيوية بالمقدار الممكن ترقّبه من الشريعة والدين الواقعي. ويتوضح هذا بملاحظة النظم الاقتصادية والاجتماعية وتحديد أساليب السلوك الفردي والاجتماعي وتنظيم الأمور العائلية وغير ذلك. بل إن تدخل الاسلام في الشؤون الدنيوية من ضروريات الدين الاسلامي أو الفقه ـ على أقل تقدير ـ الأمر الذي لا ينكره إلا مكابر، ومع هذا كيف نتصور الاسلام يغفل جانب الحكم، وهو من أهم المسائل الحياتية للمجتمع الذي عمل على بنائه ووضع أسسه.

وثالثاً: ان الامامة أو تأسيس الدولة يتضمن ـ كما أوضحناه فيما سبق ـ إعمال نفوذ شخص وأشخاص في مجالات كثيرة، الأمر الذي لا ينسجم مع الأحكام الأولية للناس.

وعليه، فلو لم يكن تأسيس الدولة هذا قائماً على أساس من ولاية إسلامية تعطى ضمن نظام خاص لمن تتوفر فيهم الشروط المطلوبة، لأمكن تصور التورط في محرمات كثيرة. الأمر الذي يعيق تشكيل أي حكومة إسلامية صحيحة، وبالتالي يوقع المجتمع

90

المتدين في ورطة وحيرة شديدتين.

الجواب الثاني:

أن يقال ان عدم تحديد المبادئ العامة وشكل نظام الشورى قد يكون على أساس عدم وجود عناصر مشتركة بين مختلف الظروف والعصور والأمكنة، مما لم يمكن معه أن توضع قواعد مشتركة عامة لمعالجة مختلف المواقف بقواعد واحدة وإن اختلفت تطبيقاتها، ولذا وجد الاسلام ـ بمقتضى واقعيته ـ أن يترك هذا النظام بلا تحديد.

ولكننا نلاحظ بهذا الصدد:

أولاً: ان هذا الجواب لا يعني تبرئة الاسلام من النقص في تنظيم الحياة والتشريع الشامل لكل جوانبها، وإلقاء تبعة كل النقائص على سوء تطبيق المسلمين لهذه القوانين الاسلامية الكاملة الضامنة للسعادة، وإنما يعني أن الاسلام ناقص، ولكن هذا النقص مبرر بأن لابد منه بعد أن لم تكن هناك عناصر مشتركة بين مختلف الظروف يمكن وضع قواعد ثابتة لها.

ولو تطرق هذا الاحتمال ـ أي احتمال النقص الجبري في نظام الدولة في الاسلام ـ لتطرق الى العديد من جوانبه أيضاً، كالجانب الاقتصادي والجانب الاجتماعي، إذ يقال فيها كذلك:

91

لعل الاسلام عاجز عن تنظيم الحياة في شتى الجوانب بالنحو الصالح، ولذا أبقى أسس النظم ناقصة أحياناً ـ كما في نظام الشورى ـ أو ملأها أحياناً أخرى بنحو لا يصلح إلا لبعض الأزمنة والظروف، ولكنه اضطر لتعميمها على كل الظروف حتى التي لا تصلح لها، وهذا التعميم كان ضرورياً لعدم قدرته على تعيين بعض العلائم والدلالات التي يفهمها الناس فيعينوا بها الظرف الصالح للتطبيق ويفصلوه عن الظرف غير الصالح. ولما كان الأمر دائراً بين عدم إعطاء أي نظام في المورد أصلاً فيتيه الناس في كل الظروف، وإعطاء النظام بشكل مطلق فيسعد الناس في بعض الظروف ـ على الأقل ـ فقد اختار الشق الثاني لمصلحة الناس.

وعليه يدعى أن هذا لا يشكل نقصاً في الاسلام، وإنما ينشأ من عدم وجود حل مناسب ـ مرن مرونة حقيقية ـ في الواقع، لا أن يفترض وجود حل في الواقع لم يتوصل إليه الاسلام.

أفهل يمكن الأخذ بهذا الاحتمال على ما فيه من تبعات؟!

والواقع أننا عممنا الاحتمال ليشمل غير جانب نظام الحكم، ولم نهدف إلا الى تنبيه الوجدان الى أن هذا الاحتمال يخالف ضرورة واضحة من ضرورات الدين أو الفقه على الأقل.

وثانياً: ان هذا النقص المفترض له محتملات ثلاثة:

المحتمل الأول: أن نفترض وجود نظم عديدة وأشكال مختلفة

92

للشورى، وهي تصلح جميعها لكل الظروف والعصور، فلم يشأ الاسلام أن يعين أحدها دون غيره، لأن ذلك سيكون ترجيحاً بلا مرجح وإلزاماً بلا ملزم. ويختلف نظام الشورى عن سائر النظم الاجتماعية والاقتصادية وغيرها في الموارد التي يمكن الحكم فيها بالتخيير بفارق مهم، هو:

ان الاسلام عندما يواجه مشكلة اجتماعية أو اقتصادية لها أسلوبان صالحان للحل على مستوى واحد مع إمكانية التخيير، فإنه يخير الناس بينهما، فيرتفع النقص. أما بالنسبة لمجال الحكم والشورى والتصويت، فإنه لم يكن بالإمكان الحكم بالتخيير بين نظامين معينين مثلاً، رغم ان كلاً منهما يحل المشكلة! وذلك على أساس أن الناس قد يختلفون في اختيار أحدهما دون الآخر، فلا نصل بالتالي لحل أساس يقيم أود الدولة، ويسير بالمجتمع سيراً موحداً نحو أهدافه. ولهذا لم يشأ الاسلام ان يعين شكلين مثلاً للتخيير، فالتزم الاسلام جانب الاهمال، وإنما ترك تعيين الأشكال والقواعد للناس.

ولنقتصر في الجواب على هذا بتوضيح أنه بإمكان الاسلام أن يعين أحد الأنظمة ـ ولو على أساس الترجيح بلا مرجح ـ وهو أمر جائز في الأفعال الاختيارية، فالله تعالى يختار بلا مرجح أحد الأنظمة (التي يفرض أنها جميعاً تحل المشكلة)، وذلك تفادياً لبقاء الاسلام على نقصه وعدم اهتداء الناس الى أسلوب موحد صحيح،

93

ووقوع الأمة المسلمة في مشكلة الخلاف والنزاع حول نوعية النظام الأصلح(1).

المحتمل الثاني: أن نفترض وجود نظم عديدة للشورى بحيث كان كل منها صالحاً ـ واقعاً ـ لظرف خاص دون غيره من الظروف ولذا لم يكن بالإمكان إعطاء قواعد عامة ثابتة. ومن هنا جاء هذا التعبير العام بالشورى دون تحديد أي مبدأ أو قاعدة فيه.

وجوابه: أن الاسلام ان أمكنه أن يعطي بعض الميزات التي تعين الظرف الخاص لكل نظام، كان عليه ذلك، وإلا كان من الطبيعي ان نفترض مجيء رسول جديد على رأس كل ظرف وبين فترة وأخرى ليهدي الناس الى الدين المناسب لذلك الظرف، أو يعين الاسلام وصياً خاصاً يملأ هذا الفراغ الهائل.

المحتمل الثالث: ان نفترض أن كل أنظمة الشورى ناقصة وعاجزة عن إسعاد البشرية، ولكن لما كان مبدأ الشورى أفضل من الفوضى والهرج فقد أطلق الاسلام كلمة (الشورى) دون أن يعين فيها أي قاعدة.

وهنا نقول: ان الواقع هو أن كل أنظمة الشورى لا يمكنها أن تسعد البشرية حقاً، ولكن هذا لا يعني أن لا طريق للاسلام إلا بإعطاء نظام متميع ضائع الحدود، وإنما عليه أن يعدل عن أصل نظام



(1) على ان التخيير بين الأشكال الصالحة كان أفضل من الاهمال المطلق الموجب لتوسعة دائرة الحيرة. هذا إضافة الى أنه كان بالإمكان تخيير الأمة ككل بين الاشكال الصالحة دون تخيير الأفراد، فلو اختلفوا في الاختيار عوقبوا جميعاً.

94

الشورى الى نظام النص على القائد، ومنحه الولاية العامة، أو اعطاء الولاية العامة لمن هو ذو مواصفات خاصة. وبذلك يمكنه أن يتدخل تدخلاً مباشراً لإسعاد الانسانية دون أن يبتلي بالنقص المذكور. وهذا ما صنعه الاسلام بالضبط ـ كما نرى ـ.

وخلاصة الأمر: أن الاسلام لم يعجز عن وضع نظام يسعد البشرية بتطبيقه الكامل الشامل ولم يتهاون في ذلك. أما شقاء البشرية فهو ينشأ بالضرورة من تهاونها وتقصيرها في مجال تطبيقه، وربما أشارت الآيتان الكريمتان لهذا المعنى، إذ يقول تعالى:

﴿ولو أن اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون(1).

ويقول تعالى:

﴿ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل وما أُنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون(2).

الجواب الثالث:

أن يقال: ان نظام الشورى وإن كان يبدو ـ بادئ الرأي ـ نظاماً مبهماً مائعاً، ولكننا إذا تأملنا الأمر أكثر ارتفع الابهام والميوعة.



(1) سورة الأعراف الآية96.

(2) سورة المائدة الآية66.

95

وما يمكن أن يفترض رافعاً لكل إبهام في نظام الشورى، هو أحد أمور ثلاثة:

الأول: أن يقال بأن دليل الشورى نفسه دليل مطلق، وهذا الإطلاق وعدم التحديد في الدليل يمنح الأمة اختياراً تاماً بين مختلف الأشكال التي تتعلقها للشورى في زمان واحد وظروف واحدة.

وجواب هذا واضح، إذ ماذا نصنع فيما لو اختلفت الأمة في الاختيار؟ إن هذا السؤال نفسه يوجب أن لا يفهم العرف من الدليل مثل هذا الاطلاق المدعى بهذا المعنى.

الثاني: أن يدّعى إمكان تعيين شكل نظام الشورى بالشورى.

وهذا أيضاً يبتلى بنفس الإشكال السابق، إذ ماذا نصنع لو اختلفت الأمة في تعيين هذا الشكل ولم تنته المشكلة الى حل؟!

فلو فرضنا أن الأمة اتفقت على تسليم ادارة الأمور بيد الفقهاء واعتبرت ذلك هو الأفضل ـ بأي شكل يفرض تنسيق الأمور فيما بينهم ـ ثم اختلفت أكثرية الأمة عن أكثرية الفقهاء في كيفية التنسيق فيما بين الفقهاء، فرحنا نستفتي الأمة عن رأيها في المرجع النهائي لحالة ما إذا كان هناك أمر من الأمور ينسب تارة الى دائرة وسيعة وأخرى ـ وفي نفس الوقت ـ ينسب الى دائرة ضيقة ضمن تلك الدائرة الوسيعة، فلمن يرجع في التصويت؟ فأفتوا بعدم وجود مقياس عام يرجع له في كل الحوادث، وإنما يجب التصويت لهذا الأمر في كل

96

مسألة؛ فقد يكون الأصلح الرجوع للدائرة الوسيعة وقد يكون العكس. ورحنا نستفتي في هذه المسألة بالذات (أي تنسيق الأمور بين الفقهاء) وهل يكون بتصويت خاص بين الفقهاء أو بتصويت عام تشترك فيه الأمة، فاختلفت أكثرية الأمة عن أكثرية الفقهاء، فما هو موقفنا من هذه الفوضى البالغة؟!وإذا طرحنا مشكلة (وجود رجحان كمي في طرف وكيفي في آخر، ومن المقدم منهما؟) على الامة وافترضنا ان قسماً يمتلك رجحاناً عددياً منها اختار تقديم الرجحان الكيفي اختار تقديم الرجحان العددي، في حين أن القسم الآخر الذي يمتلك الرجحان الكيفي اختار تقديم الرجحان الكيفي، فماذا الحل والمخرج؟!

وإذا طرحنا مشكلة (المتقاعسين عن الاشتراك ومدى اضرارهم بالتصويت أولاً) على الأمة وتقاعس البعض عن الاشتراك في التصويت على هذه المشكلة، فماذا نصنع؟!

وإذا رحنا نستفتي الأمة عن (مسألة اشتراك المستضعفين من النساء والرجال أو استثنائهم وعن الحد الفاصل بين من يخرج عن دائرة التصويت ومن يدخل) فممن يكون الاستفتاء؟ هل من كل الأمة أو ممّا عدا المستضعفين؟ وما هي حدود الاستثناء، علماً بأن النتيجة قد تختلف بدخول البعض عنها في حال خروجه؟!

الثالث: أن يدّعى أن نظام الشورى وإن كان مبهماً ناقصاً عند تشريع الإسلام

97

له إلا أن من حق أحد المجتهدين إكماله في كل زمان وظرف، وذلك بملء الفراغ باجتهاده عبر الاستحسان والمصالح المرسلة ونحو ذلك حسب مباني الفقه السني المشهور.

ولكن ماذا نفعل فيما لو اختلف المجتهدون في عصر واحد وفي ظروف واحدة في تشريعاتهم..؟ إن اختلاف المجتهدين في أحكام فردية أمر هين، ولكن ماذا نصنع بنظام الحكم حين يختلف فيه المشرعون؟! قد يقال نعمل على جمعهم في لجنة واحدة لينتخبوا بعض الاجتهادات وفق نظام الشورى، إلا أن هذا يعني الرجوع مرة أخرى الى الشورى التي لا زالت مائعة غامضة الحدود والمبادئ!

وبهذا العرض اتضح الإشكال في كل ما يقام من أدلة على مبدأ الشورى والتصويت والانتخاب كأساس لإقامة الدولة، إذ لو كان يهدف رسول الله (صلى الله عليه وآله) حقاً لإرشاد أمته بعده نحو تسيير أمورهم وانتخاب حكومتهم بالشورى، لكان عليه أن يشرح لهم بنود هذا المبدأ ونظمه. ولو كان الأئمة المعصومون (عليهم السلام) يهدفون حقاً الى توجيه الشيعة بعد الغيبة نحو الشورى والانتخاب، لكان عليهم أن يشرحوا للشيعة بنود الشورى، ونظمها.

ولكننا مع هذا نتعرض لأهم أدلة الشورى كي نرى هل تسلم عن الإشكال، لو غضضنا النظر عن هذه الملاحظة العامة، أولاً؟

98

أدلة الشورى من الكتاب والسنة

عندما يطرح البحث على الصعيد الشيعي ـ حيث يبحث عن شكل الحكم في عصر الغيبة ـ تستثنى أول الأمر من روايات الشورى بعض الروايات التي يبدو منها كون الامامة أو تعيين القيادة بالانتخاب والشورى حتى في زمن حضور الأئمة (عليهم السلام)، وكأن امامة الامام أمير المؤمنين قد تمت بالشورى والانتخاب، وذلك من قبيل ما جاء في نهج البلاغة: في كتاب للامام علي (عليه السلام) الى معاوية: "انه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضى"(1).

ونقل ذلك نصر بن مزاحم في كتاب (وقعة صفين)(2) مع شيء من التفصيل مصدراً الكلام بقوله: "أما بعد، فإن بيعتي لزمتك وأنت بالشام، لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان…".

وجاء أيضاً في كتاب نصر بن مزاحم في كتاب له (عليه السلام)



(1) نهج البلاغة، الكتاب السادس، من باب المختار من كتب مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام وفق ما جمعه الشريف الرضي "ره".

(2) ص29 حسب طبعة قم.

99

الى معاوية: "وأما قولك ان أهل الشام هم الحكام على أهل الحجاز، فهات رجلاً من قريش الشام يقبل في الشورى أو تحل له الخلافة، فإن زعمت ذلك كذبك المهاجرون والأنصار…"(1).

وجاء في نهج البلاغة: "أيها الناس ان أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه؛ فإن شغب شاغب استعتب، فان أبى قوتل. ولعمري لئن كانت الامامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس فما الى ذلك سبيل، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار"(1).

أقول: مثل هذه الروايات(1) حتى مع غض النظر عن حالها



(1) وقعة صفين ص58.

(2) نهج البلاغة، الخطبة 172.

(3) وتلحق بها أيضاً روايات حرمة مفارقة الجماعة الواردة عن الأئمة عليهم السلام الظاهرة في ارادة تحريم مفارقة جماعة المسلمين الساحقة المتبعة لخليفة الوقت الذي كان ـ في منطق الأئمة عليهم السلام ـ غاصباً، من قبيل ما في الكافي عن عدة من اصحابنا عن احمد بن محمد عن أبي فضال عن أبي جميلة عن محمد الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من فارق جماعة المسلمين قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه. وبنفس السند عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من فارق جماعة المسلمين ونكث صفقة الامام (الابهام خ ل) جاء الى الله تعالى أجذم (اصول الكافي 1/405، بحار الانوار 27/72). فأمثال هذه محمولة على التقية؛ بمعنى التقية في الصدور، أو بمعنى الأمر بمداراة الجماعة تقية.

100

من حيث السند لا تدخل في البحث الشيعي عن نظام الحكم في عصر غيبة الامام صاحب الزمان (عليه السلام)، لأن الشيعي قد فرغ مسبقاً بالروايات والأدلة القاطعة عن أن الامامة ورئاسة الدولة في زمن حضور الامام المعصوم ثابتة بالنص على إنسان معين هو المعصوم، وإنما يبحث عن شكل الحكم وعمّن ينوب عن الرئيس الحقيقي للدولة ـ وهو الامام المعصوم ـ في غيابه.

نعم، يمكن طرح هذه الروايات على صعيد البحث في مجالين:

الأول: مجال البحث السني عن نظام الحكم.

الثاني: مجال البحث الشيعي السني عن الامامة بعد عصر الرسول (صلى الله عليه وآله)، وانها هل هي بالنص أو بالانتخاب.

ونحن طبعاً لم نضع هذا الكتاب للبحث عن أساس الحكم بالنسبة لما بعد عصر الرسول (صلى الله عليه وآله) مباشرة، وإنما هذا بحث آخر مفصل له كتبه ومباحثه، ولكنا نذكر هنا أن هذه الروايات لن تنجو عن الملاحظة العامة التي مضى شرحها مفصلاً؛ فرسول الله (صلى الله عليه وآله) لو كان قد تدخل في مستقبل الأمة بعد وفاته تدخلاً إيجابياً ـ بوضع نظام الشورى ـ لكان من الطبيعي أن نجده يشرح للأمة ضوابط هذا النظام وقواعده العامة، أما السكوت عن كل ذلك فليس يعني إلا عدم الاهتمام بالأمة ومستقبلها وبمستقبل الدين الحنيف، وهذا ما لا ينبغي

101

للمسلم أن يحتمله بحق الرسول (صلى الله عليه وآله).

وعليه، فالروايات المشار إليها ـ لو صحت سنداً ـ فهي محمولة عندنا على أن الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) يخاطب معارضيه محتجاً عليهم بمقاييسهم، وملزماً لهم بما ألزموا به أنفسهم، فهو (عليه السلام) ـ لمصلحة الأمة ـ يسف إذا أسفوا ويطير إذا طاروا، كما جاء في الخطبة المعروفة بالشقشقية قوله (عليه السلام):

"فيالله وللشورى، متى اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن الى هذه النظائر، لكني أسففت إذا أسفّوا وطرت إذا طاروا"(1).

وخير دليل على نظام الشورى هو الآيتان الكريمتان:

الأولى: قوله تعالى: ﴿فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين(2).

والثانية: قوله تعالى ﴿فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون* والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون* والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم



(1) نهج البلاغة، الخطبة الثالثة.

(2) سورة آل عمران الآية 159.

102

ينفقون* والذين إذا اصابهم البغي هم ينتصرون(1).

وتوجد روايات كثيرة تحث على مسألة الشورى، والأغلبية الساحقة منها أو كلها وإن كانت ضعيفة السند ولكنها بالغة حد التواتر والاستفاضة؛ تجد كثيراً منها في الوسائل في أبواب أحكام العشرة، نذكر منها ما يلي:

1 ـ عن أبي هريرة قال: سمعت أبا القاسم (صلى الله عليه وآله) يقول: استرشدوا العاقل ولا تعصوه فتندموا(2).

2 ـ عن ابن القداح عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) قال: قيل: يا رسول الله ما الحزم؟ قال: مشاورة ذوي الرأي واتباعهم(3).

3 ـ عن السري بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: فيما أوصى به رسول الله (صلى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) قال: لا مظاهرة أوثق من المشاورة، ولا عقل كالتدبير(4).

4 ـ عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: في التوراة أربعة أسطر… من لا يستشر يندم، والفقر الموت الأكبر، كما تدين تدان، ومن ملك استأثر(5).



(1) سورة الشورى الآيات 36 ـ 39.

(2) الوسائل ج. باب. من ابواب احكام العشرة من كتاب الحج ص 409 بحسب طبعة بيروت.

(3) الوسائل ج8 الباب21 من أبواب احكام العشرة ح1 ص424.

(4) الوسائل ج8 الباب21 من أبواب أحكام العشرة ح1.

(5) الوسائل ج8 الباب21 من أبواب أحكام العشرة ح2.

103

5 ـ عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: لن يهلك أمرء عن مشورة(1).

6 ـ عن معمر بن خلاد قال: هلك مولى لأبي الحسن الرضا (عليه السلام) يقال له سعد، فقال له: أشر عليَّ برجل له فضل وأمانة. فقلت: أنا أشير عليك! فقال شبه المغضب: ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يستشير أصحابه ثم يعزم على ما يريد(2).

7 ـ عن نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال لعبد الله بن عباس وقد أشار عليه في شيء لم يوافق رأيه: عليك ان تشير علي، فإذا خالفتك فأطعني(3).

8 ـ عن علي بن مهزيار قال: كتب إليَّ أبو جعفر (عليه السلام) ان سل فلاناً أن يشير عليّ ويتخير لنفسه، فهو أعلم بما يجوز في بلده وكيف يعامل السلاطين، فإن المشورة مباركة؛ قال الله لنبيه في محكم كتابه: ﴿وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله؛ فإن كان ما يقول مما يجوز كتبت أصوب رأيه، وإن كان غير ذلك رجوت ان أضعه على الطريق الواضح إن شاء الله. ﴿وشاورهم في الأمر قال: يعني الاستخارة(4).



(1) الوسائل ج8 الباب21 من أبواب احكام العشرة ح4 ص 424.

(2) الوسائل ج8 الباب21 من أبواب احكام العشرة ح1 ص 428.

(3) الوسائل ج8 الباب21 من أبواب احكام العشرة ح4 ص 428.

(4) الوسائل ج8 الباب21 من أبواب احكام العشرة ح5 ص 428.

104

9 ـ عن سليمان بن خالد قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: استشر العاقل من الرجال الورع، فإنه لا يأمر إلا بخير، وإياك والخلاف، فإن مخالفة الورع العاقل مفسدة في الدين والدنيا(1).

10 ـ عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): مشاورة العاقل الناصح رشد ويمن وتوفيق من الله؛ فإذا أشار عليك الناصح العاقل فإياك والخلاف، فإن في ذلك العطب(2).

11 ـ عن الصدوق بإسناده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لمحمد بن الحنفية قال: اضمم آراء الرجال بعضها الى بعض ثم اختر أقربها من الصواب وأبعدها من الارتياب ـ الى أن قال ـ قد خاطر بنفسه من استغنى برأيه، ومن استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ(3).

ولا بأس بذكر نموذج من أخبار العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله) في المقام، وأقتصر على ما جمعه قحطان عبد الرحمن الدوري في كتابه الشورى بين النظرية والتطبيق(4).

1 ـ المستشار مؤتمن.



(1) الوسائل ج8 الباب21 من أبواب احكام العشرة ح5 ص 426.

(2) الوسائل ج8 الباب21 من أبواب احكام العشرة ح6 ص 426.

(3) الوسائل ج8 الباب25 من تلك الأبواب ح2 ص429.

(4) الوسائل ج8 الباب25 من تلك الأبواب ص 27 إلى 30.

105

2 ـ المستشار مؤتمن، فإذا استشير فليشر بما هو صانع لنفسه.

3 ـ إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأموركم الى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها.

4 ـ إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه.

5 ـ قال الزهري: قال أبو هريرة: ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسوله الله. وفي المبسوط للسرخسي: حتى إنه كان يستشيرهم في قوت أهله وادامهم.

6 ـ ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد.

7 ـ من استشاره أخوه فأشار عليه بغير رشده فقد خانه.

8 ـ ما يستغني رجل عن مشورة.

9 ـ من أراد أمراً فشاور فيه وقضي هدي لأرشد الأمور.

10 ـ لما نزلت ﴿وشاورهم في الأمر قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أما ان الله ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي؛ فمن استشار منهم لم يعدم رشداً، ومن تركها لم يعدم غياً.

*. *

والواقع ان إقامة حكومة اسلامية حقة، لا يمكن أن تكون

106

ـ كما ألمحنا فيما سبق ـ إلا بولاية واسعة النطاق تضفيها السماء على الهيئة الحاكمة أو الفرد الحاكم، وتشمل حق جميع التصرفات التي لا تتقوم الدولة إلا بها، من قبيل:

1 ـ التصرف في ممتلكات القاصر.

2 ـ وتنبيه العصاة.

3 ـ وإجراء النظم والقوانين الشرعية ولو عن طريق إجبار من لا يخضع لها بالاختيار.

4 ـ وخصم المرافعات.

5 ـ وتوحيد المواقف فيما يحتاج الى ذلك، كما في الأمر بالجهاد وغير ذلك.

6 ـ والالزام في كثير من الموارد الأخرى بما هو غير لازم بالعنوان الأولي، أي في نفسه وبغض النظر عن أوامر الدولة.

كما ان هذه الولاية تؤدي كثيراً الى تجويز ما هو غير جائز بالعنوان الأولي(1).



(1) الولاية ـ كما سيتضح ان شاء الله في بحثنا عن ولاية الفقيه ـ لها مجال واسع في الالزام بغير ما هو لازم بالعنوان الأولي، وأما في تجويز ما هو غير جائز فلا مجال لها إلا بأحد شكلين:

الأول: أن يكون عدم الجواز ثابتاً بأصل من الأصول العملية التي بحثت في علم الأصول أو بالظن في مورد لم يكن محيص عن أتباعه عند عدم

107

فالبحث حول جعل الشورى أساساً للحكم يجب أن يتركز على انه هل يُستفاد من أدلة الشورى كونها مبدأ للولاية بعرضها العريض وفي نطاقها الواسع أولاً؟

محتملات الشورى

فنقول: ان المحتملات بدواً في مسألة الشورى ثلاثة:

المحتمل الأول:

ان يدّعى أن الشورى تؤدي الى امتلاك السلطة الشرعية والولاية؛ فلو تمت الشورى على تعيين فرد أو هيئة ولياً فالولاية



الامارة الشرعية، وهنا يقدم حكم ولي الامر اذا شكل امارة تتقدم على الأصل أو على ذلك الظن.

الثاني: أن تكون الولاية قد أعملت في موضوع الحكم الإلزامي، فتؤثر في تبديل الحكم الى الترخيص بتبدل الموضوع. كما لو أجبر الولي شخصاً ما بحق على بيع ماله، فيجوز للمشتري شراؤه رغم أن شراء المال بغير رضا البائع غير جائز في الحالات الاعتيادية. فالولاية هنا أعملت في موضوع الحكم الالزامي بعدم الشراء والتصرف وبطلانه، حيث ان موضوع الحكم بعدم جواز الشراء والتصرف وبطلانه هو عدم توفر أحد الامرين ـ وهما "رضا البائع، وكون الإكراه بحق ومن قبل ولي الإكراه" ـ أما وقد تحقق الإكراه بحق ومن قبل وليه فلا مانع من الصحة. وبكلمة أخرى: أن رضا الولي في باب البيع يقوم مقام رضا صاحب المال. هذا، وأما إعمال الولاية مباشرة في تبديل الحكم الالزامي الواقعي الى الترخيص في المخالفة فغير صحيح.

108

تثبت له أولها في الحدود التي قررتها نفس عملية الشورى، ولو تمت عملية الشورى على حكم فأقرت بها الأكثرية عاد الحكم نافذاً حتى في الموارد التي يكون الحكم فيها مخالفاً لمقتضى الواجب الالزامي الظاهري الثابت عند الفرد، بغض النظر عن الحكم المذكور(1).

ويمكن للولي المعين بالشورى أن ينفذ قانون العقوبات وغيرها من القوانين التي يجب أن ينفذها الولي لا غير، كما يمكنه أن يشرف على الشؤون الاجتماعية التي لا يسد نقصها إلا من له الولاية.

وبكلمة واحدة: ان الشورى يمكنها أن تثبت جميع شؤون الولاية العامة.

المحتمل الثاني:

أن يدّعى أن الشورى إذا أدت الى لزوم العمل طبق خط خاص، فإن ذلك حكم يلزم الجميع، حتى لو كان على خلاف الرأي الشخصي للمتبع الذي يرى لنفسه عدم الإلزام لولا الشورى.

وبهذا تكون نتيجة الشورى هي تبديل الجواز بالوجوب ودون أن تستطيع ـ أي الشورى ـ أن تثبت للولي كل شؤون الولاية العامة



(1) ولو في خصوص ما اذا كان الحكم كاشفاً ـ حسب المصطلح الذي سوف نذكره في بحثنا عن ولاية الفقيه ـ والا فلا يمكنه رفع الالزام الا بتبديل الموضوع.

109

ـ بعرضها العريض ـ ذلك بأن يقال: ان دليل الشورى ليس فيه ظهور يمكن معه إثبات هذا المستوى من الولاية، وإنما الذي يظهر منه أن وزانه هو وزان دليل وجوب الوفاء بالنذر والعهد واليمين والشرط والعقد، وكلها انما تفترض في المساحة الجائزة من الأحكام، حيث لم يكن يوجد فيها إلزام بخلاف هذه الأحكام ولو بنحو ظاهري.

وهذا المدعى ـ لو تم ـ لم يغننا في مجال إنشاء الحكومة الاسلامية التي يمكنها أن تملأ كل الفراغات الاجتماعية، فإنها ـ كما قلنا ـ تتوقف على ثبوت الولاية في الدائرة الواسعة التي أشرنا اليها ولا تكتفي الولاية في دائرة تبديل الجواز بالوجوب فحسب.

المحتمل الثالث:

أن تكون الشورى مجرد أسلوب للاستضاءة بآراء الآخرين والاستفادة من تجاربهم وخبراتهم، دون أن تؤدي الى إلزام أو ولاية أو تسليط على أي شيء ـ أي دون أن تنتج الولاية بعرضها العريض ـ كما في المحتمل الاول، وحتى دون أن تنتج الولاية في مجال تبديل الجواز بالوجوب كما في المحتمل الثاني.

ومثل هذا لوحده لا يمكنه ـ كما هو واضح ـ أن يشكل أساساً لدولة إسلامية إطلاقاً، بعد أن أوضحنا فيما سبق احتياج الدولة قبل كل شيء الى الولاية، والمفروض أن الشورى بهذا

110

المعنى لا تؤدي اليها.

وهكذا يبدو لنا: أن الشورى إنما يمكنها أن تشكل أساساً للدولة الاسلامية إذا استطعنا أن نعين المحتمل الأول وندلل عليه من بين المحتملات الثلاثة المذكورة.

علاقة أدلة الشورى بأدلة ولاية الفقيه

نحن نعلم أن هناك أدلة تنص على أن الولاية العامة إنما هي لله تعالى ثم للرسول (صلى الله عليه وآله) ثم للامام المعصوم ـ على رأي الشيعة ـ، وأخيراً فهي للفقيه الحائز على بعض الشرائط عند غيبة الامام على ما سيأتي الحديث عنها.

ولذا فينبغي لنا أن نلاحظ العلاقة بين أدلة ولاية الفقيه وأدلة الشورى، لو تمت لها دلالة بنحو المحتمل الأول السابق، إذ قد يقال: ان أدلة الشورى ـ حتى لو كانت دالة على الولاية العامة بعرضها العريض وهو المحتمل الأول ـ لا تنفع في مجال جعل الشورى والتصويت بيد الأمة جميعاً، مع وجود أدلة ولاية الفقيه؛ وذلك لأن الشورى إنما تفرض في المساحة التي تركتها الشريعة ولم تقضِ فيها بقضاء من الله ورسوله، قال تعالى:

﴿وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون

111

لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً(1).

فإذا كان القائد قد عين من قبل الله تعالى كما هو الحال في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله)، فهو قضاء من الله تعالى بأنه رئيس الدولة الاسلامية، ولا مورد فيه للشورى. وهكذا الحال في عصر الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ـ على رأي الشيعة ـ وثبوت إمامتهم بالنص… وكذا أيضاً لو تمت الأدلة على ولاية الفقيه وأثبتت أنه قائد المجتمع في عصر غيبة الامام (عليه السلام)، ولذا فلا معنى لطرح هذه المسألة؛ أي مسألة القيادة على بساط الشورى، وانتخاب جميع الأمة.

وإذاً فدليل الشورى ـ لو تم على النحو الأول ـ لا مجال له في دائرة تعيين القائد.

نعم، لو جمعنا بين الدليلين (دليل ولاية الفقيه ودليل الشورى) نعرف أن الشورى والتصويت يجب أن تتم بين الفقهاء أنفسم.

وهكذا يحاول هذا الاعتراض أن يسلب مجموع الأمة الدور الأساس عن طريق الشورى في نظام الحكم الاسلامي، حتى على تقدير دلالة أدلة الشورى على الولاية العامة.

وقد يقال بتعارض الأدلة في فتح مجال لعمل الشورى بين مجموع الأمة، وتأثيرها في غير مجال تعيين القائد المنفذ، وهو



(1) سورة الاحزاب الآية36.