162

على الارتباط التكوينيّ المرتكز على فكرة (لولا الحجّة لساخت الأرض بأهلها)، أي: أنّ الإمام هو قطب رحى الأرض وثباتها.

ونحن لا نمانع من فهم هذا المعنى من الحديث بالمقدار الذي قبلناه في بحث الولاية التكوينيّة، ولكنّنا نقول إضافةً إلى ذلك: إنّ هذه الرواية وكذلك روايات اُخرى تؤكّد أنّ الإمام الحجّة ـ عجّل الله فرجه ـ يمارس وظيفة الهداية والإرشاد للمجتمع، فعن الإمام الصادق(عليه السلام): «لم تخلُ الأرض منذ خَلَقَ الله آدم من حجّة لله فيها، ظاهر مشهور، أو غائب مستور، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجّة الله فيها، ولولا ذلك لم يعبد الله»، فلم تشر هذه الرواية إلى ارتباط العالم بالإمام تكوينيّاً، وإنّما ذكرت ارتباط المجتمع بالإمام ارتباط هداية وإرشاد، ولم تقل: لولا وجود الإمام لساخ العالم أو لساخت الأرض، وإنّما قالت: لولا وجود الإمام لم يعبد الله.

وأيضاً قال سليمان الأعمش: فقلت للصادق(عليه السلام): فكيف ينتفع الناس بالحجّة الغائب المستور؟ قال(عليه السلام): «كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب»(1). وقد تكون هذه الرواية ناظرةً أيضاً إلى الجانب التكويني وإلى جانب الهداية والإرشاد في وقت واحد.

 

فوائد وجود الإمام الحجّة(عليه السلام) تحت الستار:

لقد تساءل اُستاذنا السيّد الشهيد محمّدباقر الصدر(قدس سره) في كتابه (بحث حول المهدي) عن فائدة وجود الإمام وما هو المبرّر لذلك


(1) البحار 23: 6، الحديث 10.
163

بعد أن فرض تحت الستار؟ فأجاب مفترضاً وجود ثلاث فوائد اجتماعيّة تصبّ في إنجاح وتمكّن الإمام ـ عجّل الله فرجه ـ من ممارسة قيادته بدرجة أكبر:

الفائدة الاُولى: الإعداد النفسي لعمليّة التغيير الكبرى، بمعنى: أنّ «عمليّة التغيير الكبرى تتطلّب وضعاً نفسيّاً فريداً في القائد الممارس لها مشحوناً بالشعور بالتفوّق، والإحساس بضآلة الكيانات الشامخة التي اُعِدَّ للقضاء عليها ولتحويلها حضاريّاً إلى عالم جديد، فبقدر ما يعمر قلب القائد المغيّر من شعور بتفاهة الحضارة التي يصارعها، وإحساس واضح بأنّها مجرّد نقطة على الخطّ الطويل لحضارة الإنسان، يصبح أكثر قدرة من الناحية النفسيّة على مواجهتها، والصمود في وجهها، ومواصلة العمل ضدّها حتّى النصر.

ومن الواضح أنّ الحجم المطلوب من هذا الشعور النفسي يتناسب مع حجم التغيير نفسه، وما يراد القضاء عليه من حضارة وكيان، فكلّما كانت المواجهة لكيان أكبر ولحضارة أرسخ وأشمخ تطلّبت زخماً أكبر من هذا الشعور النفسي المفعم. ولمّا كانت رسالة اليوم الموعود تغيير عالم مليء بالظلم وبالجور تغييراً شاملاً بكلّ قيمه الحضاريّة وكياناته المتنوّعة، فمن الطبيعي أن تفتّش هذه الرسالة عن شخص أكبر في شعوره النفسي من ذلك العالَم كلّه، عن شخص ليس من مواليد ذلك العالَم الذين نشؤوا في ظلّ تلك الحضارة التي يراد تقويضها واستبدالها بحضارة العدل والحقّ؛ لأنّ من ينشأ في ظلِّ حضارة راسخة تعمّر الدنيا بسلطانها وقيمها

164

وأفكارها، يعيش في نفسه الشعور بالهيبة تجاهها؛ لأنّه ولد وهي قائمة، ونشأ صغيراً وهي جبّارة، وفتح عينيه على الدنيا فلم يجد سوى أوجهها المختلفة، وخلافاً لذلك شخص يتوغّل في التأريخ عاش الدنيا قبل أن ترى تلك الحضارة النور، ورأى الحضارات الكبيرة سادت العالم الواحدة تلو الاُخرى ثمّ تداعت وانهارت، رأى ذلك بعينيه ولم يقرأه في كتاب تأريخ، ثمّ رأى الحضارة التي يقدّر لها أن تكوِّن الفصل الأخير من قصّة الإنسان قبل اليوم الموعود، رآها وهي بذور صغيرة لا تكاد تتبيّن، ثمّ شاهدها وقد اتخذت مواقعها في أحشاء المجتمع البشري تتربّص الفرصة لكي تنمو وتظهر، ثمّ عاصرها وقد بدأت تنمو وتزحف وتصاب بالنكسة تارةً ويحالفها التوفيق تارةً اُخرى، ثمّ واكبها وهي تزدهر وتتعملق وتسيطر بالتدريج على مقدّرات عالَم بكامله، فإنّ شخصاً من هذا القبيل عاش كلّ هذه المراحل بفطنة وانتباه كاملين ينظر إلى هذا العملاق ـ الذي يريد أن يصارعه ـ من زاوية ذلك الامتداد التأريخي الطويل الذي عاشه بحسّه لا في بطون كتب التأريخ»(1).

ففرق بين ما لو كان القائد المعدّ لقطع دابر الظلمة مولوداً في عصر اُبّهة ذلك الظالم وهيمنته وسطوته، وما لو كان القائد موجوداً في عصر سابق. وما أكثر ما يرى خلال هذه المدّة الطويلة من الظَلَمة الذين يعاشرهم من أوّل نقطة ضعفهم وضآلة وضعهم، وإلى أن يصلوا إلى نهاية طغيانهم، وإلى أن يضمحلّوا مرّةً اُخرى، ثمّ يعاصر آخر



(1) بحث حول المهدي: 42 ـ 45.

165

الأوضاع الظالمة التي بدأ أيضاً الطواغيت فيها بأدوار ضآلتهم إلى أن تفرعنوا، وكان هذا القائد مأموراً بتطهير الأرض منهم ومن آثارهم، فستكون للقائد عندئذ نفسيّة متهيّـئة ومستعدّة للعمل الجادّ أكثر ممّا لو فتح عينيه منذ البدء في عصر اُبّهتهم وسيطرتهم.

الفائدة الثانية: الإعداد الفكري وتعميق الخبرة القياديّة، بمعنى: أنّ « التجربة التي تتيحها مواكبة تلك الحضارات المتعاقبة والمواجهة المباشرة لحركتها وتطوراتها لها أثر كبير في الإعداد الفكري وتعميق الخبرة القياديّة لليوم الموعود؛ لأنّها تضع الشخص المدّخر أمام ممارسات كثيرة للآخرين بكلّ ما فيها من نقاط الضعف والقوّة، ومن ألوان الخطأ والصواب، وتعطي لهذا الشخص قدرةً أكبر على تقييم الظواهر الاجتماعيّة بالوعي الكامل على أسبابها، وكلّ ملابساتها التأريخيّة»(1).

الفائدة الثالثة: الاقتراب من مصادر الإسلام الاُولى، بمعنى: أنّ «عمليّة التغيير المدّخرة للقائد المنتظر تقوم على أساس رسالة معيّنة هي رسالة الإسلام، ومن الطبيعي أن تتطلّب العمليّة في هذه الحالة قائداً قريباً من مصادر الإسلام الاُولى، قد بُنيت شخصيّته بناءً كاملاً بصورة مستقلّة ومنفصلة عن مؤثّرات الحضارة التي يقدر لليوم الموعود أن يحاربها»(2).

إنّ افتراضات اُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره) هذه حول فائدة الغيبة


(1) المصدر السابق: 47.
(2) المصدر السابق: 47 ـ 48.
166

الطويلة للإمام الحجّة الغائب ـ عجّل الله فرجه ـ واجهت اعتراضاً مفاده: أنّ الإمام الحجّة، وهو إمام معصوم ملهم من قبل الله سبحانه وتعالى، لا يحتاج إلى كثرة التجارب لغرض الإعداد النفسي وتعميق الخبرة القياديّة؛ لأنّه حاصل على هذه الملكات بحكم إمامته.

إنّ هذا الاعتراض غير وارد على هذه الفوائد التي ذكرها اُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره)؛ وذلك لأنّه لا تنافي بينها وبين افتراض أنّ الإمام مزوَّد بالعلم والمعرفة مباشرةً من قبل الله تعالى، فتسديد الإمام(عليه السلام)من قبل الله قد تختلف طريقته، فتارةً عن طريق الإلهام، واُخرى بهذا النحو الذي ذكره اُستاذنا السيّد الشهيد(رحمه الله) ـ وهو التجارب ـ ويتمّ تكميله بهذا الاُسلوب، وثالثةً بالجمع بينهما. وهذا محتمل الصحّة ولا تنافي بين الأمرين.

أمّا بالنسبة إلى مقارنة هذه النقاط ـ التي ذكرها اُستاذنا السيّد الشهيد ـ مع الرواية التي أوردتُها حول أثر وجود الإمام الحجّة في زمن غيبته: «أمّا وجه الانتفاع بي في غيبتي، فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبها عن الأبصار السحاب، وإنّي لأمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء»، فلا شيء من التقارب بينهما؛ لأنّ الرواية غير ناظرة إلى هذه النقاط، ومضمونها لا يشير إليها، لكنّ الذي تشير إليه هذه الرواية هو امتداد تأثير الإمام القيادي والاجتماعي والتكويني على طول غيبته، كما أنّ الشمس تؤثّر وهي خلف السحاب.

 

 

167

 

 

 

 

 

تنوّع الأدوار القياديّة للأ ئمّة (عليهم السلام)

 

تكاد تكون قيادة الأئمّة(عليهم السلام) للمجتمع الإسلاميّ من البديهيّات المعروفة في التأريخ الإسلاميّ، برغم أنّ قيادتهم لم تجرِ بنسق واحد وطريقة واحدة، بمعنى أنّها مرّت بمراحل وأدوار تأريخيّة يكمّل بعضها البعض الآخر، وتحديد الأدوار القياديّة للأئمّة الأطهار(عليهم السلام) بداية ونهاية يرجع إلى تصوّر يتّفق مع طبيعة الأحداث المنظورة في خطّ تأريخ الإسلام، فيما يتعلّق بأعمال الأئمّة ومواقفهم من الدولة والمجتمع والاُمّة التي خلّفها رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وبمواقف الحكم المنحرف من الأئمّة أنفسهم، كما أوضح ذلك اُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره) في محاضراته التي طبعت في كتاب (أهل البيت تنوّع أدوار ووحدة هدف).

واُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره) ذكر في الكتاب المذكور ثلاث مراحل تأريخيّة في قيادة الأئمّة(عليهم السلام) للمجتمع، وهي:

المرحلة الاُولى: مرحلة تفادي صدمة الانحراف. وقد عبّر عنها(قدس سره) بقوله: «هذه المرحلة هي التي عاش فيها قادة أهل البيت(عليهم السلام)مرارة الانحراف وصدمته بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانت مرارة

168

الانحراف وصدمة هذا الانحراف من الممكن أن تمتدّ وتقضي على الإسلام ومصالحه وعلى الاُمّة الإسلاميّة، فتصبح قصّةً في التأريخ لا وجود لها في خطّ الزمن المستمرّ.

الأئمّة(عليهم السلام) في هذه المرحلة عاشوا صدمة الانحراف وقاموا بالتحصينات اللازمة بقدر الإمكان، بكلّ العناصر الأساسيّة للرسالة ضدّ صدمة الانحراف، فحافظوا على الرسالة الإسلاميّة نفسها... وتبدأ هذه المرحلة بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتستمرّ إلى حياة الإمام الرابع من قادة أهل البيت(عليهم السلام)»(1).

المرحلة الثانية: مرحلة بناء الكتلة الواعية. وقد عبّر عنها اُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره) بقوله: «هي المرحلة التي شرع فيها قادة أهل البيت(عليهم السلام) ـ بعد أن وضعوا التحصينات اللازمة وفرغوا من الضمانات الأساسيّة ضدّ صدمة الانحراف ـ ببناء الكتلة، بناء الجماعة المنطوية تحت لوائهم، الشاعرة بكلّ الحدود والأبعاد من المفهوم الإسلاميّ المتبنّى من قبلهم(عليهم السلام)... حتّى تكون هذه الجماعة هي الرائد والقائد والحامي للوعي الإسلاميّ الذي حُصّن بالحدّ الأدنى.

هذا العمل مارسه الإمام الباقر (عليه السلام) على مستوى القمّة، وقلنا: إنّ هذه المرحلة استمرّت إلى زمن الإمام الكاظم(عليه السلام)، وفي زمن الإمام الكاظم(عليه السلام) بدأت المرحلة الثالثة»(2).


(1) أهل البيت تنوّع أدوار ووحدة هدف: 115.
(2) المصدر السابق: 115 ـ 116.
169

المرحلة الثالثة: ظهور الكتلة الواعية بمستوى تسلّم زمام الحكم. وقد وصف اُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره) هذه المرحلة بقوله: «لا تحدّد (هذه المرحلة) بشكل بارز من قبل الأئمّة(عليهم السلام) أنفسهم، بل يحدّدها بشكل بارز موقف الحكم المنحرف من الأئمّة أنفسهم؛ وذلك لأنّ الجماعة التي نشأت في ظلّ المرحلة الثانية التي وضعت بذرتها في المرحلة الاُولى، نشأت ونمت في ظلّ المرحلة الثانية، هذه الجماعة غزت العالم الإسلاميّ وقتئذ، وبدا للخلفاء أنّ قيادة أهل البيت(عليهم السلام)أصبحت على مستوى تسلّم زمام الحكم والعودة بالمجتمع الإسلاميّ إلى حظيرة الإسلام الحقيقي، وهذا خلّف بشكل رئيسي ردود الفعل للخلفاء تجاه الأئمّة(عليهم السلام) من أ يّام الإمام الكاظم(عليه السلام)»(1)، وهذه المرحلة امتدّت من زمن الإمام الكاظم إلى زمن الإمام العسكري(عليه السلام).

وقبل أن نشرع في الحديث عن أئمّة الدور الأوّل والظروف المحيطة بكلّ واحد منهم وفق التقسيم الثلاثي لأدوارهم العامّة، لابدّ من إشارة توضيحيّة مهمّة للاُسلوب والمنهج المتّبع من قبلهم في قيادة الاُمّة وتوجيهها؛ إذ إنّ الأئمّة(عليهم السلام) اختصّوا بأداء منهجيٍّ معيّن في القيادة يختلف عن باقي الناس المتصدّين لنفس المهمّة؛ إذ الأئمّة ليسوا كباقي الناس، فاختصاصهم من قبل الله تعالى بالعصمة والنزاهة وقربهم الداني من رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وإيكال مهمّة الإمامة لهم



(1) المصدر السابق: 116.

170

والنصّ عليهم دون غيرهم، كلّها اُمور جعلت منهجهم القيادي يتّصف بخصوصيّة تتلائم وطبيعتهم هذه.

فالأئمّة(عليهم السلام) من جهة يشتركون مع باقي الناس في أنّهم يعيشون في المجتمع ويؤدّون دورهم الاجتماعي على نحو طبيعي، وتواجههم الأحداث والظروف بنفس الكيفيّة التي تواجه الآخرين، كما أنّ كيفيّة تفاعلهم مع الأحداث والوقائع يتمّ أيضاً بشكل طبيعي، أي: بشكل بشري ﴿إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ...﴾، تتكافأ فيه قدراتهم الظاهريّة مع قدرات البشر الاعتياديّة، ولكنّ الأئمّة في الوقت نفسه، وبحكم الخصوصيّات والمؤهّلات التي يتميّزون بها (العصمة، الإمامة، والقرب من رسول الله) يعون الأشياء والوقائع ويدركونها بشكل مختلف وربما مغاير عن باقي الناس؛ لسببين أساسيين:

الأوّل: أنّ وعي الناس للأحداث والوقائع غالباً ما تؤثّر فيه الأهواء النفسيّة والجهل وما إلى ذلك من صفات يتّصفون بها، لكنّ الأئمّة براء منها؛ لعصمتهم واستقامتهم، وبهذا فإنّ الأئمّة(عليهم السلام) يعون الأشياء وعياً عقليّاً محضاً خالصاً من المؤثّرات النفسيّة.

الثاني: أنّ الأئمّة(عليهم السلام) ولقربهم من رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ولمهمّة الإمامة التي اُنيطت بهم أخبرهم الرسول(صلى الله عليه وآله) بالحوادث والوقائع الاجتماعيّة العامّة والخاصّة التي ستقع لكلّ واحد منهم، ولهذا فالأئمّة (عليهم السلام) كانوا يعلمون بالأحداث ولا يُباغتون بها كما يُباغت الإنسان الاعتيادي.

ولكن ثمّة سؤال مهمّ في هذا الصدد، هو: هل كان الأئمّة (عليهم السلام)يعملون وتصدر عنهم ردود الأفعال على أساس علمهم هذا، أي:

171

على أساس معرفتهم السابقة بالأحداث والوقائع؟ وكيف إذن يتمّ التوفيق بين استجابتهم للأحداث وفق ذلك العلم وبين ما يُتراءى من توافق استجاباتهم مع الأسباب الظاهريّة المألوفة؟

والجواب المعقول عن هذا الاستفهام هو: أنّ الأئمّة كانوا يعملون ويخطّطون لقضايا المجتمع، ولِما تواجههم من أحداث بمستوى طبيعي من السلوك وفق السنن والعلل الظاهرة لها، وكان علمهم الخاصّ أمراً يوفّر لهم رؤيةً وعمقاً واقعيّاً ومستقبليّاً لإدراك ماهيّة القضايا الاجتماعيّة إدراكاً صحيحاً من شأنه تعزيز قدراتهم القياديّة ومهمّاتهم التغييريّة في المجتمع.

فالرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) كان يعلم بأنّ الكثير من أصحابه سوف يرتدّون بعده، وكان يعلم بنواياهم، ومستويات تديّنهم وإيمانهم ـ وقد ورد عن أئمّتنا(عليهم السلام): «ارتدّ الناس بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله) إلّا ثلاثة»(1) ـ ومع ذلك كان عمله وتخطيطه للاُمور يجري بشكل طبيعي وفق ظواهر الاُمور ومجريات السنن الطبيعيّة، فمثلاً عندما جهّز الرسول جيش اُسامة بن زيد وأمر بعض الصحابة بمرافقة الجيش تحت إمرته كان(صلى الله عليه وآله) يعلم بأنّ اُولئك (الصحابة) المأمورين بمرافقة الجيش سوف لن يخضعوا لأمره ولن يطيعوه، ولكنّه(صلى الله عليه وآله) لم يعمل بعلمه السابق عنهم، بل عمل بظاهر الحال ريثما تظهر النتائج بشكل طبيعي. والأمر نفسه عندما أفضى الرسول بعلمه لابن عمّه ووصيّه الإمام



(1) البحار 34: 274.

172

عليٍّ(عليه السلام) عن مآل الاُمور بعده، فأخبره عن ارتداد الناس وتنكّرهم لخلافته، وعلى الرغم من ذلك لم يعمل الإمام عليّ(عليه السلام) إلّا بظاهر الاُمور، وهكذا الأمر مع باقي الأئمّة(عليهم السلام)، فالإمام الحسين(عليه السلام)وعلى الرغم من علمه بأنّه سوف يقتل وتُسبى عياله ويُحال بينه وبين أهدافه، لكنّه أعلن لدى خروجه من مدينة جدّه صوب مكّة والعراق للثورة على حكومة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان عن أهداف موضوعيّة، ودعا الناس إلى مؤازرته رافعاً شعار الثورة على الظلم والانحراف المتمثّلين بحكومة يزيد، وداعياً إلى إقامة حكومة الإسلام العادلة، فقوله(عليه السلام): «إ نّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي»(1)، وقوله(عليه السلام): «يزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحرّمة معلن بالفسق ومثلي لا يبايع مثله»(2)، وكذلك قوله(عليه السلام): «ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربّه حقّاً حقّاً»(3)، وقوله(عليه السلام): «فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا بَرَماً»(4)، ونحو ذلك من الكلمات إن دلّت على شيء فإنّما تدلّ على المنهج الواقعيّ والموضوعي للأئمّة(عليهم السلام)في قيادة المجتمع، وهو منهج تربوي اُريد له أن يعطي ثماره في تكوين وعي الاُمّة على اُسس صحيحة وأصيلة.

 



(1) البحار 44: 329، الحديث 2.

(2) المصدر السابق: 325، الحديث 2.

(3) المصدر السابق: 381.

(4) المصدر السابق.

173

أمّا تفصيل الحديث عن الأئمّة(عليهم السلام) وفق التقسيم الثلاثي الذي عرفته عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، فنحن هنا نقتصر ـ لضيق المجال ـ على التحدّث عن أئمّة الدور الأوّل مؤجّلين الحديث عن أئمّة الدورين الأخيرين.

 

 

 

174

 

أئمّة الدور الأوّل

 

تمتدّ المرحلة الاُولى في قيادة الأئمّة للمجتمع ـ وهي مرحلة تفادي صدمة الانحراف ـ من بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله) وتستمرّ إلى حياة الإمام الرابع من قادة أهل البيت(عليهم السلام)، فيكون الإمام عليّ(عليه السلام)بدايةً لها، وهو أوّل أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) الذين شاهدوا بداية انحراف التجربة الإسلاميّة في نطاق الدولة وفيما بعدُ في نطاق المجتمع، بعد أن حِيزت الخلافة عنه وتلقّفها بعض الصحابة متنكّرين لوصيّة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ومجازفين بحداثة التجربة وجدّة عهد المسلمين بالإسلام، فوضعوا كيان الدولة على حافّة الانهيار، بعد أن اتخذت القيادة طريقاً غير طريقها الصحيح، وكان من الطبيعي ـ على حدّ تعبير اُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره) ـ أن ينمو الانحراف ويتّسع حتّى يحيط بالتجربة نفسها، فتنهار الزعامة التي تشرف على تطبيق الإسلام، وحينما تنهار الدولة وتنهار زعامة التجربة ينهار تبعاً لذلك المجتمع الإسلاميّ؛ لأنّ المجتمع الإسلاميّ يتقوّم بالعلاقات التي تنشأ على أساس الإسلام، فإذا لم تبقَ زعامة التجربة لترعى هذه العلاقات وتحمي وتقنّن قوانين لهذه العلاقات، فلا محالة ستتفتّت هذه العلاقات وتتبدّل بعلاقات اُخرى قائمة على أساس آخر غير الإسلام، وهذا معناه زوال المجتمع الإسلاميّ.

وبهذا فإنّ الأئمّة(عليهم السلام) ـ وبعد ظهور انحراف التجربة الإسلاميّة

175

الفتيّة، واتساع آثار هذا الانحراف إلى الدرجة التي أودت بالتجربة نفسها، وامتداد الآثار السيّئة لهذا الانهيار إلى الاُمّة وتهديد كيانها بالتفتّت ـ قاموا بالعمل على خطّين، وهما على حدّ تعبير اُستاذنا الشهيد(قدس سره):

1 ـ خطّ تسلّم زمام التجربة، زمام الدولة، ومحو آثار الانحراف، وإرجاع القيادة إلى موضعها الطبيعي.

2 ـ خطّ تحصين الاُمّة ضدّ الانهيار، بعد سقوط التجربة وإعطائها من المقوّمات القدر الكافي؛ لكي تبقى وتقف على قدميها.

فكيف عمل الأئمّة(عليهم السلام) على هذين الخطّين ضمن المراحل الثلاث لأدوارهم القياديّة في المجتمع الإسلاميّ؟ هذا ما سنقتصر في الحديث عنه بإيجاز حول أئمّة الدور الأوّل، مستعرِضين المعالم والدلالات الأساسيّة في اُسلوب قيادة كلّ إمام منهم.

 

الإمام عليّ(عليه السلام)

تمهيد:

قبل أن نتناول الحياة السياسيّة للإمام عليّ(عليه السلام) وطبيعة المنهج الذي اتّبعه من الأحداث بدءاً من مسألة السقيفة وانتهاءً بقصّة الحكمين، لابدّ من الإشارة ولفت الانتباه إلى الظروف التي حالت دون نجاح الإمام في استلام زمام الأمر والسيطرة على الأوضاع إجمالاً، على أن تبقى لكلّ مسألة واجهت الإمام خصوصيّاتها التي سوف نستعرضها لدى تناول منهجه من القضايا المهمّة التي تصدّى

176

لها. فالظروف التي حالت دون نجاح الإمام في استلام زمام الأمر ترجع بحقيقة الأمر إلى تركيبة المجتمع الإسلاميّ الذي خلّفه الرسول(صلى الله عليه وآله)، هذه التركيبة التي كانت تستبطن قدراً عالياً من عدم النضوج والوعي الذي أثّر بدوره على الموقف من ولاية عليّ بن أبي طالب (عليه السلام). وقد ذكر اُستاذنا السيّد الشهيد(قدس سره) ثلاثة موانع رئيسيّة تفاعلت فيما بينها لتدع الإمام(عليه السلام) مُقصىً عن الخلافة بلا أنصار يذود بهم عن حقّه، سوى الثلّة المخلصة القليلة من أصحابه، وهم قد نالهم نفس ما نال الإمام من جهل وغمط لشؤونهم، واستخفاف بمنزلتهم وانتهاك لحقوقهم، وهذه الموانع هي:

1 ـ التفكير اللا إسلاميّ من ولاية عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)؛ إذ كان المجتمع الإسلاميّ ما يزال جديد عهد بالإسلام، وما تزال الرواسب الجاهليّة تعمل في أنفس الكثيرين من المسلمين، وبالخصوص رواسب التعصّب، والعشائريّة والقبليّة التي حالت دون تأييد المسلمين للإمام عليّ(عليه السلام)؛ إذ كانوا ينظرون إلى مسألة ولاية الإمام بأنّها مجرّد زعامة آثرها الرسول(صلى الله عليه وآله) لابن عمّه وقبيلته، ولم يكونوا ينظرون لها من زاوية عقيديّة وأنّها اختيار الله سبحانه وتعالى.

يقول اُستاذنا السيّد الشهيد حول هذه النقطة: «وأنا أظنّ ظنّاً كبيراً أنّ عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) لو لم يكن ابن عمِّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، لو أنّ الصدفة لم تشأ أن يكون الرجل الثاني في الإسلام، لو لم يكن من اُسرة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، لو كان من عدي، أو لو كان من تميم، لو كان من اُسرة اُخرى، لكان لهذه الولاية مفعول كبير جدّاً، لقضي على هذا

177

التفكير اللا إسلامي... لكن ما هي حيلة محمّد إذا كان الرجل الثاني في الإسلام ابن عمّه؟ لم يكن له حيلة في أن يختار شخصاً دون شخص آخر، وإنّما كان عليه أن يختار من اختاره الله سبحانه وتعالى»(1).

2 ـ وجود قطّاع واسع من المنافقين في المجتمع الإسلاميّ نتيجة انفتاح المجتمع الإسلاميّ قُبَيل وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) على مكّة، ودخول اُناس كثيرين إلى الإسلام استسلاماً للأمر الواقع، أو انتفاعاً أو طمعاً أو حرصاً على الجاه، وهؤلاء لم يكن ليروق لهم تزعّم الإمام عليّ (عليه السلام) للتجربة الإسلاميّة بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله)؛ لِما يعرفونه في الإمام من استقامة على الحقّ لا تدع لهم مجالاً للاستئثار بالمصالح والامتيازات التي كانوا عليها أو التي يطمعون بالحصول عليها، ولهذا عزفوا عن الإمام وتركوه وبايعوا غيره؛ لِما يمثّله غيره من تميّع ومرونة يمكن معهما ضمان استمرار الوجود الرخو للإسلام والذي به تضمن مصالح الطبقة المنافقة في المجتمع الإسلاميّ.

3 ـ حسد بعض الصحابة لأمير المؤمنين(عليه السلام)؛ لِما كان يمثّله الإمام من تحدٍّ أخلاقي لهم، يقول اُستاذنا السيّد الشهيد(رحمه الله) حول هذه النقطة: «عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) كان يمثّل باستمرار تحدّياً بوجوده التكويني، كان يمثّل تحدّياً للصادقين من الصحابة لا للمنحرفين من الصحابة، كان يمثّل تحدّياً بجهاده، بصرامته، باستبساله، بشبابه، بكلّ



(1) أهل البيت تنوّع أدوار ووحدة هدف: 83.

178

هذه الاُمور،... كان ردّ الفعل لهذا مشاعر ضخمة جدّاً ضدّ عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)»(1).

هذه الاُمور وعوامل اُخرى شكّلت موانع كبيرة أمام الإمام عليّ(عليه السلام) في تصدّيه لقيادة التجربة الإسلاميّة، ومن ثَمَّ حالت دون تسلّمه زمام الاُمور والسلطة وإرجاع الاُمور إلى وضعها الطبيعي.

 

المنهج القيادي عند الإمام عليّ(عليه السلام):

لقد واجهت الإمام عليّ(عليه السلام) عقيب وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله) معضلات ومشاكل غاية في الصعوبة والتعقيد، فالوضع السياسيّ والاجتماعي في تلك الفترة أخذ يتحرك باتجاه وكيفيّات متناقضة، وبعيدة عن روح الإسلام وقيمه وأخلاقيّاته، وكان الإمام(عليه السلام) يشاهد بوادر انحراف وتدهور واسعين في الدولة والمجتمع الإسلاميّ، والمشاكل تأخذ أبعاداً أكثر تعقيداً وصعوبة، وفي كلّ تلك الظروف كان منهج الإمام عليّ (عليه السلام) القيادي يسير بنسق واحد ومبدئيّة صارمة وأخلاقيّة مشهودة، من أجل هدف واحد هو إنقاذ المجتمع الإسلاميّ من صدمة الانحراف وتقويم التجربة، ونشر الهداية والاستقامة بعد أن ضرب الضلال والظلام أطنابه في المجتمع، وأنذر بنسف ما تبقّى من قيم صمدت أمام تيّار الانحراف والتآمر الذي يوشك أن يقضي على الإسلام نهائيّاً.

 


(1) المصدر السابق: 84 ـ 85.
179

ويمكن إجمال موقف الإمام عليّ(عليه السلام) من أهمّ القضايا التي واجهته على النحو التالي:

1 ـ موقفه من قصّة السقيفة.

2 ـ موقفه من معاوية بن أبي سفيان.

3 ـ موقفه من قضيّة الحَكمَين والخوارج.

 

الإمام عليّ(عليه السلام) وقصّة السقيفة:

يمكن إيجاز موقف الإمام عليّ(عليه السلام) من قصّة السقيفة بخمس نقاط هي:

1 ـ معارضته السقيفة معارضة سلمية، وابتعاده عن اُسلوب المعارضة المسلّحة.

2 ـ قيامه بتعبئة الاُمّة تعبئة فكريّة لفتح أنظارها على حجم الانحراف، ولكي تكون بمستوى المسؤوليّة.

3 ـ منعه فاطمة الزهراء(عليها السلام) من الدعاء على الخلفاء.

4 ـ إرشاد المسلمين وتعريفهم الإسلام الصحيح.

5 ـ مبايعته الوضع الذي نتج عن السقيفة.

أمّا بالنسبة إلى النقطة الاُولى، فإنّ السبب الأساس الذي لم يسمح للإمام عليّ(عليه السلام) بمعارضة السقيفة بشكل مسلّح ـ أي باستخدام اُسلوب القوّة ـ يرجع إلى قلّة أنصار الإمام الذين يتفهّمون الأوضاع التي حلّت بالمجتمع الإسلاميّ بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله)؛ إذ الغالبيّة من الناس انطلت عليها المؤامرة، وانصاعت مع الأمر الواقع الذي حدث أثناء السقيفة وفيما بعدها.

 

180

وقد أشار الإمام عليّ(عليه السلام) إلى هذه الحقيقة في كثير من خطبه كقوله: «وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذّاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه...»(1)، كما أنّ هناك وقائع رواها التأريخ تؤكّد أنّ الإمام(عليه السلام) كان حريصاً على معالجة بدايات الانحراف بقطع دابره، وكان هميماً في هذا الاتجاه، لكن قلّة أنصاره وقلّة المؤهّلين لخوض غمار الجهاد والتصدّي بالسيف حالت دون تحقيق اُمنيّته، وأرجأته لتغيير اُسلوب المعارضة.

فممّا دوّنه التأريخ: مجيء بعض الصحابة إلى الإمام(عليه السلام)لاستشارته في إعلان المعارضة على الخليفة الأوّل، فما كان من الإمام إلّا أن أجابهم بقوله: «وأيم الله لو فعلتم ذلك، لما كنتم لهم إلّا حرباً، ولكنّكم كالملح في الزاد وكالكحل في العين...»(2)، بمعنى أنّ الإمام فضّل نهيهم عن المعارضة؛ لقلّة عددهم بالقياس إلى كثرة أنصار الوضع الجديد.

وفي رواية عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «جاء المهاجرون والأنصار وغيرهم بعد ذلك إلى عليّ(عليه السلام) فقالوا له: أنت والله أمير المؤمنين، وأنت والله أحقّ الناس وأولاهم بالنبيّ(صلى الله عليه وآله)، هلمّ يدك نبايعك، فوالله لنموتنّ قدّامك، ( فأراد أمير المؤمنين اختبار مدى صدقهم في



(1) نهج البلاغة، الخطبة الثالثة: 48.

(2) البحار 28: 191.

181

مدّعاهم ) فقال عليّ(عليه السلام): إن كنتم صادقين، فاغدوا عليَّ غداً محلقين. فحلق أمير المؤمنين (عليه السلام)، وحلق سلمان، وحلق مقداد، وحلق أبوذر، ولم يحلق غيرهم، ثُمّ انصرفوا، فجاؤوا مرّة اُخرى بعد ذلك، فقالوا له: أنت والله أمير المؤمنين، وأنت أحقّ الناس وأولاهم بالنبيّ(صلى الله عليه وآله)، هلمّ يدك نبايعك، وحلفوا (أيضاً). فقال: إن كنتم صادقين، فاغدوا عليَّ محلقين، فما حلق إلّا هؤلاء الثلاثة»(1).

وهناك رواية اُخرى عن الإمام عليّ(عليه السلام) يقول: «اللهّم إنّك تعلم أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) قد قال لي: إن تمّوا عشرين فجاهدهم. وهو قولك في كتابك: ﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ﴾». قال الراوي: وسمعته يقول: « اللهمّ وإنّهم لم يتمّوا عشرين حتّى قالها ثلاثاً»(2).

وهكذا، ومن خلال هذه الروايات يتّضح أنّ عدم وفرة الأنصار المخلصين للإمام(عليه السلام) كان وراء عزوف الإمام عن استعمال اُسلوب القوّة في مواجهة الانحراف، واقتناعه بالاكتفاء بالمعارضة السلميّة كتعبير عن رفضه للأوضاع القائمة بعد أحداث السقيفة.

وأمّا بالنسبة إلى النقطة الثانية ـ وهي قيام الإمام(عليه السلام) بتعبئة الاُمّه فكريّاً وإنضاج وعيها حول حجم الانحراف ووضعها أمام مسؤوليّتها ـ فقد مارس الإمام هذا الدور على أكثر من صعيد،



(1) المصدر السابق: 236، الحديث 21.

(2)المصدر السابق: 229، الحديث 14.

182

واستثمر من أجل إنجاح مهمّته هذه عدّة عوامل وإمكانات متاحة بين يديه، فعلى الصعيد الاجتماعي حاول الإمام(عليه السلام) إيضاح الوضع غير الطبيعي المنحرف الذي أعقب وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله) للاُمّة، وقد استثمر لهذه المهمّة سيدة نساء العالمين بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله)فاطمة الزهراء(عليها السلام) مستعيناً بمنزلتها الاجتماعيّة لاستثارة عواطف المسلمين ومشاعرهم المرتبطة بها شخصيّاً باعتبارها ابنة الرسول الوحيدة الباقية بين المسلمين بعد وفاته(صلى الله عليه وآله)، ولهذا فإنّ الاستعانة بفاطمة الزهراء(عليها السلام) لاستثارة عواطف المسلمين المرتبطة برسول الله كان عملاً اُريد منه بالأساس حشد الجانب العاطفي في إطار التعبئة الفكريّة التي مارسها الإمام على أكثر من صعيد.

وفي هذا الاتجاه ورد أنّ الإمام عليّاً(عليه السلام) غالباً ما كان يصطحب الزهراء(عليها السلام) مع ابنيهما الحسن والحسين(عليهما السلام) ويجوب بهم بيوت الأنصار والمهاجرين، ويُحدّثهم عن المسألة مذكّراً إيّاهم بمنزلتهم(عليهم السلام) عند رسول الله، وبالحقّ الذي اغتصب منهم، ويطالبهم بنصرة الحقّ وعدم السكوت على الظلم الذي لحق بآل بيت الرسول(صلى الله عليه وآله). كما أنّ الإمام(عليه السلام) وعلى صعيد آخر أوعز إلى سيدة نساء العالمين أو أذن لها لكي تخطب في المسلمين حول مسألة فدك، وضرورة استرجاعها. وقد فعلت ذلك في مسجد أبيها(صلى الله عليه وآله) في المدينة، وكان القصد من طرح مسألة فدك هو إيضاح جانب مهمٍّ من الجوانب التي تمّ الاعتداء عليها، يتميّز بمادّيّته ووضوحه لدى المسلمين كافّة، وتوظيف هذه المسألة في هدف عمليّة التعبئة العامّة

183

التي كان الإمام(عليه السلام) حريصاً على تنفيذها بالوسائل المتاحة والمشروعة، وإلّا فمسألة مثل فدك ماذا تعني بالنسبة إلى الإمام مادّيّاً وهو القائل: «بلى كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس قوم آخرين، ونِعمَ الحكم الله، وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانّها في غد جدث، تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها...»(1).

وإذا أمكن تصوّر أنّ الإمام(عليه السلام) كان حريصاً على فدك لأهمّيّتها المادّيّة، ولهذا أوعز لفاطمة الزهراء(عليها السلام) بالمطالبة بها، فإنّ ذلك يعبّر عن حرص تدعيم جانب الحقّ والاستفادة من مردودات فدك المادّيّة ـ فيما لو استرجعاها ـ في سبيل إنجاح المعارضة.

أمّا على الصعيد السياسيّ، فقد عمل الإمام(عليه السلام) ـ وفي إطار التعبئة الفكريّة التي كان يقوم بها ـ على الموازنة بين موقفه المعارض من السلطة، وبين حرصه الشديد على عدم انهيار التجربة الإسلاميّة، وبين تقويم السلطة وتوجيه الإرشادات والنصائح لها بغية وضعها على الطريق الصحيح لتطبيق الإسلام، وكان مقتضى هذه الموازنة المعقّدة بين هذه الأهداف الثلاثة استخدام استراتيجيّة موحّدة في العمل ومواجهة الأحداث ضمن ضوابطها ومحدّداتها.

فعلى صعيد المعارضة يذكر التأريخ: أنّ جمعاً من الصحابة المخلصين استشاروا الإمام(عليه السلام) في أمر إنزال الخليفة الأوّل من على



(1) البحار 33: 474.

184

منبر رسول الله، فنهاهم الإمام(عليه السلام) عن فعل ذلك مشيراً إلى ردود الفعل المضادّة من جهة، وقلّة عددهم من جهة ثانية، وحبّذ لهم الذهاب إلى مسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله) واستغلال فرصة وجود الخليفة في المسجد للتحدّث معه ومحاججته ونصحه، وفعل الصحابة ما بدا لهم من نصيحة الإمام عليّ (عليه السلام)، فذهبوا إلى المسجد، وكان الخليفة الأوّل مرتقياً المنبر، فقام كلّ واحد منهم وتكلّم معه بكلام مفصّل وحاججه إلى أن اُفحم الخليفة ولم يستطع الجواب سوى أنّه قال ـ أمام الناس ـ قولته المشهورة: «وليتكم ولست بخيركم أقيلوني أقيلوني»(1)! ونزل الخليفة من على المنبر وطفق هو وصاحبه هامّين بالخروج من المسجد. ويذكر التأريخ أيضاً: أنّهما مكثا في بيتهما ثلاثة أ يّام متواريَين عن الناس، ولم يحضرا المسجد خشيه تكرار مثل ما حدث(2).

أمّا على صعيد تقويم السلطة وتسديدها بالنصح والإرشادات حفاظاً على التجربة الإسلاميّة من الانهيار، فالتأريخ سجّل لنا الكثيرَ من المواقف المهمّة التي وقفها الإمام(عليه السلام) من الخليفتين الأوّل والثاني، وكيف كان حاضراً في أوقات شدّتهما وحرجهما حتّى قال الخليفة الثاني مادحاً الإمام في هذا الصدد: «لا أبقاني الله لمعضلة لم



(1) روي حديث إقالته في المعجم الأوسط 8: 267، ولفظه: «إنّي قد أقلتكم رأيكم إنّي لست بخيركم»، وفي الإمامة والسياسة 1: 31: «لا حاجة لي في بيعتكم أقيلوني بيعتي»، وقد تكرّر النقل بألفاظ قريبة في مواطن اُخرى.

(2) البحار 28: 189 ـ 204.

185

يكن لها أبو الحسن»(1)، وقوله أيضاً: «لولا عليٌّ لَهَلك عمر»(2)!

وأمّا بالنسبة إلى النقطة الثالثة ـ وهي منع الإمام عليّ(عليه السلام) ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة الزهراء(عليها السلام) من الدعاء على الظالمين ـ فقد وردت روايات كثيرة تؤكّد أنّه غير مرّة همّت سيّدة نساء العالمين(عليها السلام) بالدعاء على الخلفاء، لكنّ الإمام عليّاً(عليه السلام) كان يتدارك الموقف ويمنعها من الدعاء لأسباب إنسانيّة بحتة؛ ذلك لأنّ دعاء فاطمة(عليها السلام) وشكاية أمرها إلى الله تعالى لن تمرَّ دون استجابة، وهي التي قال لها أبوها(صلى الله عليه وآله): «يا فاطمة، إنّ الله تبارك وتعالى لَيغضب لغضبك ويرضى لرضاك»(3)، وقال(صلى الله عليه وآله) عنها: «فاطمة بضعة منّي من آذاها فقد آذاني...»(4)، وبهذا فإنّ هذا الموقف يندرج في ضمن خطّة الإمام عليّ(عليه السلام) العامّة والرامية إلى إصلاح الاُمور ومعالجتها على نحو موضوعي من غير اضطرار لاتّخاذ مواقف اُخرى قد تنأى بالعمليّة التغييريّة إلى غير أهدافها ومقاصدها.

ومن الروايات الدالّة على هذه النقطة أنّه: «أخرجوا عليّاً(عليه السلام)ملبَّباً، فخرجت فاطمة(عليها السلام) فقالت:... أتريد أن ترمّلني من زوجي؟ والله لئن لم تكفَّ عنه لأنشرنّ شعري، ولأشقّنّ جيبي، ولآتينّ قبر أبي، ولأصيحنّ إلى ربّي. فأخذت بيد الحسن والحسين(عليهما السلام)وخرجت تريد قبر النبيّ(صلى الله عليه وآله)، فقال عليّ(عليه السلام) لسلمان: أدرك ابنة



(1) البحار 76: 53.

(2) البحار 10: 231.

(3) البحار 43: 22، الحديث 12.

(4) البحار 27: 62.

186

محمّد، فإنّي أرى جنبتَي المدينة تكفآن، والله إن نشرت شعرها وشقّت جيبها وأتت قبر أبيها وصاحت إلى ربّها، لا يناظر بالمدينة أن يُخسف بها وبمن فيها. فأدركها سلمان(رضي الله عنه) فقال: يابنت محمّد، إنّ الله بعث أباكِ رحمةً، فارجعي. فقالت: ياسلمان، يريدون قتل عليّ، ما عليّ صبر، فدعني حتّى آتي قبر أبي، فأنشر شعري، وأشقّ جيبي، وأصيح إلى ربّي. فقال سلمان: إنّي أخاف أن يخسف بالمدينة وعليّ بعثني إليك يأمرك أن ترجعي له إلى بيتك وتنصرفي. فقالت: إذن أرجع وأصبر وأسمع له واُطيع»(1).

وأمّا بالنسبة إلى النقطتين الرابعة والخامسة ـ وهما إرشاد المسلمين وتعريفهم الإسلام الصحيح، ومبايعته الوضع الذي نتج عن السقيفة ـ فإنّ الإمام(عليه السلام) ومن واقع مسؤوليّته الشرعيّة استمرّ يعمل بنهجه في إرشاد الاُمّة وتعريفها الإسلام الذي نأت تجربة التطبيق الجديدة عن أحكامه وقواعده، وكان الإمام بحكم الوضع الذي نتج عن أحداث السقيفة مقصىً عن الإدارة السياسيّة المباشرة لاُمور الاُمّة، الأمر الذي جعل المجتمع الإسلاميّ يعيش بعمق خطرين فادحين: خطر تنحية الرجال الاُمناء على الرسالة عن الإشراف عليها، وخطر تسلّم زمام الاُمور رجال غير مؤهّلين لقيادة التجربة الإسلاميّه، وكان الوضع ينذر ـ وبكلّ المقاييس ـ بتصدّع المجتمع الإسلاميّ وانهياره. ولهذا فإنّ الإمام(عليه السلام) سارع إلى إعلان البيعة



(1) البحار 28: 227 ـ 228 الحديث 14.