197

دون إيمان منه بمصلحة ملزمة في هذا الموقف بالذات، كما لو رأى ان هناك موقفاً آخر بديلاً لهذا الموقف كان من الصحيح أيضاً اتخاذه، فليس هذا الموقف الذي اتخذه الحاكم بأفضل من الموقف الآخر بدرجة ملزمة وإن كان موقفاً صحيحاً على أي حال. وهنا في الغالب يجب عليه اتباع حكم الحاكم توحيداً للموقف ورصاً للصف.

الرابعة: أن يكون مطلعاً على خطأ موقف الحاكم ولكنه يرى المصلحة الملزمة في اتباعه ـ رغم خطئه ـ توحيداً للموقف ورصاً لصفوف المسلمين. فيجب عليه الاتباع على أساس رأيه هو لا على أساس نفوذ حكم الحاكم، وذلك لما مضى من انصراف الاطلاق.

الخامسة: نفس الفرض الرابع من دون أن يرى مصلحة ملزمة في اتباعه هو، ولكنه يرى المصلحة الملزمة في عدم الاعلان عن نقض حكمه كي لا يوقع الخلاف والشقاق بين صفوف المسلمين فلا يجب عليه ـ حينئذ ـ الاتباع ولكن يحرم عليه نقض الحكم.

السادسة: نفس الفرض الرابع من دون أن يرى مصلحة ملزمة في اتباعه ولا في السكوت عنه، كما لو رأى أن مفسدة السكوت عن خطئه أشد من مصلحة توحيد الصفوف، وهنا يجوز له نقض الحكم.

مقارنة بين الشورى وولاية الفقيه

اتضح من البحث أن نظام الحكومة الاسلامية مؤسس على

198

أساس ولاية الفقيه العادل الكفوء، وأن الشورى ـ بمعنى الاستضاءة بأفكار الآخرين خصوصاً الاخصائيين في كل شعبة من شعب مرافق الحياة ـ واجبة في الحالات الاعتيادية، لتوقف مصلحة الأمة عليها ووجوب مراعاة مصلحتهم على ولي الأمر.

أما جزئيات وتفاصيل شكل الحكومة في أيام الغيبة فلم تذكر في الكتاب أو السنة.

فمثلاً: هل يوضع في رئاسة الدولة فقيه واحد أو توضع مجموعة فقهاء؟

وهي ينتخب من قبل الأمة مجلس واحد للتقنين والتنفيذ أو مجلسان أو أكثر؟

أو هل أن انتخاب المجلس سيكون من قبل الفقيه أو الفقهاء لا الأمة أم لا؟

وعند اختلاف آراء الفقهاء أو الأمة في الانتخاب، فهل يرجح بالكم أو بالكيف؟

وهل تؤخذ آراء الناس الاعتياديين بعين الاعتبار وتحصى وتجعل ذات أثر في القوانين التي يجعلها الفقيه في منطقة الفراغ في اطار أحكام الشريعة، وإلى أي مدى، وبأي شروط، أو لا؟

وفي أي دائرة من دوائر الناس تطرح الأمور للمشورة، وهل تعزم الحكومة بعد المشورة على ما ترتئيه أو تتبع آراء المستشارين

199

على أي حال؟ وإلى أي مدى يكون هذا الاتباع؟

إلى غير ذلك من الأسئلة.

فالجواب عليها جميعاً هو: أنه لم يحدد في الاسلام أي لون خاص من هذا القبيل، ويختلف الأمر باختلاف الزمان والمكان والظروف. وولي الأمر هو الذي يحدد في أي زمان أو مكان الشكل المناسب للبنود والنظم التي تعمل بها الحكومة، وعدم التحديد هذا من قبل الاسلام ليس نقصاً للاسلام، بل حسنة جليلة له، وتعبير عن مرونة الاسلام التي تجعله صالحاً لكل زمان ومكان.

ولا تأتي هنا المناقشة التي أوردناها على ما ذكره بعض كتّاب السنة من تأسيس الدولة على أساس الشورى، حيث جعل عدم تحديد شكل الشورى وشروطها وحدودها من قبل الاسلام حسنة جليلة امتاز بها الاسلام ومرونة له تجعله صالحاً للانطباق على كل زمان ومكان.

فقد أوردنا على هذا الكلام أن الاسلام لو كان قد أعطى قاعدة مرنة لا تختلف في كل زمان ومكان الا في المصاديق والتطبيقات، فهي رغم اختلافها في المصاديق محددة من ناحية كبروية وعامة، وليس هناك في جانبها العام أي غموض، كانت هذه حسنة جليلة للاسلام، ولكن نظام الشورى لم يعط بهذا الشكل، فهو مبتلى بغموض كبير وترد حوله تساؤلات كثيرة ـ مضى بعضها ـ لم يعرف جوابها من الاسلام،

200

فهذا نقص فاحش لا حسنة جليلة. فمثلاً: لم نعرف أن الولاية هل هي للقسم الأكثر عدداً أو القسم الأفضل كيفاً؟ إلى غير ذلك.

وهذا بخلاف ما تبنيناه من ولاية الفقيه، فإن كبرى الولاية ثابتة بحدودها المحددة للفقيه الجامع لمواصفات معينة، والولي هو الذي يعمل صلاحيته في أي زمان أو مكان، وهو يحدد بولايته البنود التفصيلية لنظام الحكم والنظم التي ترتب عليها الأمور، ويعين أنه كيف وبأي مقدار يعتمد على الشورى أو على آراء الناس أو الانتخاب أو المجلس أو غير ذلك، وفق ما يراه من المصلحة التي تختلف باختلاف الظروف والازمنة. فالاسلام وإن كان لم يحدد هذه الأمور لكنه حدد من نرجع إليه في كل زمان ومكان لتحديدها، وهو الفقيه الجامع لشرائط الولاية.

وقد يقال: لم تكن حاجة إلى المرونة وترك التفاصيل إلى ولي الأمر في هذه المسألة، بل كان الأفضل هو ذكر التفاصيل؛ وذلك لأن علاقة الإنسان بالإنسان وما تحتاجه من أمور ثابتة، وليست كعلاقة الإنسان بالطبيعة التي تختلف بمر الزمن باختلاف مدى سيطرة الإنسان على القوى الطبيعية وتنامي وسائل الانتاج، ولهذا كان من الطبيعي في الأحكام الاقتصادية أن يترك الاسلام منطقة فارغة فيها تملأ بقرارات من ولي الأمر، ولكن ليس من الطبيعي أن يترك فراغاً في نظام الدولة يملأه ولي الأمر، إذ مع عدم تطور الحال فيما تحتاجه علاقات الناس

201

في ما بينهم لا يختلف الشكل المفضل لنظام الدولة بمرور الزمان كي تقع الحاجة إلى فرض منطقة فارغة يملؤها الولي.

ولكن الواقع، أن نظام الدولة قد يؤثر فيه أمران:

أولاً: أن الدولة الاسلامية لها علاقات ومواقف خاصة بلحاظ وجود سائر الدول ذات القوانين الوضعية، وهي بحكم وضعيتها ـ على الأقل ـ متطورة على مر الزمن، وهذا قد يؤثر في تطور بعض مواقف الدولة الاسلامية في تنظيم نفسها بنحو منسجم مع ما يتطلبه وضعها الاستراتيجي فيما بين نظم العالم.

وثانياً: أن متطلبات علاقات الناس بعضهم ببعض على مستوى نظام الدولة(1) تختلف باختلاف الزمن والمجتمعات والإمكانيات وقلة الأفراد وكثرتها وازدياد التعقيدات الاجتماعية بمرور الزمن ومقدار سعة رقعة الدولة وشمولها لمجتمعات أكثر تختلف ظروفها وما إلى ذلك، وقد يختلف الأمر من مجتمع إلى مجتمع في زمان واحد. فمثلاً: شكل الشورى أو الانتخاب ـ حينما يرى ولي الأمر المصلحة في ذلك ـ أو حدود الدائرة التي يجري فيها التصويت يختلف من زمان لآخر ومن مجتمع لآخر حسب كمية أفراد



(1) بل وأحياناً حتى على ما دون هذا المستوى؛ فمثلاً تعدد الزوجات قد يختلف في مدى مطابقته للمصالح من زمن حربي يقتل فيه الرجال إلى زمان آخر.

202

المجتمعات ودرجة التعقيد المجتمعي والحالات النفسية للمجتمع وما إلى ذلك.

إذن فكان لابد من المرونة، وكان لابد من تعيين من يرجع إليه في كل زمان أو مكان لملء ما تستبطنه المرونة من فراغ، فعين الاسلام الفقيه الجامع للشرائط لذلك.

وهذا يختلف تمام الاختلاف عن المرونة التي فرضت في نظام الشورى من دون أن يتعين مرجع نرجع إليه في ملء الفراغ.

ولكن رغم كل هذا، يمكن أن يورد على ولاية الفقيه بما يشبه ـ ولو إلى حد ما ـ الاشكال الذي أوردناه على نظام الشورى، ويمكن تقريب الإيراد بعدة وجوه:

الوجه الأول: ان اثبات ولاية الفقيه وتحديد حدودها وشروطها ـ على ما يتضح بمراجعة الابحاث السابقة ـ لم يكن بذلك الأمر الهين، بل كل هذه الأمور تحتاج إلى البحث عن النفي والاثبات. إذن فالاسلام لم يوضح ما هو أهم الأمور في الشريعة، إذ الدولة الاسلامية بها تحفظ الحدود وتطبق الأحكام، فما معنى عدم توضيحها في الاسلام وعدم ورود نصوص مفصلة شارحة لقوانين ونظم الدولة الاسلامية؟! إلّا أن يفترض أنه ثبت في علم الله انه سوف لن يتمكن المؤمنون من اقامة دولة اسلامية صحيحة في أيام الغيبة.

والجواب: ان اكتناف أساس الحكومة الاسلامية في زمان

203

الغيبة بشيء من الغموض مما جعله بحاجة إلى نفض الغبار عنه عن طريق البحث العلمي ليس نقصاً في الاسلام، ولا دليل على أن الاسلام لم يأت بأطروحة لذلك علماً منه ـ مثلاً ـ بعجز المؤمنين عن تشكيل الحكومة الاسلامية في أيام الغيبة، فمن الطبيعي وجود غموض من هذا القبيل في الدليل بعد مضي مئات السنين على عصر النصوص، خصوصاً في موضوع لم تسنح الظروف في عصر النص ولا بعده لتطبيقه كي يتركز في الأذهان. وكلنا نعلم مدى تأثير مضي الزمان على ضياع النصوص وغموض الأسانيد، بل وأحياناً غموض الدلالات.

الوجه الثاني: أن الولاية لم تثبت في الشريعة الاسلامية لفقيه معين بل لجميع الفقهاء الجامعين للشرائط. وهذا من ناحية يشتمل على حكمة بالغة، لأن الفقيه الجامع للشرائط ليس معصوماً كالإمام (عليه السلام) كي يعطي بيده الأمر وحده، بل بالإمكان أن يتورط أحياناً في خطأ كبير يؤدي إلى حلول أخطار جسيمة بالمجتمع الاسلامي. فلابد أن لا تكون الولاية لفقيه معين بل لجميع الفقهاء الجامعين للشرائط، كي يتدخل البعض في الأمور التي يتناولها البعض الآخر ويعصم بعضهم البعض عن الخطأ وينقض حكمه حينما تقتضي المصلحةُ النقضَ ـ على ما مضى منا من جواز نقض حكم الحاكم من قبل حاكم آخر في بعض الفروض ـ ولا يستبد فقيه

204

واحد غير معصوم بأمور المسلمين.

ولكنه من ناحية أخرى يوجب نقصاً فاحشاً في شكل الدولة الاسلامية، وبذلك تتدهور أمور المسلمين ويبطل نظامهم ويقعون في الهاوية؛ ذلك لأنه إذا تعددت الرؤوس فسدت الأمة، فمع تعدد الفقهاء وكون كل واحد منهم ولياً للأمر يريد أن يقوم بأعباء المسؤولية وهم مختلفون في الآراء والأفهام والتصورات، لا يمكن انتظام دولة اسلامية تستطيع ان تقف على قدميها. وكيف نأمن الهرج والمرج وعدم نقض كل واحد منهم لحكم الآخر بحجة أنه رأى من المصلحة ذلك؟! وإلى غير ذلك من المفاسد التي لا يبقى معها أي شكل قابل للقبول للدولة.

والجواب: اننا تارة نركز على الشريعة الاسلامية لنرى مدى امكانية ورود نقص فيها يوجب فساد النظام واضطراب الأمور، وأخرى نضيف إلى الاسلام فرضية عدم اخلاص الفقهاء ـ لا سمح الله ـ أو عدم وعيهم، فنرى أن هذا يؤدي إلى التشويش وعدم انتظام الأمر.

والثاني طبعاً لا ينبغي أن يعد نقصاً في برنامج الاسلام، ان لم يكن بالإمكان وضع برنامج صالح ناجح، حتى مع عدم اخلاص الفقهاء أو عدم وعيهم.

وتوضيح المقصود: أنه لو فرض أن الفقهاء الذين قاموا بالأمر كانوا جميعاً أو الأغلبية الساحقة منهم واعين مخلصين، فعادةً تنتظم

205

الأمور وتقوم دولة كاملة الجهات، ذلك لأنهم يعلمون أن ولايتهم إنما هي في حدود مصالح الأمة الاسلامية واصلاح حالها لا افسادها، ويعلمون ما يترتب على الشقاق وعدم وحدة الكلمة من مفاسد وأخطار وانحطاط أمر المسلمين. فيتشاورون فيما بينهم ويوحدون كلمتهم، لا بمعنى أن يتوحد رأيهم في كل الأمور ودائماً، فإن هذا في كثير من الأحيان غير عملي، بل بمعنى أن يتوحد رأيهم أحياناً ويرفع بعضهم اليد عن رأيه ـ رغم إيمانه بصحته ـ أحياناً أخرى تفضيلاً لمصلحة وحدة الكلمة على مصلحة رأيه، أو أن يعينوا فيما بينهم نظاماً يتبعونه تفادياً للخلاف، من قبيل نظام الأكثرية، أو من قبيل أنهم متى ما اختلفوا أخذوا برأي فلان مثلاً الذي هو أفضلهم أو أذكاهم باتفاق الكل، أو يعين لكل واحد منهم حقل معين ويكون رأيه بعد المشورة هو المتبع في ذلك الحقل، أو يعين أحدهم رئيساً للدولة يجب على الباقين اتباع رأيه ما لم تر الأكثرية أو الاجماع خطأه، او نحو ذلك من القرارات.

ولو وجد فقيه واعٍ مخلص خارج عن دائرة أولئك القائمين بالأمر وكان تدخله بنقض حكم من أحكام رئيس الدولة أو الهيئة المشرفة يوجب الاختلاف في صفوف المسلمين وتترتب عليه مفاسد غالبة على مصلحة نقضه للحكم، لم يجز له ذلك وكان عليه السكوت والتسليم.

206

الوجه الثالث: أن يقال: ان اختلاف الفتاوى بين الفقهاء يوجب تشويش الأمر وعدم امكانية اقامة الدولة على نظام متسق.

ذلك: ان اختلاف الفقهاء في الفتوى تارة يكون في أحكام شخصية، من قبيل وجوب التسبيحات في الصلاة مرة واحدة أو ثلاث مرات، فهذا لا يوجب مشكلة في المقام، إذ كل فقيه يعمل برأيه وكل مقلد يعمل برأي من يقلده، ولا يترتب محذور اجتماعي على اختلاف الناس في عدد ما يقرأونه من التسبيحات في الصلاة مثلاً. وأخرى يكون في أحكام مرتبطة بنظام المجتمع العام، وهذا هو الذي قد يورث المشكلة في المقام. فمثلاً: نفترض أن الدولة الاسلامية بقيادة فقيه جامع للشرائط فرضت قانوناً اقتصادياً على المجتمع الإسلامي ورأت المصلحة في تنفيذ ذاك القانون على الكل، بينما الأمة مختلفة في التقليد: فمنهم من يقلد فقيهاً يرى صحة ذاك القانون، ومنهم من يقلد فقيهاً يرى خطأه؛ كما لو افترضنا أن الدولة فرضت الخمس على أموال اختلف الفقهاء في تعلق الخمس بها، فماذا نصنع في المقام؟!

الا أن هذه المشاكل تنحل عادة بمسألة نفوذ حكم الحاكم، فإن حاكم الدولة الاسلامية حينما يحكم بحكم من هذا القبيل فهو عادة لا يحكم بما يعتقد البعض حرمته كي لا ينفذ حكمه. وعليه فينفذ حكمه على الأمة، وحتى من لا يرى وجوب تخميس ماله

207

الفلاني مثلاً يجب عليه تخميسه، إذ ليس التخميس أمراً محرماً. كما أنه يجوز للآخرين أن يصبحوا طرفاً للمعاملة مع مال أخذ عن هذا الطريق، لأنه وإن فرض أخذه عن كره ـ بأن لا يرضى صاحب المال بذلك حتى بعد حكم الحاكم فيؤخذ منه اجباراً ـ ولكن هذا اكراه بحق صدر من ولي الاكراه.

بل الذي أقترحه في نظام حكومة اسلامية من هذا القبيل: هو أن تنظم جميع القوانين المدنية والأحوال الشخصية ونظم العبادات وسائر الأحكام في رسالة عملية موحدة تصدر من قبل هيئة من نخبة الفقهاء يتشاورون ويبحثون فيما بينهم في الفتوى ويستعينون في تشخيص الموضوعات وفي فهم المصالح التي يجب أن تلحظ عند ملء منطقة الفراغ في الشريعة الاسلامية بالخبراء الفنيين وذوي الاختصاص في كل شعبة من الشعب. وإذا وقع الاختلاف في الفتوى في مورد من الموارد ولم يرتفع حتى بعد المشورة والتفاهم، فبإمكانهم عادةً الأخذ بالاحتياط أو الأخذ برأي الأعلم، لو كان فيهم من يعترف كلهم بأعلميته بنحو تصبح فتواه هي الحجة على الأمة دون فتوى غيره، أو أن يقدم أحدهم لاصدار حكم ولايتي ـ بمقتضى كونه ولي الأمر ـ وذلك على طبق فتواه كي ينفذ حكمه على كل قطاعات الأمة. وبالتالي تصدر رسالة عملية واحدة يجب على الأمة جميعاً العمل بها.

208

ولاية الفقيه تسعد المجتمع

إن نفوذ الكلمة في الحكومات الوضعية ـ وحتى الانتخابية ـ لا يخلو من أن يكون بيد فرد واحد أو بيد أكثر من فرد كاثنين أو ثلاثة، وهكذا بقدر ما تنتخبه الأمة مثلاً؛ فإن كان بيد فرد واحد تمتع الحكم بالمركزية والقوة والسيطرة الكاملة، وهي مفيدة في تنظيم الدولة لكنه قد يبتلى بالاستبداد والعمل على إغفال الأمة. وكلما اتسعت دائرة من بيدهم الأمر ابتعد الحكم بذاك المقدار عن معرضيته للوقوع في الاستبداد، في حين ضعف تمتعه بتلك الدرجة من القوة والسيطرة والتنظيم.

أما الشكل الذي جاء به الاسلام لعصر غيبة الإمام المعصوم، وفق ما تنقح في بحثنا عن ولاية الفقيه، فهو شكل ثالث؛ إذ هو لم يجعل الولاية ـ في زمن الغيبة الكبرى ـ بيد شخص واحد مما يقرب النظام إلى الاستبداد، ولا بيد مجموع الفقهاء بأن يشغل كل واحد منهم جزءاً من منصب الولاية مما يؤدي إلى ضعف المركزية، بل جعلها بيد كل واحد من الفقهاء الجاميعن للشرائط، فكل واحد منهم حاكم مستقل. الا أنه إذا تقدم بعضهم للحكم والتنظيم لم يجز للآخرين شق صفوف المسلمين ويجب عليهم التسليم ما لم ينحرف الأول، ولم يتورط في أخطاء أشد من مفاسد شق الصفوف.

209

وبهذا الشكل احتفظ الاسلام بمزايا كل الشكلين من القوة والسيطرة الكاملة من ناحية، لأن الفقهاء الآخرين لا يبرزون الخلاف مادام القائمون بالأمر غير منحرفين ولا متورطين في أخطاء أكبر من مفاسد المخالفة، ومن الابتعاد عن الاستبداد من ناحية أخرى، لأن الفقهاء الآخرين أيضاً يتمتعون بنفوذ الكلمة ويراقبون الحاكم الأول ويقولون كلمتهم لو اقتضت المصلحة ذلك، وكان لابد من هذا الأسلوب مادام رئيس الدولة غير معصوم. وهذا من روائع حكم الاسلام ودلائل دقة تنظيمه.

هذا، وحينما يكون هذا النظام مقترناً بحواجز الورع والتقوى والموضوعية من ناحية، وبمراقبة الأمة للفقهاء ـ تلك الأمة العارفة باشتراط العدالة والكفاءة فيهم والمتربية على تعاليم السماء ـ من ناحية أخرى، وبالمشورة مع ذوي الاختصاص والخبرة في كل فن من الفنون من ناحية ثالثة، فإنه سيشكل خير نظام متصور للحكم في عصر غيبة الإمام المعصوم، بعيداً عن كل ألوان الاستبداد والظلم، يوجّه الناس نحو الاقتراب من رضا الله تبارك وتعالى، وهو الهدف الأقصى للاسلام الذي يسعد المجتمع البشري في الدنيا والآخرة.

خلاصة الكلام

1 ـ ان الحكومة الاسلامية في عصر الغيبة الكبرى ـ وفقاً

210

لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ـ مبتنية على أساس ولاية الفقيه.

2 ـ يشترط في ولاية الفقيه كونه عادلاً كفؤاً.

3 ـ يجب على الحكومة الاسلامية ـ في الحالات الاعتيادية ـ المشورة مع ذوي الاختصاص والرأي الحصيف في شتى مرافق الحياة.

4 ـ لو اقتضت مصلحة المجتمع الاسلامي ـ على أساس ظروفه الخاصة او الظروف العالمية التي يعيش المجتمع في ضمنها ـ اقامة الانتخابات لتعيين أعضاء مجلس المقننين أو المنفذين أو في أي مجال آخر أو أخذ آراء الناس بعين الاعتبار في بعض جوانب التقنين، وجب على الفقيه امضاء ذلك.

5 ـ نقترح توحيد البناء القانوني الذي يكشف عن آراء الاسلام في مختلف مرافق الحياة أو ما يسمى عند الشيعة بالرسالة العملية لعمل الأمة، وجعلها رسالة ناتجة عن هيئة من الفقهاء يعدونها بعد البحث والمشورة فيما بينهم والاستضاءة بأفكار الأخصائيين وذوي الرأي الحصيف فيما يرجع إلى تشخيص الموضوعات ومصالح المجتمع. وحينما لا يمكن رفع الخلاف بالبحث والنقاش ينتخب الفقهاء فيما بينهم أحد الآراء على أساس الأعلمية أو على

أساس حكم الحاكم أو يأخذون بالاحتياط.

6 ـ نقترح حذف مصطلح (الوطن) الموحي بمفاهيمه الغربية

211

وتبديله بالمصطلح الفقهي الاسلامي وهو دار الاسلام(1). أما الوطن فيبقى يستعمل في معنى آخر يرتبط بمسألة القصر والاتمام والصوم والافطار.

7 ـ رقعة عمل الحكومة الاسلامية نظرياً مطلق وجه الأرض، وعملياً تتحدد بحدود القدرة والاستطاعة.

8 ـ النظام المالي للحكومة الاسلامية يتأسس:

أولاً: على ممتلكات الحكومة أو الامامة، وهي المصطلح عليها في فقهنا الاسلامي بالأنفال، من قبيل: أراضي الموات (بل أكثر أنواع الأرض) والمعادن من النفط وغيره.

وثانياً: على الممتلكات العامة للأمة الاسلامية، من قبيل أراضي الخراج، وهي التي فتحها المسلمون بالجهاد المسلح بإذن الإمام. فالحكومة الاسلامية بوصفها ولياً على المجتمع الاسلامي تصرف هذه الممتلكات في مصارف المسلمين.

وثالثاً: على الضرائب الاسلامية الموجودة في الكتاب أو السنة، من قبيل الخمس والزكاة. فالحكومة الاسلامية بوصفها ولياً للمجتمع هي التي تصرفها في مصارفها المقررة في الفقه الاسلامي.

ورابعاً: على ضرائب تفرضها الحكومة الاسلامية ـ لو رأت



(1) راجع الملحق رقم (12).

212

المصلحة في ذلك ـ على أساس ولاية الفقيه(1).

9 ـ هدف الحكومة الاسلامية هو العمل بما يرضي الله تبارك وتعالى، وتقريب المجتمع نحو رضاه عز وجل. ونحن نعلم جميعاً أن رضا الله مشروط بإقامة العدل وإبادة الظلم والاستبداد وتطبيق كلمة الله ونظم السماء على وجه الأرض قدر المستطاع وإسعاد المجتمع تحت راية التوحيد.

وأخيراً نرفع يد الضراعة للباري جل وعلا داعين من أعماق القلب:

"اللهم أنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الاسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك".

"آمين يا رب العالمين".



(1) والواقع أن النظام المالي للحكومة الاسلامية بحاجة إلى دراسة مستقلة مفصلة، ومن أمنياتي أن يوفقني الله تعالى لدراسته في فرصة مقبلة ـ ان شاء الله تعالى ـ.

213

الملاحق

215

الملحق رقم (1)

فإن قيل: ان مجرد عدم اشارة في الكلام من قريب أو بعيد إلى وجود ولي من هذا القبيل يؤخذ برأيه، ليس قرينة على نفي الاحتمال الثالث.. وذلك لأنه ـ وإن كان المفروض عادة في باب الاستشارة أنه يعمل بعد المشورة برأي ما ـ لكن هذا المفروض لم يكن مفروضاً في الكلام؛ أي لم يفهم من الكلام ضرورة العمل برأي ما حتى إذا لم يفرض في الكلام ولي ما. ولم يكن المستشيرون غير المستشارين تعين كون الرأي الذي يعمل به نفس رأي المستشارين أو أكثريتهم، أو رأي من يعينه المستشارون أو أكثريتهم، وإنما كنا نعلم من الخارج بأنه في باب المشورة لابد ـ بالتالي ـ من العمل برأي ما، وهذا لا يولد للكلام ظهوراً في ضرورة أخذ الرأي من نفس المشاورين أو من يعينه المشاورون.

216

قلنا: لئن تم هذا الاشكال فيما لو كان التعبير هكذا "شاوروا في أمركم" فإنه لا يتم في مثل قوله "وأمرهم شورى بينهم"؛ إذ هذا التعبير ليس مجرد أمر بالمشورة، وإنما حملت الشورى على الأمر، وهذا يعني أن أمرهم يدار بالشورى بينهم. إذن فقد فرضت في نفس الكلام ضرورة ادارة الأمر والأخذ بآراء محددة لتمشية الأمور، فنقول:

هل المقصود الأخذ بالرأي المستقى من الشورى أو المقصود الأخذ برأي ولي ما منفصلاً عن الشورى، وإنما الشورى أثرها هو انارة الطريق أمام ذاك الولي؟

طبعاً الأول هو الظاهر، لأن الآية إنما ذكرت الشورى ولم تذكر ولي الأمر، ففرض الرجوع إلى ولي الأمر غير المستقى ولايته من الشورى بحاجة إلى مؤونة زائدة، والسكوت عن ذكر ولي من هذا القبيل قرينة على أن المقصود هو الأول.

على أنه لا يبعد أن يقال: ان هذا الاشكال لا يتم حتى لو كان التعبير مقتصراً على الأمر بالمشورة بصياغة "شاوروا في الأمر"، وذلك لأن ارتكازية كون المشورة عادة مقدمة للعمل بقول المستشار لو لم يكن للمستشير رأي يرجحه عليه أو يساويه تعطي للآية الشريفة ـ الواردة في فرض لا يوجد تغاير بين المستشيرين والمستشارين ـ ظهوراً في كون المقصود الاحالة إلى رأي المستشارين.

217

هذا، وقد ظهر بكل ما ذكرناه هنا وفي الكتاب أن هذه الآية هي خير الادلة على مبدأ الشورى بالمعنى المقصود، وهي من حيث الدلالة تشتمل على نفس القوة التي افترضناها في رواية "أموركم شورى بينكم" مع عدم ابتلائها طبعاً بما ابتليت بها تلك الرواية من ضعف السند. بل يمكن ان يقال: انها من حيث الدلالة أيضاً اقوى من تلك الرواية؛ إذ:

أولاً: قد يدعى احتمال كون مقابلة جملة "اموركم شورى بينكم" بجملة "أموركم إلى نسائكم" قرينة على شمول كلمة "الأمور" للأمور الشخصية، بينما هذه النقطة غير موجودة في الآية الكريمة.

وثانياً: قد يقال: ان التعبير بالأمر كما في الآية أقوى دلالة على ارادة الأمور العامة من التعبير بالأمور كما في الرواية؛ إذ يقال: لو كان المقصود في الآية الأمور الشخصية لكان الأولى التعبير بشكل مقابلة الجمع بالجمع المناسبة مع التوزيع، بأن يقول "أمورهم شورى بينهم" بينما لم يأت التعبير هكذا، بل قال "أمرهم شورى بينهم".

وهذا بخلاف الرواية التي عبرت بصيغة الجمع حيث قالت "أموركم شورى بينكم".

هذا، ورغم كل ذلك قد وضحنا في الكتاب عدم تمامية الاستدلال بالآية الكريمة على نظام الشورى.

218

الملحق رقم (2)

وتحقيق الحال في ذلك ببيان واسع هو: أن الشورى على قسمين ـ كما اتضح مما سبق ـ:

القسم الأول: هو الشورى التي يكون المستشير فيها غير المستشار، أي الشورى في الأمور الشخصية مثلاً، فهناك شخص ما يهمه أمر فيستشير الآخرين في أمره.

والقسم الثاني: هو الشورى التي يكون المستشيرون فيها عين المستشارين، أي أن الشورى تكون بين جماعة في أمور ترتبط بهم جميعاً من سن قوانين وتعيين ولي الأمر ونحو ذلك.

فلو طبق الأمر بالشورى في هذه الآية على القسم الأول فلا يخلو الحال من أحد فرضين:

الأول: أن يحمل الأمر بالشورى على مجرد الاستضاءة بأفكار الآخرين من دون أن يكون امراً بالأخذ برأيهم على كل تقدير، وهذا هو المحتمل الثالث من محتملات الشورى.

الثاني: أن يحمل الأمر بالشورى على أنه أمر بأصل المشورة وبالأخذ برأي المستشار تعبداً. وهذا يحتاج إلى قرينة، إذ مجرد الأمر بالشورى لا يدل عليه، لأن الأخذ برأي المستشار أمر زائد على أصل الشورى.

219

وعلى أي حال فحينما يحمل الأمر بالشورى على هذا المعنى لابد من حمله بمناسبات الحكم والموضوع على مجرد الأمر بالأخذ برأي الغير في الأمور المباحة دون الترخيص في مخالفة الأوامر الالزامية ولو كانت أوامر ظاهرية ودون سائر شعب الولاية، فإن الأمر بالعمل برأي المستشار ليس إلا كالأمر بالعمل برأي الوالد أو باليمين أو النذر، فكل هذه أوامر ثانوية واردة في الشريعة بعد فرض اكتمال الأوامر الأولية الواقعية والظاهرية، أي أنه أخذ في موضوعها مشروعية المتعلق. وهذا هو المحتمل الثاني من محتملاتنا الثلاثة في الشورى.

وما ذكرناه من نكتة وحدة المستشارين والمستشيرين في قوله "أمرهم شورى بينهم" يبطل أصل تطبيق الأمر بالشورى في هذه الآية على القسم الأول، وهو الشورى في قضايا يكون المستشير فيها غير المستشار، سواء أرجع ذلك إلى المحتمل الثالث أو إلى المحتمل الثاني.

أما إذا طبق الأمر بالشورى فيها على القسم الثاني ـ أعني الأمور التي يكون المستشيرون فيها عين المستشارين ـ فقد افترضنا أنه لا يتأتى الفرض الأول، وهو الحمل على مجرد الاستضاءة بأفكار الغير، بل لابد من حمله على كونه أمراً بالمشورة وبأخذ الرأي من المستشارين. وهذا يعني أن المحتمل الثالث لا يأتي هنا، الا أنه يبقى الكلام في دائرة الشورى والأخذ بالرأي هل هي في دائرة

220

المباحات فقط ـ وهذا هو المحتمل الثاني ـ أو في دائرة أوسع من ذلك، كأن يشمل مثلاً دائرة الترخيص في الأوامر الالزامية الظاهرية، أو في تمام مساحة دائرة الولاية المبحوث عنها بلا فرق بين دائرة المباحات أو الترخيص في الالزاميات الظاهرية فيما يمكن، أو الواقعية أيضاً في مورد يمكن تبديل الموضوع بالولاية أو تعيين الولي أو اجراء الحدود او نحو ذلك. وهذا هو المحتمل الأول من محتملاتنا الثلاثة.

والاطلاق ومقدمات الحكمة يعين هنا طبعاً المحتمل الأول، فإن المحتمل الثاني ـ وهو حصر الولاية في دائرة المباحات ـ تقييد بلا مقيد، وهنا لا يأتي ما ذكرناه من مناسبات الحكم والموضوع التي قلنا في القسم الأول انها تخرج الترخيص في مخالفة الأوامر الالزامية الظاهرية، بل مناسبات الحكم والموضوع هنا تقتضي العكس؛ فإنه إذا كان مصب الشورى عبارة عن الأمور العامة للمسلمين وبهدف حل مشاكل المجتمع الاسلامي وادارة شؤونهم لا عن الأمور الخاصة التي يكون المستشيرون فيها غير المستشارين وبهدف مجرد استرشاد بعض بفكر البعض الآخر، فهذا لا يكون الا بالولاية العامة التي قلنا انها أساس نظام الحكم.

221

الملحق رقم (3)

ويؤيد ذلك أننا نحتمل أن تكون عبارات "لم يقبل" و "استخف" و "رد" صيغاً مبنية للفاعل يرجع ضميرها إلى المتخاصم الذي حكم عليه.

وقد يورد على الاستدلال بهذه الرواية ـ سواء بالجملة الأولى أو الثانية ـ بإيرادين آخرين:

1 ـ أن يقال: ان هذه الرواية لو تمت دلالةً فإنما تدل على نيابة الفقيه من قبل الإمام الصادق (عليه السلام)، وتنتهي النيابة بموته، فنحن بحاجة إلى اثبات النيابة من قبل الإمام صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

ولكن يتخلص من ذلك بأحد طريقين: اما بدعوى استظهار عدم الفارق من هذه الناحية، فلئن كان الإمام الصادق (عليه السلام) في عصر الحضور قد جعل الفقيه نائباً عنه، فالإمام صاحب الزمان في عصر الغيبة بطريق أولى جعله نائباً عنه. واما بدعوى استظهار أن هذا لم يكن اتخاذاً للنائب كي ينتهي أمده بموته (عليه السلام)، بل إعمالاً للولاية في إعطاء الولاية للفقيه، فيبقى نافذ المفعول ما لم يثبت إعمال ولاية أخرى في رفع ولاية الفقيه.

وهذا الاشكال وجوابه ساريان في كل روايات ولاية الفقيه غير